
أهلي في السويداء… أهلي في سوريا: تحية وبعد
د. فيصل القاسم
كاتب واعلامي سوري
لم أكن يوماً طائفياً ولن أكون، ولم أنظر إلى السوريين من خلال طوائفهم أو مذاهبهم في يوم من الأيام. طوال سنوات الثورة، وقفت بوضوح إلى جانب الأكثرية السنية، لا على أساس مذهبي، بل من منطلق إنساني وأخلاقي بحت، لأنهم كانوا الضحية الأولى لآلة القتل، ولأنهم تعرضوا للإبادة والتهجير والتجويع والقصف، في واحدة من أبشع مآسي العصر. كنت ـ وما زلت ـ أؤمن أن الوقوف مع المظلوم هو واجب الضمير، لا بطاقة هوية، وأن الكرامة لا تتجزأ، وأن العدالة لا تفرّق بين طائفة وأخرى.
واليوم، ومن ذات المبدأ، أريد أن أضع النقاط على الحروف ليس دفاعاً عن طائفة أو جماعة أو مذهب، بل دفاعاً عن الحق والحقيقة وعن سوريا بالدرجة الأولى، فما حدث خلال الأيام الماضية في السويداء يجب أن يوضع في إطاره الصحيح بعيداً عن الاستهداف المقصود والتشهير المفضوح والشيطنة الجماعية بطريقة ظالمة وخطيرة، تُعيد إنتاج الكراهية، وتمهد لجولات جديدة من الفتنة وسفك الدم.
ما حصل كان كارثة وطنية بكل المقاييس، لكن بدل أن تسعى وسائل الإعلام إلى فهم ما جرى والبحث عن جذوره القديمة، تحوّلت بسرعة إلى منصات تحريضية، صبّت جام غضبها على أهل السويداء، وحمّلتهم وحدهم مسؤولية ما حدث، وصوّرتهم كجلادين، وتجاهلت أنهم أيضاً ـ وبشكل واسع ـ كانوا أكثر الضحايا والمتضررين بشرياً ومادياً.
في أيام قليلة، انطلقت حملة إعلامية غير مسبوقة تُمارس كل أشكال التعميم والتشويه. تم تجاهل القرى التي أُحرقت، والأحياء التي دُمّرت، والنساء والأطفال الذين هُجّروا من منازلهم، وركّزت الرواية فقط على عمليات اقتحام مضادة قام بها شبان دروز ضد أحياء بدوية. ولأن الحقيقة لا تهم كثيرين، تم تجييش الخطاب العام ليصوّر كل الموحدين كما لو أنهم تابعون لجهة واحدة، مع العلم أن الطائفة الدرزية، بطبيعتها، فيها تعدد فكري واجتماعي وثقافي وسياسي، كما هو الحال في كل مكونات سوريا. لكن في زمن التحريض، لا مكان للتفاصيل ولا للعدالة. التهمة جماعية، والعقوبة جماعية، والتشويه جماعي.
لقد اُستشهد في هذه الأيام الكثير الكثير من الدروز، مدنيين وعزلا، بينهم أطفال وشيوخ ونساء. انتشرت مشاهد الإعدامات الميدانية، وحُوصرت مناطق درزية بالكامل، وحُرقت عشرات القرى وتهجر سكانها بعشرات الألوف، ودُمّرت البيوت، وتقطعت السبل بعائلات فرت وتهجرت تحت القصف والتهديد والتنكيل الجماعي. وأصبح مركز السويداء التجاري وقلب المدينة النابض رماداً. بالمقابل، سقط أيضاً ضحايا من أهلنا الأكارم العشائر. وارتُكبت أعمال انتقامية قاسية في بعض المناطق. وهذا مؤلم ومدان ومرفوض. لا يمكن أن نبرر حرق بيت، أو قتل بريء، أو تهجير عائلة ـ أياً كانت طائفتها. ومن المعيب أن يتهجر سوري على أيدي سوري آخر. المظلومية لا تبرر الظلم، ولا يمكن أن يُبنى العدل على الانتقام من أي طرف وضد أي طرف. أليس من المرعب والمخزي أن يفكر سوري بإبادة أخيه السوري؟ لكن الصور الأخرى للأسف لم تجد طريقها إلى عناوين الأخبار كما يجب، مع العلم أن السويداء وقراها منطقة منكوبة. ولم يكن هذا التحيز الإعلامي مجرد انحياز، بل كان انخراطاً واعياً في الشيطنة، وفي تأجيج خطاب الكراهية، وفي اختزال طائفة كاملة في موقف سياسي أو ديني لفرد أو مجموعة، كأن هناك من ينتظر لحظة الانقضاض لتصفية الحساب.
