logo
قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر

قصة الكتاب الذي مهد للجدل حول الإسلام والعلمانية في مصر

BBC عربية٢٥-٠٤-٢٠٢٥

هل ينبغي أن تكون الدولة مدنية علمانية أم دينية؟ سؤال يثير منذ عقود جدلا واسعا بين المثقفين والمهتمين بالسياسة في العالم العربي، حيث يطرح كل فريق حججه التي غالبا ما لا تُقنع الطرف الآخر، في مشهد تكرر كثيرا في سياقات متباينة، وإن كان يمكن تتبع تاريخه إلى مئة عام.
ففي أبريل/ نيسان عام 1925 صدر في مصر كتاب يحمل عنوان "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي سعى للترويج لفكرة الدولة المدنية قائلا إن الإسلام كرسالة دينية لم يحدد شكل الحكم السياسي الأمثل، ومشددا على أن مؤسسة الخلافة التي هيمنت على مصير المسلمين لمئات السنين ليست من أصول العقيدة الإسلامية.
الكتاب أثار معركة فكرية كبيرة في مصر وخارجها، وتسبب في فصل صاحبه من الأزهر وتعرضه للكثير من الاتهامات وصلَت إلى درجة أن البعض ادعى أن علي عبد الرازق ليس هو المؤلف الحقيقي للكتاب. فمن هو علي عبد الرازق؟ وما الأفكار التي طرحها؟ وما الظروف التي نُشر فيها الكتاب؟
إلغاء الخلافة
جاء توقيت صدور الكتاب في عام 1925 ليزيد من حدة النقاشات حوله. إذ صدر بعد عام واحد فقط من إلغاء البرلمان التركي مؤسسة الخلافة، وهي التي كانت مجرد منصب شرفي منذ عام 1909.
وخلال تلك الفترة، كان العديد من البلدان ذات الأغلبية المسلمة، خاضعا خلال تلك الفترة بشكل أو آخر لقوى استعمارية غربية بعد أن ظل لمدة قرون تابعا للعثمانيين. وكانت نخب تلك البلدان المثقفة تتطلع إلى تأسيس دول حديثة قائمة على أفكار الديمقراطية والفصل بين السلطات وإجراء الانتخابات، فيما بدا تأثرا بالأنظمة السياسية الغربية.
كانت مصر في قلب تلك التحولات الكبرى، فثورة عام 1919 التي طالبت بالاستقلال عن الاستعمار البريطاني، أسفرت عن استقلال صوري غير كامل ودستور جديد وانتخابات برلمانية أفضت عام 1924 إلى تولي سعد زغلول، زعيم حزب الوفد، رئاسة أول حكومة منتخبة في تاريخ البلاد.
لكن "حكومة الشعب" لم تستمر طويلا إذ استقالت بعد أقل من عام على تشكيلها، لتتشكل حكومة من أحزاب وشخصيات مقربة من الملك من دون أن يكون لها نفس شعبية حزب الوفد، ومن بين تلك الأحزاب، حزب الأحرار الدستوريين، الذي سيكون له فيما بعد له دور مهم في المعركة التي دارت حول الكتاب.
وفي نفس الفترة التي تعرضت فيها التجربة الديمقراطية المصرية الوليدة لانتكاسة كبيرة، بدأت تظهر دعوات تطالب باستعادة الخلافة، وطُرح اسم الملك فؤاد من بين المرشحين لكي يكون خليفة محتملا للمسلمين.
وفي تلك الأجواء خرج كتاب "الإسلام وأصول الحكم" إلى النور ليتحول صاحبه من مجرد قاض شرعي في مدينة المنصورة إلى محور جدل ونقاشات استمرت لعشرات الأعوام بعد وفاته.
حزب الأحرار الدستوريين
وُلِدَ علي عبد الرازق لعائلة من كبار ملاك الأراضي الزراعية في محافظة المنيا بصعيد مصر عام 1887 وتلقى تعليما أزهريا ثم سافر إلى إنجلترا للدراسة في جامعة أوكسفورد، قبل أن يعود إلى مصر وينضم إلى سلك القضاء الشرعي.
كان عبد الرازق ينتمي فكريًا إلى حزب الأحرار الدستوريين، وهو حزب ضم العديد من الباشوات وأفراد الطبقة الثرية، وكان يميل إلى معسكر الملك في خصومته مع حزب الوفد ذي الشعبية الجارفة.
ومن اللافت أن حزب الأحرار الدستوريين كان وقتها يضم ويحظى بدعم أسماء بارزة في عالم الثقافة المصرية بجانب علي عبد الرازق، كطه حسين، الذي كان هو الآخر محور جدل مشابه في عام 1926 بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي"، ومنصور فهمي، ومحمد حسين هيكل، ومصطفى عبد الرازق، شقيق علي عبد الرازق.
