
مأدبة إفطار في طرابلس إحتفالاً بعيد جامعة القديس يوسف الـ150
أقامت جامعة القديس يوسف في بيروت "اليسوعية" لمناسبة عيدها الـ150 سنة حفل إفطار في ميناء طرابلس بدعوة من رئيس الجامعة البروفسور الأب سليم دكاش اليسوعي ومديرة حرم لبنان الشمالي للجامعة فاديا العلم الجميل.
وألقت مديرة حرم لبنان الشمالي لجامعة القديس يوسف في بيروت الجميل كلمة قالت فيها: "في هذه اللّيلة، وهنا في طرابلس، تحتفل جامعة القدّيس يوسف في بيروت - الجامعة اليسوعيّة بشخص رئيسها البروفيسور الأب سليمٍ دكاش اليسوعيّ، بعيد تأسيسها الـ150، من خلال إقامة حفل إفطارٍ بكلّ ما يحمل هذا اللقاء من معاني حبّ، لأننا نؤمن بأنّ اللّه واحدٌ وأن لبنان واحدٌ".
أضافت: "نعم، في هذه السّنة 2025، تطفئ جامعتنا شمعتها ال "150"، 150 سنة من العطاء، وزرع العلم والتّربيّة والأمل وبناء الإنسان في كلّ لبنان ولأجلٍ كلّ لبنان.فأهلًا وسهلًا بكم فردًا فردًا لنفرح ونحتفل".
واستهل البروفسور دكاش كلمته قائلا: "نجتمع بدعوة كريمة من مديرة حرم جامعة القديس يوسف في الشمال وطرابلس المدينة العريقة التي تُعد قلب الشمال النابض، ورمزا للتعايش والتعددية الثقافية. طرابلس، المدينة التي تحتضن التاريخ في كل زاوية منة زواياها، وتُشع بالأصالة والكرم، هي اليوم شاهد على لقاء يجمع بين العلم والإيمان بين التراث والحداثة، لكن طرابلس اختارت أن تتنفس لا من قلبها وحسب بل من قلب الشمال اللبنانى من عكار وبشري والضنية وزغرتا والكورة، بحيث وحدت كل هذا الشمال من أجل العيش المشترك الحقيقي والرغبة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبشرية".
أضاف: "شهر رمضان ليس فقط شهر الصيام، بل هو شهر العطاء والتضامن شهر يتعلم المرء فيه معنى الإنسانية والتقارب. كما قال الشاعر العربي أحمد شوقي: "الصوم عبادة الصبر، والصبر مفتاح الفرج" وفي الصوم أكان في المسيحية أم في الأسلام نجد أنفسنا أقرب إلى بعضنا البعض، نشارك الطعام في وقته، نتبادل الأحاديث ونتعلم أن نعيش معا بقلوب مفتوحة. هذا الإفطار الذي نجتمع حوله اليوم هو تعبير عن روح رمضان، روح التضامن والمحبة. صوم رمضان هذه السنة يصافح الصوم الأربعيني عند المسيحيين وهو أيضًا فرصة لتذكير أنفسنا بأن العلم والإيمان يسيران جنبا إلى جنب، وأن الجامعة هي بيت للجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الثقافية".
وتابع: "كما قال المفكر العربي طه حسين: العلم كالماء والهواء، حق للجميع." وهذه الجامعة، منذ تأسيسها عام 1875 ، جعلت من العلم حقا للجميع. لقد خرجت أجيالا من الأطباء طببوا لبنان ، المهندسين هندسوا لبنان ، المحامين كتبوا قوانين لبنان ، والأدباء الذين حملوا مشاعل المعرفة إلى كل بقاع الأرض. اليوم، نحن فخورون بأن نكون جزءًا من هذا الإرث العظيم، إرث يجمع بين الأصالة والحداثة بين التراث والابتكار". طرابلس، المدينة التي تحتضن حرمنا الجامعي هذا ، هي مدينة تعيش في قلوبنا جميعًا. هنا، في هذه المدينة العريقة، نرى كيف تلتقي الثقافات، وتتعانق الأديان، وتتشارك الأحلام. جامعة القديس يوسف في طرابلس ليست مجرد مكان للتعليم، بل هي قاعدة للعلم والإنسانية في منطقة الشمال".
وأردف: "من خلال برامجها الأكاديمية وأنشطتها الاجتماعية، تساهم الجامعة في تمكين شباب طرابلس ومنطقتها، وتقدم لهم الأدوات التي يحتاجونها لبناء مستقبل أفضل. كما قال الشاعر نزار قباني: "لكل عصر معركة، ومعركتنا هي معركة العلم". وفي طرابلس نحن نقود هذه المعركة بكل إصرار وإيمان وأود أن أهنئ المبادرات الثقافية والاجتماعية التي قامت بها مديرة وطلاب فرع الشمال في طرابلس مع جمعية سابا زريق الثقافية وغيرها من الجمعيات الأخرى، وأود أن أشكرهم جميعاً على مشاركتهم في هذه المبادرات، وأود أن أهنئهم جميعاً على مشاركتهم. وأود أن أهنئ المبادرات الثقافية والاجتماعية التي قامت بها مديرة وطلاب فرع طرابلس الشمال لتكريم طرابلس عاصمة الثقافة العربية مع جمعية الشاعر سابا زريق وغيرها من الجمعيات وأشكرهم جميعاً على مشاركتهم. كما نود أن نشكر المدارس التي أشركت تلاميذها في التدريب التربوي في حرمنا الجامعي وفي البطولات بين المدارس. كما نود أن نشكر ونقدر الشركات التي على الرغم من الأزمة الاقتصادية، تواصل الترحيب بطلابنا في فرص العمل في شركاتها وصناعاتها. لكن جامعة القديس يوسف لم تقتصر على التعليم الأكاديمي فحسب، بل كانت دوما صاحبة رسالة اجتماعية سامية. وكما قال أحد الحكماء: "إنما الحياة أمل ورجاء، فأن لم نعلم الرجاء نكون لا نعلم شيئا. وهذه الجامعة منحت طلابها الأمل، فكانوا خير سفراء لها في كل المجالات".
وقال دكاش: "أروي لكم تجربة أطلقت في الجامعة، وتحديدًا في كلية الحقوق والعلوم السياسية تحت عنوان " نحن الدولة نحن الشباب من أجل الحوكمة". في هذا السياق، يُجسد البرنامج السنوي "الشباب" من أجل الحوكمة"، بالتعاون مع جامعات أخرى، التزام الشباب تجاه الشأن العام (res publica) يُقدم هذا البرنامج. في طرابلس ومن الشمال ، نرى هذه الرسالة تتجسد في الأنشطة التطوعية، الحملات الصحية، والبرامج التعليمية التي تهدف إلى تمكين الشباب وبناء مجتمع أكثر عدلا وإنسانية. وفي زمن التحديات، كانت جامعة القديس يوسف دائما حصنا منيعا للهوية اللبنانية. كما قال المفكر جبران خليل جبران: لو لم يكن لبنان وطني لاخترت لبنان وطنا لي". وهذه الجامعة كانت وما زالت جزءًا من هذه الرسالة، رسالة التسامح، التعايش، والتنوع. لقد ساهمت في بناء لبنان الحديث، وأعدت قادة ومفكرين حملوا على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على هذا الوطن،ولأننا نؤمن بأن المستقبل يُبنى بالعلم، قدمت جامعة القديس يوسف دعما لا محدودًا لطلابها من خلال المنح الدراسية، الدعم النفسي، والأنشطة اللامنهجية ساعدت الطلاب على تحقيق أحلامهم".
وختم: "اليوم، ونحن نحتفل بمرور 150 عامًا على تأسيس هذه الجامعة، ننظر إلى الماضي بفخر، وإلى المستقبل بأمل. هذه الجامعة هي إرث نحمله بكل فخر، ورسالة نواصلها بكل إصرار،في هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان شهر العطاء والتضامن، نجدد العهد مع هذه الجامعة العريقة، ونؤكد التزامنا برسالتها السامية فلنعمل معا على حمل هذه الرسالة، ولنواصل السير على درب العلم والمعرفة، لأن المستقبل يبدأ من هنا، من هذه الجامعة التي كانت وستظل بيتا للجميع".
