
'التطبير' سياسة إعادة إنتاج الهوية الطائفية
جاء هذا التحول خاصة في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، والهزيمة العسكرية لحزب الله اللبناني وما تبعها من انتكاسات سياسية في لبنان، وتقزيم نفوذ الحوثيين، وتراجع الميليشيات الولائية في العراق واختفائها خشية الاصطدام بالعاصفة الإسرائيلية. في ضوء ذلك، صعد الخطاب الطائفي ليحل محل خطاب المقاومة والممانعة، في محاولة يائسة للحفاظ على ما تبقى من الامتيازات السياسية وضمان استمرار حضور هذا التيار في المشهد الإقليمي.
التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر ليس بمنأى عن التحولات العاصفة التي تمر بها حركات الإسلام السياسي الشيعي في المنطقة، خصوصاً بعد الحرب الإسرائيلية على إيران وتصاعد المخاوف من مؤامرات تهدف إلى إسقاط النظام الإسلامي هناك.
في هذا السياق، يسعى التيار الصدري إلى تجديد هويته الطائفية وإعادة تأكيد وجوده السياسي. وبعد أن غيّر مقتدى الصدر اسم تياره إلى 'التيار الوطني الشيعي'، بدأ يروّج لخطاب يسمح بإحياء بعض الطقوس المثيرة للجدل، أبرزها 'التطبير' – وهو طقس يتم خلاله ضرب الرأس بآلة حادة جلدا للذات وحزناً على مقتل الحسين بن علي، حفيد النبي محمد، في شهر عاشوراء.
وقد اختلف الفقهاء والعلماء في الطائفة الشيعية حول مشروعية 'التطبير' بين التحريم والإباحة. ونشأ هذا الطقس في الحقبة الصفوية وتحديدا في ظل حكم إسماعيل شاه الصفوي الذي اعلن تبنيه المذهب الاثني عشري الشيعي، بعد تحول الدولة الصفوية الحاكمة في إيران من المذهب السنّي إلى الشيعي، كجزء من محاولة بلورة هوية مذهبية مميزة في مواجهة الدولة العثمانية السنّية، في سياق صراع جيوسياسي واضح.
و من منظور العلم، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني والمتحضر، فإن طقس 'التطبير' يُعدّ شكلاً من أشكال إيذاء النفس، ويجب منعه ومحاسبة المحرّضين عليه. بل إنه، وفق معايير الطب النفسي الحديث، يُقارن بمحاولة انتحار جزئية، ما يضع مرتكبه تحت المراقبة الطبية والنفسية، وبرعاية قانونية، حتى تجاوز تلك المرحلة.
بوجه عام، يعتمد التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر على المناسبات والطقوس الدينية لإعادة تأكيد حضوره الاجتماعي، وبالتالي تعزيز شرعيته السياسية. ففي مثل هذه المناسبات، يسعى التيار إلى تجديد صورته أمام جمهوره، ويبرز طقس 'التطبير' كجزء من هذا السعي، كما هو الحال لدى باقي قوى الإسلام السياسي الشيعي التي تتنافس بشدة خلال شهر عاشوراء لإثبات 'الحقانية الطائفية'.
تستخدم هذه القوى طقوس عاشوراء، والزيارات الدينية والمواكب، كأدوات لإظهار النفوذ الجماهيري، وغالباً ما يتم تضخيم الأرقام بشكل كبير عند الإعلان عن أعداد المشاركين. فعلى سبيل المثال، أعلنت بعض الجهات العام الماضي أن أكثر من 20 مليون شخصشاركوا في إحياء أربعينية الإمام الحسين في مدينة كربلاء. لكن عند مقارنة هذا الرقم بإمكانيات المدينة من حيث البنية التحتية، والخدمات اللوجستية، والمساحة الجغرافية، فلا يمكن بأي حال مقارنتها بمدينة مكة التي تستضيف سنوياً موسم الحج، ويصل عدد المشاركين فيه إلى حوالي مليونين فقط، رغم التنظيم الهائل والإمكانيات المتقدمة المتوفرة هناك.
هذا التفاوت بين الأرقام المعلنة والواقع العملي يشير إلى استثمار سياسي وطائفي واضح في هذه المناسبات، حيث تُستخدم لإبراز القوة والشرعية الزائفة أكثر مما تعكس واقعاً دقيقاً أو موضوعياً.
