
الاعتداءات الإفرنجية (الصليبية) على ديار العرب في الأندلس والمشرق
أ. د. محمد عبده حتاملة*الحلقة التاسعةأما أحوال المسلمين في المشرق والأندلس فكانت على ما هي عليه من تفكك وتجزئة تغري الصليبيين بالمضي قدماً في مشروعهم، وهكذا جرى الإعداد للمشروع الصليبي مسبقاً.ولم تكن رحلة بطرس الناسك إلى الأراضي المقدسة سوى الشرارة التي ألهبت هذه الحروب التي اقترنت بالكثير من الفظائع الوحشية التي ارتكبها الأوروبيون ضد المسلمين، بل وضد المسيحيين الشرقيين، حتى أن الحملة الصليبية الرابعة لم توجه إلى الأراضي المقدسة، بل وجهت إلى القسطنطينية وترتب عليها احتلال هذه المدينة وإنشاء إمارة لاتينية فيها.وقد قام بطرس الناسك Pierre 1 Ermite)، ( (1050 – 1115م ) الراهب الفرنسي المتعصب بزيارة للقدس عام 446هـ / 1054م، فقد زعم أن السلاجقة يعاملون الحجاج المسيحيين الذين يؤمون بيت المقدس بظلم وقسوة وخشونة ولا بد من تخليص الأراضي. والحقيقة أن السلاجقة لم يكونوا كذلك قد انتهجوا السياسة الوفية التي استقرت منذ الفتح الإسلامي لهذه البلاد تجاه النصارى واليهود، ذلك أنهم بموجب تعاليم الدين الإسلامي يؤمنون بإله واحد، ولكنهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، وعن الكتب المقدسة: التوراة والإنجيل، ولذلك تعامل معهم المسلمون باعتبارهم مؤمنين ضالين، واقتصر هذا التعامل على أخذ الجزية، بينما ترك لهم ممارسة شعائرهم الدينية بلا عائق ، بل إن الفتح الإسلامي لبلاد الشام بما فيها القدس كان المخلص للنصارى الأرثوذوكس والمونوفيسيين القائلين بأن للمسيح طبيعة واحدة، والنسطوريين والغرغوريين من مظالم الكنيسة البيزنطية الدينية منها والضرائبية.لقد كان بإمكان الحجاج النصارى أن يزوروا القدس وغيرها من الأراضي المقدسة دون أن تتعرض مشاعرهم الدينية للإهانة من أي نوع بعكس ما ادعاه بطرس الناسك؛ مما يدل على أن هناك أسباباً أخرى وراء شن الحروب الصليبية لا يتسع المقام لبسط تفاصيلها، ولكنها تتلخص في أن الغرب النصراني استهدف من ورائها ضرب الإسلام وحضارته في محاولة لإضعافه ثم القضاء عليه.عرج بطرس الناسك في طريقه إلى بلاده عائداً من زيارته للقدس على البابا أوربان الثاني (1088 - 1099م) الذي استمع إلى مزاعم بطرس عما يلاقيه النصارى من اضطهاد في الشرق، وأمر الناسك بنشر الدعوة في أنحاء أوروبا لإعلان الحرب المقدسة لتخليص القدس وفلسطين من أيدي المسلمين. بل بادر أوربان الثاني نفسه إلى تنظيم حملة جماهيرية على الشرق، فقد زار فرنسا وعقد في تشرين الثاني عام 1095م مجمعاً لرجال الدين في مدينة كلير من فران الفرنسية حيث توافد آلاف الفرسان وعدد كبير من ذوي الألقاب الدينية منهم (300) أسقف، و (400) من رؤساء الأديرة ومن هناك أطلق البابا أوربان الثاني النداء الذي دعا الغرب النصراني إلى الحرب الصليبية في الشرق.لقد ألقى أوربان الثاني خطاباً نارياً استمع إليه الفرسان والأسياد والفلاحون الذين كانوا يتضورون جوعاً في أوروبا، وكذلك العبيد المعذبون على أيدي أسيادهم الإقطاعيين، وقد وجد هؤلاء في وعود البابا حافزاً لتحقيق مآربهم الدنيوية تحت الغطاء الديني الذي فرده أوربان، حيث أكد أن من يتجند للدفاع عن الصليب يغتسل من ذنوبه وسيئاته.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