لكن ما أبرز الأفكار التي جاءت في الكتاب وأثارت ضجة كبيرة؟
الكتاب
يستهل عبد الرازق كتاب "الإسلام وأصول الحكم - بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام" بالإشارة إلى أن الأبحاث التي قام بها حول القضاء الشرعي هي التي دفعته إلى تأليف الكتاب.
والفكرة الأساسية للكتاب أن النبي محمد "لم يكن إلا رسولا لدعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك أو حكومة".
كما يقول عبد الرازق إنه لا توجد نصوص دينية إسلامية تؤيد الحديث عن وجوب الخلافة.
ويستشهد عبد الرازق بنصوص تاريخية لتأكيد حديثه عن أن الخلافة "لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وإن تلك القوة كانت – إلا في النادر – قوة مادية مسلحة".
كما يشير إلى أن تفرق المسلمين إلى ممالك ودويلات في زمن ضعف الخلافة لم يسفر عن ضياع الدين أو توقف المؤمنين عن ممارسة شعائر عقيدتهم.
ويدعو عبد الرازق المسلمين في الكتاب إلى بناء قواعد ملكهم ونظام حكومتهم "على أحدث ما أنتجت العقول البشرية".
المعركة
كانت الأفكار التي حملها الكتاب غير تقليدية بشكل أثار عاصفة من الجدل والانتقادات خاصة في ظل إلغاء مؤسسة الخلافة. فالكاتب الإسلامي البارز محمد رشيد رضا شن هجوماً عنيفاً على الكتاب ومؤلفه في مجلة المنار، واصفاً الأفكار التي جاءت فيه بـ"البدعة" التي ظهرت في وقت تتضافر فيه الجهود إلى عقد مؤتمر إسلامي عام لإحياء منصب الخلافة.
كذلك صدرت كتب عدة تتعرض لـ"الإسلام وأصول الحكم" وتنتقد ما جاء فيه، لعل من أبرزها كتاب الشيخ محمد الخضر حسين- الذي تولى منصب شيخ الأزهر بعد ذلك بأكثر من 25 عاماً - "نقد الإسلام وأصول الحكم".
وسعى الرافضون لأفكار علي عبد الرازق إلى طرح حجج مضادة لما جاء في "الإسلام وأصول الحكم" مستلهمين هم أيضاً نصوصاً دينية وتاريخية.
تتسم العديد من الكتابات المعارضة لعلي عبد الرازق باتهامه إما بـ "الجهل بحقيقة الإسلام" أو "التضليل المتعمد" أو "تقليد الغرب بشكل كامل".
لم تقتصر قائمة منتقدي عبد الرازق على الشيوخ وأصحاب التوجهات الإسلامية المطالبة بعودة الخلافة، فقد كان لافتاً أن الزعيم الوفدي سعد زغلول استنكر بشدة ما جاء في الكتاب ووجه نقداً لاذعاً لصاحبه، بحسب ما جاء في دراسة الكاتب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم: دراسة ووثائق".
في المقابل، نشرت صحف مصرية العديد من المقالات التي يدافع أصحابها عن علي عبد الرازق وآرائه، كمحمد حسين هيكل، وسلامة موسى.
كذلك دافع عباس العقاد - وهو الذي كان وقتها مؤيداً لحزب الوفد - عن حق الكاتب في التعبير عن رأيه سواء كان مصيباً أو مخطئاً.
المحاكمة
المعركة حول الكتاب لم تكن قاصرة على الصحف والمجلات بل وصلت إلى أروقة الأزهر. إذ انعقدت هيئة كبار علماء الأزهر في شهر يوليو/تموز عام 1925 ووجهت إلى علي عبد الرازق سبع "تهم" من بينها حديثه عن كون الإسلام شريعة روحية محضة وقوله إن حكومة أبي بكر ومن خلفه كانت حكومة لادينية.
وفي أغسطس/ آب مثل علي عبد الرازق أمام الهيئة التي قررت بالإجماع إخراجه من زمرة العلماء ومحو اسمه من سجلات الأزهر وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية، وهو ما تبعه قرار حكومي بفصله من وظيفته كقاض شرعي.
السياسة