ومن هنا يمكن الاستنتاج أن هذه المناسبات الدينية تُستغل لإعادة صياغة معادلة المحاصصة السياسية، وتبرير أحقية هذه الجماعات في البقاء في السلطة وتدويرها فيما بينها.
مقتدى الصدر، الذي أجاز مؤخرًا ممارسة طقوس التطبير، لم يعد أمامه خيار بعد أن نأى بنفسه عن المواجهة مع 'الشيطان الأكبر' (الولايات المتحدة) وحليفتها إسرائيل، وامتنع عن اتخاذ موقف صريح من الحرب الإسرائيلية على إيران تحت شعار 'الدفاع عن العراق'، سوى التشبث بهويته الطائفية لتثبيت وجوده السياسي.
فبعد أن هُزم في 'ثورته العاشورائية' عشية تشكيل حكومة السوداني على يد خصومه في 'الإطار التنسيقي'، وأُقصي من تشكيل الحكومة بقرار المحكمة الاتحادية عبر ما عُرف بـ'الثلث المعطّل'، بالإضافة إلى فشله العسكري في معركة المنطقة الخضراء، أصبح يبحث عن كل فرصة لتأكيد حضوره وتجديد هويته السياسية الطائفية، تمهيدًا للعودة إلى السلطة. وقد تجلى ذلك في عدة تحركات، منها: الدفع لتمرير قانون يكرّس عيد الغدير مناسبة رسمية- هو يوم إعلان أحقية علي بن أبي طالب بالخلافة التي جاء في خطبة النبي محمد- السماح لأنصاره باقتحام السفارة السويدية على خلفية حادثة حرق المصحف، تمرير 'قانون السلة الغذائية' تغيير اسم تياره إلى 'التيار الوطني الشيعي'، وأخيرًا، السماح بممارسة التطبير علنًا. كل هذه الخطوات ليست سوى جزء من استراتيجية إثبات الوجود، وإعادة التأكيد على أحقيته في زعامة الطائفة والقيادة السياسية في العراق عبر بوابة الهوية الطائفية.
أما مقاطعة التيار الصدري للانتخابات، والمطالبة في بيانه الأخير بشروط مشاركته من خلال حل المليشيات وانتهاء الفساد والقضاء على الفاسدين، فليست سوى محاولة لذر الرماد في العيون، وامتهان النفاق السياسي بحرفية عالية أسوة بأخوته الأعداء في العملية السياسية. فالميليشيا التابعة له، 'سرايا السلام'، لا تزال تسيطر على مدينة سامراء، حيث مرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري، وتمارس هناك حملات اعتقال واسعة والاخفاء القسري لأهالي المدنية دون أي أوامر قضائية منذ سيطرتها على المدنية تحت عنوان محاربة داعش، وتقوم بمصادرة الممتلكات، و بأعمال قتل وترهيب بحق كل من يعارضها. ومع ذلك، لا نجد أي حكومة متعاقبة تجرؤ على مساءلتها، بل يسود صمتٌ مريب من الجميع.
وفي الوقت الذي يدّعي فيه الصدر محاربة الفساد، كان هو نفسه جزءًا من منظومة الفساد. فقد دعم نوري المالكي خلال انتفاضة شباط 2011، وشارك وزراؤه الخدميون في عمليات فساد ضخمة في عهده. كما ساهم في إنقاذ حكومة حيدر العبادي عام 2015 من قبضة التظاهرات التي رفعت شعارات مثل: 'باسم الدين باگونا الحرامية'، و'من دخل بيها أبو عمامة صار البوك للهامة'.
ولم يكتفِ بذلك، بل أعاد تثبيت العملية السياسية ذاتها من خلال تدخل ميليشياته، التي أضاف لها اسمًا جديدًا آنذاك، 'أصحاب القبعات الزرقاء'، لقمع انتفاضة تشرين وتسهيل تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي.
التيار الصدري وزعيمه اليوم يقفان في انتظار ما ستؤول إليه تداعيات الحرب الإسرائيلية على ايران هذه الحرب، طمعًا في استغلال اللحظة المناسبة للانقضاض على السلطة من جديد.
إن الشعبوية، التي يتّبعها التيار الصدري كمنهج، تتميّز بهوية قومية محلية تُسمّى بالوطنية، وتعتمد في خطابها على استثارة أكثر التصورات والمشاعر الرجعية والمنحطة والمتخلّفة، على غرار التيارات الشعبوية الأخرى في العالم. وما إحياؤه لطقس مثل 'التطبير' سوى جزء من استراتيجية ممنهجة للتأكيد على هويته الطائفية، والتحضير للعودة السياسية في أجواء إقليمية ملتهبة تسير نحو مزيد من الاستقطاب.