ثم تحدث مفتي طرابلس والشمال وقال: "رمضان شهر يجمع على مائدته المحبين ويظلل أمسياتنا بظلال الفرح واللقاء والعفوية والتواصل الطبيعي بين جميع الناس، فكيف إذا كانت مائدتنا اليوم في رحاب العلم والمعرفة، وفي رحاب جامعة عريقة لم تطفىء شمعتها ال 150 بل أضاءت شمعتها ال 150".
أضاف: "الجامعة تعني التوجه إلى أخص خصوصيات الإنسان، وما خصه الله وميزه به وهو العلم والتعلم ، لكي يستذكره الإنسان في حياة افضل وفي مجتمع أحسن وفي علاقات بشرية ارقى واسمى. والعلم يعني تجرد عن الهوى وعن الشخصانية. ألعلم يفصل الرؤية عن كل شخصانية ويجردها إلى صورتها الواقعية بمعاييرها الصحيحة، لذلك العلم هو رقي الإنسان وهو ما اوصل البشرية إلى ما وصلت إليه، لكن الإنسان لم يتغير بعد ويستعمل هذه الخاصية للتغلب على آفات ومصائب وآلام الإنسان على هذه الأرض".
وتابع: "وحري أن يستعمل الإنسان العلم في ذلك فلا نشهد مجازر ولا إبادة وتقطيع البشر هكذا مجانا وهذا ما يحدث في القرن ال 21 حتى يومنا هذا"، مؤكدا ان "على النخبة من الناس امثال لقائنا المعرفي والثقافي هذا ان يكونوا هم القادة لمسار الإنسان وهم الذين يبادرون لإيجاد الحلول لتوفير التعايش بين الناس بسلام ووئام وكرامة وإحترام".
وأردف: " كل إنسان يجب ان يعرف قيمة الإنسان الذي كرمه الله وهو القائل: "لقد كرمنا بني آدم" واراد سبحانه ان يكون هذا التكريم متميزا ومصانا ولكننا نرى ان البشرية وكأنها اليوم في جاهلية، والمعوّل على اصحاب الإرادة المخلصة والنيات الطيبة من الناس في مجتمعنا اللبناني والعالمي ان تكون لديهم الجرأة وان يصبحوا الى جانب الحق".
وختم: "هذا الإفطار له معنى خاص لأنه إلتفاتة كريمة من الجامعة العريقة التي إحتضنت وخرجت أجيالا وإختارت ان يكون إحتفالها هذا اليوم على مائدة الإفطار الذي له رمزيتها ونحن نقدر الجامعة ونشكر لها هذه الإلتفاتة الكريمة".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شبكة النبأ
منذ 5 أيام
- شبكة النبأ
الدعاء والاستجابة
في بعض الأحيان يريد الإنسان شيئاً إلّا أنه ليس في مصلحته في الدنيا، واللّه سبحانه وتعالى حكيم ورحيم ولطيف بعباده، يرى أن هذا العبد يريد شيئاً ليس في مصلحته، فمن رحمته أن لا يستجيب له بالكيفية التي أرادها، وإنّما يستجيب له بكيفية أخرى. قد تكون الطلبات في بعض الأحيان متناقضة... قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسۡتَكۡبِرُونَ عَنۡ عِبَادَتِي سَيَدۡخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)(1). الأسباب الغيبية والطبيعية هناك قوانين غيبية هي المهيمنة على القوانين الطبيعية، والقوانين الطبيعية هي ظاهر، والإنسان مكلّف بأن يسيّر حياته طبقاً لتلك القوانين الظاهرية، لكن هناك واقع، وهو المهيمن على الظاهر، والواقع هو إرادة اللّه سبحانه وتعالى في كل شيء. إن اللّه سبحانه وتعالى خلقنا مختارين، وعقيدة الجبر هي عقيدة باطلة أنشأها بعض سلاطين الجور ليخدّروا المجتمعات الإسلامية، والصحيح هو أن الإنسان مختار، لكن ليس تخييره بمعنى أن كل شيء بيده، وإنّما أغلب الأمور خارجة عن اختياره، وبعض الأمور تحت اختياره، وهو ما عبّر عنه الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: «لا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين»(2). إن أكثر المقدمات خارجة عن اختيارنا، ولكن بعضها تحت اختيارنا، فوجودنا ليس باختيارنا، وقدرتنا من اللّه سبحانه وتعالى، وكذلك المقدمات الأخرى كالعقل والتصوّر وغير ذلك، فهذه كلها مِنحٌ من اللّه سبحانه وتعالى لنا، ولا يوجد عمل من الأعمال إلّا وفيه مشيئة اللّه سبحانه وتعالى، ولكن ليست مشيئة جبر، وإنّما مشيئة اختيار، فاللّه سبحانه وتعالى قدّر اختيار الإنسان بحيث يتمكن من أن يفعل أو يترك بالعمل أو لا يقوم، وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين. فالأمور الغيبيّة هي المهيمنة على الأمور الطبيعية، لكن الإنسان مكلّف أن يعمل حسب الأمور الطبيعية، وأمّا الأمور التي تكون خارجة عن اختياره فيوكل أمرها للّه سبحانه وتعالى. إن اللّه سبحانه وتعالى هو الرازق، لكن لا يصحّ للإنسان أن يجلس في داره ويغلق عليه بابه، ثم يطلب من اللّه أن يرزقه، فإذا فعل ذلك فلا يأتيه الرزق؛ لأن اللّه أمرنا أن نطلب الرزق عن طريق العمل، فقد عيّن لكل إنسان رزقاً، وأرسل ذلك الرزق وهذا هو السبب الغيبي المهيمن، ولكن الإنسان مكلّف أن يطلب ذلك الرزق. إن اللّه سبحانه وتعالى بيّن الطرق للإنسان، فينبغي عليه أن يتحرك ولو قليلاً لكي يحصل على ما يريد، فقد خلق اللّه سائر الموجودات بلا عقل، فهي مسيرة، ولكنه فضّل الإنسان بالعقل وجعله مخيراً، وهذا لا يعني أن الإنسان خرج عن سلطة اللّه سبحانه وتعالى، وإنّما هو باقٍ تحت سلطته، لكن يجب على الإنسان أن يعمل ضمن دائرة كسب الخير والحلال، حتى يكون قابلاً لثواب اللّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليرحمه، وجعل طريق الرحمة العبادة، فعلى الإنسان أن يجعل نفسه قابلاً لتلك الرحمة عن طريق العبادة. إذا اتّضح هذا الأمر فسوف يتّضح أنه في بعض الأحيان لا تتوفر الأسباب الطبيعية للإنسان، فربما يريد الإنسان شيئاً إلّا أن الأسباب الطبيعية لا تتوفر له، وهنا يأتي دور الاتصال باللّه سبحانه وتعالى ليهيئ الأسباب، فتارة يهيئ أسباباً طبيعية، وأخرى يهيئ أسباباً غيبية. فبعض الناس إذا مرض جلس في الدار وقال: أنا مرضت واللّه سبحانه وتعالى هو الشافي، صحيح أن الشفاء من اللّه سبحانه وتعالى ولكن يجب على الإنسان أن يطلب ذلك الشيء عن طريق العلاج(3)، فإذا استعمل الأدوية فقد يطيب، لكن هذا السبب الطبيعي هو الظاهر، وأمّا الواقع فهو أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي شفاه. والإنسان مكلّف بالعمل، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ)(4)، وقال سبحانه: (وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ)(5)، وقال عزّ وجلّ: (هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ)(6). علة تأخير استجابة الدعاء إن اللّه سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد؛ وقد وعد الاستجابة فقال: (ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ) ولم يستعمل كلمة الفاء، فلم يقل: (ادعوني فأستجب لكم) وذلك لبيان شدة اتصال الاستجابة بالدعاء، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ)(7). ومع هذه الآيات يقول البعض: إننا ندعو فلا يستجاب لنا، وكذلك ندعو في شهر رمضان، وفي المسجد الحرام وغيرها من الأماكن لكن لا يستجاب لنا فما هو السبب؟ والجواب: هو أن سبب عدم استجابة الدعاء هو عدم الالتفات الصحيح إلى معنى الاستجابة، فكل الأمور التي تجري في الكون بإرادة اللّه سبحانه وتعالى، فينبغي على الإنسان أن يسلك الطرق الطبيعية، ومع ذلك يدعو اللّه سبحانه وتعالى. إن البعض يتصور أنه إذا كان مريضاً مثلاً ورفع يديه بالدعاء فسيشفيه اللّه فوراً، إلّا أن الأمر ليس كذلك؛ لأن اللّه حكيم، وقد جعل القوانين الطبيعية، ولا يريد منّا أنه نخالفها في كل مرّة. إن كل دعاء مستجاب، لكن الاستجابة هي من الجواب، فمرّة يطرق الإنسان باباً ولا تفتح له، وتارةً يطرق الباب ويقال له: ماذا تريد؟ فيقول: أريد كذا، فيقال له: لا إشكال في هذا الأمر الذي تريده، فإنه سيتحقق تارة فوراً وتارة بعد زمان وتارة يتحقق ما هو أفضل منه، فليس معنى الاستجابة وقوع كل ما يطلبه الإنسان بالدعاء وبالكيفية التي يريدها الإنسان، لأن ذلك يعني حدوث فوضى في الكون، قال اللّه تعالى: (وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ)(8). مضافاً إلى أن اللّه وعد الاستجابة لكنه قال: (أَوۡفُواْ بِعَهۡدِيٓ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ)(9) ومعنى ذلك أن الوعد بشرط، فمن لم يف بعهد اللّه تعالى فلا يتوقعنّ الاستجابة. وأسباب التأخير أو عدم الاستجابة أمور، منها: 1- عدم المصلحة الدنيوية ففي بعض الأحيان يريد الإنسان شيئاً إلّا أنه ليس في مصلحته في الدنيا، واللّه سبحانه وتعالى حكيم ورحيم ولطيف بعباده، يرى أن هذا العبد يريد شيئاً ليس في مصلحته، فمن رحمته أن لا يستجيب له بالكيفية التي أرادها، وإنّما يستجيب له بكيفية أخرى. مثلاً: إذا كان هناك طفل صغير، وهو مريض تضرّه الحلوى، وعندما يراها يطلب من أبويه أن يعطيانه إياها، وهما يعلمان بأن الحلوى تضرّه فيمتنعان عن إعطائه، فيُصِر الطفل على الأبوين ويبكي ويستعطفهما، ولكنهما يرفضان إعطائه، لا لأنهما ليسا رحيمين به، وإنّما من باب مصلحته، فما أراده الطفل لا ينفذانه له، وقد يؤخران تنفيذه إلى وقت آخر، بعد مرور أسبوع أو أكثر، وذلك عندما يشفى من مرضه. إن الطفل لا يدرك أن هذا الشيء الذي أعطوه له الآن كان نتيجة استغاثته قبل أسبوع، فهما نفذا ما طلبه ولكن ليس في الوقت الذي أراده. 2- اختلاف الأدعية فقد تكون الطلبات في بعض الأحيان متناقضة، فهذا يريد شيئاً وذاك يريد شيئاً آخر يناقضه، يقال: إنه كان لامرأة بنتان، فزوجت الأولى لمزارع، والثانية لفخّار ـ وهو الذي يصنع الأواني الفخّارية من الطين ـ وبعد مدة ذهبت لزيارتهما، فبدأت بالأولى، فقالت البنت: يا أماه ادعي اللّه سبحانه وتعالى أن ينزل المطر، لأنه عندنا زراعة وهي بحاجة إلى ماء، ثم ذهبت إلى الثانية، فقالت البنت لأمها: ادعي اللّه سبحانه وتعالى أن لا ينزل المطر؛ لأن الأواني الفخّارية تحتاج للشمس لكي تجف، وإذا جاء مطر فسوف تتلف. فبقيت الأم حائرة لا تدري ماذا تدعو؟ إن اللّه سبحانه وتعالى حكيم، فإذا كان هذا الإنسان يدعو وذاك يدعو فبحكمته يستجيب لكليهما، لكن قد لا تكون بالكيفية التي أراداها، كأن ينزل المطر فيستفيد منه الفلاح، وفي الوقت نفسه يُقيّض لهذا الفخّار أناساً يأتون فيرفعون هذه الأواني التي قد وضعها تحت السماء، ويدخلوها في الدار حتى لا تتلف. والحاصل: إنه تعالى يستجيب لكن ليس بالكيفية التي يريدها الإنسان دائماً. والدليل على ذلك أن كل فرد منّا كان له قبل سنين بعض الحاجات والطلبات وقد دعا اللّه سبحانه وتعالى فيها، والآن يشاهد أنها وبالتدريج قد قُضيت، وهو لا يلتفت إلى أن ذلك استجابة لدعائه الذي دعاه قبل سنين. وما ذكرناه قد بيّنته الأحاديث الشريفة: فعن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام)(10): «جعلت فداك، إني قد سألت اللّه حاجة منذ كذا وكذا سنة، وقد دخل قلبي من إبطائها شيء، فقال: يا أحمد، إياك والشيطان أن يكون له عليك سبيل حتى يقنطك، إن أبا جعفر (صلوات اللّه عليه)(11) كان يقول: إن المؤمن يسأل اللّه عزّ وجلّ حاجة فيؤخر عنه تعجيل إجابته حبّاً لصوته، واستماع نحيبه، ثم قال: واللّه ما أخّر اللّه عزّ وجلّ عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدنيا خير لهم مما عجل لهم فيها وأي شيء الدنيا، إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: ينبغي للمؤمن أن يكون دعاؤه في الرخاء نحواً من دعائه في الشدة، ليس إذا أعطي فتر، فلا تمل الدعاء فإنه من اللّه عزّ وجلّ بمكان(12)، وعليك بالصبر وطلب الحلال وصلة الرحم وإياك ومكاشفة الناس، فإنا أهل البيت نصل من قطعنا ونحسن إلى من أساء إلينا، فنرى واللّه في ذلك العاقبة الحسنة، إن صاحب النعمة في الدنيا إذا سأل فأعطي طلب غير الذي سأل، وصغرت النعمة في عينه، فلا يشبع من شيء، وإذا كثرت النعم كان المسلم من ذلك على خطر للحقوق التي تجب عليه، وما يخاف من الفتنة فيها، أخبرني عنك لو أني قلت لك قولاً أكنت تثق به مني؟ فقلت له: جعلت فداك، إذا لم أثق بقولك فبمن أثق وأنت حجة اللّه على خلقه؟ قال: فكن باللّه أوثق فإنك على موعد من اللّه، أليس اللّه عزّ وجلّ يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ)(13)، وقال: (لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ)(14)، وقال: (وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغۡفِرَةٗ مِّنۡهُ وَفَضۡلٗاۗ)(15) فكن باللّه عزّ وجلّ أوثق منك بغيره، ولا تجعلوا في أنفسكم إلّا خيراً، فإنه مغفور لكم»(16). 3- مصلحة الآخرة فقد لا توجد مصلحة في استجابة الدعاء في الدنيا فيؤخر اللّه استجابة الدعاء إلى الآخرة، والإنسان أحوج في الآخرة إلى استجابة الدعاء. مثلاً: قد يكون الإنسان مريضاً ويدعو اللّه سبحانه وتعالى أن يشفيه من مرضه، فيؤخر اللّه استجابة دعاءه إلى يوم القيامة، فيقول له اللّه: أنت دعوت لكي تشفى ولم تكن هناك مصلحة في الشفاء، وأنت الآن أحوج فأنا استجب لك دعاءك، فأنت لديك ذنوب تدخلك في النار وأنا أغفرها لك، وهذا نتيجة ذلك الدعاء الذي دعوته في الدنيا. 4- الدعاء في معصيته إن بعض الناس يدعو اللّه سبحانه وتعالى في معصية، كأن يطلب من اللّه شيئاً محرّماً، مثل: قطيعة رحم، وغير ذلك، إلّا أن اللّه سبحانه وتعالى لا يستجيب له؛ لأنه يجب على الإنسان أن يدعو بالكيفية التي أمره اللّه بها، لا أن يدعو بالكيفية التي نهاه عنها. والحاصل: إنه يجب على الإنسان أن يدعو اللّه في كل صغيرة وكبيرة، ففي الحديث القدسي: «يا موسى، سلني كلما تحتاج إليه، علف شاتك وملح عجينك»(17). لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يعمل، بل يجب عليه العمل والدعاء. فاللّه سبحانه وتعالى جعل رزق الأطباء عن طريق علاج المرضى، لكن يجب على الإنسان أن يعلم أن الطبيب مجرّد وسيلة ظاهرية، وأن كل شيء بيد اللّه، لكن هذا لا ينافي اختيار الإنسان في بعض الأمور، فهناك بعض الأمور تحت اختياره، واللّه أمره أن يسير طبقها، وهي القوانين الطبيعية، فيلزم عليه أن لا يتركها، وإنّما عليه أن يعمل بها، ولا يتوقع أن تكون النتيجة حسب ما يشتهيه، قال تعالى: (وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ)(18)، وليكن الإنسان موقناً أنه إذا دعا في معصية فإن اللّه سبحانه وتعالى لا يستجيب له. فضيلة الدعاء في بعض الأمكنة والأزمنة إن اللّه سبحانه وتعالى جعل فضيلة لبعض الأمكنة والأزمنة، فالدعاء تحت قبة الإمام الحسين (عليه السلام) مستجاب، وكذلك الدعاء في شهر رمضان؛ لأن اللّه فضّل هذا الشهر على باقي الأشهر، فاللّه سبحانه وتعالى حينما يذكر آيات الصيام(19) يقول في وسطها: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ)(20)، فلماذا ذكر الدعاء وسط آيات الصوم؟ والجواب: لأن شهر رمضان هو شهر الدعاء، وهو شهر القرآن، وشهر الاستغفار والاستغاثة، والإنابة إلى اللّه سبحانه وتعالى. إن الزمان قد يكون مباركاً وكذلك المكان، وهناك شخصيات مباركة تُجعل واسطة بيننا وبين اللّه سبحانه وتعالى، فأبناء يعقوب (عليه السلام) قالوا لأبيهم: (يَٰٓأَبَانَا ٱسۡتَغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَٰطِِٔينَ)(21)، إلّا أن يعقوب (عليه السلام) لم يقل لهم: إنكم تستطيعون أن تدعو اللّه مباشرة فلماذا توسطوني، بل قال لهم: (سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ)(22). وقد ورد في الحديث أنه كان ينتظر ليلة الجمعة، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «في قول يعقوب لبنيه: (سَوۡفَ أَسۡتَغۡفِرُ لَكُمۡ رَبِّيٓۖ) قال: أخرها إلى السحر ليلة الجمعة»(23)؛ لأن ليلة الجمعة ليلة استجابة الدعاء. * مقتطف من كتاب: الكلمات: محاضرات في العقيدة والسلوك، لمؤلفه السيد جعفر الحسيني الشيرازي .............................................. (1) سورة غافر، الآية: 60. (2) الكافي 1: 160. (3) انظر: وسائل الشيعة 2: 410، وفيه: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن نبياً من الأنبياء مرض فقال: لا أتداوى حتى يكون الذي أمرضني هو الذي يشفيني، فأوحى اللّه إليه: لا أشفيك حتى تتداوى فإن الشفاء مني». (4) سورة الانشقاق، الآية: 6. (5) سورة التوبة، الآية: 105. (6) سورة الملك، الآية: 15. (7) سورة البقرة، الآية: 186. (8) سورة المؤمنون، الآية: 71. (9) سورة البقرة، الآية: 40. (10) أي: الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام). (11) أي: الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام). (12) فإنه: أي: الدعاء؛ من اللّه عزّ وجلّ بمكان، أي: بمنزلة عظيمة رفيعة يحب اشتغال عبده المؤمن في جميع الأحوال به. (13) سورة البقرة، الآية: 186. (14) سورة الزمر، الآية: 53. (15) سورة البقرة، الآية: 268. (16) الكافي 2: 488. (17) وسائل الشيعة 7: 32. وفيه أيضاً: ... عن سيف التمار قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: «عليكم بالدعاء فإنكم لا تتقربون بمثله، ولا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها، إن صاحب الصغار هو صاحب الكبار». (18) سورة المؤمنون، الآية: 71. (19) في سورة البقرة، الآيات: 183-187. (20) سورة البقرة، الآية: 186. (21) سورة يوسف، الآية: 97. (22) سورة يوسف، الآية: 98. (23) من لا يحضره الفقيه 1: 422.


شبكة النبأ
٢٧-٠٤-٢٠٢٥
- شبكة النبأ
العفو والصفح الجميل
صفة العفو من مهمات مكارم الأخلاق، ومن النقاط الأساسية في الشخصية المؤمنة، بل من الجوانب المشرقة التي يحبّها اللّه عزّ وجلّ، ويدعو لها، وكذلك جاء أنبياء اللّه ورسله كلهم متحلين بهذه الصفة. ولعلها من أبرز أخلاقهم، وبواسطتها استقطبوا الناس حولهم، ووجهوهم نحو العبودية الخالصة للّه عزّ وجلّ... مِن مَكارم الأخلاق قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عِزّاً، فتعافوا يعزّكم اللّه»(1). من المعلوم أن ملكات الخير تضفي على الإنسان كمالاً روحياً، ثم ينعكس هذا الكمال من الروح على كيان الإنسان ومظهره الخارجي، فنرى إتزاناً عظيماً في الشخصية، وعدالة خالصة في السلوك، وبياناً وحكمة في المنطق، ورأفة ورحمة في التعامل. وهذا هو هدف الإسلام وهدف كل الرسالات السماوية، أي: خلق وصناعة الإنسان بالصياغة والأسلوب الذي يؤدي إلى رقيّه وكماله وتقدمه. ولهذا نرى التركيز على كل مفردة من مفردات الكمال. ومن هذه المفردات: العفو، لا سيما العفو عند المقدرة. بل نرى أن اللّه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه صفة العفو، وأنه سبحانه يحب كل من تحلى بهذه الصفة، لأنه سوف يلتقي مع اللّه عزّ وجلّ بواسطة هذه الكمالات، وسيكون اتصاله وعلاقته مع اللّه من أشرف العلاقات وأكثرها روحانية. لذلك نرى التركيز من القرآن الكريم على هذه الصفة؛ قال تعالى: (فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ)(2). وقال تعالى: (إِن تُبۡدُواْ خَيۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُواْ عَن سُوٓءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّٗا قَدِيرًا)(3). وقال: (وَٱلۡكَٰظِمِينَ ٱلۡغَيۡظَ وَٱلۡعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ)(4). ومن هذا يتبين لنا أن صفة العفو من مهمات مكارم الأخلاق، ومن النقاط الأساسية في الشخصية المؤمنة، بل من الجوانب المشرقة التي يحبّها اللّه عزّ وجلّ، ويدعو لها، وكذلك جاء أنبياء اللّه ورسله كلهم متحلين بهذه الصفة. ولعلها من أبرز أخلاقهم، وبواسطتها استقطبوا الناس حولهم، ووجهوهم نحو العبودية الخالصة للّه عزّ وجلّ. وقصة