
سوريا إلى أين: ليست تحليلات بل معلومات
د. فيصل القاسم
كاتب واعلامي سوري
ما تواجهه سوريا اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل مرحلة مفصلية غير مسبوقة في تاريخها الحديث. فالأخطار التي تقترب منها تُنذر بكوارث حقيقية تفوق التصوّر، وتضع الجميع أمام مسؤوليات جسيمة. المؤشرات والمعلومات التي أملكها تؤكد أن سوريا مستهدفة، وأن هناك مخططات جهنمية جاهزة للتنفيذ، تعتمد بالكامل على تأجيج الصراعات الداخلية والاقتتال بين السوريين أنفسهم.
من هنا، فإن أولوية المرحلة يجب أن تكون «الاحتواء، ثم الاحتواء، ثم الاحتواء». لا مجال الآن للمزايدات أو المغامرات الدموية، ولا لأي اندفاع أهوج نحو التصعيد، فكل خطوة في هذا الاتجاه تصب في مصلحة أعداء سوريا، الذين يتحينون الفرصة للدخول من بوابة الفوضى بذريعة «إطفاء الحرائق»، بينما هم في الحقيقة يسعون لاستباحة الأرض السورية والسيطرة على قرارها ومستقبلها.
المعلومات المؤكدة، وأكرر، معلومات وليست تحليلات، تشير إلى أن هناك جهات كثيرة تتربص بسوريا وتنتظر لحظة الانفجار الداخلي لتُسقط ما تبقى من بنيان الدولة. كل المخططات الموضوعة حالياً تعتمد على تفجير الداخل السوري، وكل تحريض أو تجييش أو دعوات للانتقام، أو تحشيد للرأي العام، تمضي مباشرة في هذا الاتجاه. وعلينا أن ننتبه: التناحر الداخلي هو الوقود الذي يحتاجونه لتفعيل مشاريعهم.
ولهذا، فإن التهدئة اليوم ليست خياراً ناعماً أو ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية. المطلوب فوراً هو ضبط النفس، إسكات الأصوات المتطرفة، ولجم الرؤوس الحامية التي تدفع البلاد دفعاً نحو المحرقة. هؤلاء، سواء عن قصد أو جهل، يسيرون في طريق يؤدي إلى كارثة جماعية لن ينجو منها أحد، وسيجرّون خلفهم الناس إلى حافة الهاوية.
ليس من البطولة أن يُسفك الدم السوري على أيدي السوريين. دم السوري حرام على السوري. وكل من يرفع اليوم شعارات الثأر والانتقام واستباحة مناطق سورية أخرى سيلتهمه الحريق أولاً، ومعلوماتي المؤكدة أن الذين يصفقون للفصائل التي تهدد الآخرين سيبكون عليها قريباً جداً لأنها ذاهبة إلى فخ مُعد لها بدهاء. هذا ما تؤكده المعلومات التي لديّ، لا التحليل ولا التخمين. ما هو قادم في حال استمرار هذا المسار لن يكون مجرد مواجهة، بل محرقة شاملة، خاصة لتلك الجماعات التي تعتقد أنها في موقع القوة.
أما المفاجأة الأخطر، فهي أن بعض الجهات التي كان يُظن أنها «مؤيدة» قد تنقلب بسرعة غير متوقعة، ومعطيات الساحة تشير إلى أن دمشق نفسها أصبحت هدفاً مباشراً في الحسابات المقبلة. نعم، العاصمة، بقلبها ومحيطها، هي الهدف التالي بسرعة صاعقة، ما لم يُضبط الإيقاع السياسي والأمني فوراً.
لكل من يملك تأثيراً أو صوتاً أو وعياً: المطلوب الآن هو التروي والحذر في كل خطوة. احتواء الأوضاع أفضل ألف مرة من تسعيرها. فكل تصعيد جديد يعني خطوة نحو الكارثة. القادم مخيف، مروّع، لا يُشبه شيئاً من الذي عرفناه سابقاً.