إن 'التطبير'، في هذا السياق، ليس مجرد طقس ديني، بل أداة سياسية جهنمية تُستخدم لتكريس التخلف. لذلك، من واجب كل من يسعى إلى كرامة الإنسان والدفاع عن حقوقه أن يرفض هذه الممارسات التي تحطّ من قيمة الإنسان، وتشجّع على الإذلال الذاتي.
إن الدفاع عن كرامة الإنسان – باعتباره أثمن ما في المجتمع – لا يتحقق إلا عبر بناء دولة علمانية حديثة، تقدّم الإنسان على الدين والطائفة والقومية والعرق والجنس، والعقل على الخرافة، والحرية على الطاعة العمياء.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شفق نيوز
منذ ساعة واحدة
- شفق نيوز
دعاية انتخابية مبكرة تربك الأنبار والمفوضية تلوّح بعقوبات واستبعاد مرشحين
شفق نيوز- الأنبار رغم أن موعد انطلاق الحملة الانتخابية الرسمية لم يحن بعد، بدأت ملامح الدعاية الانتخابية تظهر في شوارع مدن الأنبار، مثيرةً حالة من الجدل بين المواطنين والمهتمين بالشأن السياسي، خاصة مع تداول صور لمرشحين لم تُعلن قوائمهم بشكل رسمي حتى الآن. ويأتي ذلك في وقت حذّرت فيه المفوضية العليا المستقلة للانتخابات من أن المخالفات الدعائية قد تكلّف أصحابها غرامات تصل إلى 25 مليون دينار، أو حتى استبعادهم من السباق الانتخابي، حسب طبيعة المخالفة. ويقول حذيفة الخليفة، وهو متابع للشأن السياسي في الأنبار، لوكالة شفق نيوز، إن "ما يجري من حملات دعائية مبكرة يمثل خرقاً واضحاً للضوابط الانتخابية، ويؤثر على مبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين". ويضيف الخليفة، أن "بعض المرشحين بدأوا بترويج صورهم وشعاراتهم منذ الآن، مستغلين غياب الرقابة الفعلية في بعض المناطق، وهو ما يعكس نية مبكرة للالتفاف على القوانين". ويشير إلى أن "هذه الممارسات تخلق بيئة غير عادلة وتضعف ثقة المواطن بالعملية الانتخابية، ويطالب الجهات الرقابية بضرورة التحرك السريع لرصد هذه المخالفات، خاصة أن التأثير المبكر في المزاج العام للناخبين يُعد من أدوات التأثير غير المشروعة"، على حد قوله. من جهته، يؤكد الناشط المدني محمد الكبيسي، "أهمية الالتزام التام بالضوابط التي تفرضها المفوضية"، مشيراً إلى أن "احترام مواعيد الحملة الانتخابية ليس مجرد إجراء إداري، بل هو التزام أخلاقي وقانوني لحفظ نزاهة الانتخابات". ويتابع الكبيسي، حديثه للوكالة، قائلاً إنه "حين يبدأ بعض المرشحين حملاتهم قبل الأوان، فإنهم لا يخرقون القانون فحسب، بل يوجهون رسالة سلبية للناخب بأنهم فوق القانون". كما يضيف أن "المجتمع المدني في الأنبار يراقب هذه التصرفات، ويدعو إلى رصدها وتوثيقها ومحاسبة المسؤولين عنها"، مطالباً المفوضية العليا بأن تكون أكثر حزمًا في تطبيق العقوبات، لأن التغاضي عن مثل هذه المخالفات قد يشجع آخرين على القيام بالأمر نفسه. ويلفت الكبيسي، النظر إلى أن "احترام القانون هو الخطوة الأولى نحو انتخابات نزيهة تعكس إرادة الناس بصدق". ويتنافس في محافظة الأنبار 259 مرشحاً على 15 مقعداً نيابياً في البرلمان العراقي، من بينهم 68 مرشحة من الإناث و191 مرشحاً من الذكور، وسط ترقّب شعبي واسع لمسار الحملات الانتخابية ومدى التزامها بالقانون والضوابط المنظمة. وحددت مفوضية الانتخابات، الثامن من تشرين الأول المقبل، موعداً لبدء الحملات الدعائية لمرشحي انتخابات 2025، وتستمر حتى قبل التصويت الخاص بـ24 ساعة.


