
من أوشفيتز إلى رفح: الإبادة الجماعية هي الحل
لم تكن لقاءات للاحتفاء بالحرب على إيران فقط، بل كانت مؤشرًا واضحًا على أن هناك ترتيبات كبرى تُطبخ بهدوء خلف المفاوضات العلنية حول وقف إطلاق النار في غزة، خاصة أن تصريحات ترامب تركزت على ضرورة إنهاء الحرب، وهو ما يعني الحاجة لخطة سياسية لليوم التالي، ليس لغزة وحدها بل للمنطقة كلها.
لذلك كانت الأنظار مشدودة إلى مفاوضات الدوحة، حيث بُنيت آمال على مسار تهدئة شامل يتضمن صفقة تبادل أسرى ومساراً يوقف القتال ويقود إلى إنهاء الحرب. لكن فجأة، ومن دون تفسير منطقي، تعثرت المفاوضات، وتجمد التقدم فيها بسبب التعنت الإسرائيلي بشأن الانسحاب من "محور موراج"، والإصرار على استبقاء احتلال محافظة رفح بالكامل. بهذا، كانت "إسرائيل" تعد خطة موازية، لا تتضمن تهدئة ولا انسحاباً، بل "حلًا نهائيًا" للمسألة الفلسطينية في غزة.
هذا الحل لا يشبه الحلول السياسية التقليدية، بل يستنسخ النموذج الأخطر في القرن العشرين: "الحل النهائي" النازي تجاه اليهود. فكما قررت ألمانيا النازية في بداية الأربعينات أن وجود اليهود "مشكلة لا حل لها إلا بالإزالة الكاملة"، بدأت "إسرائيل" اليوم تتعامل مع الفلسطينيين في غزة بالمنطق ذاته: شعب يجب أن يُزال من المكان، إمّا بالترحيل، أو بالإبادة، أو بالعزل الكامل.
في النموذج النازي، جرى تنفيذ الخطة عبر مراحل:
1. تصنيف اليهود إلى "جيّدين" و"غير جيّدين".
2. عزلهم في غيتوهات مغلقة.
3. نقلهم إلى معسكرات.
4. تصفيتهم في غرف الغاز والأفران.
أما في النموذج الإسرائيلي اليوم:
يجري تصنيف الفلسطينيين إلى "مقاومين" و"غير مقاومين".
يُجبر غير المقاومين، وهم نحو 600 ألف بحسب التقديرات الاسرائيلية، على البقاء في ما يُسمى "المدينة الإنسانية" جنوب رفح، ويُمنع عليهم العودة إلى ديارهم.
ثم يُدفعون تدريجيًا إلى خارج فلسطين، عبر معبر كرم أبو سالم ومطار رامون، في ترحيل جماعي يتناقض مع المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة.
أما من تبقى – وهم نحو 1.4 مليون – فيُستهدفون بالقصف والتجويع والأمراض وتفكيك البنية التحتية.
ووفقًا لتحليل نُشر في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، فإن الهدف هو "تقليص البيئة السكانية الحاضنة للمقاومة"، أي القضاء على الشعب كوسيلة لإنهاء القتال. أليس هذا هو التعريف الحرفي للإبادة الجماعية كما أوردته اتفاقية 1948؟
المفارقة أن هذه الخطة بدأت تُنفَّذ تحت غطاء "صفقة تهدئة" يجري بموجبها ترسيخ السيطرة الإسرائيلية على كامل محافظة رفح، وهي واحدة من خمس محافظات تشكّل قطاع غزة. فقد أعادت "إسرائيل" تموضع قواتها في محور موراج شمال مدينة رفح، الذي يفصل المدينة عن خان يونس والمنطقة التي تُسمى "الإنسانية" في المواصي، رغم أن لا هدفًا أمنيًا يبرر هذا التموضع، كما أكدت مصادر داخل الجيش الإسرائيلي نفسه.
