
الفلسفة في ظل التحولات قصة إعمار وإلهام وطنية
لطالما شكلت الفلسفة جسراً بين الماضي المستقبل، وحلقة وصل بين الفكر الإنساني وتطلعاته. وإذا كان العالم العربي قد شهد فترات من الجمود الفكري أُهملت فيها الفلسفة لصالح نمط تقليدي من التفكير، فإن المملكة تشهد اليوم تحولاً ثقافياً غير مسبوق، تتصدر فيه الدعوات إلى إحياء الفلسفة وترسيخ العقل النقدي كأداة لمواكبة التطورات المتسارعة. تشهد المؤسسات الفلسفية الحديثة اهتمامًا متزايدًا في المملكة، سواء على مستوى المؤسسات التعليمية أو المراكز الفكرية الحرة. يجدر بنا ابتداء معرفة الأسباب الكامنة وراء هذا الإقبال المتجدد على الفلسفة، وتكاثر الدعوات لإعادة إحيائها؟ وكيف يمكن للعقل الفلسفي أن يصبح ركيزة أساسية لدعم مسيرة رؤية 2030 والانطلاق مع متطلبات التحول الثقافي الجديد؟ فما الذي أعاد للفلسفة بريقها في سياق يُبنى على أسس «رؤية 2030»؟ وكيف تسهم النهضة الثقافية في المملكة في تحويل الفلسفة من ترف فكري إلى ضرورة إستراتيجية؟ واجهت الفلسفة العربية تحديات عديدة، كان أبرزها سيطرة العقل التقليدي الجامد الذي رأى في التساؤلات الفلسفية تهديداً للثوابت، بدلاً من اعتبارها أداة لتطويرها. لكن هذا المشهد بدأ يتغير جذرياً في مملكتنا، حيث تعيد الرؤية الوطنية صياغة العلاقة بين التراث والحداثة، وتجعل من «التنوير الفكري» ركيزة لبناء مجتمع حيوي قادر على استيعاب التحولات العالمية. فالفلسفة اليوم لم تعد حكراً على النخب الأكاديمية، بل أصبحت جزءاً من الخطاب العام، إذ تدرك المملكة أن تطوير العقل الفلسفي شرط أساسي لخلق أجيال قادرة على الابتكار، ومواكبة الثورة التكنولوجية، وإدارة التنوع في عصر العولمة. لقد أدركت القيادة أن بناء اقتصاد معرفي قائم على الريادة العالمية – كما تؤكد رؤية 2030 – يحتاج إلى ثقافة تحترم التساؤل، وتُعلي من شأن الحوار العقلاني، وتستوعب التعددية الفكرية. وهذا ما يفسر الدعم الكبير للمبادرات الثقافية، مثل تأسيس هيئة الثقافة، وإطلاق المشاريع الثقافية و«منتدى الرياض للفلسفة»، الذي يستضيف مفكرين عالميين لمناقشة قضايا مثل الأخلاق الرقمية والهوية في عصر الذكاء الاصطناعي. كل هذه الخطوات ترسخ فكرة أن الفلسفة ليست ترفاً، بل منهجاً لبناء عقل جماعي قادر على قيادة التغيير. التراث الفلسفي العربي زاخر وإرث يُعاد اكتشافه، حيث لا يمكن فصل الدعوات الحالية لإحياء الفلسفة في السعودية عن الوعي المتجدد بأهمية التراث الفلسفي، الذي لطالما مثَّل جسراً بين الشرق والغرب. فمن الكندي إلى ابن رشد، كان الفلاسفة العرب روَّاداً في الجمع بين العقل والنقل، ووضعوا أُسساً لفلسفة تزاوج بين الأصالة والابتكار. فابن رشد، مثلاً، لم يكن مجرَّد شارحٍ لأرسطو، بل قدَّم قراءة نقدية أعادت تشكيل الفلسفة الأوروبية في عصر النهضة.
وهذا الإرث يُعاد اكتشافه اليوم في السعودية، ليس كتراث ماضوي، بل كإلهام لمستقبل يُبنى على الحكمة والتجديد. لقد أظهرت المملكة اهتماماً لافتاً بإبراز هذا الإرث عبر مشاريع عدة، تُعيد نشر المخطوطات الفلسفية العربية مع شروحات معاصرة لا تكتف بالشروحات فحسب بل في تجديدها ونقدها، ومراكز الأبحاث كـ«مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية»، الذي يُنظِّم ندوات حول دور الفلسفة في مواجهة التطرُّف الفكري. هذه الجهود تُبرز أن إحياء الفلسفة ليس قطيعة مع الماضي، بل استئناف لمسار تأخَّر قروناً بسبب هيمنة النمطية الفكرية.