نحن نواجه في الواقع لعبة توريط أصبحت مفضوحة للقاصي والداني، والمشكلة أننا نسير بأقدامنا إلى الفخاخ المنصوبة أمامنا، وأن الذين يتظاهرون بأنهم مع سوريا ويريدون لها الاستقرار والازدهار، قد يكون هدفهم العكس تماماً. من جهة يطالبون بوحدة الأراضي السورية، وعلى أرض الواقع يدفعون السوريين إلى الاحتراب الداخلي، فيشجعون هذا الطرف على المقاومة، بينما يعطون الضوء الأخضر للحكومة للتدخل، ثم ينهالون عليها بالقصف. كلنا سمع المبعوث الأمريكي وهو يهاجم حتى اتفاقية سايكس بيكو في معرض دفاعه عن وحدة الأراضي السورية، لكن في الوقت نفسه نرى إسرائيل تنقلب على كل التطمينات الأمريكية وتضرب في قلب دمشق، وتتلاعب بالجميع. كل السوريين اليوم في لعبة الأمم مجرد أدوات ووقود لمشاريع الآخرين، لهذا يجب أن نكون جميعاً حذرين في كل خطوة. كم هو ساذج ذاك الذي يصفق للسوريين وهم يهددون بعضهم البعض بالغزوات. كلنا شاهد التطبيل والتزمير لبعض الفصائل وهي تتهدد السويداء على مواقع التواصل متناسياً أن المتقاتلين في النهاية سوريون. هل يسعدكم يا ترى حرق آلاف البيوت والمحلات التجارية في السويداء ونهب محتوياتها، وقتل آلاف الأبرياء والتنكيل بالمدنيين وإرهابهم ودق إسفين تاريخي بين السوريين؟ هل يسعدكم تهجير السوريين على أيدي بعضهم البعض؟ هل يسعدكم سقوط المئات من قوات الأمن؟ لا شك أن هناك جهات كثيرة شريرة متورطة في هذه اللعبة القذرة، لكن الأهم ألا نقع في شراكها وتحقيق أهدافها.
كل السوريين يريدون اليوم أن يحل الأمن والاستقرار والسلام في ربوع البلاد. كل السوريين يريدون حصر السلاح في أيدي الدولة. كل السوريين يمقتون فوضى السلاح، لهذا من الخطأ القاتل أن تحاول ضبط السلاح في منطقة، ثم تسمح لمناطق أخرى بامتلاك كل أنواع السلاح لاستخدامه ضد بقية السوريين. هذا ينعكس سلباً على الشعب كله، ويجعله يتردد في التخلي عن سلاحه. كيف تقبل منطقة بتسليم سلاحها إذا كانت منطقة أخرى تتباهى بسلاحها وتهدد به بقية السوريين والكل يصفق لها. صدقوني هذا خطأ قاتل يضر بنا جميعاً كسوريين وينعكس سلباً بالدرجة الاولى على صورة الحكومة، فهي بذلك كمن يطلق النار على قدميه. والمضحك أكثر أن هناك فصائل تقطع مئات الكيلومترات من أقاصي سوريا لتواجه أحد المكونات السورية، بينما هي في الحقيقة ترزح في مناطقها تحت احتلال فصيل داخلي آخر ينكل بها ليل نهار ويحتل ثلث الأراضي السورية ويتحكم بثرواتها. يا له من مشهد كوميدي هزلي. طبيب يداوي الناس وهو عليل. من الخطأ الفادح التغاضي عن هذه الهيستريا، بل يجب وقفها عند حدها فوراً لأنها ستكون وبالاً على الدولة قبل أن تكون وبالاً على نفسها وبقية السوريين. وللعلم فإن المتربصين بسوريا سعداء جداً بهذه المأساة الوطنية وينتظرون تطوراتها المرعبة كي يحققوا مصالحهم على دماء السوريين وأشلائهم.
ختاماً، هذه ليست نبوءات، ولا مقاربات تحليلية. هذه معلومات مؤكدة من قلب المشهد. والمخلص ليس من يصفق لك اليوم، بل من يقول لك الحقيقة حتى لو كانت مرّة.