التمسك باحتلال رفح ليست تطورًا ميدانيًا، بل هو تحول سياسي مدروس. ففي النقاشات السابقة، لم يكن هناك قناعة عسكرية إسرائيلية حقيقية بأهمية السيطرة على رفح أو على محور فيلادلفيا. بل في هدنة كانون الثاني/يناير الماضي، وافقت "إسرائيل" على الانسحاب التدريجي من المحور، وسحبت قواتها من المدينة. فما الذي تغيّر الآن؟
الجواب كما تقدمه "إسرائيل" نفسها: لا يمكن تنفيذ مشروع "المدينة الإنسانية" من دون السيطرة الكاملة على محور موراج. الهدف إذاً ليس أمنيًا، بل هندسة ديموغرافية تمنع عودة النازحين، وتدفع بهم إما إلى مخيم طويل الأمد أو إلى التهجير.
وفي تمهيد لذلك، أطلقت "إسرائيل" مشروع "مؤسسة غزة الإنسانية" GHF بدعم أميركي–إسرائيلي، بحجة إيصال المساعدات. لكن مراكز التوزيع تحولت إلى مصائد موت، استشهد فيها أكثر من 600 فلسطيني أثناء انتظار الطعام. لم تكن المساعدات هدفًا، بل وسيلة للفرز والسيطرة والقتل.
كما أنشأت "إسرائيل" مجموعات مسلحة محلية في المناطق التي تسيطر عليها، بدعم مباشر من جهاز الشاباك، سرقت المساعدات، ومنعت دخولها، ثم تحولت إلى أدوات أمنية إسرائيلية لحكم السكان. السجان لم يعد جنديًا إسرائيليًا، بل فلسطينيًا خائناً يعمل بالوكالة.
هكذا تكتمل أركان الخطة:
معسكر الاعتقال: "المدينة الإنسانية".
السجان: الميليشيات المحلية.
الغطاء الإنساني: مؤسسة GHF.
والركن الأخير قريبًا: إعلان الدول التي ستستقبل المهجرين، وبدء عملية عسكرية تستكمل إبادة من تبقى.
ورغم وضوح هذا المخطط، لا يزال المجتمع الدولي وفي مقدمته محكمة العدل الدولية، التي تتردد في تسمية الجريمة باسمها الحقيقي. فاكتفت بإجراءات رمزية في الشكوى المقدّمة من جنوب أفريقيا، من دون اتخاذ موقف قانوني حاسم، تحت ضغط القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. فمحكمة العدل الدولية، على الرغم من خطورة الأدلة المقدمة، ما تزال تُراوغ في توصيف الإبادة وتتهرب من إعلان "إسرائيل" كمرتكبة للجريمة، ما يجعلها شريكًا بالصمت.
كما صمت العالم أمام دخان أوشفيتز، يصمت اليوم أمام ركام غزة. الفرق أن غرف الغاز استُبدلت بالتجويع، والأفران بالركام، والقطارات بممرات إنسانية تُفضي إلى النفي. الإبادة تتكرر، لكن بأدوات حديثة وخطاب مخادع، والقاتل الإسرائيلي لا يكتفي بارتكاب الجريمة، بل ما زال يرتدي قناع ضحية "أوشفيتز" .
ما يحدث في غزة ليس حربًا، بل هو مشروع إبادة جماعية محدثة. إنها نسخة القرن الحادي والعشرين من أوشفيتز، بحماية دبلوماسية وشاشات مشوشة، وشعب يُباد ويُجبر على الرحيل، بينما العالم يُشيح بوجهه مرة أخرى.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الدستور
منذ 28 دقائق
- الدستور
مسؤول روسى: هناك تقدم ملحوظ فى العلاقات بين روسيا وأمريكا
أكد كيريل دميترييف، الممثل الخاص للرئيس الروسي للاستثمار والتعاون الاقتصادي مع الدول الأجنبية، أن العلاقات بين روسيا وأمريكا في تقدم ملحوظ، مشيرا إلى أن "القوى الإيجابية ستسود". وردا على تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول نتائج اجتماع المبعوث الأمريكي الخاص ستيف ويتكوف، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال دميترييف - وهو أيضا رئيس صندوق الاستثمارات المباشرة الروسي - 'تعليقا على /الاجتماع المثمر للغاية/ لستيف ويتكوف مع الرئيس بوتين، هناك تقدم يحرز، وستسود قوى إيجابية'، وفق وكالة أنباء (سبوتنيك) الروسية. وكانت الرئاسة الروسية (الكرملين) قد أعلنت - في وقت سابق اليوم - أن الاجتماع بين بوتين وويتكوف استغرق ثلاث ساعات. يُشار إلى أن ويتكوف كان قد وصل إلى موسكو في ساعة مبكرة اليوم؛ حيث كان في استقباله في مطار فنوكوفو-2، كيريل دميترييف، رئيس الصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة.