لا شك بأن الرؤية الوطنية 2030 أكثر من مجرَّد خطة اقتصادية أو اجتماعية؛ إنها مشروع ثقافي يعيد تعريف دور السعودية كحاضنة للفكر والإبداع. وفي هذا الإطار، تُبرِز الوثيقة الرسمية للرؤية أهمية «تعزيز القيم الإيجابية، وبناء شخصية المواطن السعودي»، وهو ما يتطلب تبني فلسفة تربوية تعتمد على تنمية التفكير النقدي، بدلاً من الحفظ الآلي. ففي عام 2021، أعلنت وزارة التعليم عن إدخال مادة «المهارات الحياتية» إلى المناهج، التي تتضمَّن مفاهيم فلسفية مبسّطة لتعليم الطلاب فن الحوار وإدارة الاختلاف. كما أطلقت جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية «كاوست» برامج ماجستير في الدراسات الإنسانية، تدمج بين الفلسفة والعلوم التطبيقية. بل إن المشاريع العملاقة مثل «نيوم» و«ذا لاين» لا تُبنى على التكنولوجيا فحسب، بل على رؤية فلسفية تُعيد تصوُّر مفهوم المدن الذكية، حيث تُصمَّم البيئات الحضرية لتعزيز التفاعل الإنساني والاستدامة. وهذا يوضح أن الفلسفة لم تعد مجرَّد تنظير، بل أداة لتشكيل الواقع. التحديات القديمة والفرص الجديدة: كسر قيود العقل الجامد صحيح أن العقلية التقليدية الجامدة ما تزال تُشكل عائقاً أمام انتشار الفلسفة في بعض الأوساط، إلا أن الحملات المضادة لها اليوم ليست سوى صدىً لصراعات تاريخية تجاوزتها السعودية بخطوات جريئة. ففي القرن الثاني عشر، تعرَّض ابن رشد لاضطهاد بسبب دفاعه عن العقل، لكن اليوم تُكرِّم المملكة هذا الإرث عبر إحيائه في مؤسساتها الفكرية، وإدراج فلسفته في مناهج التعليم العالي.
كما أن هيئة الأدب والترجمة ممثلة بشركائها و«نادي الكتاب السعودي» تُشجع الشباب على تبني أسئلة وجودية وفكرية كانت تُعتبر محظورة في السابق. ويظهر التحول جلياً في دعم الدولة للحوارات المفتوحة حول قضايا مثل المرأة والهوية، حيث أصبحت آراء الكاتبات السعوديات – اللاتي يُعبِّرن عن فلسفة وجودية معاصرة – جزءاً من المشهد الثقافي. وهذا يؤكد أن الفلسفة لم تعد حبيسة الكتب، بل خياراً مجتمعياً لمواجهة التعصب الفكري.
الفلسفة السعودية الجديدة: نحو نموذج عالمي، لا تقتصر جهود إحياء الفلسفة في السعودية على استعادة الماضي، بل تسعى لبناء نموذج فريد يزاوج بين الخصوصية الثقافية والانفتاح على العالم. فالمملكة، التي تحتضن أقدس المقدسات الإسلامية، تدرك أن الفلسفة ليست نقيضاً للقيم، بل ضمانة لفهمها بعمق أكبر. وقد بدأ هذا يتجلى في مشاريع مثل «منتدى الحوار العالمي» الذي يستضيف ممثلي الأديان والثقافات لمناقشة قضايا العدالة والأخلاق، مستلهماً مقولات فلاسفة مثل الفارابي الذي دعا إلى «مدينة الفضيلة». كما تُبرز السعودية التزامها بالفلسفة العملية عبر دعم الابتكار في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، حيث تُطبَّق مفاهيم أخلاقيات التكنولوجيا – التي تناقشها اليوم جامعات الغرب – في سياسات التوظيف والاستثمار. وهذا يجعل الفلسفة السعودية جزءاً من حركة عالمية لإعادة تعريف دور الإنسان في عصر الآلة.
