logo
من يُشعل حرائق سوريا؟

من يُشعل حرائق سوريا؟

إيطاليا تلغراف١٢-٠٧-٢٠٢٥
إيطاليا تلغراف
د. فيصل القاسم
كاتب واعلامي سوري
في لحظة يُفترض أن تبدأ فيها سوريا مرحلة تعافٍ وبناء بعد أربعة عشر عاماً من الدمار والدماء والخراب والتهجير والتعفيش، تعود إلى الواجهة مشاهد مأساوية لا تخطئها العين: غابات محترقة في الساحل السوري وغيره، انفجارات تهزّ كنائس ومناطق مدنية، وحملات إعلامية موجّهة تهدف لتأجيج الفتن وزرع الشكوك. مشهد يبدو في ظاهره متفرّقاً، لكنه في جوهره مترابط، ويدل على وجود من يعمل بوعي وتصميم على إجهاض أي محاولة للنهوض السوري الحقيقي. فهل حرائق الساحل مجرد صدفة مناخية مثلاً؟
شهدت محافظتا اللاذقية وطرطوس، ولا تزالان، سلسلة حرائق واسعة التهمت آلاف الهكتارات من الغابات والأراضي الزراعية. في كل مرة تُعزى هذه الكوارث إلى «ارتفاع درجات الحرارة»، لكن تواتر الحرائق وتزامنها، مع سرعة انتشارها في مناطق محددة، يطرح تساؤلات منطقية: هل هي مفتعلة ولماذا امتدت من الساحل إلى مدن أخرى كدير الزور وغيرها؟ ومن يقف خلفها؟
الساحل السوري ليس مجرد مساحة جغرافية؛ إنه رئة البلاد الخضراء، وموطن استقرار اجتماعي. إحراقه يبدو ممنهجاً وهو تدمير للموارد، وتهجيرٌ بطيء لسكانه، وضربٌ مباشر لما تبقى من البيئة والبنية الاقتصادية المحلية. ولا ننسى أن كبار رموز النظام الساقط كانوا في السابق متورطين في حرق الساحل وبيع جزء كبير من الأراضي المحترقة لوكالات دولية ربما نتعرف عليها في قادم السنين. ومن السخف القول إن النظام وفلوله لا يمكن أن يحرقوا مناطقهم، فالعصابات الطائفية التي حرقت سوريا كلها ورفعت شعار «الأسد أو نحرق البلد» لن تتوانى مطلقاً عن حرق أي شيء خدمة لمصالحها أو مصالح مشغليها، فمتى كان العملاء والخونة وطنيين أو يخافون على أهلهم ووطنهم؟ لا ننسى أن آل الأسد ضحوا بمئات الألوف من العلويين على مذبح نظامهم الساقط ثم هربوا وتركوهم يواجهون النار لوحدهم، وبالتالي لا يضيرهم أبداً أن يحرقوا البشر والشجر في الساحل.
أما تفجيرات دور العبادة فهي رسائل دم لإعادة فتح جروح الطائفية، فتفجير كنيسة أو الاعتداء على مزار ديني ليس مجرد «حدث أمني»، بل هو بيان سياسي ملوث بالدم، يُراد به إعادة إشعال نار الطائفية والتشكيك في إمكانية العيش المشترك. هذه الأفعال تأتي متزامنة مع أي خطوة إيجابية نحو البناء والنهضة والحوار والمصالحة الوطنية.
سوريا لطالما كانت نموذجاً معقّداً للتعدد، لكن التعدد لم يكن يوماً تهديداً لها، بل سرّ قوتها. واليوم، هناك من يعمل لنسف هذا التعايش، بإشعال الفتنة مجدداً، وتحويل الرموز الدينية إلى ساحات صراع لا منارات إيمان. ثم يأتي إعلام الفتنة وهو بمثابة منابر مأجورة وسُمٌّ زعاف مغلف بالشعارات. ولا يقلّ خطر الإعلام الموجّه عن خطر النيران والانفجارات. فما إن تقع حادثة، حتى تُفتح أبواب جهنم على شاشات وصفحات ومنصات، تُعزز الانقسام وتبث التحريض. بعض المنصات تنشط بتمويل خارجي وتوجيه سياسي واضح، تستخدم الخطاب الطائفي والتضليل والتخوين أدواتٍ لإرباك الرأي العام، وضرب الثقة بين الناس والدولة، وبين المكونات الاجتماعية بعضها ببعض. هذا النوع من الإعلام لا يسأل «ما الذي حدث؟»، بل يسأل «كيف نوظفه؟» لخدمة الفوضى والتشويش على أي مشروع إصلاحي أو وطني.