عفو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، عن أهالى مكة بعد الفتح، كالنار على العلم، وكالشمس في رابعة النهار، بعد أن ارتسم الموت في مخيّلة كل واحد من القرشيين. إذ اعتقدوا أن الرسول سوف يقتلهم، ولكنهم فوجئوا بعفو النبي (صلى الله عليه وآله) عنهم، مع ما لاقاه منهم من حرب ومشاغبة ومحاولات عديدة لقتله وتعذيب أصحابه... ولكن في الوقت نفسه كان عفوه عنهم بمثابة التبليغ للدين الإسلامي، بل إن صدى العفو بقي حتى في أجيال الذين عفا الرسول (صلى الله عليه وآله) عنهم، فكانوا يسمون بـ (أولاد الطلقاء)(5). مراتب العفو هناك مراتب للعفو والمغفرة تعدّدت بسبب اختلاف وتعدد مراتب الذنب والجرم. إذ كلما اختلف وتعدد الأخير اختلفت مراتب العفو بمقتضاه. فالمتبادر إلى أذهان الناس أن الذنوب نوعان: الأول: هو مخالفة الأحكام الشرعية وعدم تطبيق ما أمر اللّه به. والثاني: هو التعدي على حقوق الناس سلباً ونهباً وغصباً. وهذه الحقوق حقوق مادية أو فكرية أو اعتبارية، كالغيبة التي تسقط اعتبار الإنسان في الوسط الإجتماعي، فيعد ذلك ذنباً عرفاً وتعدياً إلى جانب حرمته. ولكن بنفس الوقت هناك تفاوت في كل مرتبة من هذه الذنوب؛ فمن سرق حبة الحنطة غير الذي سرق الملايين، ومن سلب قميصاً من أحد غير الذي سلبه ملكه كله. ومن أخلّ بالصوم أو ارتكب كبيرة غير الذي ارتكب الكبائر، وترك جميع الواجبات، وأتى بجميع المفاسد، وأراق الدماء، وهتك الأعراض... ، فهذا التفاوت في الذنوب يوجب التفاوت في مراتب العفو والمغفرة أيضاً. ففي القسم الأول تكون المغفرة والعفو الإلهي، والثاني هو عفو الناس بعضهم عن البعض. كيف نفهم العفو؟ الإنسان في هذه الحياة لا ريب من أنه يحتاج إلى لطف اللّه عزّ وجلّ ورحمته، ويطمع في النجاة من كل ألوان العذاب، لا سيّما عذاب الآخرة. والذنوب والمعاصي والشرك والكفر... كلها تبشر الإنسان بما لا يحب، فهي ظلمات وعذابات في الآخرة، وشقاء في الدنيا، بسبب تبعاتها، يقول تعالى: (أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ)(6) بعكس الإيمان والطاعات التي هي نور في الآخرة، قوله سبحانه: (نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ)(7). فالعفو من اللّه عزّ وجلّ بمنزلة إزالة كل الأسباب والدواعي التي تكوّن الظلمات للإنسان، وتؤدي به إلى العذاب. وبمعنى آخر: إن المذنب بعد أن ابتعد عن لطف اللّه ورحمته يغفر له ويعفى عنه، ويردّه مرة أخرى إلى ألطاف اللّه ورفقه به، بعد أن تولدت عنده أسباب كانت بمثابة الموانع من التنعم بألطاف اللّه، فيكون العفو مزيلاً لكل الموانع التي من شأنها أن تبعد الإنسان عن قبول الفيض الإلهي. وكلما انكشفت تلك الموانع (الذنوب) عن الإنسان إزداد إشراقاً وإيماناً، بسبب قبوله لعناية اللّه له وفيضه عليه، ولذلك قالت الآية: (رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ)(8). فهؤلاء لديهم نور، ولكن بقي هناك شيء من الموانع والأسباب، فيطلبون من اللّه أن يزيل عنهم كل الأسباب والموانع بالمغفرة، لكي يتم نورهم ويدخلوا الجنة. أما عفو الإنسان فهو بمعنى عدم ترتب الأثر، وهذا على نحوين: الأول: عفو مع عتاب ومساءلة وكلام، مع عدم ترتب الأثر. الثاني: عفو مطلق بلا عتاب، وخال من كل شيء، بل أحياناً يكون مع المكافأة على نفس طريقة المولى عزّ وجلّ، والذي أطلق عليه القرآن مصطلح (الصفح الجميل)(9). أي: بلا عتاب أو مساءلة، وأيضاً قوله تعالى: (وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ)(10). وهذا نلمسه بوضوح عند الرسول الأكرم والأئمة الكرام صلوات اللّه وسلامه عليهم، فيروى أن رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، ويسبه إذا رآه، ويشتم علياً (عليه السلام)، فقال له بعض جلسائه يوماً: دعنا نقتل هذا الفاجر، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي، وزجرهم أشد الزجر، فسأل عن العُمري، فذكر أنه يزرع بناحية من نواحي المدينة، فركب فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح به العمري: لا توطئ زرعنا، فتوطأه أبو الحسن (عليه السلام) بالحمار حتى وصل إليه، فنزل وجلس عنده وباسطه وضاحكه وقال له: «كم غرمت في زرعك هذا؟» فقال له: مائة دينار، قال: «وكم ترجو أن تصيب فيه؟» قال: لست أعلم الغيب، قال له: «إنما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه؟» قال: أرجو أن يجيئني فيه مائتا دينار، قال: فأخرج له أبو الحسن (عليه السلام) صرّة فيها ثلاثمائة دينار، وقال: «هذا زرعك على حاله واللّه يرزقك فيه ما ترجوه»، قال: فقام العمري فقبل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن (عليه السلام)، وانصرف(11). وغير ذلك كثير من أخلاق أئمتنا العظام سلام اللّه عليهم أجمعين. العَفو عند المَقدرة نعم يتسامى الإنسان، ويرتقي في سلم الكمال، عندما يصفح ويعفو ويغفر، وهو في موقع القدرة. يحكى أن الوليد بن عبد الملك عندما تسلم مقاليد الحكم بعد عبد الملك، حاول أن يكسب الناس، ويمحو الآثار السيئة لعبد الملك، فعزل والي المدينة هشام بن اسماعيل الذي كان دأبه مضايقة العلويين، لا سيما الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وإيداعهم السجن واتهامهم، ومنعهم بعض الحقوق... فعندما عُزل وجرّد من أسباب القدرة أمر الوليد أن يوقف للناس ونادى في الناس أن كل من كانت له مظلمة عند هشام فليأته ويفعل به ما يشاء، فكان الناس يأتون ويبصقون في وجهه ويضربونه، وكان هشام يقول ما أخاف إلّا من علي بن الحسين، ولكن الإمام (عليه السلام) كان قد تقدم إلى خاصته ألّا يعرض له أحد منهم بكلمة... وقد مرّ الإمام (عليه السلام) أمام هشام مسلّماً عليه، وأبدى له الاستعداد بمساعدته دون أي إهانة أو إيذاء لذا نادى هشام حينها: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(12). لهذا ترك الناس إهانة هشام عندما شاهدوا فعل الإمام (عليه السلام) معه. مِن فوائد العَفو لا يخفى أن لِكلّ ملكة من ملكات الخير والكمال فوائد عديدة كالشجاعة والصدق والكرم والعلم... والعفو بما أنه واحد من تلك الكمالات وقد نعت اللّه عزّ وجلّ به نفسه، فبلاشك تقع وراء صفة العفو العديد من الفوائد والمنافع والمصالح الحسنة، وإلّا كيف نفسر اتصاف المولى بها وأمره بها أيضاً. ومن هذه الفوائد نذكر: 1- العفو يفتح آفاقاً جديدة مع الآخرين، ويوفر لنا فرص الإلتقاء معهم بدل أن نفقدهم بالعقاب أو العتاب المُرّ، فوجود الناس بعضهم حول بعض أفضل بكثير من تشتتهم، فإن القصاص والعقاب حق، ولكنه يؤدي إلى نهاية العلاقات عادةً، أما العفو فإنه يجرد العلاقات، ويقوي العواطف، ويرفع الضغائن التي في القلوب، ويحسّن صورة الشخص عند الطرف المقابل. ولذلك كان الاستغفار أماناً لأهل الأرض، لأنه يرفع تبعات الذنوب، فتتجرد فرصة أخرى للعبد، ويعطي اللّه عزّ وجلّ أملاً جديداً للمكلف بعفوه عنه. وصفة العفو التي امتاز بها اللّه عزّ وجلّ هي التي تُلهم العباد الحركة والسعي والجد والاستغفار وتجديد الأمل وعدم اليأس من روح اللّه. وهكذا العفو بين الناس، فإنه مدعاة لأن يتناقص عدد الأعداء، ويأخذ رقم الأصدقاء والأصحاب بالصعود، وهكذا كان الأئمة (عليهم السلام) يعملون، فبعفوهم كانوا يجذبون الناس حولهم لا سيّما أعداءهم. 