الفلسفة كفعل فكري محض: إن الدعوات المتزايدة لإحياء الفلسفة في السعودية ليست موضة ثقافية عابرة، بل تعبير عن رغبة عميقة في صناعة مستقبل لا يخضع لمنطق القطعية أو الجمود. فكما كانت الفلسفة العربية في العصور الوسطى جسراً لنقل المعرفة إلى العالم، فإن السعودية اليوم تضع نفسها في قلب المشهد الفكري الجديد، حيث تُعيد الفلسفة تعريف دورها كقوة ناعمة تعكس طموح وطن يضرب أطنابه في التاريخ والفكر. في ظل رؤية 2030، أصبحت الفلسفة ضرورة إستراتيجية لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين: من تغير المناخ إلى الأخلاق الرقمية، ومن صراع الهويات إلى إدارة التعددية. والسؤال الآن ليس عن سبب إحياء الفلسفة، بل عن كيفية تحويلها إلى ثقافة يومية تشكل وعي الأفراد، وتعيد إحياء الإرث الفلسفي في صيغة تليق بوطن يخطو بثبات نحو المستقبل.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
١٨-٠٣-٢٠٢٥
- Independent عربية
هؤلاء الفلاسفة المسلمون الذين نعود اليهم دوما
بلغت الحضارة الإسلامية ذروة المجد، فيما كان الغرب يعيش في عصور الظلام والجمود، وكان "الدين" جوهر هذه الحضارة بما رسخه من منهج تجريبي - عقلي، وذلك حين دعا الإسلام المسلمين أن ينتشروا في الأرض، لطلب العلم، وترتب على ذلك ظهور مجموعة كبيرة من العلماء في شتى فروع العلم الطبيعي مثل جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وأبي بكر الرازي، كذلك برز فيهم المفكرون والفلاسفة مثل الفارابي الذي لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو، والكندي وابن سينا وأبي حامد الغزالي وابن رشد وابن خلدون، والفقهاء مثل أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ومالك والشافعي والليث بن سعد، والشعراء مثل بشار بن برد والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري، والكتاب مثل عبدالحميد الكاتب وابن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي. كتاب الفلاسفة العرب (دار روابط) واللافت أن الصناع الأوائل للحضارة الإسلامية كانوا يعون أنهم قادرون - بأصالتهم الفكرية والدينية - على أن يهضموا التراث الفكري السابق عليهم ويتجاوزوه، فنقلوا عن اليونان في شتى فروع المعرفة من المنطق والفلسفة إلى السياسة والأخلاق وشرحوا كل ذلك وتجاوزوه، وكان ذلك سبباً رئيساً في نهضة الغرب وبدء حضارته بعدما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو حتى لقب بالشارح الأعظم، والمؤسف أنه في وقت كان فيه ابن رشد مشعل الحضارة الأوروبية بدأ العالم الإسلامي في تكفيره وتحريم قراءته وحرق كتبه، وبدأ عصر الجمود الذي كان فيه ابن خلدون هو الاستثناء الوحيد له بما قدمه من مبادئ علم الاجتماع والعمران في مقدمته الشهيرة. الفارابي وأصالته السياسية الفارابي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك) تجتمع الآراء حول المكانة الفلسفية الكبيرة للفارابي، لكن الخلاف بين مؤرخي الفلسفة من المستشرقين والمسلمين هو حول مدى أصالته، إذ رأوا أنه تابع للفكر اليوناني شرحاً وتأليفاً، ففي المنطق يتبع أرسطو، وفي السياسة هو تابع لأفلاطون في كتابه "الجمهورية" الذي ألف على غراره كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة". والحقيقة هي أن الفارابي، كما ورد في كتاب مصطفى النشار "فلاسفة أيقظوا العالم" الذي صدر عام 1988 عن دار الثقافة في القاهرة، وتتالت طبعاته، ومنها طبعة في إطار "مكتبة الأسرة" عام 2016 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لم يكن إلا فيلسوفاً إسلامياً مجدداً في كل مؤلفاته التي تختلف عن شروحه، فرحلته في الكتابة الفلسفية تدرجت من الشرح والتلخيص إلى التأليف، وبهذا يمكن القول إنه ليس مجرد موفق بين آراء فلاسفة العالم بعضهم بعضاً أو بينهم وبين الإسلام، بل كان رائداً للفلسفة السياسية الإسلامية بعدما هضم التراث اليوناني السابق عليه وتجاوزه تجاوزاً ملحوظاً، ويرجع ذلك إلى أن تنقله بين أقطار الدولة الإسلامية بهدف دراسة أحوالها لعب الدور الرئيس في تشكيل فكره السياسي الذي تمثل - إضافة إلى كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" - في رسالتيه "تحصيل السعادة" و"السياسة المدنية" وكتاب "الفصول المدنية". وبهذه المؤلفات كان الفارابي أول فيلسوف إسلامي يتناول السياسة بالبحث المتعمق المستفيض حتى انفردت فلسفته بطابعها السياسي دون غيره من فلاسفة الإسلام حتى أصبح من الصعب فهم هذه الفلسفة من دون جانبها السياسي، فالسياسة هي نقطة البداية كما أنها الغاية التي استهدفها الفارابي من تفلسفه. الغزالي ونظرية المعرفة الغزالي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك) أما الغزالي، حجة الإسلام، فامتاز بكونه شخصية موسوعية لها مكانتها الدينية الكبيرة عند كل المسلمين، فهو المتكلم والفيلسوف والمنطقي والفقيه والإمام الصوفي، كما أنه العقلاني صاحب منهج الشك في كتابه "المنقذ من الضلال"، والمجادل الذي يهابه الجميع ويرضخون لحجته وقوة منطقه وهو صاحب الرؤى الصوفية في ما عرف بالتصوف السني، غير أن الغزالي انتصر لإسلام العوام والمتصوفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي اضطر ابن رشد إلى الرد عليه بكتابه "تهافت التهافت"، وكان الغزالي يتمثل جيداً الآية الكريمة: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وذلك في جداله مع غلاة المتكلمين من الشيعة والباطنية ومن رأى أنهم خارجون على الإسلام، فضلاً عن المشركين والملحدين. وكان يرى أن المواجهة الحضارية بينه وبين غيره إنما أساسها الجدل بلا تعصب، والفهم بلا مغالاة والإبداع بدلاً من الاتباع والاجتهاد بدلاً من الجمود، ويمكن - لكي نفهم الغزالي بصورة أعمق - أن نقسم فلسفته إلى قسمين، الأول هو الجانب السلبي النقدي ويتمثل في نقد الفرق المتطرفة من منطلق واحد هو إخلاصه للإسلام، والثاني هو الجانب الإيجابي البنائي، ويتمثل في منهج المعرفة الذي يعبر بصدق عن روح الغزالي الفكرية المغامرة الحرة، ونعني به المنهج العقلي الذي يقوم على فكرتين أساسيتين: "الشك" و"الحدس الذهني"، وهكذا يمكن وصف رحلة الغزالي الفكرية بأنها بدأت بالحس والمحسوسات ثم انتقلت إلى الإيمان بالعقل وأخيراً يقينها في الحدس والتجليات الصوفية، ومن جانب آخر نجده مشابهاً لديكارت ومن قبله فرنسيس بيكون في أن صدق الفكرة لا يقام على قائلها مهما يكن شأنه بل يقام على البرهان. ابن خلدون والعصبية ابن خلدون (صفحة الفلسفة - العربية) ظهر ابن خلدون في وقت ظن فيه الجميع أن الفلسفة الإسلامية ماثلة إلى الزوال بعدما جف معينها تقريباً بوفاة ابن رشد. ظهر هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير بمقدمته الشهيرة التي كانت - بشهادة أرنولد توينبي - أعظم كتاب من نوعه أبدعه إنسان في كل زمان ومكان، ولم تقتصر المقدمة على علم الاجتماع أو علم العمران كما يسميه ابن خلدون فحسب، بل شملت أسس علم وفلسفة التاريخ وعلم الاقتصاد السياسي وعلم النفس السياسي، وكانت فكرة العصبية التي اهتم بها كثيراً تمثل - عنده - أساس الحكم أو الملك وقد بدأ نظريته تلك بملاحظة سديدة حين أكد أن البدو هم الأصل في العمران البشري وليس الحضر، وهو يقصد بالبدو "أولئك البشر المقتصرين على الضروري في أحوالهم"، فيما الحضر هم "المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) بهذه الملاحظة الذكية ومن خلال هذا المنطق العقلي السلس انتهى ابن خلدون إلى أن البداية كانت تلك المجتمعات البدوية التي تقابل في الاصطلاحات الحديثة المجتمعات البدائية، ومع ذلك يرى ضرورة الانتقال من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات الحضرية المتمدنة، لأن المجتمع المدني هو الذي سيتشكل من خلال التمييز بين حاكم ومحكوم وبين دولة وأفراد. وما يقوله ابن خلدون سابق - بداهة - على ما قاله بعض المفكرين الغربيين مثل فون كرامر حين حاول تطبيق مفهوم العصبية على المجتمعات الأوروبية بخاصة ألمانيا وفرنسا التي استعبدها الرومان ففقدت عزتها وعصبيتها، كذلك وجدت الفكرة نفسها طريقها إلى فلاسفة من أمثال ميكيافيللي، لكن يظل هناك فارق مهم بين ابن خلدون وبينه، حين أباح العنف والخيانة والقتل إذا ما اقتضتها مصلحة الحاكم، فقد رأى ابن خلدون أن ذلك يعد من الأعمال الشريرة، وهكذا فإنه لم يفصل في فلسفته بين الأخلاق والسياسة، فسبق كثيرين إلى كثير من المفاهيم الفلسفية العمرانية والاجتماعية وحتى السياسية، برؤية إسلامية واضحة.


