
فانا عمّم النشرة الثقافية لـ "وفا": فلسطين في الربع الأول من 2025.. ركود ثقافي بفعل حرب الاحتلال
وطنية - عمم اتحاد وكالات الأنباء العربية (فانا)، ضمن النشرة الثقافية، تقريرا لوكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا)، أعده يامن نوباني، تحت عنوان: "فلسطين في الربع الأول من 2025.. ركود ثقافي بفعل حرب الاحتلال"، جاء فيه:
تشهد فلسطين للعام الثالث على التوالي، حربا مسعورة على كل ما هو فلسطيني، ليس ابتداءً بالإنسان والبيت، ولا نهاية بالكلمة.
آلة الحرب الإسرائيلية ألقت بظلالها على المشهد الثقافي الفلسطيني، الذي اقتصر منذ بداية العام الحالي 2025، على حراك ثقافي بطيء، وفي غالبيته كان فعاليات محلية في الضفة الغربية، واقتصر حضور تلك الفعاليات على أبناء كل محافظة على حدة، نتيجة لسياسة التضييق والخناق التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على مختلف مدن وبلدات وقرى فلسطين، عبر نشر أكثر من 898 حاجزًا عسكريًا وبوابة، منها أكثر من 173 بوابة حديدية جرت عملية وضعها بعد السابع من تشرين الأول عام 2023، منها 17 بوابة وضعت منذ بداية العام الحالي 2025.
طال عدوان الاحتلال، القطاعات كافة، بما فيها الثقافي، وخسرت الثقافة الفلسطينية 44 كاتبًا وفنانًا وناشطًا في حقل الثقافة استُشهدوا خلال الأشهر الأربعة الأولى من العدوان، و32 مؤسسة ومركزًا ومسرحًا دُمرت إما بشكل جزئي أو كامل جراء القصف، إضافة إلى تضرر 12 متحفًا و2100 ثوب قديم وقطع تطريز من المقتنيات الموجودة في المتاحف أو ضمن المجموعات الشخصية، و9 مكتبات عامة، و8 دور نشر ومطابع.
وهدمت آليات الاحتلال نحو 195 مبنىً تاريخيًّا يقع أغلبها في مدينة غزة، بشكل جزئي أو كامل، ومنها ما يُستخدم كمراكز ثقافية ومؤسسات مجتمعية، بجانب تضرر 9 مواقع تراثية و10 مساجد وكنائس تاريخية تشكّل جزءًا من ذاكرة القطاع.
وتعمد جيش الاحتلال الإسرائيلي تدمير الميادين العامة وهدم النصب والأعمال الفنية فيها، إلى جانب تدمير 27 جدارية فنية في الأماكن العامة وعلى طول شاطئ بحر مدينة غزة.
منذ مطلع العام الحالي، أغلقت قوات الاحتلال الإسرائيلي، مكتبتين في مدينة القدس، واعتقلت أصحابها لعدة أيام، بذريعة بيع المكتبتين "كتب تحريضية"، وكانت مكتبة "القدس" في خان الزيت بالبلدة القديمة من القدس أولى المكتبات المستهدفة، تبعتها "المكتبة العلمية" في شارع صلاح الدين.
ورغم آلة الموت والمحو والدمار، ما زال الفلسطيني يبدع، في وطنه وفي غربته، فتحضر فلسطين في القائمة الطويلة لجائزة البوكر الدولية 2025، عبر النسخة الإنجليزية لرواية "سِفر الاختفاء" للروائية ابتسام عازم، بترجمة الروائي العراقي سنان أنطون.
ووفق لجنة الجائزة، فإن القائمة تتكون من ثلاثة عشر مُؤَلفًا سرديًا، بينها إحدى عشرة رواية ومجموعتان قصصيتان، وتم اختيارها من بين 154 كتابًا، في أعلى نسبة مشاركة منذ إطلاق الجائزة بنسختها الحالية. وصدرت رواية عازم، في ترجمتها الإنجليزية، عن منشورات "جامعة سيراكيوز" في الولايات المتحدة الأميركية عام 2019، ثمّ عن دار "آند أذر ستوريز" في بريطانيا في عام 2024.
فيما وصلت رواية "المسيح الأندلسي"، للروائي والباحث الفلسطيني السوري تيسير خلف، والصادرة عن منشورات المتوسط في إيطاليا، إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025، لتنافس على الجائزة مع خمس روايات عربية أخرى.
إصدارات فلسطينية
صدرت بداية العام الحالي، عن وزارة الثقافة الفلسطينية في مدينة رام الله، ستة إصدارات لمبدعين من قطاع غزة، توزعت بين الشعر والقصة ومجلة ضمت عددا من النصوص لكتّاب وكاتبات من قطاع غزة.
الكتاب الأول، كان للروائي والقاص عمر حمّش، وحمل عنوان "تغريدة النورس الأخيرة"، وهو عبارة عن مجموعة قصصية وقعت في 152 صفحة من القطع المتوسط، وصمم غلافها غاوي خليل.
الكتاب الثاني: بعنوان "خذي ما شئتِ من ذكراي" للشاعر محمد توفيق أبو زريق، وهو عبارة عن مجموعة شعرية وقعت في 100 صفحة من القطع المتوسط، وصمم غلافها غاوي خليل، بلوحة لجاد عزت الغزاوي.
الكتاب الثالث: بعنوان "مزامير الطير والمعجزة"، للشاعر علاء نعيم الغول، وهو مجموعة شعرية وقعت في 190 صفحة من القطع المتوسط، بتصميم غلاف لغاوي خليل.