2- العفو يزيد الإنسان عزّاً ويرفع من مقامه ومكانته في قلوب الناس، لأن جنبة الإيثار سوف تكون واضحة المعالم في الشخص العافي، وهي مما يحبّها الناس، لأن الذي يعفو عن خصمه وعدوه، معنى ذلك أن يتنازل عن حقه، ولا يهتم بنوازع نفسه، وهمسات الشيطان، بل يكون ناظراً إلى مصالح الشخص المقابل، فيعفو عنه ليفتح له نافذة جديدة في الحياة وأملاً جديداً. فمن المعلوم أن القصاص أو العتاب أو العقاب أمر يرضي النفس، لأنها تشعر بالارتياح مقابل ما أخذ منها أو أعتدي عليها، وكذلك القصاص يرضي القوة الغضبية، ويرضي باقي الشهوات النفسية. ومع ذلك يخالف الإنسان العافي هواه ويصفح عن الخصم، ليدلّل على سموه وكماله وتحرره من قبضة الشيطان أو قبضة الشهوات، وبهذا الأسلوب يزداد عزّاً في نفسه ومكانة عظيمة في قلوب الناس، ولذلك قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في حديثه: «... فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً...»(13). 3- وبهذا الشكل يكون العبد قد إتصف بالصفة التي يحبها اللّه، والتي إتصف هو بها ـ ولكن لا يخفى الفرق بين الأمرين ـ فيزداد قرباً من اللّه تعالى، لأنه تخلّق بأخلاق اللّه وأخلاق رسله وأوليائه. وإلى هذا المعنى أشار الرسول (صلى الله عليه وآله) في ختام حديثه «... فتعافوا يعزّكم اللّه»(14). محاربة الهوى إنزال العقوبة على المعتدي من ألذّ الأمور للنفس، وكثيراً ما تأنس القوة الشهوية بالمجازاة أو القصاص، إذ أن أغلب النفوس تحب مظهر الظهور بالقوة والغلبة والتأثير والتعالي على الغير ولو بالظلم، فالمظلوم دائماً تحدِّثه نفسه بالثأر أو القصاص، لأنها ترى في ذلك كمالاً وظهوراً لها. إلّا أنه يخفى على ذلك الإنسان أن العفو عن المعتدي يزيد النفس كمالاً ونقاوة ورقيّاً أكثر مما تتصوره في إنزال العقاب. فإن العقوبة غالباً ما تكون من نتائج القوة الغضبية التي توقع الإنسان في متاهات، في بعض الأحيان، بينما العفو دائماً يكون من نتائج الفكر السليم، والقلب الطاهر، والإيمان المتكامل. ويمكن الاستدلال بعمل أئمتنا (عليهم السلام) بالعفو وأمرهم إيّانا به، بأن العفو أفضل بكثير من العقوبة. نعم في بعض الموارد تتعين العقوبة للحدّ من الجريمة مثلاً. ولكن بصورة عامة نقول: العفو كمال، وكماله روحي يستمر في أعماق الإنسان، بينما العقاب ليس فيه كمال روحي للإنسان، ولذلك جاءت أخبار الهداة (عليهم السلام) مؤكدة على جانب العفو أكثر من العقوبة. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم»(15)، أي: مسامحتهم والعفو عنهم. بل أحياناً يكون العقاب من أجل التشفي لا غير، وهو الغالب على طبع الإنسان، لأنه مما تميل إليه النفس بسبب القوة الغضبية، التي غالباً ما يحرّك أوتارها إبليس لعنه اللّه، ولذلك كان العفو كمالاً، لأنه يخالف هوى الإنسان، وكل ما يخالف الهوى فيه خير للإنسان، لأن الهوى يتحرك بإيحاءات الشيطان. ولا بأس بنكتة مهمة في البين، وهي: متى يتحقق العفو؟ أحياناً عندما يضعف الإنسان عن أخذ الحق أو إنزال العقاب بالمعتدي، يقول عفوت عنه. ولكن في الواقع هذا بعيد عن العفو، وليس فيه أيّ ثمرة، إنما الكلام والثمرة تكون عندما يقدر الإنسان على العقاب أو القصاص، ولكنه يعفو. هنا يكون العفو فيه ثمار تصب على روح الإنسان، فتجعلها مشرقة ظاهراً وباطناً. ولهذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة»(16). مَواقف مِن نور لقد ثبت عند كل ذي لبّ أن طرف عائشة في معركة جمل كان يمثل جانب الباطل، وعائشة بنفسها كانت تعلم بذلك يقيناً، ولكن جرت الأحداث ومضت، وليس المقام في بيان الدوافع والأسباب، ولكن نريد أن نقول: بعد أن انتهت المعركة حاول بعض الأفراد، من جيش الإمام، أن يأخذوا ما بقي من جيش عائشة من سلاح وما شابه ذلك، فنهاهم الإمام عن ذلك. والسبب واضح، إذ ليس هدف الإمام في حروبه كلها هو صناعة جيش مسلح بالعدّة والعدد، بل صناعة جيش يتحرك دائماً من أجل إحقاق الحق، بغض النظر عن عدده وجنسه وسلاحه. كان (عليه السلام) يغذيهم بالفكرة والمبادئ الإسلامية، لكي تكون دائماً هي الضوابط في حركتهم. والأمر الآخر هو بعد انتهاء المعركة وملابساتها، وأفعال عائشة وتحريضها الجيش، ومحاولتها لشقّ عصا المسلمين، وتعدّيها على إمام الزمان، وخليفة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وتجرؤها على النيل من الإسلام، بل القضاء على الإسلام في ما لو قدر وأن الإمام كان قد قتل، فمع كل هذا وذاك أرسل أمير المؤمنين (عليه السلام) معها بعض النسوة لخدمتها، وعدداً من الرجال لحراستها(17) في طريق عودتها إلى المدينة مخافة أن يُعتدى عليها، أو يقدم أحد على الإساءة إليها. ووصلت إلى المدينة بسلام وأمان، معزّزة ومكرّمة. هذا العمل لم نجده في غير آل علي (عليهم السلام)، فهو تعبير صارخ، ولعله أعلى درجة من درجات العفو عند المقدرة. ولكن علياً (عليه السلام) لم يفعله ليزداد كمالاً، فهو كامل ومعصوم، بل ليضع درساً للأجيال وللقادة، كي يتخذوا هذا النهج، وهذا المسار الذي يؤمّن لهم النجاح والنصر والكمال في الحياة الدنيا، والفوز والقرب إلى اللّه عزّ وجلّ في الآخرة. لماذا العقوبة؟ هناك بعض الحالات تتعين العقوبة فيها، وتكون أفضل من العفو، وبعض الحالات يكون العفو أكثر فائدة، أو أكثر إيجابية من العقاب. ويمكن أن نتصور بعض الأسباب أو الدوافع من وراء العقوبة: 1- اجراء العقاب من أجل إصلاح المجرم. 