وصديقك من صدقك… لا من صدّقك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا لتغراف
السابق
ثقافة البوتوكس: جدليّة الجمال المصنّع بين تشييء الجسد وتشوّه التنميّة

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ 2 أيام
- إيطاليا تلغراف
أهلي في السويداء… أهلي في سوريا: تحية وبعد
إيطاليا تلغراف د. فيصل القاسم كاتب واعلامي سوري لم أكن يوماً طائفياً ولن أكون، ولم أنظر إلى السوريين من خلال طوائفهم أو مذاهبهم في يوم من الأيام. طوال سنوات الثورة، وقفت بوضوح إلى جانب الأكثرية السنية، لا على أساس مذهبي، بل من منطلق إنساني وأخلاقي بحت، لأنهم كانوا الضحية الأولى لآلة القتل، ولأنهم تعرضوا للإبادة والتهجير والتجويع والقصف، في واحدة من أبشع مآسي العصر. كنت ـ وما زلت ـ أؤمن أن الوقوف مع المظلوم هو واجب الضمير، لا بطاقة هوية، وأن الكرامة لا تتجزأ، وأن العدالة لا تفرّق بين طائفة وأخرى. واليوم، ومن ذات المبدأ، أريد أن أضع النقاط على الحروف ليس دفاعاً عن طائفة أو جماعة أو مذهب، بل دفاعاً عن الحق والحقيقة وعن سوريا بالدرجة الأولى، فما حدث خلال الأيام الماضية في السويداء يجب أن يوضع في إطاره الصحيح بعيداً عن الاستهداف المقصود والتشهير المفضوح والشيطنة الجماعية بطريقة ظالمة وخطيرة، تُعيد إنتاج الكراهية، وتمهد لجولات جديدة من الفتنة وسفك الدم. ما حصل كان كارثة وطنية بكل المقاييس، لكن بدل أن تسعى وسائل الإعلام إلى فهم ما جرى والبحث عن جذوره القديمة، تحوّلت بسرعة إلى منصات تحريضية، صبّت جام غضبها على أهل السويداء، وحمّلتهم وحدهم مسؤولية ما حدث، وصوّرتهم كجلادين، وتجاهلت أنهم أيضاً ـ وبشكل واسع ـ كانوا أكثر الضحايا والمتضررين بشرياً ومادياً. في أيام قليلة، انطلقت حملة إعلامية غير مسبوقة تُمارس كل أشكال التعميم والتشويه. تم تجاهل القرى التي أُحرقت، والأحياء التي دُمّرت، والنساء والأطفال الذين هُجّروا من منازلهم، وركّزت الرواية فقط على عمليات اقتحام مضادة قام بها شبان دروز ضد أحياء بدوية. ولأن الحقيقة لا تهم كثيرين، تم تجييش الخطاب العام ليصوّر كل الموحدين كما لو أنهم تابعون لجهة واحدة، مع العلم أن الطائفة الدرزية، بطبيعتها، فيها تعدد فكري واجتماعي وثقافي وسياسي، كما هو الحال في كل مكونات سوريا. لكن في زمن التحريض، لا مكان للتفاصيل ولا للعدالة. التهمة جماعية، والعقوبة جماعية، والتشويه جماعي. لقد اُستشهد في هذه الأيام الكثير الكثير من الدروز، مدنيين وعزلا، بينهم أطفال وشيوخ ونساء. انتشرت مشاهد الإعدامات الميدانية، وحُوصرت مناطق درزية بالكامل، وحُرقت عشرات القرى وتهجر سكانها بعشرات الألوف، ودُمّرت البيوت، وتقطعت السبل بعائلات فرت وتهجرت تحت القصف والتهديد والتنكيل الجماعي. وأصبح مركز السويداء التجاري وقلب المدينة النابض رماداً. بالمقابل، سقط أيضاً ضحايا من أهلنا الأكارم العشائر. وارتُكبت أعمال انتقامية قاسية في بعض المناطق. وهذا مؤلم ومدان ومرفوض. لا يمكن أن نبرر حرق بيت، أو قتل بريء، أو تهجير عائلة ـ أياً كانت طائفتها. ومن المعيب أن يتهجر سوري على أيدي سوري آخر. المظلومية لا تبرر الظلم، ولا يمكن أن يُبنى العدل على الانتقام من أي طرف وضد أي طرف. أليس من المرعب والمخزي أن يفكر سوري بإبادة أخيه السوري؟ لكن الصور الأخرى للأسف لم تجد طريقها إلى عناوين الأخبار كما يجب، مع العلم أن السويداء وقراها منطقة منكوبة. ولم يكن هذا التحيز الإعلامي مجرد انحياز، بل كان انخراطاً واعياً في الشيطنة، وفي تأجيج خطاب الكراهية، وفي اختزال طائفة كاملة في موقف سياسي أو ديني لفرد أو مجموعة، كأن هناك من ينتظر لحظة الانقضاض لتصفية الحساب. للأسف، كثيرون اليوم نسوا ـ أو تناسوا ـ أن الموحدين ليسوا غرباء عن وجدان سوريا ولا عن تاريخها. أليس من المخزي أن يُمحى فجأة من الذاكرة أن سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى عام 1925، كان درزياً؟ وهو الرجل الذي رفض مشروع «الدويلة الدرزية»، ورفع علم الوحدة الوطنية، وخاض معركة تحرير سوريا من الاحتلال الفرنسي. هل نسي هؤلاء أن عشرات الآلاف من شباب الدروز رفضوا الخدمة العسكرية مع النظام طوال 14 عاماً، وتعرضوا للسجن والاضطهاد والملاحقة؟ هل نسي الناس أن السويداء فتحت بيوت أهلها لعشرات آلاف النازحين من مختلف الطوائف والمناطق؟ هل صار هذا التاريخ بلا قيمة؟ هل تسبب الموحدون بمقتل سوري واحد من الأكثرية على مدى أربعة عشر عاماً؟ هل تلوثت أياديهم بدم السوريين؟ بالطبع لا. حتى عقائدياً، لا يمكن إخراج الموحدين من الفضاء الثقافي الإسلامي، رغم خصوصيتهم العقائدية. ففي مقدمة رسائلهم المقدسة، يذكرون النبي محمد صلى الله عليه وسلم بنفس الطريقة الإسلامية تماماً كـ»أشرف المُرسلين». ويجب ألا ننسى ما قاله عنهم ذات يوم أمير الشعراء أحمد شوقي: «وما كان الدروز قبيل شرٍ وإن أُخذوا بما لم يستحقوا… ولكن ذادةٌ وقراةُ ضيفٍ كينبوع الصفا خشنوا ورقوا… لهم جبلٌ أشم له شعافٌ موارد في السحاب الجون بلقُ… كأن من السموأل فيه شيئاً فكل جهاته شرفٌ» الرحمة لكل سوري بريء سقط في تلك المصيبة الوطنية من كل الأطراف دون استثناء. الرحمة لجميع السوريين المدنيين الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم في قلب نارٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فالضحية لا تُقاس بمذهبها، والعدالة لا تُجزأ، ويجب أن تأخذ مجراها. ففي المحصلة، لم يكن السوريون ـ في هذه الحرب الأخيرة وسابقاتها ـ سوى وقودٍ لمعارك أكبر منهم، ومعظمهم كان مجرد أداة في يد مشاريع لا تمثلهم ولا تعبّر عنهم، بل تستخدمهم ثم ترميهم، كما تُستخدم أعواد الثقاب لإشعال الحرائق ثم تُلقى في الرماد. نحن جميعاً مجرد حطب في معارك غيرنا. وما يجري اليوم من توريط ليس سوى فصل جديد من لعبة طويلة، تحوّل فيها السوريون ـ كل السوريين ـ إلى محروقات في مشاريع الآخرين. كل طائفة تُستثمر، وكل فئة تُسحب إلى ساحة الحرب، ثم تُترك محترقة. يُطلب منها أن تقتل وتُقتل، ثم تُدان وتُعاقب. الجميع يُدفعون اليوم إلى خطوط تماس طائفية