من المستفيد من وضع العصي في عجلات سوريا الجديدة يا ترى؟ حين نربط الحرائق المتكررة، والتفجيرات المشبوهة، والخطاب الطائفي المتصاعد، نجد أننا أمام مشروع تخريبي ممنهج، يهدف لإيقاف عجلة سوريا قبل أن تدور مجدداً. وحتى بعض أصوات المعارضة الداخلية التي ترفع شعارات وطنية زائفة مرتبطة بجهات عدوة معروفة لا تريد الخير لسوريا والسوريين، فكيف يدعي البعض الوطنية بينما ينسقون مع أعداء سوريا ويتغطون بدعمهم لهم ولعصاباتهم ويعملون على تشكيل إقطاعيات وتقسيم البلد إلى كانتونات؟ من يقف خلف هذا التخريب والتفكيك والتشويش يا ترى؟ لا شك أن هناك تنظيمات إرهابية ترفض الاعتراف بأي استقرار. قوى إقليمية ترى في سوريا القوية تهديداً لنفوذها.
دول تريد سوريا ضعيفة ومُقسّمة. أطراف داخلية تخشى فقدان امتيازاتها وإقطاعياتها وتعمل لإطالة أمد الانقسام. إعلام مأجور يعيش على إشعال الأزمات لا تغطيتها. هؤلاء جميعاً يوحّدهم هدف واحد: منع سوريا من النهوض بسيادتها، وكرامتها، ووحدتها، حتى وإن رفعوا مطالب وشعارات زائفة وكاذبة مغلفة بالوطنية. وهل يمكن أن ننسى فلول النظام والمتضررين من تحرير سوريا وهم مازالوا مختبئين في كل حدب وصوب ويحاولون علناً تفجير الأوضاع في الساحل وغيره لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
في سوريا اليوم إذاً: هل هي معركة الوعي أم معركة السلاح؟ ما يجري ليس حرباً تقليدية، بل حرب على العقول والنفوس. من يسقط في فخ الطائفية والتشكيك والخوف، يخسر قبل أن يُمسك سلاحاً. ومن يصمد بالوعي والعقل والرفض الصريح للفتنة، يساهم في إعادة بناء الوطن. المعركة اليوم هي معركة رواية: من يكتب تاريخ سوريا بعد الحرب؟ هل هم من يشعلون النار؟ أم من يُطفئونها ويزرعون بدلامنها زيتونة؟
في الختام… من يملك الأرض يزرعها، ومن يملك الوعي يحميه، وأمام كل هذه التحديات، يبقى الرهان على وعي السوريين أنفسهم. فالنار مهما اشتعلت، لن تُبقي شيئاً إذا لم يُطفئها أبناء الوطن. والفتنة مهما صرخت، لن تجد من يسمعها إذا ساد العقل والحكمة.
سوريا لا تحتاج مزيداً من الضحايا، بل مزيداً من البنّائين، من رجال الإطفاء، ومن يحمون الكنائس والمساجد، ومن يصونون الوعي في وجه الإعلام الأسود، فمن أراد النهوض، لا يلتفت إلى الهاوية، بل يصعد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
التالي
الحرب السودانية بين الأمل والسلام
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

