logo
الرواية بين المحلية والعالمية.. علامات من الرواية الأردنية

الرواية بين المحلية والعالمية.. علامات من الرواية الأردنية

الجزيرةمنذ 6 أيام

يخطر في بال المرء حين يتأمل مسألة "الرواية بين المحلية والعالمية" أن كل رواية تبدأ من محليتها؛ أي من محيطها وبيئتها، ومن ثقافة كاتبها وخبرته في الحياة والكتب. فالمحلية نقطة الانطلاق الأساسية التي تبدأ منها الروايات، ولكنها في الوقت نفسه لا تقف عندها، ولا ينبغي لها ذلك، بل يتوقع أن يكون لها أفقها العالمي والإنساني في إطار من الإيمان بالتجربة المشتركة للإنسان.
وإذا انطلقنا من أن الرواية العربية جنس أدبي حديث ارتفع شأنه في العقود الأخيرة، حتى أقر كثير من الكتاب والنقاد بأن "الرواية ديوان العرب الحديث" بدلا من الشعر الذي ظل ديوان العرب لقرون طويلة، ويتضمن هذا القول الاعتراف بقدرتها على تمثيل الحياة والواقع، وبناء عالم رمزي أو كنائي يوازي الواقع ويواجهه، ويسمح بإعادة النظر فيه؛ ذلك أنها جنس يتميز بالانفتاح والمرونة وقابلية التشكل، والجمع بين قدرات وإمكانات ثرية قد لا تتوفر لغيرها من الأجناس والأنواع.
الرواية جنس أدبي عالمي
يصح أن نضيف إلى ما سبق حقيقة مفادها أن الرواية جنس أدبي عالمي، وصفه جورج لوكاش منذ نحو مائة عام بأنه "ملحمة العصر الحديث"، وأشاد باختين بإمكاناته وانفتاحه وبقدرته على التحول والتشكل، وشدد على اتساع الرواية الحديثة للتهجين وتعدد اللغات والأصوات.
فذلك كله يشير من زاوية ما إلى أن طبيعة الجنس الروائي هي خليط من المحلية والعالمية؛ فهو ليس جنسا مغلقا أو مقترنا بثقافة أو لغة دون أخرى، كما أن ما ينتج في معظم اللغات (وضمنها العربية) لا ينشأ من بيئة مغلقة أو محدودة، وإنما هو نتاج هذا التهجين بين مرجعيات وخيوط متنوعة، يلتقي فيها المكون المحلي بالمكونات والتطلعات الإنسانية والعالمية.
ولعل الروائي العربي والأردني يدرك أن الرواية، كي تتهيأ لمدى أوسع قد يصل إلى العالمية، لا بد لها من أن تتجاوز قيد المحلية في دلالتها ورسالتها؛ لتصل بعدها المحلي بدلالات أو معان ذات بعد عالمي وإنساني.
أي أن النقطة الأولى تتصل بمحمولات الرسالة وبقدرتها على تصعيد همومها المحلية وإدراجها في السياق العالمي، والنقطة الثانية تتبع الأولى وتتصل بمواكبة الرواية الأردنية أو غيرها لتطور الرواية العالمية في أساليبها وقدراتها الفنية وطرائقها وحيلها، مما يتطلب من الكاتب نوعا من الثقافة العالمية، والمتابعة لما ينتج، ليس على سبيل "اتباع الموضة"، وإنما الإصغاء العميق لما يصيب العالم من تطور وتحول.
ونحسب أن المكون العالمي مكون أساس في ثقافة الكاتب الأردني، وذو تأثير لا يخفى في كتابته، انطلاقا من عالمية الجنس الروائي ذاته، ومن تأسيس الكتابة الروائية على خلفيات عالمية مختلطة تكون ركنا مهما في منطلقات الكتابة الروائية ومنابع التأثير والتفاعل فيها.
التعبير عن المحلية بروح كونية
وربما نتفق مع آدم كيرش، الناقد والصحفي الأمريكي، مؤلف كتاب " الرواية العالمية" الذي ترجمته لطفية الدليمي، في نظرته للرواية العالمية التي يقوم فيها الأدب بدور التركيز على الموضوعات والأساليب العالمية.
وينصح كيرش الكتاب لا بالتخلي عن المحلية، وإنما بالتخطيط لكتابة التجربة المحلية بروح كونية/عالمية، وهي نصيحة مهمة لا خلاف عليها، وكثير من الإنتاج العالمي المميز يؤيدها، إذ يقوم على تحويل المكونات المحلية وصهرها في إطار من الآفاق العالمية.
الأمر الآخر المهم في نظرنا هو التفكير في إيصال الرواية إلى القارئ، بدءا من القارئ القريب "المحلي"، ثم القارئ العربي، فالقارئ العالمي. قد نقول هذا الكلام بيسر، ولكن عندما نفكر في إمكانيات تنفيذه لا تخفى صعوبته؛ ففي العالم مئات اللغات، فأي قارئ نقصد؟ ومن يتوجه إليه الكاتب الذي يفكر في القارئ العالمي أو يتطلع إلى مراعاة مطالبه وتوقعاته؟
فإذا كان بالإمكان الوصول إلى القارئ العربي باختيار ناشر ملائم قادر -على الأقل- على المشاركة في معارض الكتب العربية، فإن الوصول إلى القارئ العالمي صعب من وجوه عدة؛ فهو قارئ مختلف، بل توجد في حقيقة الأمر طبقات من القراء المختلفين الذين لا تسهل مخاطبتهم، ولا بد من بذل مجهود في ذلك للتعرف إلى توجهات القراء وإمكانات التواصل معهم.
إلى جانب ذلك، هناك مشكلة اللغة التي تتطلب أحد أمرين: إما أن يكتب المؤلف بلغة أجنبية حية، وإما أن يبحث عن فرص الترجمة التي بمقدورها أن تسهم في نقل الكتاب إلى جمهور أوسع، رغم ما يرصده المتخصصون من أوجه قصورها، خصوصا في ترجمة المادة الأدبية.
ينقلنا حديث الترجمة إلى مشكلات متشعبة تتصل في جانب منها بمعايير الترجمة، وبضرب من بقايا الاستشراق الذي يطلب من الشرق قصصا بعينها قد لا تمثل حقيقة الشرق ولا واقعه بمقدار ما تغذي الصورة النمطية التي رسمها الغرب للشرق. وللأسف، فبعض كتابنا العرب وقعوا في وهم الترجمة، وغدوا قنوات لتغذية المخيال الغربي أكثر من إيصال حقيقة واقعنا وتطلعاتنا.
ولكن أمر الترجمة لا ينحصر في هذه الزاوية أو الوضعية؛ فمقابل هؤلاء، هناك كتاب مؤمنون بقضايا العرب والعالم الإسلامي، وحريصون على تناولها بطريقة مغايرة للتوقع أو للمنظور الغربي الذي يستند -في كثير من الأحيان- إلى معضلة المركزية الغربية، وإلى أن يكون فرعا من فروع الهيمنة وميول الاستشراق وضروب الاستعمار الجديد.
وحين ننظر في واقع الرواية الأردنية نجد فيها قدرا واضحا من التطور كما ونوعا، ونجد في كثير من نماذجها ما يمثل الواقع العربي والأردني بطرق فنية وسردية متقدمة. نجد في أكثر نماذجها الجيدة جدلا مع الواقع ونقدا له ينطلق من تطلعاتنا، ويراد منه الإسهام فيما نرنو إليه من التقدم والعدالة وتجاوز المعيقات الحضارية، سواء أكانت أسبابها داخلية أم خارجية.
وإذا ربطنا بين محليتها وتطلعها العالمي، فإننا محتاجون إلى تناول بعض المؤشرات الدالة، من أهمها: صدور روايات لكتاب أردنيين بلغات أجنبية، ومدى حضور الرواية الأردنية في إطار نشاط الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية واسعة الانتشار. فمثل هذه المؤشرات ربما تضعنا في إطار ملموس وواقعي من الاهتمام بالبعد العالمي.
روايات أردنية بلغات أجنبية
الروايات المكتوبة بلغات أجنبية لمؤلفين أردنيين معظمها باللغة الإنجليزية، فليس لدينا ظاهرة "فرانكفونية" وليس لدينا رواية أردنية بالفرنسية مثلا كما هو الحال في الجزائر أو المغرب أو لبنان أو غيرها من الأقطار العربية التي تتقدم فيها الفرنسية على الإنجليزية، لأسباب لها علاقة بترِكة الاستعمار ومناطق الهيمنة السابقة.