حزب الإتحاد الديمقراطي
منذ ساعة واحدة
- حزب الإتحاد الديمقراطي
روشين إبراهيم: تدعو لضرورة الإسراع في تطبيق بنود اتفاق 10 آذار لضمان وحدة الأراضي السورية
شددت الإدارية في لجنة تدريب المرأة بحزب الاتحاد الديمقراطيPYD في مدينة حلب 'روشين إبراهيم' على أهمية الحوار بين المكونات السورية وضرورة الإسراع لمعالجة ملف المهجرين قسراً وتأمين العودة الأمنة لديارهم، داعيةً جميع الأطراف والدول الإقليمية والعالمية أن تلعب دوراً بناءً في تقريب وجهات النظر بين القوى السورية لا أن تكون عاملاً إضافياً للإنقسام. استهلت روشين إبراهيم اللقاء بالحديث عن اتفاق 10 أذار الموقع بين القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية 'مظلوم عبدي' ورئيس المرحلة الانتقالية 'أحمد الشرع'، معتبرة هذا الاتفاق خطوة مهمة نحو الحل السياسي الشامل في سوريا والسبيل الوحيد للحوار بين المكونات السورية ويعزز من فرص بناء دولية ديمقراطية لا مركزية تضمن حقوق الجميع. وأشارت 'إبراهيم' إلى أن اتفاق 10آذار سيفتح المجال لمشاركة السوريين دون إقصاء أي مكون لأن يكون لهم الدور الفعّال في مستقبل البلاد ويصب في مصلحة جميع السوريين، كما أنه يدعم مشروعاً وطنياً جامعاً ينهي الاستبداد ويكرّس مبادئ العدالة والمساواة بين الشرائح السورية، ويمنع سوريا من التقسيم والتشتت والضياع. وألقت الضوء على الاجتماع المنعقد أخيراً بين وفد شمال وشرق سوريا و وفد الحكومة السورية المؤقتة حيث أشارت الإدارة الذاتية مجدداً حرصها الجاد على إنجاح مسار الإتفاق والالتزام ببنوده كأرضية للحوار الوطني وبناء تفاهم سوري – سوري يخدم مصلحة كل المكونات. وأضافت' إن التباطؤ في تنفيذ الاتفاق رغم المبادرة والمرونة التي أبداها وفد شمال وشرق سوريا يُعد مؤشراً خطيراً ويؤكد الحاجة الماسة لموقف وطني مستقل يضع مصلحة الشعب السوري فوق مصلحة أي أجندات خارجية. وتابعت إبراهيم' إن تجاهل إرادة مكونات الشعب السوري وخاصة في مناطق شمال وشرق سوريا هو تجاهل لحقيقة الصمود والنضال المشترك وهو ما يتطلب من كافة الأطراف الدولية أن تلعب دوراً بنّاءً في تقريب وجهات النظر بين القوى السوري لا أن تكون عاملاً إضافياً للإنقسام، ومن الضروري أن يكون الحضور الدولي داعماً للحوار السوري-السوري الجاد الذي سيُبنى على أسس الاعتراف المتبادل والشراكة والعدالة، بعيدًا عن أي أجندات خارجية لا تخدم الاستقرار والسلام في سوريا. وطالبت 'روشين إبراهيم' الحكومة الانتقالية في دمشق بالإسراع في تنفيذ اتفاق 10 آذار لأن استمرار التباطؤ في تطبيق بنوده يزيد من تعقيد المشهد السوري ويُفاقم الأزمات التي أنهكت البلاد على مدى أعوام طويلة، فــ سوريا اليوم خارجة من أزمة طويلة مدمرة أثّرت على وحدة المجتمع، واقتصاده، ونسيجه الوطني، وأي تأخير في الحلول السياسية الجادة سيعيد إنتاج نفس السياسات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، و إنّ عدم تنفيذ الاتفاق سيفتح المجال أمام تصاعد خطر التنظيمات الإرهابية مجدداً ، واستغلالها للفراغ السياسي والأمني والانقسامات خاصة في المناطق السورية المختلفة. وفي ختام اللقاء أكدت على أن تنفيذ اتفاق 10 آذار يجب أن يُرافقه الاعتراف بالإدارة الذاتية كشريك فعّال في مستقبل سوريا، وإطلاق عملية سياسية شاملة تشارك فيها جميع القوى الوطنية، وضرورة الإسراع في معالجة ملف اللاجئين والمهجرين قسراً لإعادتهم إلى ديارتهم بما يضمن حقوقهم وكذلك ضمان حقوق المرأة بالدرجة الأولى وضمان حقوق المكونات الدينية والقومية للوصول إلى سوريا ديمقراطية تعددية وفق مرحلة جديدة من البناء والتلاقي الوطني بعيداً عن العسكرة والإقصاء.