ومناطقية، ويُستثمر في دمائهم لتُرسم بها خرائط لا علاقة لهم بها. من هنا كان الواجب أن نرفض أن نكون بيادق على رقعة شطرنج لا نعرف من يحركها. من يُشيطن اليوم طائفة، سيُشيطن غداً طائفته. ومن يبرر الحقد الآن، سيكتوي بناره لاحقاً. هذه النار لا تُطفأ بالحقد، بل تُطفأ بالعدالة والصدق والمسؤولية. أخيراً لا تكن أداة… لا تكن وقوداً. نحن الآن أمام مفترق خطير. إما أن نُبقي أعيننا مفتوحة، ونرفض الانجرار إلى معارك الطوائف والملل والنحل والعشائر، وإما أن نستمر في الدوران داخل نفس الدوامة التي مزقت سوريا. وأنا هنا لا أُدافع عن طائفة، بل عن سوريا المستهدفة بكل مكوناتها. أدافع عن نفسي، عن ضميري، عن سوريا التي أريدها لكل أبنائها، لا لفئة على حساب فئة. وأقول للذين استهوتهم لعبة شيطنة الآخر من كل الأطراف: حين ندخل في لعبة الاصطفافات والشيطنة القاتلة ضد بعضنا البعض، فإننا ـ من حيث لا ندري ـ نخدم الأجندات الخارجية التي تعبث بسوريا وتستخدم الجميع وقوداً لمصالحها ومشاريعها. وحين تدرك أن هناك مخططاً شيطانياً مدروساً، فإن صوت الحكمة والعقل يفرض التنبيه إليه والتحذير منه، لا الوقوع في فخه والانجرار إليه. لا تكن وقوداً في معركة غيرك. لا تكن أداة في يد من لا يرى فيك سوى وسيلة. لا تكن لساناً لفتنةٍ ستعود لتحرق بيتك. لا منتصر مطلقاً في الصراعات الأهلية، فالقاتل والمقتول قتيل. العدالة لكل الضحايا. الكرامة لكل السوريين. والوطن لكل من يؤمن بأن الدم لا مذهب له، وأن الإنسان لا يُقاس بطائفته، بل بإنسانيته. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف السابق رئيس الحكومة يجري مباحثات مع رئيس الجمعية الوطنية لفيتنام


إيطاليا تلغراف
منذ 5 أيام
- إيطاليا تلغراف
الهُويَّة الوطنية
إيطاليا تلغراف سمر يزبك كاتبة وروائية وإعلامية سورية ليست السويداء مجرّد مدينة سورية تشهد نزاعاً دموياً. ما يحدث هناك اليوم لحظة كاشفة لأزمة الدولة القومية العربية برمتها. نزاع محلّي بعد ما يفترض أنه انتصار للثورة على نظام مجرم، انفجر إلى حرب أهلية مصغّرة، فتداخلت فيه جبهاتٌ عابرةٌ للحدود: دروز من الجليل يحاولون عبور الحدود لنصرة 'أبناء الطائفة'، في حين تستنفر عشائر سُنّية من لبنان للالتحاق بـ'أبناء العمومة' في الداخل السوري. ما نشهده ليس فقط تفكّك الدولة، بقدر ما هو ولادة ما يُشبه نموذجاً بديلاً للدولة، يتجاوزها وينقضها في آن. الدولة القومية، كما تخيّلها المشرقيون منذ 'سايكس بيكو'، لم تنجح في إيجاد شعور عضوي بالانتماء الجمعي. إنما كانت مشروعاً هندسياً فوقياً، يُفترض أن يصهر التنوّع داخل بوتقة قومية موحّدة. ولكن في لحظة الأزمة، لا يعود المواطن يرى نفسه 'سورياً' بقدر ما ينكفئ إلى طائفته أو قبيلته أو طيفه الثقافي. الدروز ليسوا وحدهم هنا؛ البدو ليسوا وحدهم. الجميع يتصرّف بوصفه جزءاً من سرديةٍ أضيق من الدولة، لكنّها (في نظره) أكثر صدقاً وأكثر استعداداً للقتال. من منظور علم الاجتماع السياسي، ليس هذا الانكفاء انحداراً، بل ارتداد طبيعي عن