وأما الكتاب الأردنيون الذين لهم تجارب في الكتابة بلغات أجنبية فلعل أبرزهم:
عقيل أبو الشعر كاتب أردني الأصل من قرية الحصن قرب إربد شمال الأردن، نشأت في السنين الأخيرة "حركة" اكتشاف لآثاره الأدبية قادتها قريبته أو ابنة عائلته د.هند أبو الشعر الكاتبة والمؤرخة المعروفة، وقد أفضى البحث إلى الكشف عن عدة أعمال روائية مبكرة في مسيرة الرواية العربية كلها، واحدة منها بالعربية بعنوان (الفتاة الأرمنية في قصر يلدز) 1912.
وقد أتقن هذا المؤلف عدة لغات وانتقل إلى بلدان متعددة وعاش في جمهورية الدومنيكان في أميركا الجنوبية، على ما آل إليه أمر كثير من المهاجرين العرب المسيحيين ممن كونوا ظاهرة أدب المهجر، وقيل إن الرجل وصل إلى وظيفة وزير في تلك البلاد حسب بعض المصادر.
ويهمنا هنا أنه كتب بعض رواياته بالفرنسية والإسبانية، وقد ترجمت بعضها مؤخرا إلى العربية.
أهم هذه الروايات:
" القدس عربية – نهلة غصن الزيتون" ، وكتبت بالإسبانية عام 1921 وترجمها إلى العربية عدنان كاظم ونشرتها وزارة الثقافة الأردنية عام 2012.
وكذلك رواية أخرى بعنوان:"إرادة الله" ، المكتوبة بالإسبانية عام 1917، وترجمها عدنان كاظم وظهرت في طبعة عربية عن وزارة الثقافة عام 2013.
أما رواية "الانتقام" فنشرت بالفرنسية عام 1935، وترجمها وائل الربضي ونشرتها وزارة الثقافة عام 2013.
وبالرغم من هذه الريادة التاريخية فإن هناك عوامل تحدّ منها وتعترض طريقها؛ فهذه الأعمال المبكرة لم يعرفها القارئ الأردني أو العربي قبل اكتشافها المتأخر وترجمتها في طبعات محلية، ولذلك فإنها لم تنهض بدور واضح في مسيرة الرواية الأردنية والعربية، كما أنها روايات مغمورة في سياق الرواية الأجنبية المكتوبة بالفرنسية أو الإسبانية في أوائل القرن العشرين.
وقد شهدت تلك المرحلة تطورا واسعا في نهضة الرواية، وظهرت فيها الأسماء العالمية المؤثرة حتى اليوم، وليس للرجل اسم مذكور في تاريخ الرواية بهذا المعنى، ولذلك تظل ريادة عقيل أبو الشعر محددة بالريادة التاريخية، نظرا لسبقه في كتابة الرواية، دون أن نبالغ في بناء ريادته بأثر رجعي، فالريادة تقتضي الفاعلية والتأثير وليس السبق التاريخي وحده.
تعد الكاتبة فادية الفقير البريطانية-الأردنية رائدة الرواية الأردنية المكتوبة بالإنجليزية، وقد ترجمت رواياتها إلى كثير من لغات العالم، وترجم بعضها إلى العربية.
أشهر رواياتها:
(اسمي سلمى) التي نشرت عام 2007 بالإنجليزية، وظهرت ترجمتها عن دار الساقي 2009 بترجمة عابد إسماعيل.
كما ترجمت روايتها (أعمدة الملح) ونشرتها دار ألكا (ترجمة فرج عبد السلام).
ونقرأ في سيرتها المفصلة -بحسب موقعها الإلكتروني- أنها كاتبة وروائية أردنية – بريطانية وأكاديمية مستقلة تهتم بقضايا حقوق الإنسان. ولدت في عمان لوالد أردني من قبيلة العجارمة أما والدتها فشركسية. حصلت على البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من الجامعة الأردنية في عام 1983 ثم سافرت إِلى بريطانيا لمتابعة دراستها العليا.
وفي عام 1985 حصلت على الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة لانكستر ثم عادت الى الأردن وعملت لفترة قصيرة كمنسقة إعلامية في وزارة التعليم العالي ومؤسسة آل البيت. وفي عام 1986 عادت إلى بريطانيا لإتمام دراستها العليا وحصلت على أول دكتوراه في بريطانيا في الكتابة الإبداعية والنقدية من جامعة إيست أنجليا تحت اشراف الكاتب والناقد المعروف مالكولم برادبري عام 1989.
وفي عام 2009 منحتها كلية سانت إيدن في جامعة درم الزمالة في الكتابة الإبداعية. نشرت أعمالها في تسعة عشرة دولة وترجمت الى خمسة عشر لغة. نشرت دار بنغوين روايتها الأولى "نسانيت" عام 1987 أما روايتها الثانية "أعمدة الملح" فنشرتها دار كورتيت عام 1987 وترجمت إلى خمس لغات.
صدرت روايتها الثالثة "إسمي سلمى" عام 2007 عن ترانزورلد التابعة لمجموعة دار راندم وترجمت إلى أثنا عشر لغة. وحازت الترجمة الدنمركية لكل من "أعمدة الملح" و"اسمي سلمى" على المرتبة الثانية لجائزة "ألوا" التي يمنحها مركز آداب اٍفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وجزر المحيط الهادي.
مقدمة روايتها الرابعة "في مطبخ منتصف الليل" نشرت في دورية وبر الأمريكية وحصلت على جائزة نائلة سيشاشاري لعام 2009.
نشرت دار كويركس روايتها الخامسة "شجر الصفصاف لا يبكي" عام 2014.
كانت المحررة الرئيسة لسلسلة الكاتبات العربيات التي نشرتها دار جارنت وحازت هذه السلسلة على جائزة ­­"النساء العاملات في دور النشر البريطانية" عام 1997″.
ويمكن القول إن الكتابة باللغة الإنجليزية وفي سياق أجنبي لم يبعد فادية الفقير عن هموم مجتمعها وقضاياه، فمعظم رواياتها ذات صلة بالتحولات الاجتماعية والسياسية، وبوضعية المرأة بشكل خاص كما عاينتها وخبرتها في موطنها، أي أن محتوى روايتها لا يبعد عما يشغل كثير من الكتاب الذين يكتبون بالعربية.
وربما يعود هذا إلى طبيعة تجربتها الشخصية، وهجرتها إلى بريطانيا وهي ناضجة في سن الشباب، وصِلتها التي لم تنقطع ببلدها وأسرتها ومحيطها حتى اليوم. ولذلك فتجربتها من لون مختلف عن تجربة عقيل أبو الشعر الذي أغرب في منظوره وقضايا رواياته، وكتبها في المجمل بمنظور مجتمع هجرته، وليس وعي موطنه الأول.
وقد ساعدت ترجمة روايات فادية الفقير على تلقي أعمالها بالعربية، إلى جانب مساهماتها في حركة الأدب العربي ومشاركتها في كثير من الفعاليات مما قرّب تجربتها من القارئ العربي سواء اتصل بأعمالها باللغة الإنجليزية أو عبر ترجماتها العربية.
مؤلفات أمريكيات أردنيات
يمكن الإشارة إلى كاتبات معروفات ينتمين إلى ظاهرة الكتاب الأمريكيين ذوي الأصول العربية، وبوجه خاص نشير إلى كاتبتين معروفتين هما: ديانا أبو جابر وليلى حلبي، المعروفتين جيدا ضمن هذه الظاهرة التي تمثل تلوينا ملحوظا في الكتابة بالإنجليزية.
وإنتاج هاتين الكاتبتين لم يترجم في حدود علمنا إلى العربية حتى الآن. إلى جانب أن صلتهما بالهموم الأردنية والمحلية أقل وضوحا مما لاحظناه لدى فادية الفقير، بل يمكن القول إنهما تكتبان من زاوية أخرى أبعد، تتصل بالمجتمع الأمريكي وبما يتصل به من ظواهر، بما فيها هموم المهاجرين داخل ذلك المجتمع.
إنهما جزء من ظاهرة الكتاب متعددي الأصول في سياق الثقافة والكتابة الأمريكية الراهنة، ومع ذلك فمن المهم ترجمة أعمالهما التي نقلت إلى لغات عديدة ولم تحظ بالترجمة إلى العربية.