2- اجراءه من أجل العبرة للآخرين، لئلا يقدم فرد على جناية أو عمل قبيح، وكذلك العبرة لنفس المجرم، فإن العقاب الدنيوى البسيط يذكّره بعذاب يوم القيامة. 3- إجراء العقاب من أجل التشفّي وإرضاء الغرائز. 4- إجراء العقاب لمجرد العمل السيء، بعيداً عمّا إذا كان هذا العقاب يصلح الفرد أو لا، وأنه يحقق العبرة أو لا. والعقلاء قالوا بحسن الأول والثاني، لأنهما يؤديان إلى إصلاح الأفراد، وتطبيق النظام الذي يضمن التعاضد الإجتماعي. أما الثالث فلا فائدة من ورائه إلّا إرضاءً للنفس والهوى. والاحتمال الرابع فيه قولان البعض قال بحسنه، أي: بحسن العقوبة فيه، وآخرون قالوا بقبحه. وعلى أية حال؛ ففي كل مورد يتمادى فيه المجرمون أو المخلّون بالأمن العام بوحدة المجتمع فإنهم يستحقون العقاب. نعم بعض الأشخاص يكون العفو عنهم أفضل من عقوبتهم، وهذا الأمر يترك عادة لظروفه الموضوعية، ونوعية الأشخاص. ولا بأس بالإشارة في البين إلى مسألة الألم التي يفعلها اللّه عزّ وجلّ في المكلفين وهل أنها حسنة أم قبيحة؟ وهل هي بعنوان العقاب أم لا؟ لقد اتفق العقلاء على أن جميع أفعال اللّه حسنة، ومنها الألم، وذلك لأحد أمور: إما لأن العبد يستحق الألم كالعصاة والكفار، أو لاشتماله على نفع أكبر من ذات الألم، كابتلاء المؤمنين لرفع درجاتهم وزيادة كمالهم، أو لدفع ضرر عنهم، كابتلاء العاصي لمحو الذنب عنه، أو أحياناً يكون بمقتضى النظام الكوني الحاكم (السنن الالهية) مِن قبيل مَن مَدَّ يده إلى النار فاحترقت، فهذا الألم صدر من النار، ولكنه يُنسب إلى اللّه، لأنه موجد القانون والعلة. ويمكن أن يصدق عنوان العقاب على هذا الألم لمن استحقّه مثل الكافر والظالم، ويمكن أن يكون محنة وابتلاءً للمؤمنين، لأن فيه نفعاً لهم في الدنيا والآخرة(18). فمن خلال هذا البيان نصل إلى قناعة تامة بأن العقاب في بعض الموارد يكون مُهمّاً بل ضرورياً للحفاظ على النظام الاجتماعي والأمن العام وتطبيقاً للشرائع والنظم والقوانين وها نحن أولاء نجد القرآن الكريم لم يرفض العقوبات ولم يقبحها بل شرَّع بعضها كإجراء الحدود على الزاني والزانية وشارب الخمر... مع أن جميعها يصدق عليها أنها ألم ولكن هذا الألم فيه لطف إما لنفس المعذب أو للصالح العام. لذلك إذا كانت العقوبة من أجل الاصلاح والعبرة فهي حسنة لأن الغرض منها عقلائي وذو فائدة على المجتمع بشكل عام وعلى الفرد بشكل خاص... أما العقوبة التي تدخل تحت عناوين أخرى لا مصلحة منها فهي غير حسنة وتدخل تحت الظلم والتعدي مع ملاحظة كون الجاني لم يقع في شبهة أم ما شاكل من الأعذار التي ترفع عنه العقوبة. أي أن الجاني يعرف أن هذا الفعل حرام أو غير جائز ولم يشتبه عليه الأمر ولم يكن مضطراً إلى باقي الشروط المذكورة في كتب الفقه ـ باب الحدود والتعزيرات ـ . لذا فإنّ العفو والصفح إذا كانت فيه فائدة حتى ولو على المستقبل البعيد فهو أجمل من العقوبة ولعله الرادع الأنصع لضمير الفرد وعودته إلى حضيرة الإنسانية المبدعة، فإن الرادع الذاتي أقوى تأثيراً على نفس الإنسان وعلى المجتمع ككل. لذا يعتبر هذا العفو أو الصفح جميلاً قال تعالى: (وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِيلَ)(19). «الحمد للّه على حلمه بعد علمه، والحمد للّه على عفوه بعد قدرته، والحمد للّه على طول أناته في غضبه، وهو قادر على ما يريد، الحمد للّه خالق الخلق، باسط الرزق، فالق الاصباح، ذي الجلال والاكرام»(20). * مقتطف من كتاب القطوف الدانية، وهو مجموعة من محاضرات المرجع الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي .......................................... (1) الكافي 2: 108. (2) سورة الشورى، الآية: 40. (3) سورة النساء، الآية: 149. (4) سورة آل عمران، الآية: 134. (5) منتهى الآمال 1: 173. (6) سورة النور، الآية: 40. (7) سورة التحريم، الآية: 8. (8) سورة التحريم، الآية: 8. (9) إشارة إلى سورة الحجر، الآية: 85 قوله تعالى: (فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِيلَ). (10) سورة النور، الآية: 22. (11) الإرشاد 2: 233. (12) انظر تاريخ الطبري 5: 217. (13) الكافي 2: 108. (14) الكافي 2: 108. (15) نهج البلاغة، الحكم الرقم: 20. (16) نهج البلاغة، الحكم الرقم: 52. (17) انظر الإمامة والسياسة 1: 98؛ مروج الذهب 2: 370. (18) لزيادة التفصيل انظر كشف المراد، أحكام اللطف، المسألة: 13. (19) سورة الحجر، الآية: 85. (20) إقبال الأعمال 1: 59.


ليبانون 24
٢٥-٠٣-٢٠٢٥
- ليبانون 24
مأدبة إفطار في طرابلس إحتفالاً بعيد جامعة القديس يوسف الـ150
أقامت جامعة القديس يوسف في بيروت "اليسوعية" لمناسبة عيدها الـ150 سنة حفل إفطار في ميناء طرابلس بدعوة من رئيس الجامعة البروفسور الأب سليم دكاش اليسوعي ومديرة حرم لبنان الشمالي للجامعة فاديا العلم الجميل. وألقت مديرة حرم لبنان الشمالي لجامعة القديس يوسف في بيروت الجميل كلمة قالت فيها: "في هذه اللّيلة، وهنا في طرابلس، تحتفل جامعة القدّيس يوسف في بيروت - الجامعة اليسوعيّة بشخص رئيسها البروفيسور الأب سليمٍ دكاش اليسوعيّ، بعيد تأسيسها الـ150، من خلال إقامة حفل إفطارٍ بكلّ ما يحمل هذا اللقاء من معاني حبّ، لأننا نؤمن بأنّ اللّه واحدٌ وأن لبنان واحدٌ". أضافت: "نعم، في هذه السّنة 2025، تطفئ جامعتنا شمعتها ال "150"، 150 سنة من العطاء، وزرع العلم والتّربيّة والأمل وبناء الإنسان في كلّ لبنان ولأجلٍ كلّ لبنان.فأهلًا وسهلًا بكم فردًا فردًا لنفرح ونحتفل". واستهل البروفسور دكاش كلمته قائلا: "نجتمع بدعوة كريمة من مديرة حرم جامعة القديس يوسف في الشمال وطرابلس المدينة العريقة التي تُعد قلب الشمال النابض، ورمزا للتعايش والتعددية الثقافية. طرابلس، المدينة التي تحتضن التاريخ في كل زاوية منة زواياها، وتُشع بالأصالة والكرم، هي اليوم شاهد على لقاء يجمع بين العلم والإيمان بين التراث والحداثة، لكن طرابلس اختارت أن تتنفس لا من قلبها وحسب بل من قلب الشمال اللبنانى من عكار وبشري والضنية وزغرتا والكورة، بحيث وحدت كل هذا الشمال من أجل العيش المشترك الحقيقي والرغبة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبشرية". أضاف: "شهر رمضان ليس فقط شهر الصيام، بل هو شهر العطاء والتضامن شهر يتعلم المرء فيه معنى الإنسانية والتقارب. كما قال الشاعر العربي أحمد شوقي: "الصوم عبادة الصبر، والصبر مفتاح الفرج" وفي