الكتاب الرابع: بعنوان "أصابع الحنين"، للشاعرة دنيا الأمل إسماعيل، وهو مجموعة شعرية وقعت في 96 صفحة، وصمم غلافها غاوي خليل، بلوحة لجاد عزت الغزاوي.
الكتاب الخامس: بعنوان "الحرب التي لا تنتهي" للشاعر ناصر رباح، وهو مجموعة شعرية وقعت في 88 صفحة، وصمم غلافها غاوي خليل، بلوحة لجاد عزت الغزاوي.
الإصدار الأخير كان مجلة أدبية بعنوان "رمال حمراء"، وقعت في 206 صفحات من القطع المتوسط، حملت نصوصا لكل من: جاد عزت الغزاوي، وآلاء القطراوي، وأمل حبيب، وباسل أبو الشيخ، وبسام أبو شاويش، وجبر شعث، وحبيب هنا، وحسام أبو النصر، ودنيا الأمل إسماعيل، ورحاب كنعان، ورزق البياري، وسائد السويركي، وسليمان الحزين، وسما حسن، وسمية وادي، وصابر أبو العساكر، وطلال أبو ركبة، وكوثر النيرب، وعادل الرمادي، وعبد الرحمن الكرد، وعمر حمش، وعمر اللوح، ومحمد الخطيب، ومحمد السالمي، ومحمد الشاعر، ومصطفى لقان، وناصر عطا الله، ونور صيدم، وهداية شمعون.
وعن "دار الرافدين"، صدرت أنطولوجيا بعنوان "غزّة: أهناك حياة قبل الموت"، أنجزها الشاعران عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان. يضمّ الكتاب مختارات من أعمال 26 شاعرةً وشاعرًا من غزّة، وعن دار "العائدون للنشر والتوزيع"، صدرت النسخة العربية من كتاب "التاريخ الشفويّ لنكبة فلسطين: دراسات وشهادات"، التي تضمّ 14 دراسة لباحثين في علم الاجتماع والجندر والتاريخ، من تقديم وتحرير نهلة عبدو ونور مصالحة، وترجمة لمى سخنيني. يعتمد الكتاب على التاريخ الشفوي والذكريات الشخصية والسرديات والمقابلات لدراسة وتحليل وتمثيل النكبة الفلسطينية/ الإبادة الجماعية، قبل وأثناء وبعد إنشاء كيان الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي عام 1948.
كما صدر عن الدار الأهلية بعمان "استعادات مقلقة: مائة كاتب وفنان من غزة يكتبون عن الحرب" في كتابين من تحرير الروائي عاطف أبو سيف. ويضم الكتابان يوميات من غزة كتبها مائة كاتب وفنان خلال وجودهم في غزة إبان المحرقة الجارية، والمشاركون في الكتابين من كافة حقول الكتابة والفن، فمنهم الروائي والقاص والشاعر والناقد الأدبي والكاتب الصحفي والباحث السياسي والاجتماعي، ومنهم الممثل والمخرج والمصور والفنان التشكيلي وصانع المحتوى والمصمم.
وعن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" صدر كتاب: "بهمِشّ: يوميات كاتب في انتفاضة مغدورة"، والذي يستعيد فيه الكاتب والروائي أسامة العيسة يوميّاته في انتفاضة فِتية فلسطين خلال عامي 2015 و2016، وارتقاء أكثر من 350 منهم خلال المواجهات مع قوات الاحتلال.
فيما صدر للباحث إياد صبّاح كتاب: "أثر الحضارة الكنعانية على النَّحت الفلسطيني المُعاصر"، عن دار "خطوط"، ويضم في صفحاته الخلفية التاريخية للحضارة الكنعانية من حيث الموقع الجغرافي والحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية.
إنجازات وجوائز في السينما
فاز الفيلم الفلسطيني "لا أرض أخرى No Other Land"، بجائزة الأوسكار في دورتها الـ97 عن أفضل فيلم وثائقي طويل. ويوثق الفيلم معاناة الفلسطينيين في مسافر يطا جنوب الخليل، جراء اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي المتكررة. والفيلم من إخراج الناشط الفلسطيني باسل عدرا (29 عاما)، والصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام (30 عاما).
ويُظهر الفيلم عدرا وهو يقاوم التهجير القسري للعائلات الفلسطينية في مسافر يطا، بالإضافة إلى عمليات هدم المنازل والمساكن التي ينفذها الاحتلال في المسافر. كما يسلط الفيلم الضوء على قصة عائلة فلسطينية تهجّرها حكومة الاحتلال من منزلها في المسافر لصالح التوسع الاستعماري في المنطقة.
وفاز الفيلم الوثائقي "استرداد مؤجل" للمخرج الأسير في معتقلات الاحتلال عبد الله معطان، والمخرجة المساعدة رحمة دار صالح بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان الأرض الذي أُقيم في جزيرة سردينيا الإيطالية، وهو من إنتاج مؤسسة قامات لتوثيق النضال الفلسطيني ووزارة الثقافة الفلسطينية.
فيما حصد الفيلم الفلسطيني القصير "ما بعد" للمخرجة مها الحاج جائزة الجمهور كأفضل فيلم دولي قصير في ختام الدورة الـ47 من مهرجان كليرمون فيران الدولي للأفلام القصيرة - فرنسا.
وفقدت فلسطين، في بداية العام الجاري، الأكاديمي والروائي أحمد حرب. وُلِدَ الفقيد في الظاهرية في مدينة الخليل عام 1951، وحصل على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من الجامعة الأردنية، ونال درجة الماجستير والدكتوراة في الأدب الإنجليزي المقارن من جامعة أيوا في الولايات المتحدة الأميركية.