نموذج لم ينجح قط في الترسّخ. نحن لا نشهد انهيار دولة ناجحة، بل تفكّك شكل هشّ لم يستطع خلق عقد اجتماعي. ما يظهر في السويداء من اقتتال إعلان جماعي بأن الهُويَّة الوطنية كانت قناعاً فوقيّاً لا جذور له. والهُويَّة، حين لا تكون مؤسّسة على عدالة، تتحوّل وقودَ عنف. اندفاع الدروز في الجليل لنصرة دروز سورية، والسُّنّة اللبنانيين لنصرة بدو الداخل، يُحيلنا إلى ما يمكن تسميته 'تجاوز الحدود من تحت الدولة'. بمعنى: حين تتآكل مشروعية الدولة، يصبح الجسم الاجتماعي لا يعترف بحدودها. الطائفة أهم من الجغرافيا. الرابط العرقي أصدق من الجواز. وهكذا تُعاد خريطة الولاء، لا حسب الوطن، بل حسب شبكة متخيّلة من القرابة، تتجاوز مفهوم السيادة الحديثة. من هذا المنظور يمكن فهم ما يحدُث بوصفه شكلاً من أشكال 'تفكّك الشرعية التمثيلية'. فالدولة، في النماذج الحديثة، تمثّل الشعب كلّه من دون تمييز. لكنها هنا تتحوّل (في نظر مواطنيها) فاعلاً طائفياً، أو متواطئاً، أو عاجزاً. وحين تنهار شرعيتها الرمزية، لا يعود لها من سلطة سوى العنف، وهذا العنف نفسه يصبح مرفوضاً لأنه غير عادل. ومن هنا يتولّد عنف مضاد، لا يقل طائفية، لكنّه مبرَّر من الداخل بوصفه 'دفاعاً وجودياً'. ما تقدّمه السويداء إذاً ليس استثناءً، بل نموذجاً مصغّراً لما قد يصيب دول المشرق العربي التي لم تحلّ بعد معضلة الهُويَّة. لا تزال الدولة سجناً لمكوّناتها، لا بيتاً لها. والطائفة، رغم كلّ محاولات الشيطنة، تظلّ المعبر الوحيد المتبقّي للشعور بالكرامة والحماية. وهذا بحدّ ذاته كارثة. لكن لا يمكن لوم الناس على التشبّث بالقبيلة حين تخذلهم الدولة، فالدولة التي لم تنصفهم، ولم تحمِهم، ولم توفّر لهم مساواة في الحقوق، لا يمكن أن تطلب منهم الولاء الصامت. العدالة لا تولّدها الحدود، بل تنتجها الثقة، والثقة هنا منهارة. تقول أحداث السويداء لنا شيئاً مرعباً: حتى الوطنية القُطرية لم تُبْنَ، بل فُرضت. وأن الطائفة ليست 'العدو الطبيعي للدولة'، بل أحياناً هي ملاذها الأخير حين تنهار كلّ مقومات العقد المدني. لذا، لا ينفع اليوم التنديد بـ'الطائفية'، ولا اجترار خطاب الوحدة الوطنية، بل لا بد من مساءلة جذرية: من يمثل من؟ من يحمي من؟ وما الدولة التي نريدها أصلاً؟ أمامنا اليوم مفترق: إمّا أن نبني مفهوماً جديداً للدولة، قائماً على التعدّد والاعتراف المتبادل، أو نستمرّ في العيش داخل حدود صورية تنهار كلّما اندلعت شرارة. وما لم نواجه حقيقة أن شعوبنا لم تُشفَ بعد من انقسامها الأولي، لن ننتج إلا دولاً مهزومة أمام أهلها، وأهلاً خائفين من دولتهم. ما يحدُث في السويداء ليس نكسةً أمنيةً. إنه اختبار للهُويَّة، وللوطن، ولجدوى الحدود. والأرجح أنه اختبارٌ رسبنا فيه جميعاً. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
١٩-٠٧-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
سوريا إلى أين: ليست تحليلات بل معلومات