الحركات الإسلامية
منذ ساعة واحدة
- الحركات الإسلامية
سك العملة المعدنية الحوثية الجديدة… سياسة مالية أحادية تعمّق الانهيار الاقتصادي في اليمن
في تصعيد جديد يعكس استهتار جماعة الحوثي بالوضع الاقتصادي والمعيشي المتدهور في اليمن، أعلنت الجماعة عن سك عملة معدنية مزورة جديدة من فئة خمسين ريالًا، وبدء تداولها في مناطق سيطرتها اعتبارًا من 13 يوليو 2025، هذه الخطوة التي قوبلت بردود فعل رسمية غاضبة وتحذيرات واسعة من البنك المركزي اليمني في عدن، ليست مجرد إجراء نقدي عابر، بل تأتي في سياق سلسلة طويلة من السياسات الأحادية التي تتبعها المليشيا بهدف تكريس واقع اقتصادي منفصل، وتمكين شبكتها المالية الخاصة، على حساب الاقتصاد الوطني واستقرار حياة المواطنين. وزير الإعلام اليمني معمر الإرياني قال في تصريح شديد اللهجة إن جماعة الحوثي تحاول من خلال هذا الإجراء "حرف الأنظار عن الكوارث التي قادت البلاد إليها"، مضيفًا أن الجماعة تسعى للتغطية على فشلها وفسادها باستخدام وسائل عبثية، مثل إصدار عملات غير شرعية، في وقت تعيش فيه مناطق سيطرتها حالة من الانهيار الاقتصادي، وتآكل غير مسبوق في القدرة الشرائية للمواطنين. وأشار الوزير إلى أن المشكلة الحقيقية لا تكمن في العملة بحد ذاتها، بل في السياسات الممنهجة التي تتبعها الجماعة، مثل نهب الإيرادات العامة، ومنع تداول العملة الوطنية، وإنشاء اقتصاد موازٍ خارج النظام المصرفي الرسمي، ما أدى إلى تدمير متعمد للبنية التحتية المصرفية في صنعاء وبقية المناطق الخاضعة للحوثيين. الإرياني أضاف أن المليشيا، بدلًا من معالجة جوهر الأزمة الاقتصادية، والتي تبدأ من التوريد المنتظم للإيرادات العامة إلى البنك المركزي، مرورًا بإيقاف الجبايات غير القانونية، وانتهاءً بصرف رواتب الموظفين المنقطعة منذ سنوات، تذهب نحو إصدار هذه العملة المزورة كغطاء لاستمرار سياساتها الأحادية، التي تهدف لتكريس نظام مالي موازٍ ومعزول عن النظام الوطني، وإدامة الانقسام النقدي بين صنعاء وعدن، الذي تستخدمه الجماعة كأداة ابتزاز مباشر بحق المواطنين، وكوسيلة لنهب مدخراتهم والسيطرة على تفاصيل حياتهم اليومية. واعتبر أن إصدار العملة لن يحل الأزمة المعيشية، بل سيعمقها، وسيسهم في تسريع الانهيار الاقتصادي، مؤكدًا أن هذه الخطوة ليست سوى استمرار للسياسات التدميرية التي تنتهجها المليشيا بحق الاقتصاد الوطني، باستخدام المال كأداة حرب واستغلال معاناة الناس لأغراض سياسية وشخصية. من جهته، أصدر البنك المركزي اليمني في عدن بيانًا رسميًا أدان فيه بشدة إعلان مليشيا الحوثي إصدار عملة معدنية جديدة، واصفًا الخطوة بأنها "فعل عبثي وتصعيد ينسف الاتفاق الأممي الخاص بالملف الاقتصادي"، في إشارة إلى إعلان 23 يوليو 2024 الذي تم برعاية دولية وإقليمية، وقضى بجملة من الترتيبات النقدية والمصرفية الهادفة لخفض التوتر الاقتصادي بين الطرفين. وأكد البنك أن هذا الإجراء يُعد استمرارًا للحرب الاقتصادية التي تشنها الجماعة على الشعب اليمني، ويعكس إمعانها في تدمير النظام المالي ونهب مدخرات المواطنين، لتمويل شبكاتها ومجهودها الحربي، دون أي غطاء