
الهُويَّة الوطنية
سمر يزبك
كاتبة وروائية وإعلامية سورية
ليست السويداء مجرّد مدينة سورية تشهد نزاعاً دموياً. ما يحدث هناك اليوم لحظة كاشفة لأزمة الدولة القومية العربية برمتها. نزاع محلّي بعد ما يفترض أنه انتصار للثورة على نظام مجرم، انفجر إلى حرب أهلية مصغّرة، فتداخلت فيه جبهاتٌ عابرةٌ للحدود: دروز من الجليل يحاولون عبور الحدود لنصرة 'أبناء الطائفة'، في حين تستنفر عشائر سُنّية من لبنان للالتحاق بـ'أبناء العمومة' في الداخل السوري. ما نشهده ليس فقط تفكّك الدولة، بقدر ما هو ولادة ما يُشبه نموذجاً بديلاً للدولة، يتجاوزها وينقضها في آن. الدولة القومية، كما تخيّلها المشرقيون منذ 'سايكس بيكو'، لم تنجح في إيجاد شعور عضوي بالانتماء الجمعي. إنما كانت مشروعاً هندسياً فوقياً، يُفترض أن يصهر التنوّع داخل بوتقة قومية موحّدة. ولكن في لحظة الأزمة، لا يعود المواطن يرى نفسه 'سورياً' بقدر ما ينكفئ إلى طائفته أو قبيلته أو طيفه الثقافي. الدروز ليسوا وحدهم هنا؛ البدو ليسوا وحدهم. الجميع يتصرّف بوصفه جزءاً من سرديةٍ أضيق من الدولة، لكنّها (في نظره) أكثر صدقاً وأكثر استعداداً للقتال. من منظور علم الاجتماع السياسي، ليس هذا الانكفاء انحداراً، بل ارتداد طبيعي عن نموذج لم ينجح قط في الترسّخ. نحن لا نشهد انهيار دولة ناجحة، بل تفكّك شكل هشّ لم يستطع خلق عقد اجتماعي. ما يظهر في السويداء من اقتتال إعلان جماعي بأن الهُويَّة الوطنية كانت قناعاً فوقيّاً لا جذور له. والهُويَّة، حين لا تكون مؤسّسة على عدالة، تتحوّل وقودَ عنف.
اندفاع الدروز في الجليل لنصرة دروز سورية، والسُّنّة اللبنانيين لنصرة بدو الداخل، يُحيلنا إلى ما يمكن تسميته 'تجاوز الحدود من تحت الدولة'. بمعنى: حين تتآكل مشروعية الدولة، يصبح الجسم الاجتماعي لا يعترف بحدودها. الطائفة أهم من الجغرافيا. الرابط العرقي أصدق من الجواز. وهكذا تُعاد خريطة الولاء، لا حسب الوطن، بل حسب شبكة متخيّلة من القرابة، تتجاوز مفهوم السيادة الحديثة. من هذا المنظور يمكن فهم ما يحدُث بوصفه شكلاً من أشكال 'تفكّك الشرعية التمثيلية'. فالدولة، في النماذج الحديثة، تمثّل الشعب كلّه من دون تمييز. لكنها هنا تتحوّل (في نظر مواطنيها) فاعلاً طائفياً، أو متواطئاً، أو عاجزاً. وحين تنهار شرعيتها الرمزية، لا يعود لها من سلطة سوى العنف، وهذا العنف نفسه يصبح مرفوضاً لأنه غير عادل. ومن هنا يتولّد عنف مضاد، لا يقل طائفية، لكنّه مبرَّر من الداخل بوصفه 'دفاعاً وجودياً'. ما تقدّمه السويداء إذاً ليس استثناءً، بل نموذجاً مصغّراً لما قد يصيب دول المشرق العربي التي لم تحلّ بعد معضلة الهُويَّة. لا تزال الدولة سجناً لمكوّناتها، لا بيتاً لها. والطائفة، رغم كلّ محاولات الشيطنة، تظلّ المعبر الوحيد المتبقّي للشعور بالكرامة والحماية. وهذا بحدّ ذاته كارثة. لكن لا يمكن لوم الناس على التشبّث بالقبيلة حين تخذلهم الدولة، فالدولة التي لم تنصفهم، ولم تحمِهم، ولم توفّر لهم مساواة في الحقوق، لا يمكن أن تطلب منهم الولاء الصامت. العدالة لا تولّدها الحدود، بل تنتجها الثقة، والثقة هنا منهارة.