للأسف، كثيرون اليوم نسوا ـ أو تناسوا ـ أن الموحدين ليسوا غرباء عن وجدان سوريا ولا عن تاريخها. أليس من المخزي أن يُمحى فجأة من الذاكرة أن سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى عام 1925، كان درزياً؟ وهو الرجل الذي رفض مشروع «الدويلة الدرزية»، ورفع علم الوحدة الوطنية، وخاض معركة تحرير سوريا من الاحتلال الفرنسي.
هل نسي هؤلاء أن عشرات الآلاف من شباب الدروز رفضوا الخدمة العسكرية مع النظام طوال 14 عاماً، وتعرضوا للسجن والاضطهاد والملاحقة؟ هل نسي الناس أن السويداء فتحت بيوت أهلها لعشرات آلاف النازحين من مختلف الطوائف والمناطق؟ هل صار هذا التاريخ بلا قيمة؟ هل تسبب الموحدون بمقتل سوري واحد من الأكثرية على مدى أربعة عشر عاماً؟ هل تلوثت أياديهم بدم السوريين؟ بالطبع لا. حتى عقائدياً، لا يمكن إخراج الموحدين من الفضاء الثقافي الإسلامي، رغم خصوصيتهم العقائدية. ففي مقدمة رسائلهم المقدسة، يذكرون النبي محمد صلى الله عليه وسلم بنفس الطريقة الإسلامية تماماً كـ»أشرف المُرسلين». ويجب ألا ننسى ما قاله عنهم ذات يوم أمير الشعراء أحمد شوقي: «وما كان الدروز قبيل شرٍ وإن أُخذوا بما لم يستحقوا… ولكن ذادةٌ وقراةُ ضيفٍ كينبوع الصفا خشنوا ورقوا… لهم جبلٌ أشم له شعافٌ موارد في السحاب الجون بلقُ… كأن من السموأل فيه شيئاً فكل جهاته شرفٌ»
الرحمة لكل سوري بريء سقط في تلك المصيبة الوطنية من كل الأطراف دون استثناء. الرحمة لجميع السوريين المدنيين الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم في قلب نارٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فالضحية لا تُقاس بمذهبها، والعدالة لا تُجزأ، ويجب أن تأخذ مجراها.
ففي المحصلة، لم يكن السوريون ـ في هذه الحرب الأخيرة وسابقاتها ـ سوى وقودٍ لمعارك أكبر منهم، ومعظمهم كان مجرد أداة في يد مشاريع لا تمثلهم ولا تعبّر عنهم، بل تستخدمهم ثم ترميهم، كما تُستخدم أعواد الثقاب لإشعال الحرائق ثم تُلقى في الرماد.
نحن جميعاً مجرد حطب في معارك غيرنا. وما يجري اليوم من توريط ليس سوى فصل جديد من لعبة طويلة، تحوّل فيها السوريون ـ كل السوريين ـ إلى محروقات في مشاريع الآخرين. كل طائفة تُستثمر، وكل فئة تُسحب إلى ساحة الحرب، ثم تُترك محترقة. يُطلب منها أن تقتل وتُقتل، ثم تُدان وتُعاقب.
الجميع يُدفعون اليوم إلى خطوط تماس طائفية ومناطقية، ويُستثمر في دمائهم لتُرسم بها خرائط لا علاقة لهم بها. من هنا كان الواجب أن نرفض أن نكون بيادق على رقعة شطرنج لا نعرف من يحركها. من يُشيطن اليوم طائفة، سيُشيطن غداً طائفته. ومن يبرر الحقد الآن، سيكتوي بناره لاحقاً. هذه النار لا تُطفأ بالحقد، بل تُطفأ بالعدالة والصدق والمسؤولية.
أخيراً لا تكن أداة… لا تكن وقوداً. نحن الآن أمام مفترق خطير. إما أن نُبقي أعيننا مفتوحة، ونرفض الانجرار إلى معارك الطوائف والملل والنحل والعشائر، وإما أن نستمر في الدوران داخل نفس الدوامة التي مزقت سوريا. وأنا هنا لا أُدافع عن طائفة، بل عن سوريا المستهدفة بكل مكوناتها. أدافع عن نفسي، عن ضميري، عن سوريا التي أريدها لكل أبنائها، لا لفئة على حساب فئة. وأقول للذين استهوتهم لعبة شيطنة الآخر من كل الأطراف: حين ندخل في لعبة الاصطفافات والشيطنة القاتلة ضد بعضنا البعض، فإننا ـ من حيث لا ندري ـ نخدم الأجندات الخارجية التي تعبث بسوريا وتستخدم الجميع وقوداً لمصالحها ومشاريعها. وحين تدرك أن هناك مخططاً شيطانياً مدروساً، فإن صوت الحكمة والعقل يفرض التنبيه إليه والتحذير منه، لا الوقوع في فخه والانجرار إليه.