وكانت رواية حرب الأولى في عام 1981 بعنوان "حكاية عائد"، تلتها روايات: "إسماعيل" (1987)، و"الجانب الآخر لأرض المعاد" (1994) وفازت بجائزة دولة فلسطين للرواية في عام 1997، و"البقايا" (1997)، و"الصعود إلى المئذنة" (2008)، وأخيرًا "مواقد الذكرى"، التي صنفها البعض رواية، والآخر سيرة ذاتية، وهناك من وجد فيها "نوفيلا"، أو تكوينًا سرديًا هجينًا، وصدرت في عام 2023.
تميز الراحل بمسيرة أكاديمية مرموقة، حيث عمل أستاذًا للأدب الإنجليزي المقارن في جامعة بيرزيت منذ عام 1987، وتولى عدة مناصب أكاديمية وإدارية بارزة، كان آخرها رئاسة لجنة تحكيم جوائز فلسطين في الآداب والفنون والعلوم الإنسانية عام 2019. كما كان عضوًا في مجلس مفوضي الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان، ورئيسًا للجمعية العمومية لملتقى فلسطين الثقافي، إلى جانب مشاركته الفاعلة في مؤسسات ثقافية وأكاديمية عديدة، ما جعله إحدى الشخصيات المؤثرة في المشهد الثقافي الفلسطيني.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الميادين
٠٩-٠٥-٢٠٢٥
- الميادين
فلسطين: ابتكار الحياة
منذ احتلال فلسطين عام 1948، أصبحت أرضها ولاّدة للرموز الوطنية التي ابتكرها الفلسطينيون في مسيرة نضالاتهم الطويلة، كشكل من أشكال المقاومة إلى جانب السلاح والعمليات العسكرية والانتفاضات والتظاهرات. كذلك من خلال الثقافة التي تجلت في مختلف أشكال الفنون، عبر المسرح والموسيقى والأغنية والرواية والسير الذاتية والمذكرات وتوثيق الذاكرة، التي اغتنت في معظمها بما يعكس تطلعات وأحلام الفلسطينيين تجاه كل ما في بلادهم، أرضاً ومجتمعاً وقرى ومدن وشجر وتراث وفولكلور وفنون. كما هو الدال والمدلول في علم اللغة، تميزت الرموز الفلسطينية بتلقائيتها الكثيفة والدالة على فلسطين. فلا الكوفية التي تلثم بها الفلاحون لإخفاء هويتهم عن أعين المستعمرين البريطانيين بحاجة للتعريف عنها أنها رمز فلسطيني، ومثل الكوفية، مفاتيح البيوت التي حملها الفلسطينيون معهم في رحلة نزوحهم والتي ترمز إلى حق العودة، وكذلك شخصية "حنظلة" للفنان ناجي العلي التي تعتبر الأكثر شهرة بين الرسوم الكاريكاتورية، والتي ترمز إلى طفل يرفض أن يكبر خارج فلسطين، ويريد أن يبقى في العاشرة من عمره . لا زال الاحتلال الاسرائيلي مغتصباً لأرض فلسطين، ولا زال النضال العسكري والثقافي موجوداً ومستمراً بأشكال وأنواع مختلفة، ومع تزايد القمع والمنع الذي يمارسه الصهاينة، يبتكر الفلسطينيون رمزاً جديداً في سلسلة الرموز التي سبقتها. هكذا أصبح الحجر رمزاً للإنتفاضتين، الأولى عام1986 والثانية عام 2000، وكذا الملعقة التي تستخدم في الطعام صارت هي الأخرى رمزاً لعملية فرار الأسرى الفلسطينيين من معتقل جلبوع الإسرائيلي عام 2021، ما سمي بـ"نفق الحرية"، وغيرها من الرموز التي تعكس أشكال المقاومة التي يجسدها الفلسطينيون في نضالاتهم ضد الاحتلال، والتي تعكس أهميتها في قيمتها التعبيرية "كإعادة تنظيم للتجربة المحسوسة وسط منظومة دلالية"، وفق تصنيف الانثروبولوجي الفرنسي، كلود ليفي ستروس. بعد عزلة امتدت من العام 1967 وحتى العام 1970، وبعد نضالات طويلة للأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، تمكنوا بعدها من نيل إحدى أهم مطالبهم، من بينها الحق في إدخال مواد تعليمية إلى المعتقل. وهذا سمح لهم بالكتابة إلى عائلاتهم. ومع مرور الزمن، شكلت رسائل الأسرى التي صيغت بإيحائية وغموض عاليين تجنباً للرقابة التي كانت تفرضها إدارة السجون، منطلقاً لولادة روايات وسير ومذكرات ما سمي لاحقاً بــ "أدب السجون"، الذي حظي بتوثيق أنجزته الباحثة الفلسطينية، أمل مصاروة، تحت عنوان: "أدب السجون في فلسطين، 2020". هكذا نال "أدب السجون" اهتمام المثقفين والنقاد، باعتباره لسان حال الأسرى الفلسطينيين، وجسراً موصلاً لأفكارهم، من بينها، رواية "شم الأرض"، للأسير المحرر علي جرادات، ورواية "أمير الظل: مهندس على الطريق"، للأسير عبد الله البرغوثي، و"حكاية صابر" و"ستائر العتمة"، للأسير وليد الهودلي، وغيرها من الروايات، كان آخرها "قناع بلون السماء" للأسير الفلسطيني، باسم خندقجي، الصادرة عام 2023، ونالت "الجائزة العالمية للرواية العربية" البوكر عام 2024. والرواية المذكورة حصيلة قصاصات ورقية كان خندقجي يقوم بتهريبها عبر زواره. وتدور أحداثها حول نور، شاب فلسطيني يعيش في مخيم رام الله ويعمل في تنقيب الآثار ضمن بعثة الصليب الأحمر. يعثر نور أثناء عمله على بطاقة تعود للإسرائيلي أور شابيرا، فينتحل شخصيته ويعبر بالبطاقة الحواجز ويتحرك بحرية في المواقع الأثرية، فتظهر له فلسطين بتاريخها وطبقاتها مطمورة في باطن الأرض. تطرح الرواية أسئلة حول الهوية الملتبسة التي يعيشها البطل: أهو نور الفلسطيني أم أور الاسرائيلي؟ يجسّد باسم خندقجي في روايته تاريخ فلسطين الأثري، وهو في ذلك يعيد خلق فلسطينه الخاصة في رواية تكاد تكون الأرض نفسها والتاريخ نفسه. هذه الرمزية التي تكتسبها الرواية، شأنها شأن عدد كبير من روايات "أدب السجون"، أنها كتبت جميعها داخل السجون الإسرائيلية عن أحداث تدور كلها خارج المعتقل، ومعظم هذه الروايات تحمل في مضامينها أحلام الفلسطينيين ومن بينهم الأسرى ورؤيتهم للحرية والوطن والنضال. كما تعكس قدرة هؤلاء على ابتكار أشكال من الحياة في عالم المعتقل المسكون بالموت. هناك سبل أخرى انتهجها الأسرى الفلسطينيون من أجل ابتكار حياة من داخل السجون الإسرائيلية. ولعل أبلغ مثل على هذا الابتكار ما سمي بـ "أطفال النطف"، وهي عبارة عن عملية تهريب نطف من الأسرى الذين رغبوا في أن يكون لهم امتداداً قرابياً، بعد أن شكلت سنوات الاعتقال الطويلة ومن بينها المؤبدة، عائقاً أمام إنجابهم. ولدت فكرة تهريب النطف في العام 2012، واصطدمت في البداية بمحاذير دينية جمة، كما أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط المجتمعية، التي انقسمت بين مؤيد ورافض، إلا أنها أجيزت بعد فتاوى شرعية، وضمن ضوابط محددة. فاق عدد الأطفال الذين ولدوا عبر النطف المهربة من الأسرى إلى زوجاتهم خارج السجون، أكثر من 120. حدث ذلك رغم إجراءات المنع التي فرضتها قوات الاحتلال على السجناء، واستطاع عدد منهم أن يحقق حلمه بالإنجاب. أول عملية ناجحة لولادة طفل من النطف المهربة، كانت للأسير عمار الزين من مدينة نابلس. رزق الزين بطفلين، مهند في العام 2021 وبعد عامين رزق بصلاح الدين، علماً أن الزين محكوم بالسجن المؤبد 26 مرة. كما رزق الأسير الشهيد، وليد دقة بطفلته ميلاد التي أبصرت النور عام 2020، كما أنجبت زوجة الاسير، إسلام حسن حامد، التوأم محمد وخديجة، من نطف مهربة، وكان حامد قد قضى في سجون الاحتلال ما يقارب 18 عاماً. إنه ابتكار للحياة، واختراع لها. هذا ما تعكسه نضالات الفلسطينيين ورموزها، لا سيما ما تجسد منها في رواية "قناع بلون السماء"، وعملية "أطفال النطف". رمزية تظهر السجن مساحة نزاع بين سرديتي الموت الذي يسعى السجان لتأبيده عبر المنع والأسر والامحاء، والحياة التي تنبثق من مخيال الاسرى ونطفهم إلى العالم.. كل العالم.


الميادين
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- الميادين
القدس مكاناً وناساً في قصص ساحرة!
"مقهى الباشورة" لخليل السواحري "مقهى الباشورة" مجموعة قصصية على غاية من الأهمية فيما حملته من رسالة، وموضوعات، وسرد حكائي جميل، وما حملته من حذق فني جعلاها حاضرة في الوجدان لأنها كتبت في زمن الضعف والانكسار في أعقاب هزيمة عام 1967، من أجل أن تقول بوضوح شديد: من الممكن للإنسان أن يهزم في معركة، ولكن من غير الممكن أن تسحقه الهزيمة، وأهمية "مقهى الباشورة" ماثلة هنا في دعوتها للمقاومة الشعبية، لأنّ روح الانتصار رابخة فيها. هذه القصص، كتبها الأديب الفلسطيني خليل السواحري، ابن مدينة القدس، حيث ولد وعاش وتربّى في منطقة السواحرة التي تجاور أسوار القدس الجنوبية، فالمكان في القصص هو المكاني المقدسي، وزمنها هو زمن هزيمة 1967، أي زمن الاحتلال الإسرائيلي للجزء الشرقي من مدينة القدس، وفي هذا الجزء يقع: الحرم القدسي، والكنائس المسيحية، وأهمها كنيسة القيامة، أما موضوعها فهو رفض هذا الاحتلال، وعدم الخضوع له، ومقاومته بأشكال ووسائل وأدوات مختلفة، والبطولة في هذه القصص ليست لجيش، ولا لقوات عسكرية مدرّبة، ولا لجماعات مسلحة، وإنما هي بطولة لأهالي القدس أصحاب الورش الصناعية، والمحال التجارية، والأفران، والمقاهي، والحرّاس الليليّين، والباعة المتجوّلين، والعمال الذين انقطعوا أو منعوا من الذهاب إلى أعمالهم، وباعة الخضار، والكعك، والشموع، والهدايا التذكارية.. الذين أحسوا بأنّ الاحتلال الإسرائيلي