لم يشكل قرار فصل عبد الرازق من الأزهر نهاية المعركة حول الكتاب بل كان أحد تبعاتها. فكثير من الكتابات والدراسات التاريخية التي تناولت القضية لاحقاً، تظهر أن الأزمة كانت مرتبطة أيضاً بالسياسة كما كانت متعلقة بالأفكار التي طرحها، كما جاء في كتاب محمد عمارة "الإسلام وأصول الحكم - دراسة ووثائق"، وكتاب الكاتب الصحفي المصري أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ".
فالكتاب بحسب هذا الفريق كان بمثابة صرخة احتجاج ضد مساعي الملك فؤاد مواصلة الاستبداد بالحكم عبر ادعاء لقب الخليفة بما له من ثقل ديني.
وتشير الأكاديمية سعاد علي في كتابها "A Religion, Not a State: Ali 'Abd al-Raziq's Islamic Justification of Political Secularism" إلى أن عبد الرازق استخدم في الكتاب لفظتي ملك وسلطان ومرادفتهما نحو 150 مرة. فالملك فؤاد، عند هذا الفريق من الباحثين، لعب دوراً في التنكيل بصاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، بل أن عدداً ممن هاجموا الكتاب كان من بين دوافعهم إرضاء ملك مصر. فبينما قال عبد الرازق في مقدمة كتابه إنه "لا يخشى سوى الله. له القوة والعزة. وما سواه ضعيف ذليل"، نجد الشيخ محمد الخضر حسين يهدي كتابه إلى "إلى خزانة حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر المعظم".
أما الحزب الذي ينتمي إليه عبد الرازق فكرياً، حزب الأحرار الدستوريين، فهو لم يكن حزباً جماهيرياً بل وارتضى المشاركة في حكومات غير ديمقراطية موالية للملك وصلت إلى الحكم من دون أن يكون لها ظهير شعبي كبير. لكن المفارقة أن الحزب نفسه وقف إلى جانب علي عبد الرازق لينتهي الأمر بأزمة سياسية أسفرت في النهاية عن خروج وزراء الحزب من الحكومة.
أسئلة مشابهة
ومع مرور السنوات توارى علي عبد الرازق عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يقرر الأزهر إعادته إلى زمرة علمائه في الأربعينات خلال تولي شقيقه مصطفى عبد الرازق منصب شيخ الأزهر. ثم أسند إليه منصب وزير الأوقاف في إحدى حكومات الأقليات في نهاية الأربعينيات.
أما جهود إعادة إحياء الخلافة الإسلامية فسرعان ما باءت بالفشل. وبدا بعد فترة ليست بالكبيرة أن الانشغال بقضايا الاستقلال والديمقراطية طغى على حماس الكثير من عناصر النخبة المصرية لمناقشة قضية مشروع الخلافة. وليس أدل من ذلك التغير تلك الأزمة التي جرت في عام 1937 خلال الإعداد لتتويج الملك فاروق، نجل الملك فؤاد.
فمصطفى النحاس، رئيس الوزراء المنتخب وخليفة سعد زغلول في زعامة حزب الوفد، أجهض خطة طرحها مقربون من الملك لإضفاء صبغة دينية على حفل التتويج.
لكن في المقابل، فإنه وبعد ثلاث سنوات من صدور كتاب "الإسلام وأصول الحكم" سيؤسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تدعو إلى مواجهة التغريب والعودة إلى الأصول الدينية للمجتمعات الإسلامية حتى يصير من الممكن "إحياء الخلافة المفقودة".
ومع مرور الزمن أمسى الكتاب مثار نقاشات حادة بين أنصار العلمانية والمدافعين عن الحكم ذي الطابع الإسلامي، وأعيد طبعه أكثر من مرة.
تجدر الملاحظة أن كلمة "علمانية" لم ترد في الكتاب، فعلي عبد الرازق كان يدافع عن حكم مدني في مقابل المطالبين بعودة نظام الخلافة.
وبعد مرور قرن على صدور "الإسلام وأصول الحكم"، لا تزال الأسئلة التي أثارها علي عبد الرازق وأنصاره ومنتقديه حاضرة بقوة في النقاش العربي المعاصر: هل الدين يحدد شكل الدولة؟ هل يمكن التوفيق بين المرجعية الإسلامية والدولة المدنية؟ وهل الجدل حول "الخلافة" انتهى فعلًا، أم أنه يعاود الظهور بأشكال جديدة؟