لا تكن وقوداً في معركة غيرك. لا تكن أداة في يد من لا يرى فيك سوى وسيلة. لا تكن لساناً لفتنةٍ ستعود لتحرق بيتك. لا منتصر مطلقاً في الصراعات الأهلية، فالقاتل والمقتول قتيل. العدالة لكل الضحايا. الكرامة لكل السوريين. والوطن لكل من يؤمن بأن الدم لا مذهب له، وأن الإنسان لا يُقاس بطائفته، بل بإنسانيته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف
السابق
رئيس الحكومة يجري مباحثات مع رئيس الجمعية الوطنية لفيتنام

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


إيطاليا تلغراف
منذ يوم واحد
- إيطاليا تلغراف
أهلي في السويداء… أهلي في سوريا: تحية وبعد
إيطاليا تلغراف د. فيصل القاسم كاتب واعلامي سوري لم أكن يوماً طائفياً ولن أكون، ولم أنظر إلى السوريين من خلال طوائفهم أو مذاهبهم في يوم من الأيام. طوال سنوات الثورة، وقفت بوضوح إلى جانب الأكثرية السنية، لا على أساس مذهبي، بل من منطلق إنساني وأخلاقي بحت، لأنهم كانوا الضحية الأولى لآلة القتل، ولأنهم تعرضوا للإبادة والتهجير والتجويع والقصف، في واحدة من أبشع مآسي العصر. كنت ـ وما زلت ـ أؤمن أن الوقوف مع المظلوم هو واجب الضمير، لا بطاقة هوية، وأن الكرامة لا تتجزأ، وأن العدالة لا تفرّق بين طائفة وأخرى. واليوم، ومن ذات المبدأ، أريد أن أضع النقاط على الحروف ليس دفاعاً عن طائفة أو جماعة أو مذهب، بل دفاعاً عن الحق والحقيقة وعن سوريا بالدرجة الأولى، فما حدث خلال الأيام الماضية في السويداء يجب أن يوضع في إطاره الصحيح بعيداً عن الاستهداف المقصود والتشهير المفضوح والشيطنة الجماعية بطريقة ظالمة وخطيرة، تُعيد إنتاج الكراهية، وتمهد لجولات جديدة من الفتنة وسفك الدم. ما حصل كان كارثة وطنية بكل المقاييس، لكن بدل أن تسعى وسائل الإعلام إلى فهم ما جرى والبحث عن جذوره القديمة، تحوّلت بسرعة إلى منصات تحريضية، صبّت جام غضبها على أهل السويداء، وحمّلتهم وحدهم مسؤولية ما حدث، وصوّرتهم كجلادين، وتجاهلت أنهم أيضاً ـ وبشكل واسع ـ كانوا أكثر الضحايا والمتضررين بشرياً ومادياً. في أيام قليلة، انطلقت حملة إعلامية غير مسبوقة تُمارس كل أشكال التعميم والتشويه. تم تجاهل القرى التي أُحرقت، والأحياء التي دُمّرت، والنساء والأطفال الذين هُجّروا من منازلهم، وركّزت الرواية فقط على عمليات اقتحام مضادة قام بها شبان دروز ضد أحياء بدوية. ولأن الحقيقة لا تهم كثيرين، تم تجييش الخطاب العام ليصوّر كل الموحدين كما لو أنهم تابعون لجهة واحدة، مع العلم أن الطائفة الدرزية، بطبيعتها، فيها تعدد فكري واجتماعي وثقافي وسياسي، كما هو الحال في كل مكونات سوريا. لكن في زمن التحريض، لا مكان للتفاصيل ولا للعدالة. التهمة جماعية، والعقوبة جماعية، والتشويه جماعي. لقد اُستشهد في هذه الأيام الكثير الكثير من الدروز، مدنيين وعزلا، بينهم أطفال وشيوخ ونساء. انتشرت مشاهد الإعدامات الميدانية، وحُوصرت مناطق درزية بالكامل، وحُرقت عشرات القرى وتهجر سكانها بعشرات الألوف، ودُمّرت البيوت، وتقطعت السبل بعائلات فرت وتهجرت تحت القصف والتهديد والتنكيل الجماعي. وأصبح مركز السويداء التجاري وقلب المدينة النابض رماداً. بالمقابل، سقط أيضاً ضحايا من أهلنا الأكارم العشائر. وارتُكبت أعمال انتقامية قاسية في بعض المناطق. وهذا مؤلم ومدان ومرفوض. لا يمكن أن نبرر حرق بيت، أو قتل بريء، أو تهجير عائلة ـ أياً كانت طائفتها. ومن المعيب أن يتهجر سوري على أيدي سوري آخر. المظلومية لا تبرر الظلم، ولا يمكن أن يُبنى العدل على الانتقام من أي طرف وضد أي طرف. أليس من المرعب والمخزي أن يفكر سوري بإبادة أخيه السوري؟ لكن الصور الأخرى للأسف لم تجد طريقها إلى عناوين الأخبار كما يجب، مع العلم أن السويداء وقراها منطقة منكوبة. ولم يكن هذا التحيز الإعلامي مجرد انحياز، بل كان انخراطاً واعياً في الشيطنة، وفي تأجيج خطاب الكراهية، وفي اختزال طائفة كاملة في موقف سياسي أو ديني لفرد أو مجموعة، كأن هناك من ينتظر لحظة الانقضاض لتصفية الحساب. للأسف، كثيرون اليوم نسوا ـ أو تناسوا ـ أن الموحدين ليسوا غرباء عن وجدان سوريا ولا عن تاريخها. أليس من المخزي أن يُمحى فجأة من الذاكرة أن سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى عام 1925، كان درزياً؟ وهو الرجل الذي رفض مشروع «الدويلة الدرزية»، ورفع علم الوحدة الوطنية، وخاض معركة تحرير سوريا من الاحتلال الفرنسي. هل نسي هؤلاء أن عشرات الآلاف من شباب الدروز رفضوا الخدمة العسكرية مع النظام طوال 14 عاماً، وتعرضوا للسجن والاضطهاد والملاحقة؟ هل نسي الناس أن السويداء فتحت بيوت أهلها لعشرات آلاف النازحين من مختلف الطوائف والمناطق؟ هل صار هذا التاريخ بلا قيمة؟ هل تسبب الموحدون بمقتل سوري واحد من الأكثرية على مدى أربعة عشر عاماً؟ هل تلوثت أياديهم بدم السوريين؟ بالطبع لا. حتى عقائدياً، لا يمكن إخراج الموحدين من الفضاء الثقافي الإسلامي، رغم خصوصيتهم العقائدية. ففي مقدمة رسائلهم المقدسة، يذكرون النبي محمد صلى الله عليه وسلم بنفس الطريقة الإسلامية تماماً كـ»أشرف المُرسلين». ويجب ألا ننسى ما قاله عنهم ذات يوم أمير الشعراء أحمد شوقي: «وما كان الدروز قبيل شرٍ وإن أُخذوا بما لم يستحقوا… ولكن ذادةٌ وقراةُ ضيفٍ كينبوع الصفا خشنوا ورقوا… لهم جبلٌ أشم له شعافٌ موارد في السحاب الجون بلقُ… كأن من السموأل فيه شيئاً فكل جهاته شرفٌ» الرحمة لكل سوري بريء سقط في تلك المصيبة الوطنية من كل الأطراف دون استثناء. الرحمة لجميع السوريين المدنيين الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم في قلب نارٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فالضحية لا تُقاس بمذهبها، والعدالة لا تُجزأ، ويجب أن تأخذ مجراها. ففي المحصلة، لم يكن السوريون ـ في هذه الحرب الأخيرة وسابقاتها ـ سوى وقودٍ لمعارك أكبر منهم، ومعظمهم كان مجرد أداة في يد مشاريع لا تمثلهم ولا تعبّر عنهم، بل تستخدمهم ثم ترميهم، كما تُستخدم أعواد الثقاب لإشعال الحرائق ثم تُلقى في الرماد. نحن جميعاً مجرد حطب في معارك غيرنا. وما يجري اليوم من توريط ليس سوى فصل جديد من لعبة طويلة، تحوّل فيها السوريون ـ كل السوريين ـ إلى محروقات في مشاريع الآخرين. كل طائفة تُستثمر، وكل فئة تُسحب إلى ساحة الحرب، ثم تُترك محترقة. يُطلب منها أن تقتل وتُقتل، ثم تُدان وتُعاقب. الجميع يُدفعون اليوم إلى خطوط تماس طائفية ومناطقية، ويُستثمر في دمائهم لتُرسم بها خرائط لا علاقة لهم بها. من هنا كان الواجب أن نرفض أن نكون بيادق على رقعة شطرنج لا نعرف من يحركها. من يُشيطن اليوم طائفة، سيُشيطن غداً طائفته. ومن يبرر الحقد الآن، سيكتوي بناره لاحقاً. هذه النار لا تُطفأ بالحقد، بل تُطفأ بالعدالة والصدق والمسؤولية. أخيراً لا تكن أداة… لا تكن وقوداً. نحن الآن أمام مفترق خطير. إما أن نُبقي أعيننا مفتوحة، ونرفض الانجرار إلى معارك الطوائف والملل والنحل والعشائر، وإما أن نستمر في الدوران داخل نفس الدوامة التي مزقت سوريا. وأنا هنا لا أُدافع عن طائفة، بل عن سوريا المستهدفة بكل مكوناتها. أدافع عن نفسي، عن ضميري، عن سوريا التي أريدها لكل أبنائها، لا لفئة على حساب فئة. وأقول للذين استهوتهم لعبة شيطنة الآخر من كل الأطراف: حين ندخل في لعبة الاصطفافات والشيطنة القاتلة ضد بعضنا البعض، فإننا ـ من حيث لا ندري ـ نخدم الأجندات الخارجية التي تعبث بسوريا وتستخدم الجميع وقوداً لمصالحها ومشاريعها. وحين تدرك أن هناك مخططاً شيطانياً مدروساً، فإن صوت الحكمة والعقل يفرض التنبيه إليه والتحذير منه، لا الوقوع في فخه والانجرار إليه. لا تكن وقوداً في معركة غيرك. لا تكن أداة في يد من لا يرى فيك سوى وسيلة. لا تكن لساناً لفتنةٍ ستعود لتحرق بيتك. لا منتصر مطلقاً في الصراعات الأهلية، فالقاتل والمقتول قتيل. العدالة لكل الضحايا. الكرامة لكل السوريين. والوطن لكل من يؤمن بأن الدم لا مذهب له، وأن الإنسان لا يُقاس بطائفته، بل بإنسانيته. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف السابق رئيس الحكومة يجري مباحثات مع رئيس الجمعية الوطنية لفيتنام


إيطاليا تلغراف
١٩-٠٧-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
سوريا إلى أين: ليست تحليلات بل معلومات
إيطاليا تلغراف د. فيصل القاسم كاتب واعلامي سوري ما تواجهه سوريا اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل مرحلة مفصلية غير مسبوقة في تاريخها الحديث. فالأخطار التي تقترب منها تُنذر بكوارث حقيقية تفوق التصوّر، وتضع الجميع أمام مسؤوليات جسيمة. المؤشرات والمعلومات التي أملكها تؤكد أن سوريا مستهدفة، وأن هناك مخططات جهنمية جاهزة للتنفيذ، تعتمد بالكامل على تأجيج الصراعات الداخلية والاقتتال بين السوريين أنفسهم. من هنا، فإن أولوية المرحلة يجب أن تكون «الاحتواء، ثم الاحتواء، ثم الاحتواء». لا مجال الآن للمزايدات أو المغامرات الدموية، ولا لأي اندفاع أهوج نحو التصعيد، فكل خطوة في هذا الاتجاه تصب في مصلحة أعداء سوريا، الذين يتحينون الفرصة للدخول من بوابة الفوضى بذريعة «إطفاء الحرائق»، بينما هم في الحقيقة يسعون لاستباحة الأرض السورية والسيطرة على قرارها ومستقبلها. المعلومات المؤكدة، وأكرر، معلومات وليست تحليلات، تشير إلى أن هناك جهات كثيرة تتربص بسوريا وتنتظر لحظة الانفجار الداخلي لتُسقط ما تبقى من بنيان الدولة. كل المخططات الموضوعة حالياً تعتمد على تفجير الداخل السوري، وكل تحريض أو تجييش أو دعوات للانتقام، أو تحشيد للرأي العام، تمضي مباشرة في هذا الاتجاه. وعلينا أن ننتبه: التناحر الداخلي هو الوقود الذي يحتاجونه لتفعيل مشاريعهم. ولهذا، فإن التهدئة اليوم ليست خياراً ناعماً أو ترفاً سياسياً، بل ضرورة وجودية. المطلوب فوراً هو ضبط النفس، إسكات الأصوات المتطرفة، ولجم الرؤوس الحامية التي تدفع البلاد دفعاً نحو المحرقة. هؤلاء، سواء عن قصد أو جهل، يسيرون في طريق يؤدي إلى كارثة جماعية لن ينجو منها أحد، وسيجرّون خلفهم الناس إلى حافة الهاوية. ليس من البطولة أن يُسفك الدم السوري على أيدي السوريين. دم السوري حرام على السوري. وكل من يرفع اليوم شعارات الثأر والانتقام واستباحة مناطق سورية أخرى سيلتهمه الحريق أولاً، ومعلوماتي المؤكدة أن الذين يصفقون للفصائل التي تهدد الآخرين سيبكون عليها قريباً جداً لأنها ذاهبة إلى فخ مُعد لها بدهاء. هذا ما تؤكده المعلومات التي لديّ، لا التحليل ولا التخمين. ما هو قادم في حال استمرار هذا المسار لن يكون مجرد مواجهة، بل محرقة شاملة، خاصة لتلك الجماعات التي تعتقد أنها في موقع القوة. أما المفاجأة الأخطر، فهي أن بعض الجهات التي كان يُظن أنها «مؤيدة» قد تنقلب بسرعة غير متوقعة، ومعطيات الساحة تشير إلى أن دمشق نفسها أصبحت هدفاً مباشراً في الحسابات المقبلة. نعم، العاصمة، بقلبها ومحيطها، هي الهدف التالي بسرعة صاعقة، ما لم يُضبط الإيقاع السياسي والأمني فوراً. لكل من يملك تأثيراً أو صوتاً أو وعياً: المطلوب الآن هو التروي والحذر في كل خطوة. احتواء الأوضاع أفضل ألف مرة من تسعيرها. فكل تصعيد جديد يعني خطوة نحو الكارثة. القادم مخيف، مروّع، لا يُشبه شيئاً من الذي عرفناه سابقاً. نحن نواجه في الواقع لعبة توريط أصبحت مفضوحة للقاصي والداني، والمشكلة أننا نسير بأقدامنا إلى الفخاخ المنصوبة أمامنا، وأن الذين يتظاهرون بأنهم مع سوريا ويريدون لها الاستقرار والازدهار، قد يكون هدفهم العكس تماماً. من جهة يطالبون بوحدة الأراضي السورية، وعلى أرض الواقع يدفعون السوريين إلى الاحتراب الداخلي، فيشجعون هذا الطرف على المقاومة، بينما يعطون الضوء الأخضر للحكومة للتدخل، ثم ينهالون عليها بالقصف. كلنا سمع المبعوث الأمريكي وهو يهاجم حتى اتفاقية سايكس بيكو في معرض دفاعه عن وحدة الأراضي السورية، لكن في الوقت نفسه نرى إسرائيل تنقلب على كل التطمينات الأمريكية وتضرب في قلب دمشق، وتتلاعب بالجميع. كل السوريين اليوم في لعبة الأمم مجرد أدوات ووقود لمشاريع الآخرين، لهذا يجب أن نكون جميعاً حذرين في كل خطوة. كم هو ساذج ذاك الذي يصفق للسوريين وهم يهددون بعضهم البعض بالغزوات. كلنا شاهد التطبيل والتزمير لبعض الفصائل وهي تتهدد السويداء على مواقع التواصل متناسياً أن المتقاتلين في النهاية سوريون. هل يسعدكم يا ترى حرق آلاف البيوت والمحلات التجارية في السويداء ونهب محتوياتها، وقتل آلاف الأبرياء والتنكيل بالمدنيين وإرهابهم ودق إسفين تاريخي بين السوريين؟ هل يسعدكم تهجير السوريين على أيدي بعضهم البعض؟ هل يسعدكم سقوط المئات من قوات الأمن؟ لا شك أن هناك جهات كثيرة شريرة متورطة في هذه اللعبة القذرة، لكن الأهم ألا نقع في شراكها وتحقيق أهدافها. كل السوريين يريدون اليوم أن يحل الأمن والاستقرار والسلام في ربوع البلاد. كل السوريين يريدون حصر السلاح في أيدي الدولة. كل السوريين يمقتون فوضى السلاح، لهذا من الخطأ القاتل أن تحاول ضبط السلاح في منطقة، ثم تسمح لمناطق أخرى بامتلاك كل أنواع السلاح لاستخدامه ضد بقية السوريين. هذا ينعكس سلباً على الشعب كله، ويجعله يتردد في التخلي عن سلاحه. كيف تقبل منطقة بتسليم سلاحها إذا كانت منطقة أخرى تتباهى بسلاحها وتهدد به بقية السوريين والكل يصفق لها. صدقوني هذا خطأ قاتل يضر بنا جميعاً كسوريين وينعكس سلباً بالدرجة الاولى على صورة الحكومة، فهي بذلك كمن يطلق النار على قدميه. والمضحك أكثر أن هناك فصائل تقطع مئات الكيلومترات من أقاصي سوريا لتواجه