تقول أحداث السويداء لنا شيئاً مرعباً: حتى الوطنية القُطرية لم تُبْنَ، بل فُرضت. وأن الطائفة ليست 'العدو الطبيعي للدولة'، بل أحياناً هي ملاذها الأخير حين تنهار كلّ مقومات العقد المدني. لذا، لا ينفع اليوم التنديد بـ'الطائفية'، ولا اجترار خطاب الوحدة الوطنية، بل لا بد من مساءلة جذرية: من يمثل من؟ من يحمي من؟ وما الدولة التي نريدها أصلاً؟ أمامنا اليوم مفترق: إمّا أن نبني مفهوماً جديداً للدولة، قائماً على التعدّد والاعتراف المتبادل، أو نستمرّ في العيش داخل حدود صورية تنهار كلّما اندلعت شرارة. وما لم نواجه حقيقة أن شعوبنا لم تُشفَ بعد من انقسامها الأولي، لن ننتج إلا دولاً مهزومة أمام أهلها، وأهلاً خائفين من دولتهم. ما يحدُث في السويداء ليس نكسةً أمنيةً. إنه اختبار للهُويَّة، وللوطن، ولجدوى الحدود. والأرجح أنه اختبارٌ رسبنا فيه جميعاً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ 5 أيام
- إيطاليا تلغراف
غزة ليست النهاية.. والدور آت على الجميع
إيطاليا تلغراف بقلم التجاني بولعوالي غزة ليست النهاية، بل لها ما بعدها. ما يجري اليوم في هذا الجزء الصغير والمحصور من الكرة الأرضية لا يمكن اختزاله في صراع محلي قديم بين الجلاد الصهيوني والضحية الفلسطينية، أو في تصفية حسابات آنية بين طرفين متقاتلين، بل هو في الحقيقة بداية مرحلة قاسية ومصيرية يُعاد فيها رسم خرائط المنطقة بأدوات جديدة، ولكن بمنطق استعماري قديم. لا يختلف هذا المنطق عمّا حدث في المرحلة الإمبريالية التي مُزّق وقُسّم فيها العالم الثالث، بما في ذلك المنطقة العربية والأمة الإسلامية، وقد بلغ ذلك التمزق ذروته مع اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، التي احتلت بموجبها فرنسا سوريا ولبنان، وبريطانيا العراق والأردن وفلسطين، والتي قُدّمت لاحقا على طبق من ذهب للصهاينة عام 1948. لذلك، لا يمكن استيعاب ما يجري الآن في فلسطين وغيرها من البلدان العربية إلا بالعودة إلى تلك الجذور المتعفنة، التي استحالت إلى أورام سرطانية تنبت في مختلف أعضاء الجسد العربي المنهك، من البحر إلى المحيط. وها نحن اليوم أمام سياق تحوّلي يتجدّد، ولا يمكن فصله عن ماضي الاستعمار العسكري. وإذا كانت الدول الأوروبية التقليدية قد عملت على استئصال مقاومة أجدادنا وجهادهم ضد أي عدوان أجنبي، فإن الأمر نفسه يتكرر اليوم، حيث يُراد طي صفحة المقاومة وفتح صفحة جديدة عنوانها: إخضاع المنطقة برمّتها لمشروع توسّعي متكامل، ثقافيا واقتصاديا وجيوسياسيا. ولا نقصد هنا المقاومة المادية المسلحة فقط، بل أيضا المقاومة الفكرية والشعبية والأخلاقية، حيث تعمل وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، والحركات السياسية المتواطئة، على إسكات كل من يرفض العدوان الصهيوني على غزة وفلسطين والمنطقة، ولو بحجب تدوينة، أو حذف صورة، أو إغلاق حساب. نعتقد أن النظر إلى غزة بكونها ساحة معزولة عن محيطها العربي والإسلامي هو خطأ قاتل في الفهم، بل هي، كما كانت دوما، عتبة للقراءة والتحليل الأوسع لما يُخطّط للمنطقة العربية. إن المشروع الذي يُنفّذ اليوم على أرض غزة ليس سوى خطوة ضمن سلسلة مترابطة من الخطوات المدروسة بدقة وإحكام، تستهدف كل من يرفض الانخراط في 'صفقة