سوريا إلى أين: ليست تحليلات بل معلومات
سوريا إلى أين: ليست تحليلات بل معلومات

إيطاليا تلغراف

timeمنذ 6 أيام

  • إيطاليا تلغراف

سوريا إلى أين: ليست تحليلات بل معلومات

إيطاليا تلغراف د. فيصل القاسم كاتب واعلامي سوري ما تواجهه سوريا اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل مرحلة مفصلية غير مسبوقة في تاريخها الحديث. فالأخطار التي تقترب منها تُنذر بكوارث حقيقية تفوق التصوّر، وتضع الجميع أمام مسؤوليات جسيمة. المؤشرات والمعلومات التي أملكها تؤكد أن سوريا مستهدفة، وأن هناك مخططات جهنمية جاهزة للتنفيذ، تعتمد بالكامل على تأجيج الصراعات الداخلية والاقتتال بين السوريين أنفسهم. من هنا، فإن أولوية المرحلة يجب أن تكون «الاحتواء، ثم الاحتواء، ثم الاحتواء». لا مجال الآن للمزايدات أو المغامرات الدموية، ولا لأي اندفاع أهوج نحو التصعيد، فكل خطوة في هذا الاتجاه تصب في مصلحة أعداء سوريا، الذين يتحينون الفرصة للدخول من بوابة الفوضى بذريعة «إطفاء الحرائق»، بينما هم في الحقيقة يسعون لاستباحة الأرض السورية والسيطرة على قرارها ومستقبلها. المعلومات المؤكدة، وأكرر، معلومات وليست تحليلات، تشير إلى أن هناك جهات كثيرة تتربص بسوريا وتنتظر لحظة الانفجار الداخلي لتُسقط ما تبقى من بنيان الدولة. كل المخططات الموضوعة حالياً تعتمد على تفجير الداخل السوري، وكل تحريض أو تجييش أو دعوات للانتقام، أو تحشيد للرأي العام، تمضي مباشرة في هذا الاتجاه. وعلينا أن ننتبه: التناحر الداخلي هو الوقود الذي يحتاجونه لتفعيل مشاريعهم. ولهذا، فإن التهدئة اليوم ليست خياراً ناعماً أو ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية. المطلوب فوراً هو ضبط النفس، إسكات الأصوات المتطرفة، ولجم الرؤوس الحامية التي تدفع البلاد دفعاً نحو المحرقة. هؤلاء، سواء عن قصد أو جهل، يسيرون في طريق يؤدي إلى كارثة جماعية لن ينجو منها أحد، وسيجرّون خلفهم الناس إلى حافة الهاوية. ليس من البطولة أن يُسفك الدم السوري على أيدي السوريين. دم السوري حرام على السوري. وكل من يرفع اليوم شعارات الثأر والانتقام واستباحة مناطق سورية أخرى سيلتهمه الحريق أولاً، ومعلوماتي المؤكدة أن الذين يصفقون للفصائل التي تهدد الآخرين سيبكون عليها قريباً جداً لأنها ذاهبة إلى فخ مُعد لها بدهاء. هذا ما تؤكده المعلومات التي لديّ، لا التحليل ولا التخمين. ما هو قادم في حال استمرار هذا المسار لن يكون مجرد مواجهة، بل محرقة شاملة، خاصة لتلك الجماعات التي تعتقد أنها في موقع القوة. أما المفاجأة الأخطر، فهي أن بعض الجهات التي كان يُظن أنها «مؤيدة» قد تنقلب بسرعة غير متوقعة، ومعطيات الساحة تشير إلى أن دمشق نفسها أصبحت هدفاً مباشراً في الحسابات المقبلة. نعم، العاصمة، بقلبها ومحيطها، هي الهدف التالي بسرعة صاعقة، ما لم يُضبط الإيقاع السياسي والأمني فوراً. لكل من يملك تأثيراً أو صوتاً أو وعياً: المطلوب الآن هو التروي والحذر في كل خطوة. احتواء الأوضاع أفضل ألف مرة من تسعيرها. فكل تصعيد جديد يعني خطوة نحو الكارثة. القادم مخيف، مروّع، لا يُشبه شيئاً من الذي عرفناه سابقاً. نحن نواجه في الواقع لعبة