للجزء الشرقي من مدينة القدس أطبق على صدورهم أيضاً، وشلّ حركتهم، وطوى حريتهم، وأفسد حياتهم. في هذه المجموعة القصصية "مقهى الباشورة" تسع قصص مقطورة وراء بعضها بعضاً، كما لو أنها رواية القدس في تلك الفترة الزمنية، رواية القدس الرافضة للمحتل الإسرائيلي، ورواية القدس التي ترفض اقتراب المحتل الإسرائيلي من دور العبادة بسياراته وبغاله ودورياته الراجلة، والرافضة أيضاً لدخول المحتل الإسرائيلي للأسواق التجارية المقدسية، وتقييد حرية الناس في دخولهم وخروجهم من المدينة المقدّسة. وقد تخيّرت الحديث عن هذه المجموعة القصصية الآن.. لأنها تقف في مواجهة المقولات الراجفة والمستخذية من أنّ كل شيء انتهى، وأنّ الهزيمة أحاطت بالناس من جميع الجهات، تخيّرتها لأنها تقول لنا بأنّ قوة الفرد من قوة المكان، والتاريخ، والعادات، والتقاليد، والأعراف من جهة، وأنّ قوة السلاح قوة طارئة، ومتداولة، ومن يقتل بالسلاح، بالسلاح يقتل من جهة أخرى، وأنّ قوة المقاومة موجودة في الحسّ الشعبي الفلسطيني الذي قد يخسر معركة، ويمنى بهزيمة، لكن الاستسلام والخضوع والانكسار هي سلوكيات لا يعرفها الحسّ الشعبي؛ أردت القول: إنني تخيّرت الحديث عن هذه المجموعة القصصية لأنّ حالها الزمنية تشبه الحال الزمنية التي نعيشها في ظل الترويج الدعائي المشبوه بأنّ كل شيء انتهى، ولأنها تقول، عبر الصوت الشعبي المحتشد بالفطرة، والنباهة، والفطنة، والصدق، وحسّ المقاومة، لا شيء انتهى في ظل اختلال الموازين، وتوحّش الطغاة، وشيوع فظاعة الظلموت، لأنّ الحسّ الشعبي لم يعرف الهزيمة، ولم يذق طعماً من طعومها، وإن الإرادة وافرة، وهي بتمام قوتها، وإن الصراع لم ينته، وخسارة معركة أو جولة شيء، والهزيمة شيء آخر، والرهان الأوفى هو الرهان على الحسّ الشعبي الرافض للهزيمة، والانحناء، والخضوع. كاتب هذه المجموعة هو الأديب الفلسطيني خليل السواحري (1940-2006) الذي عاش حياته كلّها في عالم من المقاومة، والشجاعة، والصبر، والدعوة إلى مقاومة الظلم، لأن قوة الظلم، أياً كانت عزومها، هي زائلة، وطارئة، لأنّ الحسّ الشعبي لم يقبل بها، وهو يواجهها بأشكال وصور وأساليب مختلفة. درس خليل السواحري في بلدته "عرب السواحرة" المراحل الأولى من تعليمه، ثم درس الشهادة الثانوية في ثانوية الرشيدية في القدس، والتحق بمعهد المعلمين وتخرّج فيه، ثم سافر إلى دمشق ليدرس في كلية الآداب، فتحصّل على شهادة البكالوريوس في الفلسفة، ثمّ التحق بالجامعة اليسوعية في بيروت وتحصّل على شهادة الماجستير في الفلسفة، درّس في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية مرحلة من عمره، ثم انصرف إلى عالم الكتابة والإبداع، فشغل منصب المدير العام للمكتبة الوطنية الفلسطينية، وكان له أن أسس مع زملائه الكتّاب والأدباء الاتحاد العامّ للكتّاب الفلسطينيين، كما أسس رابطة الكتّاب الأردنيين مع زملائه سنة 1974، وقد ترّأسها فترة من الزمن، وشغل منصب مدير مديرية الإعلام الفلسطينية، ومدير مديرية الدراسات في وزارة شؤون الأرض المحتلة، وحاز على أوسمة، وشهادات تقدير، وعدة جوائز أدبية. وقد بدأ السواحري بنشر قصصه ودراساته النقدية والفكرية اعتباراً من أوائل عقد السبعينيات في القرن العشرين المنصرم، وله في القصة القصيرة عدة مجموعات قصصية، طبعت في فلسطين، والأردن، وسوريا، ولبنان، والعراق طبعات عديدة، وله في الدراسات كتب كثيرة دارت حول الآداب والفنون الفلسطينية، مثلما دارت حول التراث الفلسطيني، ومن أهمها كتابه (زمن الاحتلال) الذي طبع عدة مرات، وفيه يسلّط الضوء على الثقافة الفلسطينية بكلّ وجوهها وأجناسها، ويتلبّث للحديث عن أعلامها، والزمن المرّ الذي عانت منه كي تبدو وتتجلى رغماً عن أنف الاحتلال الإسرائيلي. "مقهى الباشورة" هي قصص الناس، وسيرهم، وأفعالهم، وأحلامهم.. وهم يواجهون الاحتلال الإسرائيلي للقسم الشرقي من مدينة القدس.. رفضاً ومقاومة، كيما تبدو ثنائية الصورة في زمن الاحتلال الذي يريد إخضاع الناس وتركيعهم والهيمنة عليهم، وسلب حريتهم، ومحو هويتهم الوطنية من جهة، وأفعال المقاومة الشعبية التي ترفض ثقافة الإخافة والتهديد والإرهاب من جهة أخرى، وتعلي شأن ثقافة المقاومة والمواجهة في البيت والمدرسة والشارع. كلّ شيء في هذه القصص واقعي، المكان، والزمن، والشجاعة، والمقاومة بكلّ أشكالها، والحسّ الشعبي، والسجون، والمعاناة، والأسماء كلّها واقعية، أسماء الأمكنة، والشوارع، والناس، والمحال، والمقاهي، والأسواق؛ كلّ شيء واقعي في هذه القصص كما لو أنها خرائط جغرافية للمكان، وخرائط للأرواح البشرية وهي تواجه الاحتلال الإسرائيلي، وخرائط للأحلام من أجل أن يرى أهالي القدس مدينتهم محرّرة من الهيمنة الإسرائيلية التي وصفوها في أحاديثهم بأنها كابوس أو رابوص، ولا بدّ من محوهما. "مقهى الباشورة" هو مقهى شعبيّ معروف في مدينة القدس، يمتلكه رجل مقدسي صاحب هيبة ومكانة، ويأتي إليه أبناء المدينة وزوّارها، فهو فضاء للتلاقي ما بين أهل الأرياف المحيطة بالقدس وأهلها، وهي محطة للاستراحة، وتبادل الأسئلة، ومعرفة الأخبار، واللقاءات والمواعدات، لكنها حين صارت تحت هيمنة الاحتلال، غدت مكاناً للخوف، والحذر، والأسئلة الشيطانية، ودوريات "الجيش" الإسرائيلي، فالاحتلال الإسرائيلي والطمأنينة لا يلتقيان، والاحتلال الإسرائيلي واللقاءات الحميمة لا يلتقيان، لقد تحوّل "مقهى الباشورة" إلى مكان للأسئلة الرجيمة، وإلى كمائن لاعتقال الناس، وجهة للخوف من المخبرين، وأفراد الشرطة الإسرائيلية المتخفّين باللباس المدني، لهذا، يغلق صاحب المقهى.. المقهى، ويريح نفسه من أسئلة دوريات الاحتلال الإسرائيلي عن فلان وفلان، لا بل يلتحق هو نفسه برجال المقاومة السريّين، ليجد أنّ الفرق كبير وشاسع ما بين صفة الفدائي وصفة صاحب المقهى. ولأنّ تفاصيل المكان المقدسي، في هذه القصص، كثيرة ومتعدّدة، فإنّ أهمية القصص تنبثق من أهمية المكان، فهي تصف الأمكنة وصفاً دقيقاً، وتماشي الشوارع شارعاً شارعاً، وتواقف الأسواق سوقاً سوقاً، وتجول في الساحات ساحة ساحة، وتصعد الأدراج، وتسير تحت القناطر والأقواس، وتتلبث عند أسوار القدس، والأعمدة، والدهاليز، وتستظل بالأشجار، وتجالس عتبات المعابد الدينية، وكأنّ خوف هذه القصص من التحوير والتهويد للأمكنة هو الذي جعلها تمعن في ذكر التفاصيل والإكثار من الوصف، وبيان العلامات التي تميّز البيوت الحديثة من البيوت القديمة، وهي التي تقيس بالأمتار بعد المكان عن المكان، والمقهى عن المقهى، والصيدلية عن الصيدلية، والمدرسة عن المدرسة، والشارع عن الشارع، وتسمّي الأمكنة، وتذكر أرقام البيوت، وتكرّر أسماءها لأنّ الخوف من أن تطالها الأيدي الإسرائيلية بالتزوير والتغيير.. هو خوف كبير، ولعلّ قارئ القصص يشعر بأهمية حضور الأمكنة المقدسية سواء أكانت أمكنة لمحال تجارية في سوق، أم كانت مدارس لتعليم الطلبة، أم كانت مؤسسات فلسطينية معنية بشؤون الحياة، مثل بيت الشرق، ومثل المتاحف على اختلاف اهتماماتها، والأسوار، والحدائق، والتلال، والمقابر، والدروب، والأزقة، والطرق، والخانات، والحمامات الشعبية، والمشافي، والتكايا، والزوايا، والمزارات، كل هذه الأمكنة تمتاز بالهيبة والحضور والروح العمرانية المشدودة للتاريخ الفلسطيني. إنّ حرص القصص على وصف الأمكنة أكسبها أهمية مضافة، لأنّ بطولة القصص هي بطولة للأمكنة الباقية التي قرّت قداستها في الوجدان الفلسطيني، مثل درب الآلام، والجلجلة، وسائر المعابد الأخرى. وقد تحدّثت القصص عن هدم وحرق حارة المغاربة المجاورة لحائط البراق الشريف، بكلّ بيوتها وأشجارها ودروبها ومدارسها، ونبّهت إلى أنّ هذا الفعل الناقص الشائن ليس سوى مقدّمة لأفعال إسرائيلية قبيحة مقبلة سيقوم بها المحتل الإسرائيلي لاحقاً، كما تحدّثت قصص "مقهى الباشورة" عن أشكال المقاومة ضد المحتل الإسرائيلي، من تظاهرات، وعصيان مدني، وإضرابات، وتوزيع منشورات، ومطاردات لعناصر الشرطة الإسرائيلية، وتفجيرات لمقارّ "الجيش" والشرطة والسجون، وإغلاق للطرق والأسواق، والالتحاق بالعمل الفدائي، ونقل الأسلحة والذخائر، وتخبئتها بعيداً عن عيون الشرطة الإسرائيلية، ورفض دفع الضرائب، وعدم تنفيذ الأوامر الإسرائيلية. قصص "مقهى الباشورة"، ورغم مرور الزمن عليها، ما زالت على غاية من الحيوية في احتضان نهج المقاومة والإيمان بها سبيلاً للخلاص من وحشية الإسرائيلي وعنصريّته، وهي قصص على غاية من حضور المكان وقدسيّته الآبدة، وعلى غاية من حضور الحسّ الشعبي حتى ليصير كلّ ما في القصص هو ما اشتمل عليه الوجدان الفلسطيني، وهو كلّ أحلام الفلسطينيين في الحرية، والانعتاق من ظلموت الإسرائيليين، من أجل ملاقاة الصباحات الندية المنتظرة.