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"منطقة ممنوعة على المسلمين".. مضامين عنصرية في ملصقات علقت بمدينة أورليان الفرنسية تثير غضبا
"منطقة ممنوعة على المسلمين".. مضامين عنصرية في ملصقات علقت بمدينة أورليان الفرنسية تثير غضبا

BBC عربية

timeمنذ 3 أيام

  • BBC عربية

"منطقة ممنوعة على المسلمين".. مضامين عنصرية في ملصقات علقت بمدينة أورليان الفرنسية تثير غضبا

فتحت السلطات الفرنسية تحقيقاً في مزاعم التحريض على الكراهية على أساس الدين عقب ظهور ملصقات معادية للإسلام وأخرى يمينية متطرفة في مدينة أورليان. واحتوت الملصقات التي عثر عليها في وسط أورليان وفي حرم جامعة أورليان، على رسائل معادية للمسلمين. ومن بين العبارات التي تضمنتها الملصقات " دخلت منطقةً ممنوعة على المسلمين" و "من أجل مجتمع خال من المسلمين". وظهرت في الملصقات رموز مختلفة تدلل على عدة ممنوعات وتحظر الحجاب والصلاة في الأماكن العامة واللحية والذبح الحلال. يمكنكم مشاهدة الحلقات اليومية من البرنامج الساعة الثالثة بتوقيت غرينيتش، من الإثنين إلى الجمعة، وبإمكانكم أيضا الاطلاع على قصص ترندينغ بالضغط هنا.