القرن' الجديدة، سواء في صورتها السياسية، أو في مستوياتها الاقتصادية، والعسكرية، والفكرية أيضًا؛ بلا شك. إن مسألة اقتطاع أراضي بلدان الجوار الإسرائيلي، على سبيل المثال، لم تعد مجرد احتمال مستقبلي، بل أصبحت واقعا ملموسا نراه رأي العين. ففي الداخل الفلسطيني، لا تزال آلة الاستيطان تلتهم الضفة الغربية والقدس المحتلة بلا هوادة، ناهيك عن غزة التي دُمّرت على بكرة أبيها تمهيدا لإقامة المشروع الإسرائيلي الأمريكي مستقبلا. ويحدث هذا في ظل صمت دولي عميق، وتواطؤ إقليمي سافر. أما على حدود الكيان الصهيوني، فنشهد بين الحين والآخر مؤشرات خطيرة على تحرّكات توسعية تستهدف جنوب لبنان والجولان السوري المحتل، في مشهد يعيد إلى الأذهان ممارسات إسرائيل في حرب 1967 واحتلالها للجولان، وما تلاها من اجتياح جنوب لبنان عام 1982. وهذا يعني أن التاريخ يُعاد اليوم بأدوات أكثر وقاحة، وبتواطؤ مكشوف ومعولم. أما الأخطر من كل ذلك، فهو ما يمكن تسميته بـ'الدمج غير العسكري'، أو الإخضاع الناعم لدول الشرق الأوسط للمشروع الصهيوني. حتى إن الحديث عن الهيمنة الإسرائيلية لم يعد يُدرج في إطار ما يُطلق عليه 'نظرية المؤامرة'، بل بات واقعا نشهده بأم أعيننا في اتفاقيات تطبيع متسارعة، ومشاريع اقتصادية ضخمة، وتنسيق أمني غير مسبوق، يربط بعض الأنظمة العربية بالكيان الإسرائيلي في علاقات غير متكافئة، ستجعل من هذا الأخير مركزا ولاعبا مفصليا في مستقبل المنطقة. إن ما يجري في غزة اليوم هو جزء من هذا التحوّل الكبير والمتسارع، والرهان على الصمت الدولي أو استنزاف الشعوب لم يعد ذا جدوى. لأن منطقة الشرق الأوسط يُعاد تركيبها، تمامًا كما تُركّب أجزاء لوحة الألغاز، وفق مصالح قوى إقليمية ودولية ترى في إسرائيل الشريك الاستراتيجي الأهم. لذلك، فإن الدول التي تتوهّم أنها بمنأى عن هذا المشروع قد تُفاجأ في قادم الأيام بأنها الهدف التالي، سواء عبر التفكيك الداخلي، أو الابتزاز الاقتصادي، أو افتعال نزاعات حدودية. وهذا يعني، في النهاية، أن غزة هي الجرس الذي يُقرَع مرة أخرى لتذكير الجميع بأن الصراع لم يُحسم، وأن من يظن أن القضية الفلسطينية قد انتهت، إنما يدفن رأسه في الرمال كما تفعل النعامة. إن الحرب على غزة ليست إلا بداية مرحلة جديدة؛ ستكون قاسية على المنطقة بأسرها، وسوف تشمل الجميع، سواء من الموالين أو المعارضين، إما بالاقتطاع الجغرافي لصالح 'إسرائيل الكبرى'، أو بالإخضاع الاقتصادي لصالح خزينة 'العم سام'… أو بكليهما. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٢٢-٠٧-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
الهُويَّة الوطنية
إيطاليا تلغراف سمر يزبك كاتبة وروائية وإعلامية سورية ليست السويداء مجرّد مدينة سورية تشهد نزاعاً دموياً. ما يحدث هناك اليوم لحظة كاشفة لأزمة الدولة القومية العربية برمتها. نزاع محلّي بعد ما يفترض أنه انتصار للثورة على نظام مجرم، انفجر إلى حرب أهلية مصغّرة، فتداخلت فيه جبهاتٌ عابرةٌ للحدود: دروز من الجليل يحاولون عبور الحدود لنصرة 'أبناء الطائفة'، في حين تستنفر عشائر سُنّية من لبنان للالتحاق بـ'أبناء العمومة' في الداخل السوري. ما نشهده ليس فقط تفكّك الدولة، بقدر ما هو ولادة ما يُشبه نموذجاً