أحد المكونات السورية، بينما هي في الحقيقة ترزح في مناطقها تحت احتلال فصيل داخلي آخر ينكل بها ليل نهار ويحتل ثلث الأراضي السورية ويتحكم بثرواتها. يا له من مشهد كوميدي هزلي. طبيب يداوي الناس وهو عليل. من الخطأ الفادح التغاضي عن هذه الهيستريا، بل يجب وقفها عند حدها فوراً لأنها ستكون وبالاً على الدولة قبل أن تكون وبالاً على نفسها وبقية السوريين. وللعلم فإن المتربصين بسوريا سعداء جداً بهذه المأساة الوطنية وينتظرون تطوراتها المرعبة كي يحققوا مصالحهم على دماء السوريين وأشلائهم. ختاماً، هذه ليست نبوءات، ولا مقاربات تحليلية. هذه معلومات مؤكدة من قلب المشهد. والمخلص ليس من يصفق لك اليوم، بل من يقول لك الحقيقة حتى لو كانت مرّة. وصديقك من صدقك… لا من صدّقك. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا لتغراف السابق ثقافة البوتوكس: جدليّة الجمال المصنّع بين تشييء الجسد وتشوّه التنميّة


إيطاليا تلغراف
١٢-٠٧-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
من يُشعل حرائق سوريا؟
إيطاليا تلغراف د. فيصل القاسم كاتب واعلامي سوري في لحظة يُفترض أن تبدأ فيها سوريا مرحلة تعافٍ وبناء بعد أربعة عشر عاماً من الدمار والدماء والخراب والتهجير والتعفيش، تعود إلى الواجهة مشاهد مأساوية لا تخطئها العين: غابات محترقة في الساحل السوري وغيره، انفجارات تهزّ كنائس ومناطق مدنية، وحملات إعلامية موجّهة تهدف لتأجيج الفتن وزرع الشكوك. مشهد يبدو في ظاهره متفرّقاً، لكنه في جوهره مترابط، ويدل على وجود من يعمل بوعي وتصميم على إجهاض أي محاولة للنهوض السوري الحقيقي. فهل حرائق الساحل مجرد صدفة مناخية مثلاً؟ شهدت محافظتا اللاذقية وطرطوس، ولا تزالان، سلسلة حرائق واسعة التهمت آلاف الهكتارات من الغابات والأراضي الزراعية. في كل مرة تُعزى هذه الكوارث إلى «ارتفاع درجات الحرارة»، لكن تواتر الحرائق وتزامنها، مع سرعة انتشارها في مناطق محددة، يطرح تساؤلات منطقية: هل هي مفتعلة ولماذا امتدت من الساحل إلى مدن أخرى كدير الزور وغيرها؟ ومن يقف خلفها؟ الساحل السوري ليس مجرد مساحة جغرافية؛ إنه رئة البلاد الخضراء، وموطن استقرار اجتماعي. إحراقه يبدو ممنهجاً وهو تدمير للموارد، وتهجيرٌ بطيء لسكانه، وضربٌ مباشر لما تبقى من البيئة والبنية الاقتصادية المحلية. ولا ننسى أن كبار رموز النظام الساقط كانوا في السابق متورطين في حرق الساحل وبيع جزء كبير من الأراضي المحترقة لوكالات دولية ربما نتعرف عليها في قادم السنين. ومن السخف القول إن النظام وفلوله لا يمكن أن يحرقوا مناطقهم، فالعصابات الطائفية التي حرقت سوريا كلها ورفعت شعار «الأسد أو نحرق البلد» لن تتوانى مطلقاً عن حرق أي شيء خدمة لمصالحها أو مصالح مشغليها، فمتى كان العملاء والخونة وطنيين أو يخافون على أهلهم ووطنهم؟ لا ننسى أن آل الأسد ضحوا بمئات الألوف من العلويين على مذبح نظامهم الساقط ثم هربوا وتركوهم يواجهون النار لوحدهم، وبالتالي لا يضيرهم أبداً أن يحرقوا البشر والشجر في الساحل. أما تفجيرات دور العبادة فهي رسائل دم لإعادة فتح جروح الطائفية، فتفجير كنيسة أو الاعتداء على مزار ديني ليس مجرد «حدث أمني»، بل هو بيان سياسي ملوث بالدم، يُراد به إعادة إشعال نار الطائفية والتشكيك في إمكانية العيش المشترك. هذه الأفعال تأتي متزامنة مع أي خطوة