الغرب... أصوات تكسر جدار الصمت والتواطؤ
الغرب... أصوات تكسر جدار الصمت والتواطؤ

العربي الجديد

timeمنذ 4 أيام

  • العربي الجديد

الغرب... أصوات تكسر جدار الصمت والتواطؤ

تعدّدت، في الأسابيع القليلة الفارطة في بلدان غربية مختلفة، الأصوات المندّدة بما يجري في غزّة من حرب إبادة تطاول الأطفال والنساء والشيوخ، وتنسف مقوّمات الحياة بمعناها البيولوجي الصرف. يجري ذلك في برلمانات ومجالس شيوخ، وكذلك في مؤسّسات اقتصادية وشركات كبرى (بنوك وشركات تصنيع السلاح...) متهمة بتمويل الكيان الإسرائيلي، أو دعمه على الأقلّ. رأينا برلمانيين وإعلاميّين وجامعيين يحتجّون على رؤساء حكوماتهم لتواطئهم وجبنهم ولامبالاتهم. تقدّم فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة نماذجَ من هذه الموجات المتتالية، تساندها بين حين وآخر (وبأشكال متفاوتة) مظاهرات شعبية، يقودها سياسيون في جلّهم من اليسار، بالمعنى الثقافي والإنساني الواسع، وطلاب الجامعات والفنّانين. وذهبت بلدان أخرى إلى ما هو أبعد، حين عبّرت بصريح العبارة عن أن ما يجري في فلسطين حقيقةً حرب إبادة، فأصدر قادة سبع بلدان أوروبية: إسبانيا ولوكسمبورغ والنرويج وأيسلندا وأيرلندا ومالطا وسلوفينيا، بياناً صارماً أعربوا فيه عن رفضهم المطلق سياسة الصمت الدولي تجاه ما يجري، واعتبار ذلك كارثةً إنسانيةً تحتاج إلى إدانة، مطالبين برفع الحصار الفوري وكفّ اعتداءات المستوطنين على الضفة الغربية، في حين اتّخذت بلدان أخرى قراراتٍ ديبلوماسيةً جريئةً: قطع العلاقات أو التهديد به أو استدعاء السفير... إلخ. يجري ذلك كلّه تزامناً مع حدثَين بالغَي الأهمية. الأول، زيارة ترامب إلى المنطقة وسط احتفاء غير مسبوق به، والحال أنه شريك في كلّ ما يجري لغزّة، ولا يزال يصرّ على رؤيته المارقة لها، أرضاً صالحةً لـ"البناء"، واحتضان المنتجعات الفخمة، حتى لو على جثث أبنائها، ملح التراب وعشبها الذي لا ينقطع. الحدث الثاني، انعقاد قمّة عربية باهتة تعمّق الشروخ العميقة بين البلدان العربية. أنظمتنا العربية، بما فيها التي تدّعي مساندة الفلسطينيين، لا تتيح لمواطنيها التعبير الحرّ عن تضامنهم الذي يظلّ بحسب اعتقادها تضامناً رسمياً تحتكره، وتعبّر عنه وفق إرادتها ردّات الفعل الغربية المشار إليها، من صنع نُخب الحكم أو المعارضة، دالّة بشكل عميق، ويمكن أن يكون لها بالغ الأثر مستقبلاً لو أفلحنا في قراءة هذه المواقف ورسملتها، فهي تبرهن مرّة أخرى أن الغرب ليس "دار حرب أزلية"، بل مجتمعات وأنظمة تتنازعها اختلافات عديدة عادة، تعبّر عن مواقف ومواقع وعقائد ومصالح يعتريها، بين حين وآخر، تحوّلات وتبدّلات، وأنه رغم انحسار دوائر الحرّية تحت ضغط اللوبيات الصهيومسيحية وجماعات النفوذ المالي والإعلامي في سياق الرهاب من الإسلام والمسلمين، ما زال هذا الغرب يتيح لمواطنيه ومثقّفيه الأحرار التعبير الحرّ عن مواقفهم، وأن هذا الضمير الحيّ لم يمت، بل إنه يستعيد رهافة حسّه وعدله وإنصافه تدريجياً. تحرص إسرائيل أن تظلّ "الجماعة" الوحيدة التي تحتكر صفة الضحية، وأنها الوحيدة أيضاً التي تعرّضت لإبادة خلال التاريخ المعاصر، وأن غيرها لا يستحقّ أن يكون محلّ تعاطف إنساني مهما نُكّل به. فما يزعج إسرائيل هو أن ينافسها على هذه "المنزلة" "طرف ثانٍ، لأنها بذلك تفقد رأسمالها الذي لا يخلو من أسطرة، والذي استثمرته (ولا تزال) في ترسيخ القبول بكل تجاوزاتها الراهنة. إنها الابن المدلّل الذي يُسمَح له بارتكاب الممنوعات كلّها، تعويضاً عن "الحرمان" و"الأذى" اللذين لحقا به. لذلك، تُخرس الجميع، وتلجمهم، لأن الغرب لم يتحرّر بشكل نقدي وعقلاني من خطيئة الإبادة، هذا ما تقوله جلّ الانتفاضات الجارية حالياً، وإنْ بشكل متلعثم ومربك، من فرط مشاعر الخطيئة تلك. غير أن هذا الأمر يحتاج منّا (نحن العرب) أن نلتقط صحوة هذا الضمير الإنساني وتعظيمه، خصوصاً أننا لم نشهد ما يضاهيه في ما يجرى بيننا من نقد لاذع تحت قباب البرلمان، أو في حرم جامعاتنا، لأن أنظمتنا، بما فيها التي تدّعي مساندة الفلسطينيين، لا تتيح لمواطنيها التعبير الحرّ عن تضامنهم الذي يظلّ بحسب اعتقادها تضامناً رسمياً تحتكره الأنظمة، وتعبّر عنه وفق إرادتها. هذه المواقف الغربية تظلّ قابلةً لأن تذهب بعيداً، فوراءها قيادات ومنظّمات وهيئات سياسية وحركات اجتماعية. ومع ذلك، علينا أن ننتبه إلى محدودية انتفاضات الضمير هذه، وقصورها الراهن عن صناعة وعي ورأي عامّين، وسياسات واضحة المعالم في هذه البلدان، وذلك لعدّة اعتبارات، لعلّ أكثرها أهمية أننا (عرباً) عجزنا عن "تسويق عدالة قضيتنا ونبلها". لقد أضرّ الإرهاب، وكل أشكال التطرّف الديني، ومزاعم "أسلمة" القضية الفلسطينية، بالقضية ذاتها، التي انحدرت أحياناً إلى قضية طائفية أو عرقية خالية تماماً من كلّ نفَس إنساني عميق. لقد عجزت النُّخب الفلسطينية عن الارتقاء بقضيتهم إلى مرتبة كونية إنسانية، تغدو فيها مشتركاً إنسانياً على قواعد كونية، بعد أن كانت القضية الفلسطينية في ستينيّات القرن الفارط تجلب تعاطفاً وانخراطاً. يقول الزعيم اليساري الفرنسي جان لوك ميلانشون حرفياً: "إن الجرائم المخطّط لها من الغرب، والمسموح بارتكابها في غزّة، هي تواطؤ منه، وما يجري فيها غدا قوّةً إجراميةً يرتكبها الغرب ذاته".