Independent عربية
١٨-٠٣-٢٠٢٥
- Independent عربية
لماذا نعود دوما إلى هؤلاء الفلاسفة المسلمين؟
بلغت الحضارة الإسلامية ذروة المجد، فيما كان الغرب يعيش في عصور الظلام والجمود، وكان "الدين" جوهر هذه الحضارة بما رسخه من منهج تجريبي - عقلي، وذلك حين دعا الإسلام المسلمين أن ينتشروا في الأرض، لطلب العلم، وترتب على ذلك ظهور مجموعة كبيرة من العلماء في شتى فروع العلم الطبيعي مثل جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وأبي بكر الرازي، كذلك برز فيهم المفكرون والفلاسفة مثل الفارابي الذي لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو، والكندي وابن سينا وأبي حامد الغزالي وابن رشد وابن خلدون، والفقهاء مثل أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ومالك والشافعي والليث بن سعد، والشعراء مثل بشار بن برد والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري، والكتاب مثل عبدالحميد الكاتب وابن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي. كتاب الفلاسفة العرب (دار روابط) واللافت أن الصناع الأوائل للحضارة الإسلامية كانوا يعون أنهم قادرون - بأصالتهم الفكرية والدينية - على أن يهضموا التراث الفكري السابق عليهم ويتجاوزوه، فنقلوا عن اليونان في شتى فروع المعرفة من المنطق والفلسفة إلى السياسة والأخلاق وشرحوا كل ذلك وتجاوزوه، وكان ذلك سبباً رئيساً في نهضة الغرب وبدء حضارته بعدما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو حتى لقب بالشارح الأعظم، والمؤسف أنه في وقت كان فيه ابن رشد مشعل الحضارة الأوروبية بدأ العالم الإسلامي في تكفيره وتحريم قراءته وحرق كتبه، وبدأ عصر الجمود الذي كان فيه ابن خلدون هو الاستثناء الوحيد له بما قدمه من مبادئ علم الاجتماع والعمران في مقدمته الشهيرة. الفارابي وأصالته السياسية الفارابي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك) تجتمع الآراء حول المكانة الفلسفية الكبيرة للفارابي، لكن الخلاف بين مؤرخي الفلسفة من المستشرقين والمسلمين هو حول مدى أصالته، إذ رأوا أنه تابع للفكر اليوناني شرحاً وتأليفاً، ففي المنطق يتبع أرسطو، وفي السياسة هو تابع لأفلاطون في كتابه "الجمهورية" الذي ألف على غراره كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة". والحقيقة هي أن الفارابي، كما ورد في كتاب مصطفى النشار "فلاسفة أيقظوا العالم" الذي صدر عام 1988 عن دار الثقافة في القاهرة، وتتالت طبعاته، ومنها طبعة في إطار "مكتبة الأسرة" عام 2016 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لم يكن إلا فيلسوفاً إسلامياً مجدداً في كل مؤلفاته التي تختلف عن شروحه، فرحلته في الكتابة الفلسفية تدرجت من الشرح والتلخيص إلى التأليف، وبهذا يمكن القول إنه ليس مجرد موفق بين آراء فلاسفة العالم بعضهم بعضاً أو بينهم وبين الإسلام، بل كان رائداً للفلسفة السياسية الإسلامية بعدما هضم التراث اليوناني السابق عليه وتجاوزه تجاوزاً ملحوظاً، ويرجع ذلك إلى أن تنقله بين أقطار الدولة الإسلامية بهدف دراسة أحوالها لعب الدور الرئيس في تشكيل فكره السياسي الذي تمثل - إضافة إلى كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" - في رسالتيه "تحصيل السعادة" و"السياسة المدنية" وكتاب "الفصول المدنية". وبهذه المؤلفات كان الفارابي أول فيلسوف إسلامي يتناول السياسة بالبحث المتعمق المستفيض حتى انفردت فلسفته بطابعها السياسي دون غيره من فلاسفة الإسلام حتى أصبح من الصعب فهم هذه الفلسفة من دون جانبها السياسي، فالسياسة هي نقطة البداية كما أنها الغاية التي استهدفها الفارابي من تفلسفه. الغزالي ونظرية المعرفة الغزالي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك) أما