توريط أصبحت مفضوحة للقاصي والداني، والمشكلة أننا نسير بأقدامنا إلى الفخاخ المنصوبة أمامنا، وأن الذين يتظاهرون بأنهم مع سوريا ويريدون لها الاستقرار والازدهار، قد يكون هدفهم العكس تماماً. من جهة يطالبون بوحدة الأراضي السورية، وعلى أرض الواقع يدفعون السوريين إلى الاحتراب الداخلي، فيشجعون هذا الطرف على المقاومة، بينما يعطون الضوء الأخضر للحكومة للتدخل، ثم ينهالون عليها بالقصف. كلنا سمع المبعوث الأمريكي وهو يهاجم حتى اتفاقية سايكس بيكو في معرض دفاعه عن وحدة الأراضي السورية، لكن في الوقت نفسه نرى إسرائيل تنقلب على كل التطمينات الأمريكية وتضرب في قلب دمشق، وتتلاعب بالجميع. كل السوريين اليوم في لعبة الأمم مجرد أدوات ووقود لمشاريع الآخرين، لهذا يجب أن نكون جميعاً حذرين في كل خطوة. كم هو ساذج ذاك الذي يصفق للسوريين وهم يهددون بعضهم البعض بالغزوات. كلنا شاهد التطبيل والتزمير لبعض الفصائل وهي تتهدد السويداء على مواقع التواصل متناسياً أن المتقاتلين في النهاية سوريون. هل يسعدكم يا ترى حرق آلاف البيوت والمحلات التجارية في السويداء ونهب محتوياتها، وقتل آلاف الأبرياء والتنكيل بالمدنيين وإرهابهم ودق إسفين تاريخي بين السوريين؟ هل يسعدكم تهجير السوريين على أيدي بعضهم البعض؟ هل يسعدكم سقوط المئات من قوات الأمن؟ لا شك أن هناك جهات كثيرة شريرة متورطة في هذه اللعبة القذرة، لكن الأهم ألا نقع في شراكها وتحقيق أهدافها. كل السوريين يريدون اليوم أن يحل الأمن والاستقرار والسلام في ربوع البلاد. كل السوريين يريدون حصر السلاح في أيدي الدولة. كل السوريين يمقتون فوضى السلاح، لهذا من الخطأ القاتل أن تحاول ضبط السلاح في منطقة، ثم تسمح لمناطق أخرى بامتلاك كل أنواع السلاح لاستخدامه ضد بقية السوريين. هذا ينعكس سلباً على الشعب كله، ويجعله يتردد في التخلي عن سلاحه. كيف تقبل منطقة بتسليم سلاحها إذا كانت منطقة أخرى تتباهى بسلاحها وتهدد به بقية السوريين والكل يصفق لها. صدقوني هذا خطأ قاتل يضر بنا جميعاً كسوريين وينعكس سلباً بالدرجة الاولى على صورة الحكومة، فهي بذلك كمن يطلق النار على قدميه. والمضحك أكثر أن هناك فصائل تقطع مئات الكيلومترات من أقاصي سوريا لتواجه أحد المكونات السورية، بينما هي في الحقيقة ترزح في مناطقها تحت احتلال فصيل داخلي آخر ينكل بها ليل نهار ويحتل ثلث الأراضي السورية ويتحكم بثرواتها. يا له من مشهد كوميدي هزلي. طبيب يداوي الناس وهو عليل. من الخطأ الفادح التغاضي عن هذه الهيستريا، بل يجب وقفها عند حدها فوراً لأنها ستكون وبالاً على الدولة قبل أن تكون وبالاً على نفسها وبقية السوريين. وللعلم فإن المتربصين بسوريا سعداء جداً بهذه المأساة الوطنية وينتظرون تطوراتها المرعبة كي يحققوا مصالحهم على دماء السوريين وأشلائهم. ختاماً، هذه ليست نبوءات، ولا مقاربات تحليلية. هذه معلومات مؤكدة من قلب المشهد. والمخلص ليس من يصفق لك اليوم، بل من يقول لك الحقيقة حتى لو كانت مرّة. وصديقك من صدقك… لا من صدّقك. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا لتغراف السابق ثقافة البوتوكس: جدليّة الجمال المصنّع بين تشييء الجسد وتشوّه التنميّة