"العرب" بين فكرة القومية ومأزق الحريّة!
"العرب" بين فكرة القومية ومأزق الحريّة!

العربي الجديد

time١٤-٠٥-٢٠٢٥

  • العربي الجديد

"العرب" بين فكرة القومية ومأزق الحريّة!

عندما تأسّست جامعة الدول العربية عام 1945م، بصفتها منظمةً إقليميةً تمثّل كياناً جغرافياً يسمّى "الوطن العربي"، افترض البعض في حينه أنّ هذه الخطوة الأولى نحو الوحدة العربية، وأنّ المشروع البريطاني خلال فترة الانتداب على دول المنطقة، ساهم في ولادة هذه الجامعة، بهدف "تأهيل" الكيانات السياسية العربية الناشئة تحت مظلّة قوميّة! فيما افترض آخرون أنّ دعم بريطانيا للجهود العربية في قيام الجامعة العربية، بعد الحرب العالمية الثانية، هدفه ضمان بقاء الكيان الجديد تحت تأثير نفوذ القوى الإمبريالية القديمة والجديدة. لا شك أنّ الجامعة العربية، ومنذ عام 1990م، تعكس خيبة أمل شائعة بين الشعوب العربية، وشعوراً واسعاً بالإحباط من مؤسّسات العمل العربي المشترك، في ظلّ خمولها وغيابها التام في القضايا الكبرى والأزمات المصيرية، وتعرّضت لنقد شديد من النخب السياسية والفكرية على امتداد الجغرافيا العربية، فلم تنجح في تحقيق الحدّ الأدنى من أهدافها المعلنة، ولا في التعامل الفعّال مع القضايا السيادية؛ فلسطين، لبنان، العراق، سورية، السودان، اليمن وغيرها، وفي كثير من القرارات بقيت رمزية أو غير مُلزِمة، ما جعل دور الجامعة، وفكرة "القومّية" محلّ تساؤل وشكٍ دائمَين. وبرأينا أنّ البُنية الإقليمية "للجامعة العربية" لم تُصمَّم أصلاً لتحقيق وحدة أو تكامل، بل لضبط الإيقاع ضمن حدود لا تهددّ المصالح الغربية ولا تُفككّ المنظومة التي رسمها الاستعمار بخطوطه وحدوده، فالجامعة "بُنيت لتقسيم الجيوسياسي العربي" بما يتماشى مع نظرية إدارة التفكّك لا مقاومته، أي أنّ المؤسسة توفّر غطاءً شكلياً للوحدة، بينما في الواقع تكرّس الانقسام! والأمثلة الواقعية التي عصفت بالمنظومة العربية خلال العقود القليلة الماضية، تؤكّد صحة هذه الفرضية، فالمواقف متباينة بين الدول إلى درجة العداء والقطيعة أحياناً، فضلاً عن استغلال الجامعة، أحياناً، أداةً في صراعات إقليمية بدلاً من كونها محايدة وموحِّدة. المواقف متباينة بين الدول العربية إلى درجة العداء والقطيعة أحياناً، فضلاً عن استغلال الجامعة العربية، أحياناً، أداةً في صراعات إقليمية بدلاً من كونها محايدة وموحِّدة ومع ذلك، هناك من يرى أنّ ضعف الجامعة لا يعني بالضرورة أنّ فكرتها كانت خاطئة من الأساس، بل إنّ المشكلة تكمن في الإرادات السياسية للحكومات الأعضاء، لا في الهيكل ذاته. فهل البديل يكمن في نموذج جديد للوحدة العربية، أم أنّ فكرة "الوحدة" بحدّ ذاتها لم تعد واقعية؟ بعد قرن من تفككّ المشروع القومي، تغيّر إدراك الدول والأنظمة العربية، لمقاربات الوطني والقومي، وفكرة "الوحدة"، التي كانت في لحظة من التاريخ حلماً تحمله النخب والجماهير، أصبحت من الأطلال والتراث، أمام صعود الدول القُطرية وترسيخ مفهوم السيادة بمعناه الضيّق، والتحوّلات الاقتصادية والسياسية التي ربطت بقاء الأنظمة باستقرار خارجي لا داخلي، إضافة إلى التجزئة الثقافية والإعلامية التي عمّقت الفوارق بدل أن تردمها، وأيضاً خلوّ الساحة من مشروع أيديولوجي جامع بعد تراجع القومية واحتواء الإسلام السياسي! ويكمن جوهر المشكلة في غياب الأيديولوجيا العابرة للحدود القومية التي بإمكانها أن توحّد، أو حتى تقرّب بين الشعوب قبل الأنظمة، فالوحدة في الخطاب السياسي غالباً ما تُذكر، إما لأغراض شعبوية أو في سياق عاطفي، لكن لا توجد أدوات فعلية لتحقيقها، ولا حتى رغبة حقيقية من الأنظمة العربية، التي ترى في كلّ مشروع وحدوي تهديداً لمصالحها أو وجودها. وجذر المأساة (أو الملهاة إن شئت) السياسية العربية المعاصرة، يعكس واقعاً تُهيمن عليه أنظمة أوليغارشية تتغذّى على الاستبداد والفساد والتهميش، وتتصرّف بصفتها "ثقباً أسود" يمتصُّ الطاقات، ويبتلع المبادرات، ويعيد تشكيل كلّ تهديد مُحتمل ليصبح جزءاً من بنية هذه الأنظمة! غياب الحرية يجعل الوعي مشوّهاً، والإرادة الجماعية مكسورة، والبدائل غائبة أو مُصادَرة وفكرة التغيير التي تبدأ من الأسفل، أي من الشعوب، كما يرى البعض، تصطدم بجدار سميك، فغياب الحرية يجعل الوعي مشوّهاً، والإرادة الجماعية مكسورة، والبدائل غائبة أو مُصادَرة، والاحتكار الإعلامي والثقافي؛ من الأنظمة، يجعل حتى الحلم بالتغيير يُجرَّم أو يُشوه! إنّ فشل الربيع العربي، أو بالأدق "إفشاله"، مثّل ضربة كبرى للثقة الشعبية بإمكان التغيير السلمي أو الجماهيري، فقد مثّل "الربيع العربي" مشروعاً جماهيرياً للتحرّر وإعادة توزيع الثروة وتداول السلطة، وكان فرصة نادرة لإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، لكن أحلام الشعوب قُمعت من الداخل والخارج، وتحوّلت بعض مساراتها إلى كوابيس من الفوضى أو الحروب الأهلية، ما أعاد تثبيت خطاب "الاستقرار مقابل الحرية" الذي تتسلّح به الأنظمة. وبلا حرية، لا يمكن أن يُبنى مشروع وطني أو قومي، لأن كلّ مشروع مشترك يتطلّب مشاركة، والمشاركة لا تقوم إلّا على الإرادة الحرّة. وهكذا، قد لا تكون أزمة الجامعة العربية سوى انعكاس لأزمة أعمق: غياب مشروع عربي جامع، لا تصنعه الأنظمة، بل تتبناه الشعوب، حين تُتاح لها الحرية. فهل كانت الجامعة العربية انعكاساً لعجز الأنظمة أم تعبيراً عن موت الحلم القومي؟ وهل يمكن لمشروع وحدوي أن يولد في غياب الحرية، وتحت قبضة أنظمة ترى في كلّ تقارب تهديداً لوجودها؟ أم أنّ المعضلة الحقيقية ليست في فشل المؤسسة، بل في غياب الإرادة الشعبية الجامعة، التي وحدها تستطيع أن تحوّل الشعارات إلى واقع، لو أُتيح لها أن تُعبّر وتختار؟ لعل السؤال الأهم لم يعد: هل يمكن أن نتوحّد؟"، بل.. هل ما زال أحد يريد ذلك حقاً؟

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store