الغزالي، حجة الإسلام، فامتاز بكونه شخصية موسوعية لها مكانتها الدينية الكبيرة عند كل المسلمين، فهو المتكلم والفيلسوف والمنطقي والفقيه والإمام الصوفي، كما أنه العقلاني صاحب منهج الشك في كتابه "المنقذ من الضلال"، والمجادل الذي يهابه الجميع ويرضخون لحجته وقوة منطقه وهو صاحب الرؤى الصوفية في ما عرف بالتصوف السني، غير أن الغزالي انتصر لإسلام العوام والمتصوفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي اضطر ابن رشد إلى الرد عليه بكتابه "تهافت التهافت"، وكان الغزالي يتمثل جيداً الآية الكريمة: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وذلك في جداله مع غلاة المتكلمين من الشيعة والباطنية ومن رأى أنهم خارجون على الإسلام، فضلاً عن المشركين والملحدين. وكان يرى أن المواجهة الحضارية بينه وبين غيره إنما أساسها الجدل بلا تعصب، والفهم بلا مغالاة والإبداع بدلاً من الاتباع والاجتهاد بدلاً من الجمود، ويمكن - لكي نفهم الغزالي بصورة أعمق - أن نقسم فلسفته إلى قسمين، الأول هو الجانب السلبي النقدي ويتمثل في نقد الفرق المتطرفة من منطلق واحد هو إخلاصه للإسلام، والثاني هو الجانب الإيجابي البنائي، ويتمثل في منهج المعرفة الذي يعبر بصدق عن روح الغزالي الفكرية المغامرة الحرة، ونعني به المنهج العقلي الذي يقوم على فكرتين أساسيتين: "الشك" و"الحدس الذهني"، وهكذا يمكن وصف رحلة الغزالي الفكرية بأنها بدأت بالحس والمحسوسات ثم انتقلت إلى الإيمان بالعقل وأخيراً يقينها في الحدس والتجليات الصوفية، ومن جانب آخر نجده مشابهاً لديكارت ومن قبله فرنسيس بيكون في أن صدق الفكرة لا يقام على قائلها مهما يكن شأنه بل يقام على البرهان. ابن خلدون والعصبية ابن خلدون (صفحة الفلسفة - العربية) ظهر ابن خلدون في وقت ظن فيه الجميع أن الفلسفة الإسلامية ماثلة إلى الزوال بعدما جف معينها تقريباً بوفاة ابن رشد. ظهر هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير بمقدمته الشهيرة التي كانت - بشهادة أرنولد توينبي - أعظم كتاب من نوعه أبدعه إنسان في كل زمان ومكان، ولم تقتصر المقدمة على علم الاجتماع أو علم العمران كما يسميه ابن خلدون فحسب، بل شملت أسس علم وفلسفة التاريخ وعلم الاقتصاد السياسي وعلم النفس السياسي، وكانت فكرة العصبية التي اهتم بها كثيراً تمثل - عنده - أساس الحكم أو الملك وقد بدأ نظريته تلك بملاحظة سديدة حين أكد أن البدو هم الأصل في العمران البشري وليس الحضر، وهو يقصد بالبدو "أولئك البشر المقتصرين على الضروري في أحوالهم"، فيما الحضر هم "المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) بهذه الملاحظة الذكية ومن خلال هذا المنطق العقلي السلس انتهى ابن خلدون إلى أن البداية كانت تلك المجتمعات البدوية التي تقابل في الاصطلاحات الحديثة المجتمعات البدائية، ومع ذلك يرى ضرورة الانتقال من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات الحضرية المتمدنة، لأن المجتمع المدني هو الذي سيتشكل من خلال التمييز بين حاكم ومحكوم وبين دولة وأفراد. وما يقوله ابن خلدون سابق - بداهة - على ما قاله بعض المفكرين الغربيين مثل فون كرامر حين حاول تطبيق مفهوم العصبية على المجتمعات الأوروبية بخاصة ألمانيا وفرنسا التي استعبدها الرومان ففقدت عزتها وعصبيتها، كذلك وجدت الفكرة نفسها طريقها إلى فلاسفة من أمثال ميكيافيللي، لكن يظل هناك فارق مهم بين ابن خلدون وبينه، حين أباح العنف والخيانة والقتل إذا ما اقتضتها مصلحة الحاكم، فقد رأى ابن خلدون أن ذلك يعد من الأعمال الشريرة، وهكذا فإنه لم يفصل في فلسفته بين الأخلاق والسياسة، فسبق كثيرين إلى كثير من المفاهيم الفلسفية العمرانية والاجتماعية وحتى السياسية، برؤية إسلامية واضحة.