ليس تحالف "أقليات" بل نصرة المظلومين بعضهم بعضاً
ليس تحالف "أقليات" بل نصرة المظلومين بعضهم بعضاً

إيطاليا تلغراف

time١٧-٠٧-٢٠٢٥

  • إيطاليا تلغراف

ليس تحالف "أقليات" بل نصرة المظلومين بعضهم بعضاً

إيطاليا تلغراف سوسن جميل حسن كاتبة وروائية سورية. تردّد مصطلح 'تحالف الأقليات' كثيراً في الفترة الماضية بلسان مسؤولين أو مثقّفين محسوبين على السلطة. في الواقع، ليس تحالف أقلّيات ما نراه من مواقف بعض شرائح المجتمع أو مكوّنات الشعب تجاه بعض الأحداث، إنما تعاطف ونصرة بعضهم بعضاً في وجه ما يرونه ظلماً وتعدّياً على هُويَّتهم الخاصّة. من السويداء، كتبت الصحافية كريستين ياسين شاهين، وجدّها الشيخ الثمانينيّ الذي ظهر في الفيديو يحلق أحدُ المسلحين شاربه بتشفٍّ وقح: 'جدّي استشهد. شيخ طاهر أبيض الذقن عمره ما انمدّت إيدو على حدا… حلقولوا شواربه قبل ما يقتلوه، لأنه ما سلّم بيته. لأنه ناطر يدفن حفيده قبل ما يفلّ'. هذا نموذج من فيديوهات كثيرة فاضت بها فضاءات التواصل الاجتماعي عن العنف الذي يمارس في السويداء، والتشفّي وإذلال الضعيف الأعزل من مقاتل يحمل سلاحاً. قتل، عنف، إذلال بطرائق متنوّعة، مع تأكيد على الكراهية الطائفية، وذلك بتوجيه النعت كما لو أنه شتيمة: 'درزي'. شاهدنا أفعالاً مشابهة في مجازر الساحل السوري في مارس/ آذار الماضي بحقّ المدنيين، والكبار في السنّ: 'عوّي ولاك'، أو 'نصيري خنزير'. عدا مشاهد الجثث والتنكيل بها، بتصوير منفّذي المجازر أنفسهم. هذه الفيديوهات ليست وليدة اليوم، بل كثيراً ما قامت بها الفصائل والمليشيات الداعمة لنظام الأسد بحقّ الشعب السوري في أثناء المواجهات الدامية خلال سنوات الثورة والحرب. ليس نظام الأسد وحده، بل عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أيضاً، صوّروا عمليات الذبح التي نفّذوها بحقّ من يصنّفونهم 'أعداءً'، وشاهدنا أيضاً عناصر من جبهة النصرة، وبعض الفصائل المتطرّفة، ينفّذون أحكام إعدام أو تنكيلاً أو جلداً أو رمياً بالرصاص، في حقّ أفراد. يمكن تصنيف هذه الممارسات بأنها إحدى أدوات الأنظمة الشمولية والمتفرّدة بالسلطة، بحكم القوة، في دعم أجنداتها وآلتها الإعلامية، وإرسال رسائل القوة والهيمنة إلى أتباعها وأعدائها. إن دلّ هذا السلوك على شيء، فهو أن هناك معضلةً مترّسخةً لدى الشعب السوري، ناجمة عن ثقافة تراكمت عبر الزمن، كما الطبقات الرسوبية، هذه الثقافة التي التصقت بالوعيَين الجمعي والفردي هي ما يحتاج إلى تفكيك بالدرجة الأولى. كتب الصديق عمر قدور منشوراً في صفحته بـ'فيسبوك' سأل فيه، لمقتضيات بحثية، عن أول معتقل في عهد كلّ من الرؤساء الذين حكموا سورية. وأول قتيل تحت التعذيب في عهد كلّ رئيس. والرؤساء الذين عينوا أقاربهم في مناصب. والرؤساء الذين ارتكبوا مجازر. ومتى. والرؤساء الذين تم في عهدهم الاعتداء على الحريات الشخصية أو الجماعية؛ الرؤساء الذين استخدموا الجيش في الداخل. وطلب ممن لديه هذه المعلومات أن يكتب بحثاً مقارناً عن مختلف العهود السورية منذ الاستقلال. ساهم هذا المنشور بشكل كبير في تجميع أفكاري، بينما كنت أتابع مساهمات روّاد مواقع التواصل الاجتماعي، والفيديوهات التي يشاركونها، وأقرأ المنشورات والآراء، وأتابع الأخبار والصحف، وبعدما لاحظت استخدام الأدوات نفسها، لا فارق بين أمس واليوم، وكأنّ النظام البائد لم يسقط، إنّما ما تغيّر لون النظام ليس أكثر. حجم الكراهية ومستواها وتجلياتها بالممارسات والسلوك العدائي والانتقامي يفوق التصوّر والاحتمال عاد سؤال قديم كنت قد أهملته أمام تسارع الأحداث، يحتلّ شاشة وعيي: هل نحن (شعوب هذه المنطقة) مسؤولون عمّا وصلنا إليه، ومسؤولون قبل كلّ شيء عن وصول الأنظمة التي حكمتنا هذه العقود كلّها، لا بل هذه القرون كلّها، أنظمة الاستبداد والقمع، إلى الحكم، أم أن هذه الأنظمة الشمولية المتسلّطة هي التي أوصلتنا، شعباً وجماعاتٍ، إلى ما نحن عليه من الاستنقاع والعيش في الماضي ووفق نزعاته؟