وطنا نيوز
منذ 4 ساعات
- وطنا نيوز
صرخة مدوية في وجه التيه العربي
بقلم د. هاني العدوان من لظى المعاناة وعمق التحدي، انبثقت الدولة العثمانية شامخة، على أرض الأناضول التي كانت تموج بصراعات السلاجقة الممزقين، وتهوي عليها رياح المغول العاتية، وتتربص بها أطماع البيزنطيين المتزايدة وسط هذا اللهيب، بزغ نجم عثمان بن أرطغرل، قائدا فذا ورجلا ملؤه الإيمان، نذر نفسه لهدف أسمى، توحيد القبائل التركية تحت راية واحدة، وبناء دولة قوية تحميها وتذود عنها لم يكن دربه ممهدا بالحرير، بل كان وعرا مليئا بالمخاطر، فالمغول الذين اجتاحوا المنطقة بقوة لا تقهر، والصليبيون، الذين لم ينسوا حلم استعادة القدس، أدركوا خطورة هذا التوحد التركي المتنامي، فما كان منهم إلا أن حيكت المؤامرات، وبذلت الأموال والنفوذ لشراء الذمم، وأُججت الفتن والنعرات بين القبائل، ووعد بالسيادة والنفوذ لمن ينضم إليهم، وفتحت أبواب التجارة طمعا في كسب ولائهم، ولاقى ما لاقى من مؤامرات، بدءا من الأقربين، فلم يسلم من مؤامرات عمه، وحتى بعض إخوته، لكن عثمان بحكمته وإيمانه الراسخ، كان سدا منيعا أمام هذه المخططات الدنيئة لقد أدرك بفطرته أن قوة الأمة تكمن في وحدتها، وأن الفرقة والضعف لا يجلبان سوى الذل والهوان، لذلك آثر الحوار والتفاهم على القتال، والعفو والصفح على الانتقام، فلم تسفك في عهده قطرة دم تركية واحدة في صراع داخلي، وكان شعاره الخالد 'صلح بين قومي خير لي من نصر على عدوي' بهذا النهج القويم، استطاع عثمان أن يكسب ثقة القبائل وولاءها، وأن يجمع شتاتهم تحت رايته الظافرة لقد أسس دولته على قواعد متينة من العدل والشورى والتسامح، وجعل من الإسلام نبراسا يضيء طريقه، لم يكتف بالفتوحات العسكرية، بل اهتم أيضا ببناء المؤسسات، وتنظيم الإدارة، ونشر العلم والثقافة، لقد وضع اللبنة الأولى لدولة عظيمة، استمرت لأكثر من ستة قرون، وحملت راية الإسلام إلى أقاصي الأرض، دولة كانت منارة للعلم والحضارة، وقوة عظمى يحسب لها ألف حساب واليوم، ونحن نرى أمتنا العربية ممزقة الأوصال، مقطعة الأقطار، يعاني فيها العربي مرارة الغربة وبين إخوته، وتسلب الأراضي، وتنتهك الأعراض، وتشرد الشعوب، ويفتك الجوع ببعض الأقطار، نتساءل، نحن ابناء الأمة حاملة رسالة الإسلام ، الأمة التي أراد الله لها أن تكون خير أمة اخرجت للناس ، الأمة العربية ذات المجد ،اين نحن من ماضينا ، اين نحن من دروس عثمان بن ارطغرل حيث امتدادها ما زال ماثلا أمامنا على أرض تركيا العظيمة ، مهابة الجانب ، اين نحن من بطولات الصحابة الافذاذ رضوان الله عليهم ،أين النخوة والشهامة والعزة والتاريخ التليد، لقد أصبح الدم واللسان العربي، وحتى العقيدة التي تجمعنا، لم تعد قاسما مشتركا يجمعنا، العالم من حولنا يتحد ويتآزر، ونحن نزداد فرقة وتقزما وشتاتا ما الذي اعمى بصائرنا، كيف كنا وأين صرنا، اصبحنا أمة متخلفه مكانها في ذيل الأمم ، ليس لنا موقف ولا اعتبار وليس لنا حسبة بين الأمم ، أمة مستهلكة وثرواتها منتهبه وأرضها مغتصبة وقرارها ليس من رأسها ، فهل آن الأوان لأن نستلهم من