بديلاً للدولة، يتجاوزها وينقضها في آن. الدولة القومية، كما تخيّلها المشرقيون منذ 'سايكس بيكو'، لم تنجح في إيجاد شعور عضوي بالانتماء الجمعي. إنما كانت مشروعاً هندسياً فوقياً، يُفترض أن يصهر التنوّع داخل بوتقة قومية موحّدة. ولكن في لحظة الأزمة، لا يعود المواطن يرى نفسه 'سورياً' بقدر ما ينكفئ إلى طائفته أو قبيلته أو طيفه الثقافي. الدروز ليسوا وحدهم هنا؛ البدو ليسوا وحدهم. الجميع يتصرّف بوصفه جزءاً من سرديةٍ أضيق من الدولة، لكنّها (في نظره) أكثر صدقاً وأكثر استعداداً للقتال. من منظور علم الاجتماع السياسي، ليس هذا الانكفاء انحداراً، بل ارتداد طبيعي عن نموذج لم ينجح قط في الترسّخ. نحن لا نشهد انهيار دولة ناجحة، بل تفكّك شكل هشّ لم يستطع خلق عقد اجتماعي. ما يظهر في السويداء من اقتتال إعلان جماعي بأن الهُويَّة الوطنية كانت قناعاً فوقيّاً لا جذور له. والهُويَّة، حين لا تكون مؤسّسة على عدالة، تتحوّل وقودَ عنف. اندفاع الدروز في الجليل لنصرة دروز سورية، والسُّنّة اللبنانيين لنصرة بدو الداخل، يُحيلنا إلى ما يمكن تسميته 'تجاوز الحدود من تحت الدولة'. بمعنى: حين تتآكل مشروعية الدولة، يصبح الجسم الاجتماعي لا يعترف بحدودها. الطائفة أهم من الجغرافيا. الرابط العرقي أصدق من الجواز. وهكذا تُعاد خريطة الولاء، لا حسب الوطن، بل حسب شبكة متخيّلة من القرابة، تتجاوز مفهوم السيادة الحديثة. من هذا المنظور يمكن فهم ما يحدُث بوصفه شكلاً من أشكال 'تفكّك الشرعية التمثيلية'. فالدولة، في النماذج الحديثة، تمثّل الشعب كلّه من دون تمييز. لكنها هنا تتحوّل (في نظر مواطنيها) فاعلاً طائفياً، أو متواطئاً، أو عاجزاً. وحين تنهار شرعيتها الرمزية، لا يعود لها من سلطة سوى العنف، وهذا العنف نفسه يصبح مرفوضاً لأنه غير عادل. ومن هنا يتولّد عنف مضاد، لا يقل طائفية، لكنّه مبرَّر من الداخل بوصفه 'دفاعاً وجودياً'. ما تقدّمه السويداء إذاً ليس استثناءً، بل نموذجاً مصغّراً لما قد يصيب دول المشرق العربي التي لم تحلّ بعد معضلة الهُويَّة. لا تزال الدولة سجناً لمكوّناتها، لا بيتاً لها. والطائفة، رغم كلّ محاولات الشيطنة، تظلّ المعبر الوحيد المتبقّي للشعور بالكرامة والحماية. وهذا بحدّ ذاته كارثة. لكن لا يمكن لوم الناس على التشبّث بالقبيلة حين تخذلهم الدولة، فالدولة التي لم تنصفهم، ولم تحمِهم، ولم توفّر لهم مساواة في الحقوق، لا يمكن أن تطلب منهم الولاء الصامت. العدالة لا تولّدها الحدود، بل تنتجها الثقة، والثقة هنا منهارة. تقول أحداث السويداء لنا شيئاً مرعباً: حتى الوطنية القُطرية لم تُبْنَ، بل فُرضت. وأن الطائفة ليست 'العدو الطبيعي للدولة'، بل أحياناً هي ملاذها الأخير حين تنهار كلّ مقومات العقد المدني. لذا، لا ينفع اليوم التنديد بـ'الطائفية'، ولا اجترار خطاب الوحدة الوطنية، بل لا بد من مساءلة جذرية: من يمثل من؟ من يحمي من؟ وما الدولة التي نريدها أصلاً؟ أمامنا اليوم مفترق: إمّا أن نبني مفهوماً جديداً للدولة، قائماً على التعدّد والاعتراف المتبادل، أو نستمرّ في العيش داخل حدود صورية تنهار كلّما اندلعت شرارة. وما لم نواجه حقيقة أن شعوبنا لم تُشفَ بعد من انقسامها الأولي، لن ننتج إلا دولاً مهزومة أمام أهلها، وأهلاً خائفين من دولتهم. ما يحدُث في السويداء ليس نكسةً أمنيةً. إنه اختبار للهُويَّة، وللوطن، ولجدوى الحدود. والأرجح أنه اختبارٌ رسبنا فيه جميعاً. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