كتبت الروائية المعروفة كفى الزعبي (1965) إحدى رواياتها باللغة الروسية التي تتقنها ونشرت في بطرسبرغ كرواية روسية (عد إلى البيت يا خليل)، كما نشرت روايتها (ليلى والثلج ولودميلا) باللغة الروسية عام 2010، بعد طبعتها العربية المنشورة عام 2007.
وهناك ترجمات لكتاب آخرين في سنوات أقدم (قبل 1990) في مرحلة الاتحاد السوفياتي خصوصا ما نشر ضمن نشاطات اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا الذي يعد إحدى المنظمات الثقافية ذات التوجه اليساري المرتبط بالاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية آنذاك.
روايات أردنية مترجمة إلى اللغات الأجنبية
يعد مؤشر الترجمة إلى اللغات الأجنبية العالمية مؤشرا ذا بال في سياق الحديث عن عالمية الرواية، وبالرغم من نظرتنا إلى اللغة العربية وتقدير مكانتها العالية كلغة أدبية ومعرفية عالمية ولها تاريخها وتطورها، فإن ما يكتب بها اليوم يظل في دائرة محدودة مهما اتسع عدد قرائها، ومع نقدنا لهيمنة اللغة الإنجليزية وكذلك الفرنسية بشكل خاص على المشهد العالمي ونجاح الإنجليزية محمولة بأدوات استعمارية وسياسية لتغدو لغة العالم ولغة العولمة فلا مناص من الاعتراف بأن ذلك يحتم أن تكون في مقدمة اللغات التي تتيح لجمهور واسع الاطلاع على الرواية العربية وغير العربية.
ويمكن الإشارة إلى جهود الأديب الراحل عيسى الناعوري (1918-1985) الذي يعد من رواد الترجمة باللغة الإيطالية، ولكن يبدو أنه اهتم بالترجمة من الإيطالية إلى العربية أكثر مما عني بترجمة الأدب الأردني والعربي إليها، وللناعوري رواية مبكّرة هي بيت وراء الحدود (1959) نشرت بالإسبانية عام 1973، قد تكون من أوائل الأعمال الأردنية المترجمة. كما يمكن الإشارة إلى جهود حسني فريز الذي نشر قصصا مختارة وروايات بالإنجليزية.
أما الروايات المترجمة إلى الإنجليزية وغيرها في العقود والمراحل الأخيرة وفي وقتنا الراهن فأقرب أن تكون روايات قليلة حتى الآن، قياسا باتساع الإنتاج الروائي وثراء الظاهرة الروائية، يمكن الإشارة إلى أمثلة دالة من تلك الروايات:
روايات إبراهيم نصر الله
ويبدو لنا أن أعمال إبراهيم نصر الله (1954) هي الأوفر حظا في نيل الاهتمام ومن إقبال المترجمين ودور النشر المهتمة بالرواية العربية. وقد حظيت بمترجمين معروفين وبالنشر في دور نشر معروفة ومهمة.
ونذكّر بمشروع بروتا الذي بادرت إلى تأسيسه الأديبة الراحلة سلمى الخضراء الجيوسي (1925-2023)، وكان ذلك المشروع جسرا ثقافيا مرموقا بالرغم من الصعوبات التي واجهها، ونجح في نقل مختارات ونماذج من الأدب العربي المعاصر إلى الإنجليزية، وهو المشروع الذي تبنى ترجمة رواية إبراهيم نصر الله براري الحمى عام 1993 وكان ذلك خطوة مهمة في التعريف بتجربته وفي استقطاب ترجمات أخرى مرموقة لهذه الرواية المهمة، ولروايات أخرى للكاتب.
وقد حظيت روايات نصر الله بمترجمين ومترجمات مرموقين وبدور نشر متميزة في كثير من اللغات، كالترجمات التي نهضت بها نانسي روبرتس إلى الإنجليزية لكثير من روايات نصر الله مثل: زمن الخيول البيضاء، وأعراس آمنة، وقناديل ملك الجليل، وغيرها.
روايات أخرى بالإنجليزية
حظيت بعض روايات الروائية الراحلة ليلى الأطرش (1948-2021) بالترجمة إلى الإنجليزية ولغات أخرى، ومنها رواية امرأة الفصول الخمسة فقد ترجمت ونشرت عام 2001 واضطلع بترجمتها نورا حلواني وكريستوفر تينجلي.
كما أسهمت بعض الجوائز العربية في توجيه الاهتمام إلى روايات أردنية حصدت جوائز مهمة، فحظيت رواية دفاتر الوراق لجلال برجس بترجمة أنجزها بول ستاركي أحد كبار المترجمين والمتخصصين المعاصرين في الأدب العربي، إلى جانب ترجمات أخرى إلى لغات غير الإنجليزية.
كما ترجم جوناثان رايت المترجم والصحفي البريطاني رواية (حيث لا تسقط الأمطار) لأمجد ناصر (1955-2019)، ونشرت الترجمة دار بلومزبري/دار حمد بن خليفة/ قطر) عام 2015. وترجمت باولا حيدر رواية جمال ناجي (1954-2018) المعنونة بـ (موسم الحوريات) إلى الإنجليزية، ونشرتها دار جامعة حمد بن خليفة/قطر عام 2018.
ويمكن الإشارة إلى تجربة الروائية الأردنية-السورية شهلا العجيلي ويبدو أن معظم رواياتها قد ترجمت في السنين الأخيرة:
سماء قريبة من بيتنا (A Sky So Close to Us) ترجمة ميشيل هارتمان، Interlink Books ،2021). والطبعة الألمانية ترجمة، Christine Battermann عام 2022.
صيف مع العدو (Summer with the Enemy) ترجمة ميشيل هارتمان، Interlink Books ،2021.
كما ترجمت مجموعتها القصصية سرير بنت الملك وصدرت عن مركز دراسات الشرق الأوسط بأوستن، ترجمة سواد حسين، 2021.
وترجمت نسرين أختر خاوري عددا من الروايات الأردنية ضمن مبادرة دعمتها وزارة الثقافة الأردنية ونتج عنها ترجمة أربع روايات هي: أنت منذ اليوم لتيسير السبول، والقرمية لسميحة خريس، وخبز وشاي لأحمد الطراونة، والقط الذي علمني الطيران لهاشم غرايبة. وصدرت الترجمات عن دار نشر جامعة متشغان في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهناك محاولات لترجمات "محلية" أي أن المترجم محلي والنشر كذلك، وهذه الترجمات لا نرى لها تأثيرا ملحوظا، ولكنها تعبر عن الرغبة في الوصول للقارئ الأجنبي.
ومن أمثلتها: ترجمة (ايليان عبدالجليل) إلى الإنجليزية رواية (أحياء في البحر الميت) لمؤنس الرزاز بعنوان "Alive in the dead sea" ، منشورات وزارة الثقافة عام 1997.
أخيرا ننبه إلى بعض الأمور المهمة، أولها حاجة الترجمة إلى مشاريع مؤسسية ومبادرات موسعة دائمة، وتحتاج إلى صلات واتفاقات مع مترجمين مرموقين ومع دور نشر عالمية ومرموقة، ويصعب أن ينهض بها الكاتب وحده، ولعل أمرها محتاج إلى بلورة مبادرة تتعاون فيها رابطة الكتاب الأردنيين مع وزارة الثقافة ومؤسسة شومان ونحوها من المؤسسات الوطنية القادرة على رسم خطة رشيدة لمثل هذا العمل الحيوي.
والملاحظة المهمة أن لا يشكل السعي إلى الترجمة والتطلع إليها هاجسا للكاتب وللروائي، فمثل هذا الهاجس سيدخله في دوامة مقلقة، ربما تؤدي به إلى التكيف مع متطلبات الكثير من مؤسسات الترجمة وقنواتها ونعني تلك التي تتبنى الترجمة لتوجهات سياسية أكثر منها أدبية، ولديها تصورها النمطي العدائي لعالمنا، ولا تفتش إلا عما يؤيد ذلك التصور ويغذّيه، ولعلكم تعرفون للأسف أمثلة على ذلك من كتاب يتسابق الغرب على ترجمتهم ويشجع نشر أعمالهم باللغات الأجنبية لأنها تسيء إلى العرب وتقدمهم في إطار الصورة النمطية للتصور الغربي.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي
التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