الصوم أكان في المسيحية أم في الأسلام نجد أنفسنا أقرب إلى بعضنا البعض، نشارك الطعام في وقته، نتبادل الأحاديث ونتعلم أن نعيش معا بقلوب مفتوحة. هذا الإفطار الذي نجتمع حوله اليوم هو تعبير عن روح رمضان، روح التضامن والمحبة. صوم رمضان هذه السنة يصافح الصوم الأربعيني عند المسيحيين وهو أيضًا فرصة لتذكير أنفسنا بأن العلم والإيمان يسيران جنبا إلى جنب، وأن الجامعة هي بيت للجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الثقافية". وتابع: "كما قال المفكر العربي طه حسين: العلم كالماء والهواء، حق للجميع." وهذه الجامعة، منذ تأسيسها عام 1875 ، جعلت من العلم حقا للجميع. لقد خرجت أجيالا من الأطباء طببوا لبنان ، المهندسين هندسوا لبنان ، المحامين كتبوا قوانين لبنان ، والأدباء الذين حملوا مشاعل المعرفة إلى كل بقاع الأرض. اليوم، نحن فخورون بأن نكون جزءًا من هذا الإرث العظيم، إرث يجمع بين الأصالة والحداثة بين التراث والابتكار". طرابلس، المدينة التي تحتضن حرمنا الجامعي هذا ، هي مدينة تعيش في قلوبنا جميعًا. هنا، في هذه المدينة العريقة، نرى كيف تلتقي الثقافات، وتتعانق الأديان، وتتشارك الأحلام. جامعة القديس يوسف في طرابلس ليست مجرد مكان للتعليم، بل هي قاعدة للعلم والإنسانية في منطقة الشمال". وأردف: "من خلال برامجها الأكاديمية وأنشطتها الاجتماعية، تساهم الجامعة في تمكين شباب طرابلس ومنطقتها، وتقدم لهم الأدوات التي يحتاجونها لبناء مستقبل أفضل. كما قال الشاعر نزار قباني: "لكل عصر معركة، ومعركتنا هي معركة العلم". وفي طرابلس نحن نقود هذه المعركة بكل إصرار وإيمان وأود أن أهنئ المبادرات الثقافية والاجتماعية التي قامت بها مديرة وطلاب فرع الشمال في طرابلس مع جمعية سابا زريق الثقافية وغيرها من الجمعيات الأخرى، وأود أن أشكرهم جميعاً على مشاركتهم في هذه المبادرات، وأود أن أهنئهم جميعاً على مشاركتهم. وأود أن أهنئ المبادرات الثقافية والاجتماعية التي قامت بها مديرة وطلاب فرع طرابلس الشمال لتكريم طرابلس عاصمة الثقافة العربية مع جمعية الشاعر سابا زريق وغيرها من الجمعيات وأشكرهم جميعاً على مشاركتهم. كما نود أن نشكر المدارس التي أشركت تلاميذها في التدريب التربوي في حرمنا الجامعي وفي البطولات بين المدارس. كما نود أن نشكر ونقدر الشركات التي على الرغم من الأزمة الاقتصادية، تواصل الترحيب بطلابنا في فرص العمل في شركاتها وصناعاتها. لكن جامعة القديس يوسف لم تقتصر على التعليم الأكاديمي فحسب، بل كانت دوما صاحبة رسالة اجتماعية سامية. وكما قال أحد الحكماء: "إنما الحياة أمل ورجاء، فأن لم نعلم الرجاء نكون لا نعلم شيئا. وهذه الجامعة منحت طلابها الأمل، فكانوا خير سفراء لها في كل المجالات". وقال دكاش: "أروي لكم تجربة أطلقت في الجامعة، وتحديدًا في كلية الحقوق والعلوم السياسية تحت عنوان " نحن الدولة نحن الشباب من أجل الحوكمة". في هذا السياق، يُجسد البرنامج السنوي "الشباب" من أجل الحوكمة"، بالتعاون مع جامعات أخرى، التزام الشباب تجاه الشأن العام (res publica) يُقدم هذا البرنامج. في طرابلس ومن الشمال ، نرى هذه الرسالة تتجسد في الأنشطة التطوعية، الحملات الصحية، والبرامج التعليمية التي تهدف إلى تمكين الشباب وبناء مجتمع أكثر عدلا وإنسانية. وفي زمن التحديات، كانت جامعة القديس يوسف دائما حصنا منيعا للهوية اللبنانية. كما قال المفكر جبران خليل جبران: لو لم يكن لبنان وطني لاخترت لبنان وطنا لي". وهذه الجامعة كانت وما زالت جزءًا من هذه الرسالة، رسالة التسامح، التعايش، والتنوع. لقد ساهمت في بناء لبنان الحديث، وأعدت قادة ومفكرين حملوا على عاتقهم مسؤولية الحفاظ على هذا الوطن،ولأننا نؤمن بأن المستقبل يُبنى بالعلم، قدمت جامعة القديس يوسف دعما لا محدودًا لطلابها من خلال المنح الدراسية، الدعم النفسي، والأنشطة اللامنهجية ساعدت الطلاب على تحقيق أحلامهم". وختم: "اليوم، ونحن نحتفل بمرور 150 عامًا على تأسيس هذه الجامعة، ننظر إلى الماضي بفخر، وإلى المستقبل بأمل. هذه الجامعة هي إرث نحمله بكل فخر، ورسالة نواصلها بكل إصرار،في هذا الشهر الفضيل، شهر رمضان شهر العطاء والتضامن، نجدد العهد مع هذه الجامعة العريقة، ونؤكد التزامنا برسالتها السامية فلنعمل معا على حمل هذه الرسالة، ولنواصل السير على درب العلم والمعرفة، لأن المستقبل يبدأ من هنا، من هذه الجامعة التي كانت وستظل بيتا للجميع". ثم تحدث مفتي طرابلس والشمال وقال: "رمضان شهر يجمع على مائدته المحبين ويظلل أمسياتنا بظلال الفرح واللقاء والعفوية والتواصل الطبيعي بين جميع الناس، فكيف إذا كانت مائدتنا اليوم في رحاب العلم والمعرفة، وفي رحاب جامعة عريقة لم تطفىء شمعتها ال 150 بل أضاءت شمعتها ال 150". أضاف: "الجامعة تعني التوجه إلى أخص خصوصيات الإنسان، وما خصه الله وميزه به وهو العلم والتعلم ، لكي يستذكره الإنسان في حياة افضل وفي مجتمع أحسن وفي علاقات بشرية ارقى واسمى. والعلم يعني تجرد عن الهوى وعن الشخصانية. ألعلم يفصل الرؤية عن كل شخصانية ويجردها إلى صورتها الواقعية بمعاييرها الصحيحة، لذلك العلم هو رقي الإنسان وهو ما اوصل البشرية إلى ما وصلت إليه، لكن الإنسان لم يتغير بعد ويستعمل هذه الخاصية للتغلب على آفات ومصائب وآلام الإنسان على هذه الأرض". وتابع: "وحري أن يستعمل الإنسان العلم في ذلك فلا نشهد مجازر ولا إبادة وتقطيع البشر هكذا مجانا وهذا ما يحدث في القرن ال 21 حتى يومنا هذا"، مؤكدا ان "على النخبة من الناس امثال لقائنا المعرفي والثقافي هذا ان يكونوا هم القادة لمسار الإنسان وهم الذين يبادرون لإيجاد الحلول لتوفير التعايش بين الناس بسلام ووئام وكرامة وإحترام". وأردف: " كل إنسان يجب ان يعرف قيمة الإنسان الذي كرمه الله وهو القائل: "لقد كرمنا بني آدم" واراد سبحانه ان يكون هذا التكريم متميزا ومصانا ولكننا نرى ان البشرية وكأنها اليوم في جاهلية، والمعوّل على اصحاب الإرادة المخلصة والنيات الطيبة من الناس في مجتمعنا اللبناني والعالمي ان تكون لديهم الجرأة وان يصبحوا الى جانب الحق". وختم: "هذا الإفطار له معنى خاص لأنه إلتفاتة كريمة من الجامعة العريقة التي إحتضنت وخرجت أجيالا وإختارت ان يكون إحتفالها هذا اليوم على مائدة الإفطار الذي له رمزيتها ونحن نقدر الجامعة ونشكر لها هذه الإلتفاتة الكريمة".