Independent عربية
١٨-٠٣-٢٠٢٥
- Independent عربية
لماذا نعود دوماً إلى هؤلاء الفلاسفة المسلمين؟
بلغت الحضارة الإسلامية ذروة المجد، فيما كان الغرب يعيش في عصور الظلام والجمود، وكان "الدين" جوهر هذه الحضارة بما رسخه من منهج تجريبي - عقلي، وذلك حين دعا الإسلام المسلمين أن ينتشروا في الأرض، لطلب العلم، وترتب على ذلك ظهور مجموعة كبيرة من العلماء في شتى فروع العلم الطبيعي مثل جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وأبي بكر الرازي، كذلك برز فيهم المفكرون والفلاسفة مثل الفارابي الذي لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو، والكندي وابن سينا وأبي حامد الغزالي وابن رشد وابن خلدون، والفقهاء مثل أبي حنيفة وأحمد بن حنبل ومالك والشافعي والليث بن سعد، والشعراء مثل بشار بن برد والبحتري وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري، والكتاب مثل عبدالحميد الكاتب وابن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي. كتاب الفلاسفة العرب (دار روابط) واللافت أن الصناع الأوائل للحضارة الإسلامية كانوا يعون أنهم قادرون - بأصالتهم الفكرية والدينية - على أن يهضموا التراث الفكري السابق عليهم ويتجاوزوه، فنقلوا عن اليونان في شتى فروع المعرفة من المنطق والفلسفة إلى السياسة والأخلاق وشرحوا كل ذلك وتجاوزوه، وكان ذلك سبباً رئيساً في نهضة الغرب وبدء حضارته بعدما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو حتى لقب بالشارح الأعظم، والمؤسف أنه في وقت كان فيه ابن رشد مشعل الحضارة الأوروبية بدأ العالم الإسلامي في تكفيره وتحريم قراءته وحرق كتبه، وبدأ عصر الجمود الذي كان فيه ابن خلدون هو الاستثناء الوحيد له بما قدمه من مبادئ علم الاجتماع والعمران في مقدمته الشهيرة. الفارابي وأصالته السياسية الفارابي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك) تجتمع الآراء حول المكانة الفلسفية الكبيرة للفارابي، لكن الخلاف بين مؤرخي الفلسفة من المستشرقين والمسلمين هو حول مدى أصالته، إذ رأوا أنه تابع للفكر اليوناني شرحاً وتأليفاً، ففي المنطق يتبع أرسطو، وفي السياسة هو تابع لأفلاطون في كتابه "الجمهورية" الذي ألف على غراره كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة". والحقيقة هي أن الفارابي، كما ورد في كتاب مصطفى النشار "فلاسفة أيقظوا العالم" الذي صدر عام 1988 عن دار الثقافة في القاهرة، وتتالت طبعاته، ومنها طبعة في إطار "مكتبة الأسرة" عام 2016 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لم يكن إلا فيلسوفاً إسلامياً مجدداً في كل مؤلفاته التي تختلف عن شروحه، فرحلته في الكتابة الفلسفية تدرجت من الشرح والتلخيص إلى التأليف، وبهذا يمكن القول إنه ليس مجرد موفق بين آراء فلاسفة العالم بعضهم بعضاً أو بينهم وبين الإسلام، بل كان رائداً للفلسفة السياسية الإسلامية بعدما هضم التراث اليوناني السابق عليه وتجاوزه تجاوزاً ملحوظاً، ويرجع ذلك إلى أن تنقله بين أقطار الدولة الإسلامية بهدف دراسة أحوالها لعب الدور الرئيس في تشكيل فكره السياسي الذي تمثل - إضافة إلى كتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة" - في رسالتيه "تحصيل السعادة" و"السياسة المدنية" وكتاب "الفصول المدنية". وبهذه المؤلفات كان الفارابي أول فيلسوف إسلامي يتناول السياسة بالبحث المتعمق المستفيض حتى انفردت فلسفته بطابعها السياسي دون غيره من فلاسفة الإسلام حتى أصبح من الصعب فهم هذه الفلسفة من دون جانبها السياسي، فالسياسة هي نقطة البداية كما أنها الغاية التي استهدفها الفارابي من تفلسفه. الغزالي ونظرية المعرفة الغزالي (صفحة الفلسفة العربية - فيسبوك) أما الغزالي، حجة