إيجابية نحو البناء والنهضة والحوار والمصالحة الوطنية. سوريا لطالما كانت نموذجاً معقّداً للتعدد، لكن التعدد لم يكن يوماً تهديداً لها، بل سرّ قوتها. واليوم، هناك من يعمل لنسف هذا التعايش، بإشعال الفتنة مجدداً، وتحويل الرموز الدينية إلى ساحات صراع لا منارات إيمان. ثم يأتي إعلام الفتنة وهو بمثابة منابر مأجورة وسُمٌّ زعاف مغلف بالشعارات. ولا يقلّ خطر الإعلام الموجّه عن خطر النيران والانفجارات. فما إن تقع حادثة، حتى تُفتح أبواب جهنم على شاشات وصفحات ومنصات، تُعزز الانقسام وتبث التحريض. بعض المنصات تنشط بتمويل خارجي وتوجيه سياسي واضح، تستخدم الخطاب الطائفي والتضليل والتخوين أدواتٍ لإرباك الرأي العام، وضرب الثقة بين الناس والدولة، وبين المكونات الاجتماعية بعضها ببعض. هذا النوع من الإعلام لا يسأل «ما الذي حدث؟»، بل يسأل «كيف نوظفه؟» لخدمة الفوضى والتشويش على أي مشروع إصلاحي أو وطني. من المستفيد من وضع العصي في عجلات سوريا الجديدة يا ترى؟ حين نربط الحرائق المتكررة، والتفجيرات المشبوهة، والخطاب الطائفي المتصاعد، نجد أننا أمام مشروع تخريبي ممنهج، يهدف لإيقاف عجلة سوريا قبل أن تدور مجدداً. وحتى بعض أصوات المعارضة الداخلية التي ترفع شعارات وطنية زائفة مرتبطة بجهات عدوة معروفة لا تريد الخير لسوريا والسوريين، فكيف يدعي البعض الوطنية بينما ينسقون مع أعداء سوريا ويتغطون بدعمهم لهم ولعصاباتهم ويعملون على تشكيل إقطاعيات وتقسيم البلد إلى كانتونات؟ من يقف خلف هذا التخريب والتفكيك والتشويش يا ترى؟ لا شك أن هناك تنظيمات إرهابية ترفض الاعتراف بأي استقرار. قوى إقليمية ترى في سوريا القوية تهديداً لنفوذها. دول تريد سوريا ضعيفة ومُقسّمة. أطراف داخلية تخشى فقدان امتيازاتها وإقطاعياتها وتعمل لإطالة أمد الانقسام. إعلام مأجور يعيش على إشعال الأزمات لا تغطيتها. هؤلاء جميعاً يوحّدهم هدف واحد: منع سوريا من النهوض بسيادتها، وكرامتها، ووحدتها، حتى وإن رفعوا مطالب وشعارات زائفة وكاذبة مغلفة بالوطنية. وهل يمكن أن ننسى فلول النظام والمتضررين من تحرير سوريا وهم مازالوا مختبئين في كل حدب وصوب ويحاولون علناً تفجير الأوضاع في الساحل وغيره لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء. في سوريا اليوم إذاً: هل هي معركة الوعي أم معركة السلاح؟ ما يجري ليس حرباً تقليدية، بل حرب على العقول والنفوس. من يسقط في فخ الطائفية والتشكيك والخوف، يخسر قبل أن يُمسك سلاحاً. ومن يصمد بالوعي والعقل والرفض الصريح للفتنة، يساهم في إعادة بناء الوطن. المعركة اليوم هي معركة رواية: من يكتب تاريخ سوريا بعد الحرب؟ هل هم من يشعلون النار؟ أم من يُطفئونها ويزرعون بدلامنها زيتونة؟ في الختام… من يملك الأرض يزرعها، ومن يملك الوعي يحميه، وأمام كل هذه التحديات، يبقى الرهان على وعي السوريين أنفسهم. فالنار مهما اشتعلت، لن تُبقي شيئاً إذا لم يُطفئها أبناء الوطن. والفتنة مهما صرخت، لن تجد من يسمعها إذا ساد العقل والحكمة. سوريا لا تحتاج مزيداً من الضحايا، بل مزيداً من البنّائين، من رجال الإطفاء، ومن يحمون الكنائس والمساجد، ومن يصونون الوعي في وجه الإعلام الأسود، فمن أراد النهوض، لا يلتفت إلى الهاوية، بل يصعد. الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف التالي الحرب السودانية بين الأمل والسلام