ماضينا وعقيدتنا وتاريخنا ،المجيد ، ونعيد لأمتنا مجدها ووحدتها ان مصير الأمة معلق في رقاب قادتها وهم على قدر كبير من الحكمة وعريقون في السياسة، الرهان معقود عليهم ، وليس ثمة ما يحيل عن تحقيقهم احلام وتطلعات شعوبهم الا أن يلتقوا ويلقوا بالخلافات وراء ظهورهم ، يضعوا مصالح أمتهم فوق أية اعتبارات وينهضوا بهذه الشعوب حيث مكانتها التاريخية فيا قادة الامة الذين نجلهم ونقدرهم، يا من بيدكم مقاليد الامر، ويا من على عاتقكم امانة التاريخ، هل من مستجيب لنداء الشعوب التي تئن تحت وطأة التيه والفرقة، هل من ملتفت لارادة امة تواقة للمجد، عطشى للوحدة، مستعدة لبذل الغالي والنفيس في سبيل عزتها ان صرخة هذه الامة ليست مجرد كلمات، بل هي رجاء صادق، ونداء من اعماق الأفئدة، بان تلقوا بالخلافات جانبا، وان تضعوا مصلحة الامة العليا نصب اعينكم ان شعوبكم تتطلع اليكم بان تستلهموا من عظمة الماضي، لترسموا مستقبلا يليق بعراقة هذه الامة وتضحيات ابنائها، فاستجيبوا لنداء الوحدة، ولصوت الحق الذي يصدح من حناجر الملايين، لتعود الامة العربية منارة للعالم، وقوة لا تقهر، ومجدا لا يزول، ولتكونوا شهودا على نهضة عظيمة، لا على تيه مستمر

السوسنة
منذ 13 ساعات
- السوسنة
وقت الغضب من أجل أطفال غزة
أجساد صغيرة ممددة على الأرض..أمهات وآباء يحتضنون جثث أطفالهم..خطوات مرتجفة لطفل يحمل أخاه الرضيع..أطفال يتألمون من الجوع حتى الموت..آلاف الأطفال بلا أذرع ولا أرجل..أبناء يودعون جثث آبائهم وأمهاتهم بدموع غزيرة..أطفال حائرون يتجولون بين الأنقاض بلا هدف بعد أن أصبحوا أيتاماً بين قصف وآخر..وجثث صغيرة تتدلى من جدران الأحياء المدمرة..بالله عليكم…ألا تثور قلوبكم أمام هذه المشاهد؟ حتى متى سنظل صامتين أمام هذه الهمجية، أمام هذه الوحشية غير الأخلاقية؟ ألا تمزق صرخة الطفل الصغير فيصل الخالدي آذاننا؟ «كانت أمي حاملاً في الشهر السابع. أطلقوا النار على بطنها. قتلوا أمي وأبي أمام عيني!»كلا!من يفعل هذا لا يمكن أن يكون إنساناً. هؤلاء لا يسيرون على طريق سليمان ولا داود عليهما السلام. هم ينتمون إلى ظلام يتجاوز الهمجية. هم وحوش صهيونية تم إنتاجها في مختبرات الإمبريالية والعنصرية والاستعمار. هؤلاء لا يمكن أن يكونوا من اليهود الذين احتضنتهم الحضارة الإسلامية والإمبراطورية العثمانية لقرون. السياسي الإسرائيلي موش فيجلين يجرؤ على القول أمام أعين العالم كله:«كل طفل في غزة، كل رضيع هو عدو. العدو ليس حماس.. يجب أن نحتل غزة، أن نستعمرها ولا نترك فيها طفلاً غزياً واحداً، لا يوجد نصر آخر». الظلم الصهيوني يستمر بحقد يخجل منه حتى جنكيز خان وهتلر و»داعش». غزة أصبحت مقبرة للأطفال الرضع. وهؤلاء الهمج يستمتعون بقتل الأطفال. ألم يحن الوقت لكي يتحد العالم ضد هذا الرعب؟أيها الضمير العالمي! أين أنت؟ ألم يحن الوقت لزلزلة الأرض من أجل هؤلاء الأطفال؟ اليوم، 14 ألف رضيع يواجهون خطر الموت جوعاً.. بعد أكثر من 19 شهراً من الإبادة الجماعية التي أودت بحياة مئات الآلاف من المدنيين، يجري تجويعهم عمداً وبطريقة ممنهجة لقتلهم واحداً تلو الآخر. يجب أن نقول بخجل: لم تغلق أي سفارة في إسرائيل بعد! الضمير الإنساني يثور الآن. المؤرخ الاسكتلندي ويليام داريمبل يصرخ: «إذا أردنا منع موت 2.1 مليون إنسان جوعاً ومنع التطهير العرقي، يجب أن نوقف جميع مبيعات الأسلحة وفرض عقوبات فورية على هذا النظام القاتل».. حتى الكاتب اليهودي آلون مزراحي الذي يقف ضد الصهيونية يفرح باستيقاظ أوروبا: «هذه أخبار رائعة. تسونامي مقبل ضد بلد الهمج والمختلين عقلياً. قد تتسبب إسرائيل في انقسام كبير بين أوروبا وأمريكا. سنرى العلامات الأولى قريباً. أمريكا ستبقى وفية لإسرائيل حتى حدوث انهيار كبير، لكن أوروبا ستتراجع مبكراً. هذه العملية بدأت بالفعل». بينما يرفع اليهود الرحماء صوتهم ضد الصهيونية، أليس عاراً على بعض الدول التي تزعم الإسلام أن تتبع ذيول هؤلاء القتلة خوفاً؟التاريخ سيسجل هذا أيضاً.نتنياهو وعصابته سيلقون في مزبلة التاريخ ويلعنون إلى الأبد، مثل فرعون ونمرود وهتلر و»داعش». ففي تاريخ البشرية، لم يتم استهداف هذا العدد من الأطفال والرضع بهذه الوحشية، صرخات غزة وصلت إلى الذروة. يوما ما سيصل صراخ الأطفال إلى العالم كله ويحرقه ويزلزله.أيها العالم! أما زلت صامتاً أمام أطفال غزة؟ أصمّت صرخاتهم آذانك؟ حتى متى ستظل غير مبالٍ بموت هؤلاء الأطفال الذين يحملون براءة الملائكة؟ أنت الذي تفخر بالمحاكم التي أنشئت باسم الإنسانية.. أنت الذي تتحدث عن العدالة والضمير والحرية.. قل لي الآن، أين أودعت ملف القضية الذي قدمه لك هؤلاء الأطفال؟ في أي أرشيف دفنت هذه الدموع؟ أي مصالح وحسابات أخفت صوتك؟لقد حان الوقت:لا تسكت أيها العالم..حتى لو دُمر كل شيء، قف أنت شامخاً!حتى لو تقاعس الجميع، تقدم أنت للأمام!لأن كلمتك وحدها ستتردد في هذا الظلام.واعلم أن صمتك يعني فقداننا ليس لشعب فقط، بل للإنسانية كلها.لا تتوقف…لا تتراجع…لا تسكت…لا تدع قلبك يضعف وقلمك يرجف..اكتب من أجل غزة…كما لو أن كل حرف سيكون مرهماً لقلب طفل مزقته الشظايا.. كما لو أن كل قطرة دم ستسجل بكلماتك.. كما لو أن أحد لن يتذكر وجود هؤلاء الأطفال إن لم تبك أنت.. وعندما يسألك ربك ذات يوم: «أين كنت عندما احترقت غزة؟» لتكن لديك إجابة، وموقف، وكرامة تقدمها حينها.. لأن كل من لم يقاتل حتى آخر رمق من قوته، يكون قد تخلى عن هؤلاء المظلومين.كاتب تركي


الغد
منذ 15 ساعات
- الغد
فتنة العصر (3): كيف تحولت الأوهام الدينية إلى عوائق حضارية؟
د.محمد صبحي العايدي اضافة اعلان على امتداد العقود الماضية واجهت الأمة العربية والإسلامية هزائم سياسية وفكرية متتالية، لم تقتصر آثارها على الساحة الجيوسياسية فحسب، بل تسللت عمقاً إلى الوعي الجمعي، وأحدثت تشوها في فهم الدين ذاته، هذا التشوه ولّد أوهاماً كبرى، تحولت إلى عوائق بنيوية حالت دون استقرار المجتمعات وتقدمها.من هذه الأوهام التي تصدرت هذا المشهد المأزوم هي: وهم الدولة الدينية، ووهم الاصطفاء، والتمترس المذهبي، فلم تعد هذه الأوهام مجرد انحرافات في الفهم، بل أصبحت أدوات لصناعة الجمود والاستبداد والانقسام.أولاً: وهم الدولة الدينيةمفهوم "الدولة الدينية" كما تم تسويقه إلى الوعي العربي والإسلامي لم ينبثق من نقاش علمي رصين او تجربة مدنية ناضجة، بل كان نتاج قلق أيديولوجي، ومحاولة لاستثمار الدين في شرعنة السلطة، فهل الدولة الدينية هي تلك التي يقودها رجال الدين بوصفهم أوصياء على الفهم الصحيح للدين؟ أم هي التي تستنسخ أحكام السلف وتنزلها على واقع متغير دون اعتبار لمتطلبات الزمن؟ أم أنها – على غرار ما شهده التاريخ الأوروبي في عصر الكهنوت – تمثل تفويضاً إلهياً للحكم بلا قوانين أو ضوابط؟في كل هذه الصور التي ذكرناها يتحول الدين من مرجعية سامية تهدف إلى تحرير الإنسان وتكريمة، إلى أداة سياسية في يد فئة تحتكر الحقيقة وتفرض وصياتها على الناس، تقصي الكفاءات لصالح التدين الظاهري والشكلي، وتستبدل المؤسسات بالفتاوى، ويهمش مبدأ المواطنة باسم الانتماء الديني.إن هذه الصيغة من الدولة لا تنتج عدالة، بل تنتج سلطوية مغلفة بالدين، وتصبح الآراء الفقهية فوق صوت الدستور، و" النية الصالحة" بديلاً عن الحوكمة الرشيدة، وهكذا يتحول الحلم بالدولة العادلة إلى كابوس من الاستبداد المقدّس.ثانياً: وهم الاصطفاء أو "الفرقة الناجية"في زمن الانفتاح العالمي، واتساع التواصل بين الشعوب والثقافات، ظهرت جماعات الإسلام التقليدي التي تغلف وجودها ودعوتها بهالة من الاصطفاء الإلهي لها، وترى نفسها الفرقة الناجية الوحيدة ، بل أنها على الحق المطلق، وماعداهم في ضلال مبين، لا لشيء إلا لأن الله اعطاهم امتيازاً لذلك دون بقية الخلق، فنحن هنا أمام تضخم أنوي جماعي، ونرجسية مقنعة بالآيات والأحاديث، أعطت لنفسها امتيازات باسم الدين، وجعلوا من أنفسهم أوصياء على الناس، فهذه الجماعات لا تدعو إلى النجاة بل تحتكرها، ولا تنشر الرحمة بل تحتكر الجنة، وهذا مدخل خطير للتكفير والتدمير ومحاسبة الآخرين بلا رقيب ولا حسيب، فبدل ان يلهمهم الدين التواضع والتقوى الذي هو شعور بالمسؤولية لخدمة الناس، أسكرهم بشعور التميز والتفوق الروحي، ومنحهم سلطة رمزية ونفسية، متجاهلين أن النجاة بالعمل وليس بالادعاء، وبالرحمة لا بالغلظة.ثالثاً: وهم التمترس المذهبيتكونت المذاهب الإسلامية كمناهج علمية للفهم وجسور للمعرفة والحوار، وليست كأسوار للفصل الفكري والمعرفي، فمتى تحولت من مناهج معرفية تنظم الفهم الديني بطريقة علمية إلى هويات دفاعية، يحتمي بها كل من ينتمي لها منغلقا على ذاته، ومحاولا ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، فنحن هنا أمام معضلة كبيرة لا تقل خطورة عن اللامذهبية، فكما تؤدي اللامذهبية الى الفوضى وعدم الاستقرار المجتمعي، فالتمترس المذهبي المنغلق يؤدي الى الجمود وقتل روح الابداع والاجتهاد والتقدم في المجتمعات، والانكفاء على الذات، وهذا يجعل الدين عبئا وعائقاعلى المجتمع بدل أن يكون رافداً من روافد التقدم، وايجاد الحلول للمشكلات وتيسير حياة الناس.وفي الختام...إن هذه الأوهام الثلاثة لم تعد مجرد تصورات مغلوطة، بل تحولت إلى عوائق حضارية حقيقية، تقيّد انطلاق المجتمعات وتهدد السلم الأهلي، وتحول دون تجديد الخطاب الديني، وتلاقي الاجتماع الإنساني.وقد آن الآوان لتحرير الدين من هذه الأوهام، وإعادته إلى دوره الأصيل كمصدر للرحمة، ومرجعية أخلاقية وقيمية لتكريم الإنسان وتحرره لا لتقييده، وبوصلة للخير والنفع العام، لا أداة للتقسيم والتنازع، وروحاً عليا تنير الطريق، لا سيفاً يشهر عند كل اختلاف.