١٩-٠٧-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
سوريا إلى أين: ليست تحليلات بل معلومات
إيطاليا تلغراف د. فيصل القاسم كاتب واعلامي سوري ما تواجهه سوريا اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل مرحلة مفصلية غير مسبوقة في تاريخها الحديث. فالأخطار التي تقترب منها تُنذر بكوارث حقيقية تفوق التصوّر، وتضع الجميع أمام مسؤوليات جسيمة. المؤشرات والمعلومات التي أملكها تؤكد أن سوريا مستهدفة، وأن هناك مخططات جهنمية جاهزة للتنفيذ، تعتمد بالكامل على تأجيج الصراعات الداخلية والاقتتال بين السوريين أنفسهم. من هنا، فإن أولوية المرحلة يجب أن تكون «الاحتواء، ثم الاحتواء، ثم الاحتواء». لا مجال الآن للمزايدات أو المغامرات الدموية، ولا لأي اندفاع أهوج نحو التصعيد، فكل خطوة في هذا الاتجاه تصب في مصلحة أعداء سوريا، الذين يتحينون الفرصة للدخول من بوابة الفوضى بذريعة «إطفاء الحرائق»، بينما هم في الحقيقة يسعون لاستباحة الأرض السورية والسيطرة على قرارها ومستقبلها. المعلومات المؤكدة، وأكرر، معلومات وليست تحليلات، تشير إلى أن هناك جهات كثيرة تتربص بسوريا وتنتظر لحظة الانفجار الداخلي لتُسقط ما تبقى من بنيان الدولة. كل المخططات الموضوعة حالياً تعتمد على تفجير الداخل السوري، وكل تحريض أو تجييش أو دعوات للانتقام، أو تحشيد للرأي العام، تمضي مباشرة في هذا الاتجاه. وعلينا أن ننتبه: التناحر الداخلي هو الوقود الذي يحتاجونه لتفعيل مشاريعهم. ولهذا، فإن التهدئة اليوم ليست خياراً ناعماً أو ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية. المطلوب فوراً هو ضبط النفس، إسكات الأصوات المتطرفة، ولجم الرؤوس الحامية التي تدفع البلاد دفعاً نحو المحرقة. هؤلاء، سواء عن قصد أو جهل، يسيرون في طريق يؤدي إلى كارثة جماعية لن ينجو منها أحد، وسيجرّون خلفهم الناس إلى حافة الهاوية. ليس من البطولة أن يُسفك الدم السوري على أيدي السوريين. دم السوري حرام على السوري. وكل من يرفع اليوم شعارات الثأر والانتقام واستباحة مناطق سورية أخرى سيلتهمه الحريق أولاً، ومعلوماتي المؤكدة أن الذين يصفقون للفصائل التي تهدد الآخرين سيبكون عليها قريباً جداً لأنها ذاهبة إلى فخ مُعد لها بدهاء. هذا ما تؤكده المعلومات التي لديّ، لا التحليل ولا التخمين. ما هو قادم في حال استمرار هذا المسار لن يكون مجرد مواجهة، بل محرقة شاملة، خاصة لتلك الجماعات التي تعتقد أنها في موقع القوة. أما المفاجأة الأخطر، فهي أن بعض الجهات التي كان يُظن أنها «مؤيدة» قد تنقلب بسرعة غير متوقعة، ومعطيات الساحة تشير إلى أن دمشق نفسها أصبحت هدفاً مباشراً في الحسابات المقبلة. نعم، العاصمة، بقلبها ومحيطها، هي الهدف التالي بسرعة صاعقة، ما لم يُضبط الإيقاع السياسي والأمني فوراً. لكل من يملك تأثيراً أو صوتاً أو وعياً: المطلوب الآن هو التروي والحذر في كل خطوة. احتواء الأوضاع أفضل ألف مرة من تسعيرها. فكل تصعيد جديد يعني خطوة نحو الكارثة. القادم مخيف، مروّع، لا