التعبيرية في الأدب.. من صرخة الإنسان إلى عالم جديد مثالي

تظل التعبيرية في الأدب على اختلاف المكان والزمان تشكل نزعة شمولية صارخة تطمح إلى الكشف بطريقة درامية ومؤثرة عن معاناة الإنسان المعاصر، وتنعكس آثارها على النتاج الأدبي بشتى أنواعه، وتمتد لتشمل الفنون الأخرى كالرقص والرسم والموسيقى. والتعبيرية بمعناها اللغوي تعني تصوير ما يعتمل في النفس الإنسانية من مشاعر محيطة، وإحساسات مقهورة واعية وغير واعية، يتضح من خلالها جوهر الإنسان وحقيقة ذاته الحية بأنماطها الغريزية والخلقية، ولا يعني ميلنا إلى التفسير اللغوي المبسط للتعبيرية أنها نزعة انطوائية مرتدة إلى الداخل، وإنما هي من أرحب الحركات الفنية استيعاباً لأعباء الأنا الجماعية، واستقطاباً لما يحيط بها من إرهاصات وتحديات يجتمع على تجسيد انعكاساتها أكثر من كاتب وفنان. نشأة التعبيرية ومصادرها الفكرية ولتوضيح هذه الظاهرة المرحلية الغامضة في الأدب العالمي، لا نجد أنسب من هذه الفقرة التي يسوقها الدكتور عبد الغفار مكاوي على لسان الناقد "هرمان بار" الذي كان من أبرز المعاصرين للحركة التعبيرية ومن أكثر الداعين لها حماساً، بقول بار "الإنسان في هذه الفترة يصرخ بحثاً عن نفسه، والعصر كله أصبح صرخة واحدة تنطق بالمحنة، والفن كذلك يصرخ معه ويطلق صيحته في أعماق الظلام، يستغيث يستنجد بالروح" وهذه هي التعبيرية. لقد اختلف النقاد ومؤرخو الأدب في تحديد مكان نشأة التعبيرية وزمانها كحركة فنية قائمة بذاتها، إلا أن معظمهم يقر بأن ألمانيا هي المنبع الأول لهذا النهج الفكري الوجداني الصارخ، والذي يرفض جميع المعالجات السطحية لخلفية القضايا الإنسانية ومكوناتها الداخلية. فبعد أن ظهرت نظريات فرويد ونضجت تجاربه في ميدان التحليل النفسي، أخذ نفر من الكتاب الساخطين يلتقطون باهتمام لاهف هذه الاستكشافات الباطنية ليوظفوها في كتاباتهم، كما أخذوا يغوصون في أعماق النفس البشرية، ويحيلون انطباعاتهم المضطربة والمتوترة إلى صرخات واحتجاجات معبرة تتصدى بعنف لانجراف الحضارة التكنولوجية المادية، هذه الحضارة التي أحالت القيم والمثل الأخلاقية إلى أرقام ومعادلات مدرجة في جداول الربح والخسارة من وجهة نظر الأفكار النفعية. وبهذا فقد ظهرت التعبيرية أواخر القرن الـ19 دعوة إلى الاهتمام باختزانات النفس الاجتماعية والسياسية، ثم تحددت هذه الحركة بشكل أقوى وأعم في الربع الأول من القرن العشرين، حيث اندفع المزيد من الشباب الألمان ما بين 1915 و1925 ليرفعوا أصواتهم عالياً، وليحشدوا صيحاتهم التعبيرية في جو دخاني فاسد زاخر بالصراعات القومية الطاحنة، والتيارات المادية الضاغطة، والويلات الناجمة عن الحرب العالمية الأولى. التعبيرية في الشعر والرواية والقصة القصيرة ففي مجال الشعر ظهرت في ألمانيا 3 أصوات شابة جعلت من القصيدة لوحة صارخة الألوان، متسمة بالإيحاء، مليئة بالاحتجاج على زخمة الواقع، غنية بالشوق إلى عالم يوتوبي جديد يتسم بالمثالية والنقاء المنشود. وتتمثل هذه الأصوات البارزة في أشعار كل من "جورج هايم" و"جورج تراكل" و"جو تغريدبن" ونكتفي في هذه العجالة أن نورد مقطعاً من قصيدة "هايم" قام بترجمتها ملكاوي في كتابه "التعبيرية" وذلك للتدليل على طبيعة الشعر التعبيري في مقطع يصف فيه الشاعر آلهة الحرب في الطغيان والجبروت، فيقول: "نهض من رقاده من طال نومه نهض من الأقباء المنخفضة العميقة يقف في الشفق ضخماً ومجهولاً يسحق القمر في اليد السوداء" أما في مجال الرواية والقصة القصيرة، فمع أن الإبداع التعبيري كان أقل أثراً من غيره وأبطأ نظراً لما تحتاجه طبيعة العمل القصصي من أناة وتدبر، ومع ذلك فقد برز في هذا الميدان عدد لا بأس به من كتاب القصة بتقدمهم كل من "ألفريد دوبلين" و"كاريل آينشتاين" و"فرانز كافكا" الذي كان على اتصال وثيق بالروائيين التعبيريين، بالإضافة إلى "روبروت موزيل" و"توماس مان". المسرح التعبيري أما على صعيد المسرح، فقد كانت الحركة التعبيرية أكثر بروزاً وتبلوراً، حيث أعلن رواد المسرح التعبيري ثورتهم على الدراما الكلاسيكية المقتدية بكل من "ليسنج" و"غوته" و"شيلر" كما رفضوا المذهب الطبيعي المتمثل في المنهج الواقعي عند "إبسن". وإن كان للتعبيريين دور ظاهر في حقل الشعر والقصة، فإن دورهم على خشبة المسرح كان أعظم أثراً في بث روح الحيوية والإثارة في طبيعة الأداء المسرحي الذي طالما سيطرت عليه الرتابة المملة، والقيود التقليدية المتحكمة في التأليف والإخراج، فجاء حصاد الكتاب التعبيريين في حقل الدراما فائضاً بكل دفعات الاحتجاج المنتصرة لإرادة النفس الإنسانية، ولمعاناته العاطفية والذهنية. ولم يبدأ هؤلاء المسرحيون المجددون من الفراغ، فقد وجدوا في أعمال الكاتب المسرحي "جورج بوشنر" ما يغذي طموحهم كما وجدوا في إنتاج "سترند برغ" و"فرانك ديكند" الكثير من الصراعات الداخلية والاتجاهات التحليلية الزاخرة بالرموز التعبيرية والمونولجات المتعددة الطويلة. وقد جاءت المسرحية التعبيرية مستمدة من دوي الحرب وصخب التقدم التكنولوجي وحمى التعصبات القومية المتصاعدة، ومن الطبيعي أن يتميز هذا اللون من المسرحيات بالرفض الصارخ والتمرد على الواقع المعاش، والحنين الجارف إلى عالم هادئ جديد يستعيد فيه الإنسان جوهره المفقود. إن قراءة أولية لبعض المسرحيات التعبيرية تجعلنا نتوصل إلى أن المسرحية التعبيرية قد تشكلت على خشبة المسرح بسمات فنية جديدة تقوم على التجريب، وبوسعنا أن نلمس هذا التجديد والتجريب في بعض المسرحيات التي تركها "بروتولد برخت" لعشاق المسرح التعبيري رغم انشغاله بالشعر الملحمي والمسرح الذهني، وهي "طبول الليل" و"أحراش المدن" و"القروش الثلاثة". كما يشير الدكتور مكاوي -في دراسته للمسرح التعبيري في ألمانيا- إلى أن المسرحية الثلاثية "غاز" للكاتب "جورج كايزر" تعتبر نموذجاً فريداً للمسرحية التعبيرية الغنية بالمواقف المتصارعة والإيحاءات العميقة الموحية. وفي كتابه "أشهر المذاهب المسرحية" يتعرض الناقد دريني خشبة لأبرز السمات الفنية التي تمتاز بها المسرحية التعبيرية عن غيرها، ويهمنا أن نزاوج بهذا الصدد بين ما أورده خشبة وبين ما تكوَّن لدينا من انطباعات واستنتاجات قرائية لنماذج من المسرح التعبيري على صعيد العمل الدرامي الذي أصبح في مقدمة الفنون الأدبية. السمات الفنية للمسرحية التعبيرية تدور أحداث المسرحية التعبيرية عادة حول شخصية محورية تحمل في ذاتها مشكلة تنعكس آثارها السيكولوجية على حركات البطل ومنطوقاته. أما بقية الشخصيات فهي بعيدة عن الضوء متحركة في الظل، وإذا ظهرت فهي تظهر ظهوراً جانبياً، يأتي مساعداً لدور الشخصية المحورية وخادماً للفكرة العامة. وفي المسرحية التعبيرية يستريح البطل لالتقاط الأنفاس، ومن ثم يواصل الحركة في الطريق المرسومة والمؤدية إلى الخلاص من الأزمة الحادة والتي يكون البطل المحوري قد طرح أبعادها على الجمهور منذ البداية، وبشكل عاطفي مثير يهدف إلى إيجاد الاندماج بين المسرح والجمهور. ولا يعني هذا أن المسرحية التعبيرية -لدى محاولاتها لامتلاك وجدان الجمهور- تعتمد على بهرجة شكلية أو تصنُّع ميلو درامي في الأداء، وإنما تأتي بطبيعتها مشحونة بالصرخات العميقة المتزنة والإيماءات الصادقة المصحوبة بإيقاع معبر إلى جانب الحيل المسرحية والأقنعة والتحولات الضوئية من جانب إلى آخر، حيث يشكل عنصر الإضاءة ركيزة أساسية في إخراج المسرحية التعبيرية، فيتعاون كل من المؤلف والمخرج ومهندس الإضاءة على تسليط الأضواء على البطل المحوري، وذلك بما يتناسب مع الحالة النفسية التي يمر بها، فنرى المشاهد حافلة بالإنارة والتعتيم، ورسم الخيالات والظلال والأشباح، حيث يساعد ذلك كله في الإيحاء بأسرار النفس وخلجاتها المكبوتة. وفي معرض التمرد الحر على الكلاسيكية الرتيبة، ونتيجة للاحتجاج الشامل على المدرستين الطبيعية والرمزية الغامضة، لم يكن كتاب المسرح التعبيري في حاجة إلى شخصيات فردية خاصة وتقديمها بأسمائها المحددة وبصورتها الطبيعية، ولذلك نراهم قد مالوا إلى رسم الصورة النموذج للشخصية، واكتفوا بإسداء الألقاب عليها كالأب والابن والرجل والشبح والرئيس وهكذا.

التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا
التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا

الجزيرة

timeمنذ 12 ساعات

  • الجزيرة

التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا

ولد الروائي التشادي روزي جدي، كما يقول، في نفس العام الذي صدرت فيه رواية "الكتاب الأسود" للتركي أورهان باموق، الذي يعتبر أصغر روائي في العالم يحصل على جائزة نوبل في الأدب. وروزي، الذي توج عام 2024 بجائزة التميز في الأدب، وهي أعلى جائزة في تشاد تمنحها وزارة الثقافة، تزامن ميلاده مع كتابة نجيب محفوظ رواية "صدى النسيان". وكانت ذات السنة أيضا التي نشر فيها الكاتب اللبناني ربيع جابر روايته الأولى. يستطرد روزي، بينما يستذكر كل هذه الأعمال يردف: "لأنني أحببتها". الكاتب والروائي الفتى يذكر بشجاعة واستبسال "المحاربين القدامى"، والمواطن الذي استعمرت فرنسا بلاده أكثر من نصف قرن. ولكي تسيطر عليها بأسرع ما أمكنها، كما يقول جدي، فقد قتلت خيرة سكان البلاد، وعلى رأسهم علماء تشاد، في مجزرة مروعة عرفت بمجزرة "الكبكب"، راح ضحيتها 400 عالم ودارس في الدين واللغة العربية، ومن تبقى منهم لجأوا إلى الجوار السوداني. ليكتب الروائي التشادي، في سياق من هذه السردية الأفريقية، روايته المعروفة بـ "ارتدادات الذاكرة"، مستلهما قصة وتاريخا ظل متواريا عن كثيرين، إذ يروي فيه تفاصيل حادثة كهذه، مدركا ما تفعله الرواية، إذ تتناول قصص الناس وترصد حياتهم، كما تسعى إلى فهم دوافع أفعالهم، بحثا عن أسئلة أو إجابات. قابلت "الجزيرة نت" الروائي روزي جدي في حوار خاص، ناقش فيه العديد من المواضيع التي تمس الأدب، والذاكرة التاريخية، ودور الرواية في كشف المظلومات الاجتماعية والسياسية. كما تناول الحوار تجربته الشخصية، ورؤيته للكتابة، إضافة إلى التحديات التي تواجه الأدب الأفريقي في الوقت الراهن. فإلى الحوار: حين يتعلق الأمر بالرواية الراهنة في بلدك تشاد، فأنت تصنف من أبرز الأصوات الروائية الحديثة، ومن المؤسسين للرواية المكتوبة بالعربية. هل تجد أن النقد الأدبي أنصف تجربتك على هذا النحو؟ أعتقد أنني راض عن الاهتمام الذي أبداه العديد من القراء تجاه أعمالي. لم أتوقع هذا الصدى في هذا الوقت، رغم أنني كأي كاتب طموح، حين جلست للكتابة أردت أن أكتب ما لم يكتب من قبل. الآن أفكر في هذا السؤال وأجدني ممتنا؛ لأن نقادا وكتابا لا أعرفهم كتبوا عن رواياتي في جرائد القدس العربي والقبس ومجلة المجلة وجسكا والعربي الجديد والعديد من الجرائد والمجلات، وهذا الحوار للجزيرة. صحيح أننا في هامش الهامش كأفارقة نكتب باللغة العربية، وبعيدون جدا عن القاهرة والدوحة والشارقة ودور النشر الكبيرة، لكني راض بما وصلت إليه، وأتطلع للمزيد؛ لأن هذا غير كاف. النقد يأتي متأخرا نوعا ما، إلا أنني سعيد بكل كلمة قيلت في أعمالي؛ لأنه من المدهش أن يقرر قارئ عربي القراءة لكاتب يعيش في بلاد تدعى تشاد، ربما لم يسمع عنها بينما لديه عشرات الأعمال الأخرى. اعتقدت دائما، أن علينا بذل المزيد من الجهد، وكتابة نصوص جيدة جدا، ونترك الباقي للزمن، الذي أؤمن بأنه ينصف النصوص الجيدة عاجلا أم آجلا. عشت في بلاد فقيرة تابعة لفرنسا ولو بشكل غير مباشر؛ يعتقد فيها أن الشخص ذكي إذا تحدث الفرنسية بلكنة صافية، ويمكن لفرنسا أن تتدخل وتنصّب في تشاد من تشاء، وتقرر من يحكم وماذا يفعل؟. فهذا وضع يزعج أي شخص يكتب الأدب بوعي لا يحيل تاريخ ميلادك إلى مرحلة مبكرة، كتلك التي تحيل إلى رصيد "النضال وثورات الاستقلال والتحرر الوطني الأولى في المنطقة العربية وأفريقيا منذ الخمسينيات وما تلاها". أليس كذلك؟ ولدت في سنة ليست هادئة؛ في عام 1992. سأعرف لاحقا أنني ولدت في نفس الفترة التي تتفكك فيها يوغوسلافيا، وتصدر فيها رواية "الكتاب الأسود" لأورهان باموق، ويكتب نجيب محفوظ روايته "صدى النسيان"، وهي نفس السنة التي نشر فيها ربيع جابر روايته الأولى. أتذكر هذه الأعمال لأني أحببتها. بيد أن الكاتب يتأثر بما عاشه وبتاريخ بلاده أكثر من أي شيء آخر. عشت في بلاد فقيرة تابعة لفرنسا ولو بشكل غير مباشر؛ يعتقد فيها أن الشخص ذكي إذا تحدث الفرنسية بلكنة صافية، ويمكن لفرنسا أن تتدخل وتنصّب في تشاد من تشاء، وتقرر من يحكم وماذا يفعل؟. فهذا وضع يزعج أي شخص يكتب الأدب بوعي. هناك كثير من النقد السياسي في رواياتي وروايات جيلي، ذلك أن السياسة في أفريقيا جنوب الصحراء تؤثر في كل نواحي حياتنا. فالسياسة هي التي تقرر ما إذا كنت ستحصل على تعليم أم لا، وهل ستصبح غنيا أو تظل فقيرا، بل حتى من يموت ومن يبقى. هناك كثير من النقد السياسي في رواياتي وروايات جيلي، ذلك أن السياسة في أفريقيا جنوب الصحراء تؤثر في كل نواحي حياتنا. فالسياسة هي التي تقرر ما إذا كنت ستحصل على تعليم أم لا، وهل ستصبح غنيا أو تظل فقيرا، بل حتى من يموت ومن يبقى. تجربتك الروائية فتية، وهي من بين تجارب قليلة امتازت برؤية نقدية وطليعية للأمور منذ روايتك الأولى. ما تعليقك على ذلك؟ لم أعتبر الكتابة ترفا أو هواية، وإنما اعتبرتها دوما طريقتي للاحتجاج ولقول ما لا يمكن قوله باللسان. لذا كانت كتاباتي كلها عصارة تجربة أو مشاهدة ومعايشة. من الواضح أن رواياتي متأثرة جدا بالتاريخ السياسي في تشاد، لأنه تاريخ عنيف؛ فالحكومات استبدلت بعضها بعضا بالعنف، ورأيت الموت والرصاص والدماء. عرفت أصدقاء التحقوا بالجيش أو المتمردين وماتوا في الحروب الأهلية، وعشت في حارة سقط نصف شبابها في المخدرات لأسباب أغلبها اقتصادية وأسرية. إضافة إلى ذلك، أنا مواطن في بلاد استعمرتها فرنسا أكثر من ستين سنة، ولكي تفعل ذلك وتسيطر بأسرع ما يمكن، قتلت خيرة سكان البلاد، وعلى رأسهم علماء تشاد، حين نفذت مجزرة الكبكب التي مات فيها قرابة 400 عالم في الدين واللغة العربية، وفر من تبقى منهم إلى السودان. رواياتي متأثرة جدا بالتاريخ السياسي في تشاد، لأنه تاريخ عنيف؛ فالحكومات استبدلت بعضها بعضا بالعنف، ورأيت الموت والرصاص والدماء. عرفت أصدقاء التحقوا بالجيش أو المتمردين وماتوا في الحروب الأهلية، وعشت في حارة سقط نصف شبابها في المخدرات لأسباب أغلبها اقتصادية وأسرية. إضافة إلى ذلك، أنا مواطن في بلاد استعمرتها فرنسا أكثر من ستين سنة، ولكي تفعل ذلك وتسيطر بأسرع ما يمكن، قتلت خيرة سكان البلاد، وعلى رأسهم علماء تشاد، حين نفذت مجزرة الكبكب التي مات فيها قرابة 400 عالم في الدين واللغة العربية، وفر من تبقى منهم إلى السودان. وهي القصة التي تناولتها في روايتي "ارتدادات الذاكرة"، حيث سردت الرواية كيف أن تشاد، التي كانت فيها ممالك إسلامية تعتمد اللغة العربية لغةً للديوان والمراسلات، أصبحت دولة تتحدث بالفرنسية خلال عقود، لدرجة أن متعلميها بلغة المستعمر يعتقدون أن الدارس بالعربية أقل منهم معرفة وذكاء. تسمح الدولة للفرنسية بالسيطرة على الإدارة حتى يصبح الدارس بالعربية لا يفهم القرارات التي تصدرها الدولة، ولا ما يقال في الجريدة الرسمية! كل هذه أحداث ومآس عشناها أو نعيش آثارها؛ لذا أتت أعمالي بهذه الحمولة النقدية، على أمل أن يأتي التغيير بالإصلاحات. الرواية ليست تاريخا، أدري ذلك، لكني اخترت بوعي كتابة هذه الرواية؛ لأني أردت ألا ينسى الناس ما حصل، ألا ينسى التشادي ما فعله فينا المستعمر، والكيفية التي جعلت الفرنسية تغلب العربية في تشاد، لنصبح نحن الدارسين بالعربية أقلية في بلاد عرفت بممالك إسلامية عاشت قرونا قبل أن يطأ الفرنسيون هذه الأراضي. ما يقرأه المرء كقصة ورواية لا ينساه ويتأثر به، عكس ما يمر به في برديات التاريخ؛ لذا أكرر بأننا نحن الروائيين نكتب التاريخ في هذا العصر. الرواية ليست تاريخا، أدري ذلك، لكني اخترت بوعي كتابة هذه الرواية؛ لأني أردت ألا ينسى الناس ما حصل، ألا ينسى التشادي ما فعله فينا المستعمر، والكيفية التي جعلت الفرنسية تغلب العربية في تشاد، لنصبح نحن الدارسين بالعربية أقلية في بلاد عرفت بممالك إسلامية عاشت قرونا قبل أن يطأ الفرنسيون هذه الأراضي. السرد الروائي في تشاد اليوم، كيف تراه من زاويتك بالنظر إلى مرآة النقد وأجناس الأدب الأخرى وثنائية اللغة والهوية في اقترانهما بالأدب؟ أعتقد أن الرواية تعيش إحدى مراحل ازدهارها في تشاد. قبل سنوات، حين كنت أقول إنني سأصبح روائيا، كان بعضهم يعجز عن فهم ما أقصده؛ لأن الشعر كان على العرش، ولا وجود لروائيين معروفين. أول رواية تشادية صدرت بالعربية كانت في سنة 2004، أي أن عمر الرواية العربية في تشاد 21 سنة. لكن الجيل الثاني للرواية العربية، والذي أعتبر نفسي منهم، أصدر في بضع سنوات ما يقارب العشرين رواية، ساهمت بأربع روايات منها. اليوم، يقرأ الناس أعمالنا وينتقدوننا، نمدح ونعتبر من أفضل ممثلي البلاد، ونشتم ونتعرض لحملات تشويه، وهذه دلائل على وصول أعمالنا وعلى نبشها للجرح السياسي وعرضها مشاكل اجتماعية تعيشها مجتمعاتنا. وحين نتحدث عن مرآة النقد، فإنها عرضت أعمالنا وناقشتها وتحدثت عن غرائبيتها وجمالها. ورغم أن الحلم لم يتحقق بعد، إلا أننا نشعر بالإنجاز لمجرد أننا كتبنا أعمالا مدهشة ولافتة بشهادات النقاد، وتشارك في معارض كتب دولية، وتقرأ من آلاف الناس الذين لا نعرفهم. أما الأجناس الأخرى، فالقصة القصيرة هي التي تتقدم جيدا بعد أن "هربنا" منها نحن الروائيين. نحن بدأنا الكتابة بالقصة القصيرة، وثلاثة روائيين أصدروا أكثر من عشر روايات، ظهرت موهبتهم في مسابقات القصة القصيرة التي تنظمها جامعة الملك فيصل. اليوم هناك كتاب قصة قصيرة جيدون في تشاد وهم من جيل آخر، وأعتقد أنهم سيعلنون عن فتوحات في هذا الجنس الأدبي. يعتقد أغلب التشاديين الشماليين أنهم أتوا من اليمن أو أن أصولهم عربية، وأنا أستبعد ذلك، لكني أفريقي أكتب باللغة العربية. القضايا التي أكتب فيها، هي قضايا تشادية أفريقية، والمكان أيضا فضاء أفريقي، لكني أكتب باللغة العربية، ما يجعلني قريبا من المصري والقطري أكثر من أي شخص من "التوغو" أو "الكونغو" أما عن ثنائية اللغة والهوية، فهي قضية شائكة بالنسبة لنا. أذكر أنني قلت مرة لصديق بأنني "أفروعربي". يعتقد أغلب التشاديين الشماليين أنهم أتوا من اليمن أو أن أصولهم عربية، وأنا أستبعد ذلك، لكني أفريقي أكتب باللغة العربية. القضايا التي أكتب فيها، هي قضايا تشادية أفريقية، والمكان أيضا فضاء أفريقي، لكني أكتب باللغة العربية، ما يجعلني قريبا من المصري والقطري أكثر من أي شخص من "التوغو" أو "الكونغو". هذه هي معضلة تشاد؛ فالبلاد فيها عرب، وأغلب سكانها من الشمال، دماؤهم عربية وحضارتهم إسلامية، ويتحدثون العربية، وقريبون من السودان أكثر من الكاميرون. إلا أن هناك سكانا في الجنوب يدينون بالمسيحية والوثنية، ويتشاركون في العرق والملامح والثقافة مع سكان الكاميرون وأفريقيا الوسطى. هذه هي معضلة تشاد؛ فالبلاد فيها عرب، وأغلب سكانها من الشمال، دماؤهم عربية وحضارتهم إسلامية، ويتحدثون العربية، وقريبون من السودان أكثر من الكاميرون. إلا أن هناك سكانا في الجنوب يدينون بالمسيحية والوثنية، ويتشاركون في العرق والملامح والثقافة مع سكان الكاميرون وأفريقيا الوسطى. لدينا أزمة هوية. المشكلة التي لا يعرفها الآخر، هي أن أفريقيا وحدها يعيش فيها 70% من الأعراق، وأنه في بلاد واحدة، ربما يعيش عدد من الأعراق لا تجمعهم ثقافة ولا دين ولا يتشابهون، لكن الاستعمار لا يرى سوى اللون، ولم يراع هذه الأمور. أعتقد أن علينا في أفريقيا أن نناضل من أجل تنوعنا كما نناضل من أجل توحيد كل هؤلاء الأعراق في لون، إذ لا يمكن أن تشكل هوية باللون وحده. إعلان وأنا أجيب عن هذا السؤال، أترحم على روح نغوغي واثيونغو الذي ناضل من أجل الكتابة بلغته، لكني في الوقت نفسه أدرك أننا في أفريقيا نتحدث العديد من اللغات الأوروبية والشرقية، وهي معضلة لا أعرف كيف نجد لها حلا. هل ألقى تخصصك ودراستك القانون بظلاله على التجربة، فدمغها بميسم نضال مدني ناشط ترافق مبكرا مع طموح كبير استنهضه فعل الكتابة ذاتها لديك، على الأرجح؟ أعتقد أن دراسة القانون شيء يحفز الذاكرة والخيال ويدفع الإنسان إلى التفكير كشخص آخر؛ أعني يجعلك تضع نفسك في مكان الآخر ويقربك من الناس؛ لأنك تدرس سلوكياتهم وتشاهدهم في أضعف لحظاتهم، وهو شيء يساعد الكاتب في الغوص في الذات وفي فهم البشر. عدا ذلك، لم أستخدم معارفي القانونية في عمل حتى الآن. ربما سيحدث ذلك حين أصبح قاضيا. "زمن الملل" صدرت عام (2021)، وكتب عنها بعض النقاد كرواية "تتناول القلق الوجودي والتشظي النفسي". هل باتت الرواية تلعب دور الأنثروبولوجي في استقصائها المجتمع والبيئة التي يعيش فيها الإنسان؟ طبعا، ما الذي تفعله الرواية غير ذلك؟ إنها تتناول قصص الناس وترصد حياتهم وتسعى إلى فهم دوافع أفعالهم، بحثا عن أسئلة أو إجابات. زمن الملل، هي رواية تتحدث عني وعن أقراني وعن جيلي الذي عاش سنوات صعبة في البطالة بسبب أزمة اقتصادية ضربت البلاد، حيث طبقت الدولة إجراءات تقشفية، وغادرت الشركات، ولم يكن هناك من عمل يمكننا ممارسته، وكنا خريجين للتو. هنا تبدأ المشاكل؛ أعني وجود آلاف الشباب الذين لا يجدون ما يفعلونه. كنا نحمل شهادات وآمالا كبيرة، لكن الواقع كان قاسيا معنا. تقريبا ست سنوات من الفاقة والتيه والملل والموت في البحر والغوص في عالم المخدرات وعوالم الجريمة عشناها مع جيلي. كنت محظوظا أنني خرجت منها سليما. رأيت أصدقائي يدخلون السجن، رأيت أشخاصا لعبت معهم يتسولون الناس وينامون تحت الجسور، ورأيت ما يفعله الفراغ والملل بالناس. وقفت على آثار هذا الفراغ وعلى ما تفعله نظرة المجتمع بالعاطل، والأذى النفسي الذي يتعرض له بسبب عجزه وقلة حيلته. تقريبا ست سنوات من الفاقة والتيه والملل والموت في البحر والغوص في عالم المخدرات وعوالم الجريمة عشناها مع جيلي. كنت محظوظا أنني خرجت منها سليما. رأيت أصدقائي يدخلون السجن، رأيت أشخاصا لعبت معهم يتسولون الناس وينامون تحت الجسور، ورأيت ما يفعله الفراغ والملل بالناس. وقفت على آثار هذا الفراغ وعلى ما تفعله نظرة المجتمع بالعاطل، والأذى النفسي الذي يتعرض له بسبب عجزه وقلة حيلته تقارب روايتك ارتدادات الذاكرة، الصادرة في (2023)، "حقبة الاستعمار الفرنسي لتشاد". ألا تتطلب كتابة الرواية الحذر كلما تعلق الأمر بالتاريخ؟ التاريخ اليوم نكتبه نحن الروائيين. صحيح أن ما نكتبه لا يعد تاريخا بالمعنى الأكاديمي، وينبغي الحذر لأننا لا نكتب ما حدث فقط ونسرد وقائع معينة ورزنامة من التواريخ، وإنما نعيد كتابة التاريخ ونرمم الفراغات التي لم يتمكن المؤرخ من سدها. هناك اتفاق ضمني بين القارئ والروائي بأن ما منحه ليس تاريخا، وإنما يمكن أن يكون أو يفترض أنه وقع. لكن الروائي ليس ملزما بأن يكون دقيقا في الترتيب الكرونولوجي أو يجعل السلطان بطلا للقصة؛ فالرواية تذهب أبعد من ذلك، وتركز على الناس العاديين، وتناقش هموم البسطاء، مع تقديم حياة كاملة ليعرف القارئ ما كان يأكله الناس وقتها، وماذا يرتدون، وكيف يتزاوجون، اتكاء على شذرات تركها مؤرخ أو اعتمادا على الخيال. صحيح أن كتابة رواية تاريخية يحتاج إلى الحذر الشديد، خاصة حين تكتب عن حادثة تاريخية يعرفها آلاف الناس ويمكنهم مجادلتك في سير الأحداث وتواريخ الوقائع ومآلات الشخصيات؛ والأسوأ ألا يقتنعوا! لكننا نكتب تاريخا جديدا حين نكتب رواية تاريخية، نضيف سردية إلى السرديات القديمة، والهدف هو بناء جسر بين الأجيال القادمة وتاريخها ورموزها الوطنية. لا وجود لسردية تاريخية موحدة عن تشاد، عدا أنه كانت هناك ممالك إسلامية معروفة بالاسم فقط، والناس يحفظون أسماء الملوك فقط، ولا يعرفون عن الشعب كيف كان يعيش. ثم إنني كتبت هذه الرواية كي لا ننسى ورواية ارتدادات الذاكرة، هي إضافة للسرد التشادي، وإضافة للهوية التشادية، كذاكرة، وكشيء يجمع التشاديين ويوحدهم حول سردية تاريخية، فلا وجود لسردية تاريخية موحدة عن تشاد، عدا أنه كانت هناك ممالك إسلامية معروفة بالاسم فقط، والناس يحفظون أسماء الملوك فقط، ولا يعرفون عن الشعب كيف كان يعيش. ثم إنني كتبت هذه الرواية كي لا ننسى. الرواية ذاتها تميل إلى استخدام تقنية "البوليفونية" (الرواية متعددة الأصوات)، وهو ما غدا يستخدمه كثيرون. فهل ترى أن تعدد الأصوات يتيح للكاتب فرصة للتعمق عبر شخصياته والكشف عن مكنوناتها النفسية أكثر؟ إعلان نعم، ولهذا السبب اخترت تقنية البوليفونية. الشخصيات التي تناولتها في الرواية هي شخصيات حقيقية وتاريخية يعرفها أغلب المتعلمين في تشاد. ليس كل الشخصيات، وإنما أهمهم؛ فهناك شخصيات اخترعتها من أجل تقوية القصة وتحريك الأحداث. لم أرد استخدام الروائي العليم لأتحدث عن شخصيات تاريخية حتى لا يظن القارئ أنني أفرض وجهة نظري في القصة أو أركز على سردية محددة من السرديات المكتوبة والمنتشرة بخصوص المذبحة. تركت الشخصيات تتحدث وتقول رأيها عن بعضها بعضا، كما يفعل الناس عادة، كي أظهر سلبياتهم وأغوص في نفسياتهم وأبرز ضعفهم، ليدرك القارئ أنهم أشخاص مثلنا: يأكلون، ويخونون، ويتزاوجون، ويكذبون، ويصدقون، قبل أن يكونوا أبطالا في حادثة. استخدمت تقنية البوليفونية من أجل إظهار وجهات النظر المختلفة إبان فترة مهمة جدا، وتركت الجميع يتحدث كي يحكي ما كان يفكر فيه. كما أن التقنية سمحت لي بإيراد وجهة نظر المستعمر على لسان "جيراد" الذي كان يرى أنه جاء للتنوير ولتعليم الناس وإيصالهم إلى الحضارة. فرنسا كانت مسيطرة عسكريا على كامل الأراضي التي تسمى اليوم بتشاد، لكنها لم تكن تملك سيطرة ثقافية. ففي الجنوب وجد المستعمر أناسا بسطاء بلا دين، فكانت المهمة سهلة، رغم أن العديد منهم تمسك بوثنيته. بيد أن العلماء كانوا عقبة أمام الاستعمار الثقافي، فارتكبت المجزرة بعد جمع العلماء من كل أقطار البلاد للتخلص منهم، وهو ما حصل بالفعل؛ لأنه بموت العلماء وهروب التلاميذ أصبح الميدان فارغا لإنشاء المدارس الفرنسية وتعليم الناس. وهو الذي أدى إلى غلبة وطغيان اللغة الفرنسية وإضعاف اللغة العربية التي واصلت تراجعها. برأيك، ما كان دافع الاحتلال الفرنسي في جريمته اغتيال علماء يمثلون الثقافة العربية والإسلامية؟ برأيي أن الدافع كان القضاء على أهم قوة سياسية تقف ضد أهداف المستعمر الذي جاء لاستعمار الأرض ولتنصير الناس. فالعلماء كانوا متعلمين، وهم من يقفون بين المستعمر والناس ويكافحون رغبات المستعمر من تنصير وبناء للمدارس الفرنسية وإغلاق للخلاوي وحلقات العلم. فرنسا كانت مسيطرة عسكريا على كامل الأراضي التي تسمى اليوم بتشاد، لكنها لم تكن تملك سيطرة ثقافية. ففي الجنوب وجد المستعمر أناسا بسطاء بلا دين، فكانت المهمة سهلة، رغم أن العديد منهم تمسك بوثنيته. بيد أن العلماء كانوا عقبة أمام الاستعمار الثقافي، فارتكبت المجزرة بعد جمع العلماء من كل أقطار البلاد للتخلص منهم، وهو ما حصل بالفعل؛ لأنه بموت العلماء وهروب التلاميذ أصبح الميدان فارغا لإنشاء المدارس الفرنسية وتعليم الناس. وهو الذي أدى إلى غلبة وطغيان اللغة الفرنسية وإضعاف اللغة العربية التي واصلت تراجعها. تنطوي العديد من أعمالك على سمات مضمرة من نقد اجتماعي وسياسي. كيف تتأسس علاقتك بالنقد كموقف يتطلب شجاعة وجرأة في الكتابة؟ الكتابة تحتاج إلى الشجاعة قبل كل شيء. لا بد من الشجاعة لقول رأيك بصوت عال عن السلطة والسياسة والواقع والمجتمع في بلادك. ولفعل ذلك تحتاج إلى الصبر والتحمل والجرأة؛ لأنك توجه رصاصتك تجاه جماعات تمتلك القدرة على تصفيتك ماديا ومعنويا. ككاتب روائي، أدري أنني أمارس الفن الأكثر قدرة على رصد التأثيرات التي تحدثها القرارات السياسية والسلطة. الروائية الأمريكية توني موريسون قالت ذات مرة: "السياسة تطارد الروائي أينما ذهب، ولا يستطيع الفكاك منها". ولذا، ورغم أنك تمارس فنا ينبغي ألا يصبح بيانا سياسيا أو دعما لإيديولوجيا، إلا أنك تكتب عن الناس، والسياسة هي التي تقرر كيف يتصرف هؤلاء. في النهاية، أنا روائي متمرد على التقاليد الفنية وعلى السلطة والمجتمع، ولتأكيد ذلك ينبغي أن تكون شجاعا وجريئا؛ لأن قول الحقيقة يحتاج إلى هاتين. الروائية الأمريكية توني موريسون قالت ذات مرة: "السياسة تطارد الروائي أينما ذهب، ولا يستطيع الفكاك منها". ولذا، ورغم أنك تمارس فنا ينبغي ألا يصبح بيانا سياسيا أو دعما لإيديولوجيا، إلا أنك تكتب عن الناس، والسياسة هي التي تقرر كيف يتصرف هؤلاء. هل تتعمد توظيف الخيال كأداة مثلى في الكتابة، بينما تقارب المدينة روائيا؟ نعم، لا بد من الخيال لكتابة رواية. هو زادنا. لكن الخيال لا بد أن يصبح واقعيا حين تقارب مدينة. وهنا يأتي دور الذاكرة؛ تتذكر مدينتك وطفولتك، ما رأيته وجربته وسمعته، وترمم فجوات الذاكرة بالخيال لتكتب عن فضاء روائي. لكن الواقع يبدو مختلفا في خيال الرواية التي تكتبها. هل تكون الغاية هنا ما ترومه من خلال تعبيرات الفن ذاته كهدف تتغياه في كتابة السرد؟ كروائي من تشاد، لا أعتقد أنني أملك ترف "الفن للفن"؛ لأنني أكتب قضايا وتأثيرات، وعشت وأعيش في بلاد فقيرة تعرضت لعنف وحروب أهلية، وفيها الكثير من القضايا الاجتماعية التي أعتقد أنها تجذب الكاتب إلى تناولها. ولذا جاءت أغلب أعمالي متأثرة بالسياسة والعنف الاجتماعي والنضال. لكن ذلك لا يمنع من وجود فصول أو قصص وشخصيات كتبتها لغاية المتعة ولأسباب فنية بحتة. فأحيانا نكتب لأننا نستمتع. لذا كتبت قصصا لأنني فقط كنت أستمتع بممارسة الكتابة، وبعد أن انتهيت تخلصت منها. كروائي من تشاد، لا أعتقد أنني أملك ترف "الفن للفن"؛ لأنني أكتب قضايا وتأثيرات، وعشت وأعيش في بلاد فقيرة تعرضت لعنف وحروب أهلية، وفيها الكثير من القضايا الاجتماعية التي أعتقد أنها تجذب الكاتب إلى تناولها. ولذا جاءت أغلب أعمالي متأثرة بالسياسة والعنف الاجتماعي والنضال. تتعاطى مع الكتابة كنوع من "احتجاج". هل قصدت بها وسيلة إدانة لما يرتكبه العدوان الصهيوني على غزة مثلا؟ نعم، أعتبر الكتابة نضالا ومقاومة؛ لأنها سبيل إلى التوثيق والرفض والبقاء والمقاومة. لا تقدم الكتابة الكثير من النتائج الآنية لأن "السيف أصدق إنباء من الكتب"، لكن على المدى الطويل فهي أيضا سلاح فتاك. ما يرتكبه العدوان الصهيوني تجاه غزة هو شيء فظيع، وأعتقد أننا جميعا سنسأل، والتاريخ سيعاقبنا جميعا على بقائنا مكتوفي الأيدي بينما مليون إنسان سجين يتم قصفهم وقتلهم بشكل يومي، وتنفذ ضدهم إبادة جماعية. ما الذي يمثله لك التجريب؟ هل يحفز الكتاب الشبان؟ وهل يشترط التجريب الحرية؟ ويدعو إلى أدب جديد يتجاوز القوالب التقليدية؟ يمثل لي التجريب الحرية. أعتقد أن أهم صفة يجب أن يمتلكها الكاتب هي الحرية. لا بد أن نجرب أساليب جديدة وفضاءات بعيدة لنبدع. لا بد من التمرد وتجريب الجديد لكي نبدع. أغلب مدعي التجريب يكتبون أشياء غير مفهومة لعدم امتلاكهم قصة قوية تجبرهم على الكتابة؛ ولذا لم تعجبني أغلب الأعمال التي روج لها على أنها تجريبية. برأيي، التجريب موجود في أغلب الروايات. فكسر التسلسل الزمني وتعدد الأصوات هي أفكار لها أكثر من نصف قرن ومقبولة. لكني لا أحب الكتابات التي تدور بلا هدف، والتي تشعر أن كاتبها لا يدري كيف ينهيها ولم بدأها. تتطلع بإلحاح إلى وصول الأدب الإفريقي عبر الترجمة إلى جمهور محلي وعالمي أوسع. وغير مرة أكدت على: "أن الترجمة تعتبر الجائزة الكبرى للكاتب". كل كاتب يتمنى أن تقرأ أعماله من أكبر عدد ممكن من الناس. الجائزة الكبرى للكاتب هي أن تقرأ أعماله في أنحاء العالم وبمختلف اللغات. لكني أتمنى أن تحصل التفاتة إلى الأدب الإفريقي؛ لاعتقادي بأن ما نكتبه يستحق ذلك. ما يرتكبه العدوان الصهيوني تجاه غزة هو شيء فظيع، وأعتقد أننا جميعا سنسأل، والتاريخ سيعاقبنا جميعا على بقائنا مكتوفي الأيدي بينما مليون إنسان سجين يتم قصفهم وقتلهم بشكل يومي، وتنفذ ضدهم إبادة جماعية. إلى أي مدى تدرك تجربتك الروائية أهمية الكتابة كأداة لفهم الذات والمجتمع والأفراد؟ الكتابة تعرية أيضا. هناك أفكار لا تأتيك إلا حين تجلس للكتابة. وحين نكتب فإننا نفكر بطريقة مختلفة تجعلنا شفافين وصادقين مع ذواتنا، وواضحين في سرد تجاربنا أو معارفنا أو ما نفكر فيه، وكأن الكتابة تزيل المكابح التي وضعت بين عملية التفكير وقرار القول أو الفعل. الكتابة ممارسة صعبة، ولهذا سوف تعلمك أشياء كثيرة، من بينها الصبر والجدية والتحمل. لكن الأكيد أن من يكتب يقرأ، وإذا جمعت بين هذين فأنت ستزداد ذكاء وفهما لنفسك وللمجتمع وللأفراد الذين تفكر فيهم كثيرا وتراقبهم لتخلق منهم شخصيات. تلقي رواياتك عند فحصها الضوء على قضايا العنف السياسي والهوية الثقافية في تشاد، وهو ما أضاف بعدا جديدا إلى الأدب العربي في أفريقيا؟ أعتقد ذلك، فالمستعمر هو الذي خطط لهذا كي نكتوي بآثار أفعاله. تأثرت بهذه الأحداث التي انعكست على حياتنا اجتماعيا وسياسيا، فكتبت عنها. حتى يومنا هذا ينقسم التشاديون إلى جنوبيين مسيحيين وشماليين مسلمين، وينقسم الفريقان إلى عشائر وقبائل، ولم نتجاوز الانتماء القبلي حتى اليوم.