الإسلام، فامتاز بكونه شخصية موسوعية لها مكانتها الدينية الكبيرة عند كل المسلمين، فهو المتكلم والفيلسوف والمنطقي والفقيه والإمام الصوفي، كما أنه العقلاني صاحب منهج الشك في كتابه "المنقذ من الضلال"، والمجادل الذي يهابه الجميع ويرضخون لحجته وقوة منطقه وهو صاحب الرؤى الصوفية في ما عرف بالتصوف السني، غير أن الغزالي انتصر لإسلام العوام والمتصوفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" الذي اضطر ابن رشد إلى الرد عليه بكتابه "تهافت التهافت"، وكان الغزالي يتمثل جيداً الآية الكريمة: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، وذلك في جداله مع غلاة المتكلمين من الشيعة والباطنية ومن رأى أنهم خارجون على الإسلام، فضلاً عن المشركين والملحدين. وكان يرى أن المواجهة الحضارية بينه وبين غيره إنما أساسها الجدل بلا تعصب، والفهم بلا مغالاة والإبداع بدلاً من الاتباع والاجتهاد بدلاً من الجمود، ويمكن - لكي نفهم الغزالي بصورة أعمق - أن نقسم فلسفته إلى قسمين، الأول هو الجانب السلبي النقدي ويتمثل في نقد الفرق المتطرفة من منطلق واحد هو إخلاصه للإسلام، والثاني هو الجانب الإيجابي البنائي، ويتمثل في منهج المعرفة الذي يعبر بصدق عن روح الغزالي الفكرية المغامرة الحرة، ونعني به المنهج العقلي الذي يقوم على فكرتين أساسيتين: "الشك" و"الحدس الذهني"، وهكذا يمكن وصف رحلة الغزالي الفكرية بأنها بدأت بالحس والمحسوسات ثم انتقلت إلى الإيمان بالعقل وأخيراً يقينها في الحدس والتجليات الصوفية، ومن جانب آخر نجده مشابهاً لديكارت ومن قبله فرنسيس بيكون في أن صدق الفكرة لا يقام على قائلها مهما يكن شأنه بل يقام على البرهان. ابن خلدون والعصبية ابن خلدون (صفحة الفلسفة - العربية) ظهر ابن خلدون في وقت ظن فيه الجميع أن الفلسفة الإسلامية ماثلة إلى الزوال بعدما جف معينها تقريباً بوفاة ابن رشد. ظهر هذا الفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير بمقدمته الشهيرة التي كانت - بشهادة أرنولد توينبي - أعظم كتاب من نوعه أبدعه إنسان في كل زمان ومكان، ولم تقتصر المقدمة على علم الاجتماع أو علم العمران كما يسميه ابن خلدون فحسب، بل شملت أسس علم وفلسفة التاريخ وعلم الاقتصاد السياسي وعلم النفس السياسي، وكانت فكرة العصبية التي اهتم بها كثيراً تمثل - عنده - أساس الحكم أو الملك وقد بدأ نظريته تلك بملاحظة سديدة حين أكد أن البدو هم الأصل في العمران البشري وليس الحضر، وهو يقصد بالبدو "أولئك البشر المقتصرين على الضروري في أحوالهم"، فيما الحضر هم "المعتنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) بهذه الملاحظة الذكية ومن خلال هذا المنطق العقلي السلس انتهى ابن خلدون إلى أن البداية كانت تلك المجتمعات البدوية التي تقابل في الاصطلاحات الحديثة المجتمعات البدائية، ومع ذلك يرى ضرورة الانتقال من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات الحضرية المتمدنة، لأن المجتمع المدني هو الذي سيتشكل من خلال التمييز بين حاكم ومحكوم وبين دولة وأفراد. وما يقوله ابن خلدون سابق - بداهة - على ما قاله بعض المفكرين الغربيين مثل فون كرامر حين حاول تطبيق مفهوم العصبية على المجتمعات الأوروبية بخاصة ألمانيا وفرنسا التي استعبدها الرومان ففقدت عزتها وعصبيتها، كذلك وجدت الفكرة نفسها طريقها إلى فلاسفة من أمثال ميكيافيللي، لكن يظل هناك فارق مهم بين ابن خلدون وبينه، حين أباح العنف والخيانة والقتل إذا ما اقتضتها مصلحة الحاكم، فقد رأى ابن خلدون أن ذلك يعد من الأعمال الشريرة، وهكذا فإنه لم يفصل في فلسفته بين الأخلاق والسياسة، فسبق كثيرين إلى كثير من المفاهيم الفلسفية العمرانية والاجتماعية وحتى السياسية، برؤية إسلامية واضحة.