المدن
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- المدن
فخاخ البوكر و"قلق" سمير ندا
ضجت القاعة بتصفيق حار وطويل، عقب الإعلان عن رواية "صلاة القلق" للكاتب المصري محمد سمير ندا ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية. كان ندا حاضراً وقتها بقاعة مكتبة الإسكندرية التي احتضنت الحفل، ولمس لأول مرة التفاعل الكبير مع جمهور متحمس. لكنه بالتأكيد لم يكن ليتخيل حجم التفاعل الذي سيحدث بعد شهرين من هذه اللحظة، بالتحديد عقب إعلان فوز روايته بالجائزة فعلا مساء الخميس الماضي، ولا يتوقع بطبيعة الحال انقلاب قطاع من هذا الجمهور عليه وعلى روايته، ولا الأسئلة التي أثيرت، ولا إلى أين حلقت النقاشات حول نصه. متابعة الساعات الأخيرة التي أعقبت الإعلان تكشف طبيعة الفخاخ التي ألقيت في طريقه، وطريقته في تجاوزها وعبورها. في ظهور لم يتعد الدقائق الخمس عبر فيديو نشره على صفحته الشخصية بفيسبوك في اليوم التالي للإعلان، بدا ندا هادئا ومدركا للأسئلة التي كانت في بدايتها، ليس عن أحقيته، ولكن حول اعتبار جائزته فوزا لمصر، قياسا لرفض عدة دور مصرية نشر روايته واضطراره لنشرها مع ناشر تونسي، وتصريحاته القديمة التي جرى استعادتها. في الفيديو القصير قال ندا إنه لن يعلق على أي شيء ولا يحمل ضغينة لأي مخلوق، وأن ما يحدث ضريبة متوقعة للجائزة يتقبلها بكل رحابة صدر. شكر قراءه وأهدى الجائزة لوالده، وعبر الفخ الأول بنجاح، قال: "الأغلبية سعداء بفوز كاتب مصري بأكبر جائزة عربية في مجال الرواية" معتبرا أن النجاح لا يخصه وحده، بل لجيل كامل من الكتاب المصريين. ثم قفز على الفخ الثاني ببراعة مؤكدا أن فوزه لا يعني أنه أفضل من الآخرين الذين زاملوه في قوائم الجائزة، بل رفض حتى مساواته بمن فاز بها من المصريين من قبل "فوزي لا يعني أنني أجاور بهاء طاهر أو يوسف زيدان. من الضروري ألا نحلق عاليا، وأن نهبط على الأرض سريعا، حتى يكون الموضوع منطقيا ولا نفرط في السعادة، فالإفراط في الشعور بالتفرد والتميز ضار جدا لأي كاتب". في تصريحاته التالية تخلّى عن وعده بعدم التعليق، لأن التفاعل والهجوم فاق توقعاته، وربما لأنه انتبه لما يجري فعلا على الأرض، أو في الفضاء الإلكتروني إن شئنا الدقة، فقال بوضوح في تصريحات تلفزيونية إنه سعيد بفوز رواية "مصرية" بهذه الجائزة العربية الكبيرة، وزاد قائلا إن ارتباط اسمه بمصر يصيبه بالفخر و"القشعريرة". وردا على ما يقال حول مسألة النشر قال إن كثير من اللغط يثار حول هذا الموضوع، وأنه بات يستخدم لـ"جلد الذات" أو "لتخليص الحسابات مع دور النشر"، مؤكدا على أن قبول الأعمال أو رفضها حق أصيل لكل ناشر، لكن ما يؤلمه ويزعجه هو التجاهل أو عدم الرد "أرفع القبعة لكل من رفضوا روايتي وأعلنوا أسبابهم، ولهم كل الاحترام. تحدثت مع دور مصرية ولم نتفق على التعديلات المقترحة أو التحرير. لذلك وضعت الرواية في الدرج وبدأت في غيرها". لكن ربما ما أخرج الفائز عن صمته لم يكن مسألة النشر، ولا كون فوزه انتصارا لمصر أم لا، وإنما قلقه من العقبة الثالثة والأهم، إذ تدحرجت كرة الثلج حتى رأى البعض في فوزه "مؤامرة على مصر" مفسرا روايته باعتبارها إنكارا سافرا لنصر 1973 عبر رمزية واضحة، وهجوما لاذعا على جمال عبد الناصر! وهو ما دفعه للخروج لنفي التهمة فوقع مضطرًا في فخ التأويل، مغامرا بنصه لإنقاذ نفسه وسمعته، حتى لو جاء ذلك على حساب القارئ الذي صودر حقه في التأويل والتفسير. إذا عدنا مجددا لحفل الإسكندرية، سنجد أن الرمزية كانت أولى ملاحظات بلال الأرفه لي، الأكاديمي والباحث اللبناني، وعضو لجنة تحكيم الجائزة، في كلمته عن الرواية، والتي يصبح لها دلالة أكبر حاليا، إذ تأكد ما كانت توحي به من مؤشرات، باعتبارها حيثيات للصعود للقائمة القصيرة ثم الفوز النهائي. أشار بوضوح لرمزية الرواية التي تدور في "نجع المناسي" تلك القرية المعزولة في صعيد مصر، في مرحلة فارقة تمتد من نكسة 1967 إلى 1977، محملة بالتحولات السياسية والاجتماعية التي تركت بصمتها الواضحة في حياة الشخصيات. حيث تتجلى العزلة لا كواقع جغرافي فحسب، بل