… ليس نظام الأسد وحده، بكلّ جرائمه وشموليّته وقمعه، الذي أوصل الشعب إلى هذا المستوى من كراهية بعضه تجاه بعض، أو إلى تفضيل الانتماء الديني أو القومي أو العرقي على الانتماء إلى الوطن، بل هناك إرث طويل من التبعية للعقائد والفِكَر والشخصيات التاريخية التي رفعتها الجماعات إلى مراتب القدسية، ونصّبتها أصناماً في بالها. حجم الكراهية ومستواها وتجلياتها بالممارسات والسلوك العدائي والانتقامي يفوق التصوّر والاحتمال، لكن ما يحزّ بالنفس، في الدرجة الأولى، أن ينزلق المثقّفون إلى هذه الحلبة من الصراعات والكيديّات، وأن يروا الواقع بعين أيّ فرد عادي من أبناء هذا الشعب التابع لفِكَر وعقائد لا تصلح في بناء دولة حديثة قادرة على البقاء والنمو، خصوصاً في عصرنا هذا، عصر الحقوق الإنسانية والثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. ليست السويداء تجّار مخدرات ومهرّبي كبتاغون، أو مجموعةً بشريةً انفصاليةً تنشد الحماية من دولة كانت (وما زالت) في وجدان الشعب السوري عدواً كبيراً، منذ إعلان تأسيسها في 1948، فحسب، إنها بقعة مباركة من الأرض السورية، ولشعبها تاريخه وحاضره اللذان يدعوان إلى الفخر، من ناحية الانتماء الوطني والوعي السياسي، ومساهمته الفاعلة في ازدهار الحياة الثقافية بكلّ جوانبها في سورية. هذه هي السويداء، وهؤلاء هم السوريون الدروز، ساكني تلك البقعة من الأرض السورية. تحتاج المكوّنات السورية اعترافاً بهُويَّتها، ومعاملة أفرادها مواطنين متساوين في الحقوق، لا وفق 'أقليات وأغلبية' لو أمعن بعض مثقّفي سورية النظر مدّة أطول، وتمهّلوا قبل أن يطلقوا أحكامَ قيمةٍ أو أحكاماً قطعيةً تجاه بعض مكوّنات الشعب السوري، التي تعرّضت بشكل أساس للتنكيل والاعتداء والتهجير من مناطقها، لرأوا أن ما يحتاج إليه أفراد هذه المكوّنات هو الاعتراف بهويتهم ومشاركتهم في بناء سورية بعد سقوط نظام الطاغية، ومعاملتهم مواطنين متساوين في الحقوق من دون تمييز من الدولة وحكومتها الجديدة، لا أن يكون التداول الرسمي والعام على أساس أقليات وأغلبية، فيطغى مكوّن واحد على باقي المكوّنات، عندها يمكن قبول الرأي بأن القوة يجب أن تكون بيد الدولة فحسب، وأن أيَّ سلاح خارج هذا النطاق مرفوض، وإلا سيبقى السؤال العنيد مشهراً مثل سيف في وجه التضليل: أين الدولة؟ هل بالفعل تشكّلت دولة في سورية بعدما سقط النظام البائد فترك دولةً منهارةً اجتماعياً وهياكلَ ومؤسّسات؟ في الواقع، لم توضع المداميك الأساسية في بناء سورية الحديثة بعد، لذلك نرى الحذر والقلق من المستقبل يخيّم على المكوّنات التي تصنّف أقلية من هذا المنطلق الماضوي، خصوصاً في غياب الموقف الرسمي من تجاوزات وانتهاكات كثيرة ترتكبها بعض الجماعات أو الأشخاص، منهم من هم محسوبون على النظام أيضاً، وهذا ما أشار إليه تقرير 'رويترز' عن مجازر الساحل، وكثير من التقارير والتحقيقات حول ما تعانيه هذه الجماعة من تضييق واعتداء، وانتهاك لنسائها. من دون أن يصدر عن الحكومة أيُّ تبرير لتأخّر لجنة التحقيق عن تقديم (أو إعلان) تقريرها، وما نراه يتكرّر اليوم في السويداء، في وقت تجري فيه المفاوضات بين الإدارة السورية وإسرائيل. وسم شاع في صفحات التواصل الاجتماعي 'أنا درزي'، تضامناً مع الإخوة الدروز في محنتهم، وتأييداً لمطالبهم بدولة ديمقراطية حرّة تحفظ حقّ جميع مواطنيها من دون تمييز، وهذا مطلب كثيرين من الشعب السوري، بجميع مكوّناته، الأغلبية والأقلية. بينما كان شعار المظاهرات الداعمة للقوات الحكومية التي دخلت إلى المحافظة من أجل حماية 'السلم الأهلي' ينادي بأنهم مع السويداء. هناك فرق في المقصد والحمولة المعنوية للشعارَين، فأن يقول الفرد 'أنا درزي'، فهو يعلن بكلّ وضوح أنه مع الإنسان من هذه المجموعة حتى يحصل على حقوقه المطلوبة في المواطنة، أمّا شعار 'مع السويداء'، فلا يحمل إلا معنى شمولياً غامضاً، السويداء ليست كياناً جغرافياً فحسب، إنها فضاء إنساني بكل أشكال الإبداع الإنساني. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف

من يُشعل حرائق سوريا؟
من يُشعل حرائق سوريا؟

إيطاليا تلغراف

time١٢-٠٧-٢٠٢٥

  • إيطاليا تلغراف

من يُشعل حرائق سوريا؟

إيطاليا تلغراف د. فيصل القاسم كاتب واعلامي سوري في لحظة يُفترض أن تبدأ فيها سوريا مرحلة تعافٍ وبناء بعد أربعة عشر عاماً من الدمار والدماء والخراب والتهجير والتعفيش، تعود إلى الواجهة مشاهد مأساوية لا تخطئها العين: غابات محترقة في الساحل السوري وغيره، انفجارات تهزّ كنائس ومناطق مدنية، وحملات إعلامية موجّهة تهدف لتأجيج الفتن وزرع الشكوك. مشهد يبدو في ظاهره متفرّقاً، لكنه في جوهره مترابط، ويدل على وجود من يعمل بوعي وتصميم على إجهاض أي محاولة للنهوض السوري الحقيقي. فهل حرائق الساحل مجرد صدفة مناخية مثلاً؟ شهدت محافظتا اللاذقية وطرطوس، ولا تزالان، سلسلة حرائق واسعة التهمت آلاف الهكتارات من الغابات والأراضي الزراعية. في كل مرة تُعزى هذه الكوارث إلى «ارتفاع درجات الحرارة»، لكن تواتر الحرائق وتزامنها، مع سرعة انتشارها في مناطق محددة، يطرح تساؤلات منطقية: هل هي مفتعلة ولماذا امتدت من الساحل إلى مدن أخرى كدير الزور وغيرها؟ ومن يقف خلفها؟ الساحل السوري ليس مجرد مساحة جغرافية؛ إنه رئة البلاد الخضراء، وموطن استقرار اجتماعي. إحراقه يبدو ممنهجاً وهو تدمير للموارد، وتهجيرٌ بطيء لسكانه، وضربٌ مباشر لما تبقى من البيئة والبنية الاقتصادية المحلية. ولا ننسى أن كبار رموز النظام الساقط كانوا في السابق متورطين في حرق الساحل وبيع جزء كبير من الأراضي المحترقة لوكالات دولية ربما نتعرف عليها في قادم السنين. ومن السخف القول إن النظام وفلوله لا يمكن أن يحرقوا مناطقهم، فالعصابات الطائفية التي حرقت سوريا كلها ورفعت شعار «الأسد أو نحرق البلد» لن تتوانى مطلقاً عن حرق أي شيء خدمة لمصالحها أو مصالح مشغليها، فمتى كان العملاء والخونة وطنيين أو يخافون على أهلهم ووطنهم؟ لا ننسى أن آل الأسد ضحوا بمئات الألوف من العلويين على مذبح نظامهم الساقط ثم هربوا وتركوهم يواجهون النار لوحدهم، وبالتالي لا يضيرهم أبداً أن يحرقوا البشر والشجر في الساحل. أما تفجيرات دور العبادة فهي رسائل دم لإعادة فتح جروح الطائفية، فتفجير كنيسة أو الاعتداء على مزار ديني ليس مجرد «حدث أمني»، بل هو بيان سياسي ملوث بالدم، يُراد به إعادة إشعال نار الطائفية والتشكيك في إمكانية العيش المشترك. هذه الأفعال تأتي متزامنة مع أي خطوة إيجابية نحو البناء والنهضة والحوار والمصالحة الوطنية. سوريا لطالما كانت نموذجاً معقّداً للتعدد، لكن التعدد لم يكن يوماً تهديداً لها، بل سرّ قوتها. واليوم، هناك من يعمل لنسف هذا التعايش، بإشعال الفتنة مجدداً، وتحويل الرموز الدينية إلى ساحات صراع لا منارات إيمان. ثم يأتي إعلام الفتنة وهو بمثابة منابر مأجورة وسُمٌّ زعاف مغلف بالشعارات. ولا يقلّ خطر الإعلام الموجّه عن خطر النيران والانفجارات. فما إن تقع حادثة، حتى تُفتح أبواب جهنم على شاشات وصفحات ومنصات، تُعزز الانقسام وتبث التحريض. بعض المنصات تنشط بتمويل خارجي وتوجيه سياسي واضح، تستخدم الخطاب الطائفي والتضليل والتخوين أدواتٍ لإرباك الرأي العام، وضرب الثقة بين الناس والدولة، وبين المكونات الاجتماعية بعضها ببعض. هذا النوع من الإعلام لا يسأل «ما الذي حدث؟»