مصرس
منذ ساعة واحدة
- مصرس
قبل انتهاء المهلة.. موفد ترامب الخاص يزور موسكو للقاء مسؤولين روس
يتوجه ستيف ويتكوف، الموفد الخاص للرئيس دونالد ترامب، اليوم الأربعاء، إلى موسكو، إذ يلتقي القيادة الروسية، وفق ما أفاد مصدر مقرب من دون الإدلاء بتوضيحات إضافية. وسبق أن التقى ويتكوف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرارا في موسكو، لكنّ هذه الزيارة تأتي بعدما أمهل الرئيس الأمريكي روسيا حتى الجمعة، لوقف هجومها في أوكرانيا تحت طائلة تعرضها لعقوبات أميركية جديدة.ولم يكشف البيت الأبيض ماهية الإجراءات التي يعتزم اتّخاذها الجمعة، لكنّ ترامب سبق أن لوّح بفرض "رسوم جمركية ثانوية" تستهدف ما تبقى من شركاء تجاريين لروسيا، على غرار الصين والهند، وفقا لسكاي نيوز.وجرت بين روسيا وأوكرانيا ثلاث جولات تفاوضية في اسطنبول، لكن من دون تحقيق أي اختراق على مسار التوصّل إلى وقف لإطلاق النار، في ظل استمرار التباعد الكبير في موقفي البلدين.

مصرس
منذ ساعة واحدة
- مصرس
إسرائيل: الجيش ينشئ كتيبة مقاتلين احتياط ممن تتجاوز أعمارهم 50 عامًا
قالت قناة "آي 24 نيوز" العبرية، الأربعاء، إن جيش الاحتلال الإسرائيلي وافق للمرة الأولى على إنشاء كتيبة احتياط تضم مقاتلين تتجاوز أعمارهم الخمسين عاما بسبب النقص الحاد في صفوفه. وذكرت القناة 12 العبرية، أن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر سيبحث عملية عسكرية في غزة قد تستغرق ما بين 4 و5 أشهر.وأشارت القناة العبرية، إلى أن الخطة التي سيناقشها المجلس الوزاري تتضمن استدعاء 4 إلى 6 فرق عسكرية، إذ تستهدف احتلال مدينة غزة ومخيمات وسط القطاع.وأوضحت القناة العبرية، أن من أهداف العملية العسكرية دفع الفلسطينيين للتوجه جنوبا تشجيعا لخروجهم من قطاع غزة.في المقابل، ذكرت القناة العبرية، أن هيئة عائلات الأسرى دعت إلى تطويق وزارة الدفاع الإسرائيلية احتجاجا على نية الحكومة احتلال قطاع غزة.وفي وقت سابق من اليوم، قالت القناة 12 العبرية، إن أكثر من 550 مسؤولا إسرائيليا سابقا أمنيا ودبلوماسيا يحذرون من أن احتلال غزة خطير وقد ينتهي بفشل مدو.وذكرت هيئة البث العبرية، أمس الثلاثاء، أن مواجهة حادة وقعت بين رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس الأركان إيال زامير خلال اجتماع الحكومة.وحذّر رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، الحكومة بشأن خطة احتلال غزة قائلا: "أنتم ذاهبون لفخ في القطاع".وكشفت البث العبرية، أن نتنياهو طلب من رئيس الأركان تقديم تعديلات على خطة احتلال قطاع غزة وتقديمها من جديد، كما طالبه بعدم التهديد بالاستقالة في وسائل الإعلام وإنه لا يقبل بذلك.