كـ"حالة فكرية ونفسية تغلف ساكنيها فتجعلها مسرحا لاستكشاف أسئلة السلطة والخوف والهروب من الحقيقة". بالتالي فالعالم الذي ينسجه ندا في روايته تتداخل فيه الحكاية بـ"الرمزية العميقة" في سرد متعدد الأصوات يعكس تعقيدات التجربة الإنسانية، ضمن سياق اجتماعي تاريخي نابض بالحياة. أشاد الأرفه لي كثيرا بلغة النص وبنيته السردية، لكنه يعود مجددا للمضمون، ليشير إلى الأسئلة التي تطرحها الرواية حول الهوية والحرية والمصير، عبر شخصيات تعيش أزمات نفسية "يتجلى ذلك بوضوح في حكيم الطفل مقطوع اللسان الذي يصبح الراوي الخفي للحكاية، كأنه صدى لصمت المجتمعات أمام الظلم والاضطهاد، وفى الوقت ذاته رمز لقوة الكتابة كأداة للتحرر". ويلخص المسألة بقوله إن "قيمة هذه الرواية تتجلى في قدرتها على استدعاء الأسئلة الكبرى في الحياة عبر سرد يبدو بسيطا في ظاهره لكنه مشحون بطبقات من المعاني والدلالات"، هذا التفاعل بين الواقع والخيال يمنح الرواية في نظره بعدا تاريخيا واجتماعيا يجعلها أكثر من مجرد نص أدبي، بل "شهادة على مرحلة محورية من تاريخ مصر والمنطقة". وفي النهاية أكدت الجائزة على المعاني نفسها فقالت في بيانها الرسمي الختامي إن السرد في الرواية "يتداخل مع الرمزية في نص مقلق ذي أصوات وطبقات متعددة، يصوّر فترة محورية في تاريخ مصر، العقد الذي تلا نكسة 1967" وزاد البيان فاعتبر الرواية "مساءلة سردية لمرويات النكسة وما تلاها من أوهام بالنصر". وهو ما أكد عليه أيضا ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة، إذ اعتبر أن الرواية مؤهلة لأن تصبح "رواية مكرّسة من روايات الأدب العربي في المستقبل". حيث تنطلق في تأطير سرديتها الرمزية من حرب 1967 والسنوات العشر التي تلتها، "جاعلة منها مناسبة لنسج عالم من الديستوبيا المُطْبِقة، شخّصه الكاتب في نجع المناسي التي يتطابق "اسمها مع جسمها" أغلق الطغيان على قاطني النجع منافذ النجاة، فوقعوا ضحية لا تستطيع الفكاك من عواهن الاستغلال والتضليل والاستقطاب وحجب المعلومة، مع أنّ إمامهم حاول، فاشلًا، أن يستنّ لهم "صلاة للقلق" تساعدهم على الخلاص". كل تلك التفسيرات لم توقف حدة النقاش المستمر والمتصاعد منذ الإعلان وحتى الآن، بل ربما زادت من حدته وأكدت الهواجس الدائرة في نفوس البعض، وهو ما دفع ندا ليرد بنفسه في تصريحات تلفزيونية قال فيها إنه سيحاول قبول ما يجري باعتباره "سوء فهم" لا "سوء ظن". وقال بوضوح: "أنا لا أنتقد شخص جمال عبد الناصر"، بل يتحدث عن مرحلة مفصلية في تاريخ مصر، بالتحديد الفترة من 67 وحتى 77، والرواية قائمة بالأساس على فكرة فانتازية تصور تاريخا مغلوطا، وكأننا قد حررنا فلسطين في 67 وانتصرنا، ثم نتابع حياة الناس وفق هذا التصور في قرية معزولة اختطفها شخص ما "هذا الشخص ليس جمال عبد الناصر، بل يتاجر به ويستغل اسمه، لكن عبد الناصر ليس مستهدفا في الرواية، بل آخر، يحاول تغييب العقول لتحقيق هدف ومجد شخصي". أكد أيضا أن الرواية تقول إننا ومنذ 48 نصلي صلاة سادسة بخلاف الصلوات الخمس المفروضة، هي صلاة القلق، لأننا نعيش في قلق دائم ونمارس طقوسا تشبه طقوس الصلاة "أدعوا الشعوب العربية أن تتوقف عن أدائها لأنها ما تعطلنا". وهو الهدف الأساسي للرواية في نظره؛ البحث في الطريقة التي يتم بها تغييب الوعي الجمعي للشعوب، وكيف يزيف التاريخ وتتم السيطرة على المواطنين من خلال اختلاق حروب غير حقيقية "نحن لا ننتقد الحروب التي تدافع عن الأرض، ولكن الحروب الوهمية المصطنعة التي تهدف إلى خفض سقف الطموح عند المواطن". وهو ما دفعه مجددا لاستدعاء كلمة والده التي غص بها خلال حفل إعلان فوزه: "تحرير الأرض مرهون بتحرير العقل". محمد سمير ندا كاتب مصري، يعمل مديراً مالياً لأحد المشروعات السياحية. نشر العديد من المقالات في الصحف والمواقع العربية، وصدر له رواية "مملكة مليكة" عام 2016، ورواية "بوح الجدران" عام 2021. أدرج في قوائم الجائزة العالمية للرواية العربية لأول مرة هذا العام، وهي أيضًا المرة الأولى التي يفوز فيها كاتب مصري بالجائزة منذ عام 2009. صدرت "صلاة القلق" عن منشورات مسكلياني.