، بل يسأل «كيف نوظفه؟» لخدمة الفوضى والتشويش على أي مشروع إصلاحي أو وطني. من المستفيد من وضع العصي في عجلات سوريا الجديدة يا ترى؟ حين نربط الحرائق المتكررة، والتفجيرات المشبوهة، والخطاب الطائفي المتصاعد، نجد أننا أمام مشروع تخريبي ممنهج، يهدف لإيقاف عجلة سوريا قبل أن تدور مجدداً. وحتى بعض أصوات المعارضة الداخلية التي ترفع شعارات وطنية زائفة مرتبطة بجهات عدوة معروفة لا تريد الخير لسوريا والسوريين، فكيف يدعي البعض الوطنية بينما ينسقون مع أعداء سوريا ويتغطون بدعمهم لهم ولعصاباتهم ويعملون على تشكيل إقطاعيات وتقسيم البلد إلى كانتونات؟ من يقف خلف هذا التخريب والتفكيك والتشويش يا ترى؟ لا شك أن هناك تنظيمات إرهابية ترفض الاعتراف بأي استقرار. قوى إقليمية ترى في سوريا القوية تهديداً لنفوذها. دول تريد سوريا ضعيفة ومُقسّمة. أطراف داخلية تخشى فقدان امتيازاتها وإقطاعياتها وتعمل لإطالة أمد الانقسام. إعلام مأجور يعيش على إشعال الأزمات لا تغطيتها. هؤلاء جميعاً يوحّدهم هدف واحد: منع سوريا من النهوض بسيادتها، وكرامتها، ووحدتها، حتى وإن رفعوا مطالب وشعارات زائفة وكاذبة مغلفة بالوطنية. وهل يمكن أن ننسى فلول النظام والمتضررين من تحرير سوريا وهم مازالوا مختبئين في كل حدب وصوب ويحاولون علناً تفجير الأوضاع في الساحل وغيره لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. في سوريا اليوم إذاً: هل هي معركة الوعي أم معركة السلاح؟ ما يجري ليس حرباً تقليدية، بل حرب على العقول والنفوس. من يسقط في فخ الطائفية والتشكيك والخوف، يخسر قبل أن يُمسك سلاحاً. ومن يصمد بالوعي والعقل والرفض الصريح للفتنة، يساهم في إعادة بناء الوطن. المعركة اليوم هي معركة رواية: من يكتب تاريخ سوريا بعد الحرب؟ هل هم من يشعلون النار؟ أم من يُطفئونها ويزرعون بدلامنها زيتونة؟ في الختام… من يملك الأرض يزرعها، ومن يملك الوعي يحميه، وأمام كل هذه التحديات، يبقى الرهان على وعي السوريين أنفسهم. فالنار مهما اشتعلت، لن تُبقي شيئاً إذا لم يُطفئها أبناء الوطن. والفتنة مهما صرخت، لن تجد من يسمعها إذا ساد العقل والحكمة. سوريا لا تحتاج مزيداً من الضحايا، بل مزيداً من البنّائين، من رجال الإطفاء، ومن يحمون الكنائس والمساجد، ومن يصونون الوعي في وجه الإعلام الأسود، فمن أراد النهوض، لا يلتفت إلى الهاوية، بل يصعد. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف التالي الحرب السودانية بين الأمل والسلام

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store