قانوني أو نقدي. وأشار البنك في بيانه إلى أن الحكومة الشرعية نفذت التزاماتها كاملة بموجب إعلان 23 يوليو، بينما لم تلتزم جماعة الحوثي بأي من البنود، بل إنها تراجعت منذ اليوم الأول عن الإجراءات التي بادرت بها قبل الإعلان، وواصلت التصعيد الاقتصادي بشكل ممنهج، وصولًا إلى إصدار العملة المزورة الأخيرة. ودعا البنك كافة المواطنين، وكذلك البنوك وشركات الصرافة وقطاع الأعمال في مناطق سيطرة الجماعة، إلى تجنب التعامل مع العملة الجديدة باعتبارها مزورة وصادرة عن كيان غير شرعي، محذرًا من أن التعامل بها سيعرّضهم للمساءلة القانونية والعقوبات الدولية، سواء بسبب ترويج عملة مزيفة، أو للتعامل المباشر مع جماعة مصنفة ضمن قوائم الإرهاب الدولي. وفي تأكيد على خطورة الموقف، اعتبر البنك المركزي أن إصدار العملة الجديدة يُعد نسفًا متعمدًا لأي جهود سلام اقتصادي، وانقلابًا واضحًا على تعهدات الجماعة أمام المبعوث الأممي والمجتمع الدولي، محملًا إياها كامل المسؤولية عن التداعيات الخطيرة لهذه السياسات. كما دعا الشركاء الإقليميين والدوليين إلى اتخاذ موقف حازم إزاء هذا التصعيد، والضغط على الجماعة للعودة إلى المسار المتفق عليه وتحمّل التزاماتها. كما طالب رجال المال والأعمال، والبنوك، وشركات الصرافة في صنعاء وبقية المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، باتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية رؤوس أموالهم واستثماراتهم من مخاطر المصادرة أو الضياع، خاصة بعد أن ثبت أن الجماعة تسيطر بالكامل على الشبكات المالية وتستخدمها لأغراض غير مشروعة، داخل اليمن وخارجه. ويرى المراقبون أن خطوة سكّ العملة الجديدة ليست سوى حلقة إضافية في سلسلة من السياسات المالية المتهورة التي تنتهجها الجماعة منذ سنوات، والتي تهدف إلى خلق واقع اقتصادي مستقل يقطع الصلة بالمؤسسات الرسمية، ويمنحها سيطرة مطلقة على مفاصل الحياة الاقتصادية في مناطقها، هذه الخطوة تأتي في وقت لم تُصرف فيه رواتب موظفي الدولة منذ أكثر من سبع سنوات، فيما تستمر الجماعة في جباية الضرائب والرسوم والزكاة من المواطنين والتجار دون أي التزام بالخدمات أو الإنفاق العام، ما يجعل من هذه الإيرادات أداة للثراء الشخصي والتمويل الحربي، كما أن إصدار عملة مزورة لا يتوافق مع أي معايير مصرفية أو قانونية معترف بها دوليًا، ويضع اليمن أمام مخاطر حقيقية تهدد ما تبقى من ثقة في النظام النقدي والقطاع المصرفي. ويرى الخبراء أن الحوثيين يحاولون استخدام هذه العملة كأداة لفرض وقائع سياسية واقتصادية على الأرض، بما يعزز موقفهم التفاوضي لاحقًا في أي محادثات سلام، على حساب المواطن الذي يجد نفسه ضحية انهيار اقتصادي مدمر وانعدام شبه كلي للخدمات. في المقابل، تُظهر الحكومة اليمنية التزامًا واضحًا بالمسارات المتفق عليها دوليًا، لكنها تجد نفسها في موقف دفاعي نتيجة تصعيد الحوثيين المستمر، وسط صمت دولي لم يرتقِ بعد إلى مستوى هذه الانتهاكات، وفي ظل هذا التصعيد النقدي المتعمد، تبقى معاناة اليمنيين مرشحة للتفاقم، وتبقى التحذيرات من كارثة اقتصادية شاملة أكثر واقعية من أي وقت مضى.