إيطاليا تلغراف د. فيصل القاسم كاتب واعلامي سوري ما تواجهه سوريا اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل مرحلة مفصلية غير مسبوقة في تاريخها الحديث. فالأخطار التي تقترب منها تُنذر بكوارث حقيقية تفوق التصوّر، وتضع الجميع أمام مسؤوليات جسيمة. المؤشرات والمعلومات التي أملكها تؤكد أن سوريا مستهدفة، وأن هناك مخططات جهنمية جاهزة للتنفيذ، تعتمد بالكامل على تأجيج الصراعات الداخلية والاقتتال بين السوريين أنفسهم. من هنا، فإن أولوية المرحلة يجب أن تكون «الاحتواء، ثم الاحتواء، ثم الاحتواء». لا مجال الآن للمزايدات أو المغامرات الدموية، ولا لأي اندفاع أهوج نحو التصعيد، فكل خطوة في هذا الاتجاه تصب في مصلحة أعداء سوريا، الذين يتحينون الفرصة للدخول من بوابة الفوضى بذريعة «إطفاء الحرائق»، بينما هم في الحقيقة يسعون لاستباحة الأرض السورية والسيطرة على قرارها ومستقبلها. المعلومات المؤكدة، وأكرر، معلومات وليست تحليلات، تشير إلى أن هناك جهات كثيرة تتربص بسوريا وتنتظر لحظة الانفجار الداخلي لتُسقط ما تبقى من بنيان الدولة. كل المخططات الموضوعة حالياً تعتمد على تفجير الداخل السوري، وكل تحريض أو تجييش أو دعوات للانتقام، أو تحشيد للرأي العام، تمضي مباشرة في هذا الاتجاه. وعلينا أن ننتبه: التناحر الداخلي هو الوقود الذي يحتاجونه لتفعيل مشاريعهم. ولهذا، فإن التهدئة اليوم ليست خياراً ناعماً أو ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية. المطلوب فوراً هو ضبط النفس، إسكات الأصوات المتطرفة، ولجم الرؤوس الحامية التي تدفع البلاد دفعاً نحو المحرقة. هؤلاء، سواء عن قصد أو جهل، يسيرون في طريق يؤدي إلى كارثة جماعية لن ينجو منها أحد، وسيجرّون خلفهم الناس إلى حافة الهاوية. ليس من البطولة أن يُسفك الدم السوري على أيدي السوريين. دم السوري حرام على السوري. وكل من يرفع اليوم شعارات الثأر والانتقام واستباحة مناطق سورية أخرى سيلتهمه الحريق أولاً، ومعلوماتي المؤكدة أن الذين يصفقون للفصائل التي تهدد الآخرين سيبكون عليها قريباً جداً لأنها ذاهبة إلى فخ مُعد لها بدهاء. هذا ما تؤكده المعلومات التي لديّ، لا التحليل ولا التخمين. ما هو قادم في حال استمرار هذا المسار لن يكون مجرد مواجهة، بل محرقة شاملة، خاصة لتلك الجماعات التي تعتقد أنها في موقع القوة. أما المفاجأة الأخطر، فهي أن بعض الجهات التي كان يُظن أنها «مؤيدة» قد تنقلب بسرعة غير متوقعة، ومعطيات الساحة تشير إلى أن دمشق نفسها أصبحت هدفاً مباشراً في الحسابات المقبلة. نعم، العاصمة، بقلبها ومحيطها، هي الهدف التالي بسرعة صاعقة، ما لم يُضبط الإيقاع السياسي والأمني فوراً. لكل من يملك تأثيراً أو صوتاً أو وعياً: المطلوب الآن هو التروي والحذر في كل خطوة. احتواء الأوضاع أفضل ألف مرة من تسعيرها. فكل تصعيد جديد يعني خطوة نحو الكارثة. القادم مخيف، مروّع، لا يُشبه شيئاً من الذي عرفناه سابقاً. نحن نواجه في الواقع لعبة توريط أصبحت مفضوحة للقاصي والداني، والمشكلة أننا نسير بأقدامنا إلى الفخاخ المنصوبة أمامنا، وأن الذين يتظاهرون بأنهم مع سوريا