يُشبه شيئاً من الذي عرفناه سابقاً. نحن نواجه في الواقع لعبة توريط أصبحت مفضوحة للقاصي والداني، والمشكلة أننا نسير بأقدامنا إلى الفخاخ المنصوبة أمامنا، وأن الذين يتظاهرون بأنهم مع سوريا ويريدون لها الاستقرار والازدهار، قد يكون هدفهم العكس تماماً. من جهة يطالبون بوحدة الأراضي السورية، وعلى أرض الواقع يدفعون السوريين إلى الاحتراب الداخلي، فيشجعون هذا الطرف على المقاومة، بينما يعطون الضوء الأخضر للحكومة للتدخل، ثم ينهالون عليها بالقصف. كلنا سمع المبعوث الأمريكي وهو يهاجم حتى اتفاقية سايكس بيكو في معرض دفاعه عن وحدة الأراضي السورية، لكن في الوقت نفسه نرى إسرائيل تنقلب على كل التطمينات الأمريكية وتضرب في قلب دمشق، وتتلاعب بالجميع. كل السوريين اليوم في لعبة الأمم مجرد أدوات ووقود لمشاريع الآخرين، لهذا يجب أن نكون جميعاً حذرين في كل خطوة. كم هو ساذج ذاك الذي يصفق للسوريين وهم يهددون بعضهم البعض بالغزوات. كلنا شاهد التطبيل والتزمير لبعض الفصائل وهي تتهدد السويداء على مواقع التواصل متناسياً أن المتقاتلين في النهاية سوريون. هل يسعدكم يا ترى حرق آلاف البيوت والمحلات التجارية في السويداء ونهب محتوياتها، وقتل آلاف الأبرياء والتنكيل بالمدنيين وإرهابهم ودق إسفين تاريخي بين السوريين؟ هل يسعدكم تهجير السوريين على أيدي بعضهم البعض؟ هل يسعدكم سقوط المئات من قوات الأمن؟ لا شك أن هناك جهات كثيرة شريرة متورطة في هذه اللعبة القذرة، لكن الأهم ألا نقع في شراكها وتحقيق أهدافها. كل السوريين يريدون اليوم أن يحل الأمن والاستقرار والسلام في ربوع البلاد. كل السوريين يريدون حصر السلاح في أيدي الدولة. كل السوريين يمقتون فوضى السلاح، لهذا من الخطأ القاتل أن تحاول ضبط السلاح في منطقة، ثم تسمح لمناطق أخرى بامتلاك كل أنواع السلاح لاستخدامه ضد بقية السوريين. هذا ينعكس سلباً على الشعب كله، ويجعله يتردد في التخلي عن سلاحه. كيف تقبل منطقة بتسليم سلاحها إذا كانت منطقة أخرى تتباهى بسلاحها وتهدد به بقية السوريين والكل يصفق لها. صدقوني هذا خطأ قاتل يضر بنا جميعاً كسوريين وينعكس سلباً بالدرجة الاولى على صورة الحكومة، فهي بذلك كمن يطلق النار على قدميه. والمضحك أكثر أن هناك فصائل تقطع مئات الكيلومترات من أقاصي سوريا لتواجه أحد المكونات السورية، بينما هي في الحقيقة ترزح في مناطقها تحت احتلال فصيل داخلي آخر ينكل بها ليل نهار ويحتل ثلث الأراضي السورية ويتحكم بثرواتها. يا له من مشهد كوميدي هزلي. طبيب يداوي الناس وهو عليل. من الخطأ الفادح التغاضي عن هذه الهيستريا، بل يجب وقفها عند حدها فوراً لأنها ستكون وبالاً على الدولة قبل أن تكون وبالاً على نفسها وبقية السوريين. وللعلم فإن المتربصين بسوريا سعداء جداً بهذه المأساة الوطنية وينتظرون تطوراتها المرعبة كي يحققوا مصالحهم على دماء السوريين وأشلائهم. ختاماً، هذه ليست نبوءات، ولا مقاربات تحليلية. هذه معلومات مؤكدة من قلب المشهد. والمخلص ليس من يصفق لك اليوم، بل من يقول لك الحقيقة حتى لو كانت مرّة. وصديقك من صدقك… لا من صدّقك. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا لتغراف السابق ثقافة البوتوكس: جدليّة الجمال المصنّع بين تشييء الجسد وتشوّه التنميّة