ويريدون لها الاستقرار والازدهار، قد يكون هدفهم العكس تماماً. من جهة يطالبون بوحدة الأراضي السورية، وعلى أرض الواقع يدفعون السوريين إلى الاحتراب الداخلي، فيشجعون هذا الطرف على المقاومة، بينما يعطون الضوء الأخضر للحكومة للتدخل، ثم ينهالون عليها بالقصف. كلنا سمع المبعوث الأمريكي وهو يهاجم حتى اتفاقية سايكس بيكو في معرض دفاعه عن وحدة الأراضي السورية، لكن في الوقت نفسه نرى إسرائيل تنقلب على كل التطمينات الأمريكية وتضرب في قلب دمشق، وتتلاعب بالجميع. كل السوريين اليوم في لعبة الأمم مجرد أدوات ووقود لمشاريع الآخرين، لهذا يجب أن نكون جميعاً حذرين في كل خطوة. كم هو ساذج ذاك الذي يصفق للسوريين وهم يهددون بعضهم البعض بالغزوات. كلنا شاهد التطبيل والتزمير لبعض الفصائل وهي تتهدد السويداء على مواقع التواصل متناسياً أن المتقاتلين في النهاية سوريون. هل يسعدكم يا ترى حرق آلاف البيوت والمحلات التجارية في السويداء ونهب محتوياتها، وقتل آلاف الأبرياء والتنكيل بالمدنيين وإرهابهم ودق إسفين تاريخي بين السوريين؟ هل يسعدكم تهجير السوريين على أيدي بعضهم البعض؟ هل يسعدكم سقوط المئات من قوات الأمن؟ لا شك أن هناك جهات كثيرة شريرة متورطة في هذه اللعبة القذرة، لكن الأهم ألا نقع في شراكها وتحقيق أهدافها. كل السوريين يريدون اليوم أن يحل الأمن والاستقرار والسلام في ربوع البلاد. كل السوريين يريدون حصر السلاح في أيدي الدولة. كل السوريين يمقتون فوضى السلاح، لهذا من الخطأ القاتل أن تحاول ضبط السلاح في منطقة، ثم تسمح لمناطق أخرى بامتلاك كل أنواع السلاح لاستخدامه ضد بقية السوريين. هذا ينعكس سلباً على الشعب كله، ويجعله يتردد في التخلي عن سلاحه. كيف تقبل منطقة بتسليم سلاحها إذا كانت منطقة أخرى تتباهى بسلاحها وتهدد به بقية السوريين والكل يصفق لها. صدقوني هذا خطأ قاتل يضر بنا جميعاً كسوريين وينعكس سلباً بالدرجة الاولى على صورة الحكومة، فهي بذلك كمن يطلق النار على قدميه. والمضحك أكثر أن هناك فصائل تقطع مئات الكيلومترات من أقاصي سوريا لتواجه أحد المكونات السورية، بينما هي في الحقيقة ترزح في مناطقها تحت احتلال فصيل داخلي آخر ينكل بها ليل نهار ويحتل ثلث الأراضي السورية ويتحكم بثرواتها. يا له من مشهد كوميدي هزلي. طبيب يداوي الناس وهو عليل. من الخطأ الفادح التغاضي عن هذه الهيستريا، بل يجب وقفها عند حدها فوراً لأنها ستكون وبالاً على الدولة قبل أن تكون وبالاً على نفسها وبقية السوريين. وللعلم فإن المتربصين بسوريا سعداء جداً بهذه المأساة الوطنية وينتظرون تطوراتها المرعبة كي يحققوا مصالحهم على دماء السوريين وأشلائهم. ختاماً، هذه ليست نبوءات، ولا مقاربات تحليلية. هذه معلومات مؤكدة من قلب المشهد. والمخلص ليس من يصفق لك اليوم، بل من يقول لك الحقيقة حتى لو كانت مرّة. وصديقك من صدقك… لا من صدّقك. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا لتغراف السابق ثقافة البوتوكس: جدليّة الجمال المصنّع بين تشييء الجسد وتشوّه التنميّة