"أسرار خزنة" لهدى الأحمد ترصد صدمة الثقافة البدوية بالتكنولوجيا وتتزين بفضيلة الصيام عن المثال
"أسرار خزنة" لهدى الأحمد ترصد صدمة الثقافة البدوية بالتكنولوجيا وتتزين بفضيلة الصيام عن المثال

الجزيرة

timeمنذ 19 ساعات

  • الجزيرة

"أسرار خزنة" لهدى الأحمد ترصد صدمة الثقافة البدوية بالتكنولوجيا وتتزين بفضيلة الصيام عن المثال

ربما تكون المجموعة القصصية "أسرار خزنة" للقاصة هدى الأحمد، الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية، من أوائل الأعمال الأدبية التي تتمحور حول حكايات امرأة من باديتنا، حكايات ارتكزت على قيم التضحية والوفاء، حيث تتجلى العاطفة في أجمل صورها. وترصد المجموعة في الوقت ذاته تحولات المجتمع البدوي والصراع بين الأصالة والعصرنة، وتأثير التكنولوجيا، أو بالأحرى "صدمتها"، في ثقافة بدوية ضاربة بجذورها في التاريخ، وهي تحاول التكيف مع كل ما هو جديد. تضم المجموعة 14 قصة امتازت بالبساطة وسلاسة تطور الأحداث والشخصيات، وصيغت بلغة محكية ذات لكنة بدوية في الغالب. ورغم أنها استندت إلى مخزون تراثي لحقبة الخمسينيات على وجه التقريب، فإنها أحيت مجددا مفاهيم العفة والنقاء والشهامة، وفضيلة تخزين الأسرار، وفق ما يشي به العنوان الذي جاء موفقا ومقصودا، حفاظا على القيم الاجتماعية والإنسانية، وتحصينا للمجتمع البدوي من الفتن، أو ما سمّاه الناقد رائد الحواري "الصيام" عن كشف مثالب الناس. وتقع المجموعة في 95 صفحة من القطع الصغير، وتقوم على تعدد الشخصيات رغم أن بطلتها فتاة صغيرة اسمها "خزنة"، وهو اسم دارج في المجتمع البدوي. إذ استطاعت هذه الفتاة، التي تتزين بنقاء الصحراء وأخلاقيات البداوة، أن تكسب قلوب من حولها بأخلاقها وتربيتها وقدرتها على كتمان أسرار عشيرتها والمحيطين بها، فالبدوي، وفقا لتقاليده وعاداته الأصيلة، يحفظ الأسرار ولا يتلفظ بها أو يكشفها أيّا كانت الظروف. ويحمل العنوان "أسرار خزنة"، رغم بساطته، الكثير من المعاني الإنسانية النبيلة، ففي ذاكرتنا وبيوتنا "خزنة" نحفظ فيها أسرارنا التي تبقى معنا حتى نستضاف في مساحة لا تتعدى مترا بمتر. وتحت عنوان "تلويحة"، يرى الدكتور جروان المعاني أن "أسرار خزنة" هي حكاية فتاة من البادية، ذكاؤها فطري، وهي وحيدة والديها، تعيش دلالا لكنه ليس كدلال بنات المدينة، فهي ترعى أغنام والديها وتساعد والدتها في أعمال البيت وإنتاج مشتقات الحليب. ويقول في تقديمه للمجموعة القصصية إن "خزنة" هي قصة نساء البادية، حيث العادات والتقاليد وثقافة المجتمع السائدة. وتظهر في هذه المجموعة متمردة، لكنها في واقع الحال فتاة تحمل شقاوة الطفولة حتى تصدمها الحياة بوفاة والدتها، ملاذها ومكمن طمأنينتها، وتكبر لتكبر معها همومها. وحسب رأيه، فبين إرادة الكاتبة وإرادة "خزنة"، بطلة المجموعة، تجد هدى الأحمد نفسها محاصرة بما تحمله من موروثات تقيد المرأة البدوية التي تكاد تتخلص منها بحدها الأدنى لتعيش حريتها. فالمجموعة تُعد آخر متنفس لفتاة عاشت ما بين البداوة والحضر، وكأن الكاتبة كتبت نفسها. وفي حوارها مع الجزيرة نت، تتحدث هدى الأحمد عن مجموعتها القصصية بتفصيل أكبر، وتوضح أن "أسرار خزنة" تتناول بيئة بدوية، قائلة: "لا أرى قربا بين شخصيتها التي تشكلت لتكون قوية بحكم الظروف لا متمردة، وشخصيتي، وإن التقينا في المعاناة. لذلك، أثناء كتابة المجموعة، عزفت على نوتة صحراوية بما فيها من الوحشة والسلام، والخوف والأمان". وتؤكد أن الكتابة واحدة من أهم وسائل التغيير، مضيفة أنها تدعو للتغيير وليس للانقلاب على تاريخنا البدوي، وأن شخصية "خزنة" خيالية لكن الأحداث واقعية. وإلى تفاصيل الحوار: شخصيات القاص أو المضمون ليست منفصلة عن ذات الكاتب، ما مدى قرب شخصية "خزنة" منكِ؟ يختار القاص الشخصيات بناء على نوع القصة وقدرته على توظيف الخيال، وبالتالي يشكل الأحداث، ويكون مدى قربها أو بعدها عن شخصية الكاتب مرتبطا بقرب الشخصية من البيئة التي يعيشها، فيرسم معالمها بما يتماشى مع الأحداث. هنا، في مجموعة "أسرار خزنة"، نتحدث عن بيئة بدوية لها معطياتها، يتنقل فيها الناس بشكل جماعي طلبا للماء والطعام لهم ولمواشيهم. كان ذلك حتى وقت قريب، ولكن تغيرت الأحوال واستقر الناس. وأنا ككاتبة لمجموعة "خزنة" من بنات الريف، فلا أرى قربا حقيقيّا بين شخصية "خزنة" وشخصيتي، وإن التقينا في بعض أوجه المعاناة، فالنساء في الوطن العربي يلتقين في عدد من أشكال المعاناة، خاصة فيما يتعلق بحرية الاختيار والقرار، وهنا لا أتحدث بالمُطلق. الكتابة بطقوسها تختلف من كاتب لآخر، فهناك من يفضل الكتابة صباحا أو ليلا، وآخر يبدع وسط الضجيج، وبعضهم يطلب الهدوء الكامل. أنا ككاتبة أحتاج للانفراد وإغلاق هاتفي، ولا أجهز أمورا مادية للكتابة كالقهوة أو الموسيقى، فقط أحتاج للانفراد بشخصيات قصصي لأحركهم بحسب مسارات القصة، فتتداعى الكلمات لأرتبها بشكل يتلاءم ومجريات الأحداث. وفي مجموعة "خزنة"، عزفت دوما على نوتة صحراوية فيها من الوحشة والسلام، والخوف والأمان. بالتأكيد هي من صنع الخيال، وإن كانت الأحداث واقعية جدّا. "خزنة" لا تفضح أسرار البادية، بل تصور أمورا تتكرر في بوادينا، غير أن لخزنة خصوصيتين: الأولى أنها فقدت أمها التي تحبها كثيرا ودللتها في عمر صغير، والثانية أنها ابتعدت عن ديرتها وأبيها. كل هذا جعلها تصرخ "بلا" كلما تعرضت للقهر، فكان لا بد لها أن تتمرد في لحظة ما، فترفض الزواج من ابن خالتها، وتقطع مسافة طويلة وتتعرض لحوادث في طريقها وهي تسير وحيدة. كان لا بد لها أن تكون قوية جسديّا ونفسيّا، فظهرت كمتمردة، والواقع أن شخصيتها تشكلت لتكون قوية لا متمردة. وكما تعلم، هناك فرق بين التمرد على الأعراف والتقاليد وبين التحلي بالقوة، لذا أقول لم تكن متمردة، بل فرضت عليها الظروف أن تكون قوية. ذكرتِ لي أنكِ ناضلتِ وجاهدتِ لإخراج المجموعة إلى النور، ألقي أضواء على هذه التجربة؟ أخذت مني كتابة المجموعة ما يزيد على 5 أشهر، وحتى ترى النور مكثت في أدراج وزارة الثقافة ما يزيد على السنة، لأن هناك من رأى أن المجموعة تراثية. وكما تعلم فإن طباعة الكتب مُكلِّفة، فكان لزاما عليّ أن أنتظر عاما آخر. وفي النهاية، تكلل صبري بالنجاح، حيث خضعت المجموعة للتحكيم وتمت الموافقة على نشرها بدعم من وزارة الثقافة الأردنية، مشكورة، مع أن الدعم بالكاد غطى تكاليف الطباعة. فكانت تجربة مرهقة نفسيّا، ولكن بالصبر والمثابرة خرجت هذه التجربة القصصية المغايرة، ولله الحمد، إلى النور. الكتابة رحلة جمال وأداة تغيير، ماذا عن تجربتك القصصية؟ هل نلمس من مجموعتك دعوة لثورة بيضاء في باديتنا الأردنية؟ لا شك في أن الكتابة واحدة من أهم وسائل التغيير في المجتمعات، خاصة تلك التي تتناول التراث والعادات والتقاليد. فكما تعلمون، إن سطوة وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح على العالم وانتشار تكنولوجيا الاتصال جعلت تأثير المثقف يقل، إلا إذا وظّفنا هذه التكنولوجيا بشكلها السليم. ودور النشر تستغل جهد الكاتب لتحقق مكسبا ماديّا، وعليه يكون التأثير قليلا. وما أراه أن الثورات عموما جلبت لبلادنا الويلات، لذا أنا لا أدعو لثورة بيضاء أو حمراء، ولكنني أسعى أن تصل أفكاري و"خزنة" إلى طلبة المدارس والجامعات ليطلعوا على جانب من جوانب حياة المرأة في البادية، ويأخذوا منها العبرة، فيصبح الشباب أكثر وعيا وانفتاحا على أمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم، وعلى المرأة عمومًا. نعم، أدعو للتغيير، ولكن ليس للانقلاب الكامل على تاريخنا البدوي، ففيه من الجمال الكثير، فعفة ابنة البادية أهم بكثير من انتشارها على "تيك توك"، ودورها في استقبال ضيوف زوجها وأبيها وهم غائبون قيمة تعطي للمرأة مكانتها، وهي أهم من إظهار مفاتنها على وسائل التواصل. هي فقط دعوة للتغيير والانفتاح المضبوط. رصدتِ في المجموعة استقبال أهل البادية للتكنولوجيا وطرق التكيف معها.. ما خلاصة عملية الرصد والتكيف؟ حتى منتصف القرن الـ20، كانت حياة أهل البادية غارقة في البساطة، فكان الجمل والدواب وسيلة التنقل الوحيدة، ثم دخلت السيارة رويدا رويدا فازداد رتم الحياة سرعة. لذا، في المجموعة، تحدثت عن أعجوبة السيارة حين جاءت زوجة مسؤول لزيارة البادية التي تسكنها "خزنة"، ورصدت الخوف واستهجان "الجني الصغير" (المذياع)، وكيف وصل الأمر بأم "خزنة" للشك بأن زوجها يحب المذيعة، فحطمته بحثا عنها ولمنعه من سماع صوتها. ونعلم جيدا أن التكنولوجيا تسارع دخولها في بلادنا بعد منتصف السبعينيات من القرن الـ20، وبداخلي فكرة لمجموعة قصصية تتناول الفترة الانتقالية بين التنقل والاستقرار وما عانته المرأة البدوية في تلك الفترة. كلنا يعلم أن للتكنولوجيا وجهها الإيجابي والمهم، غير أن سوء استخدامها أظهر بشاعتها. لذلك، نعم، حدثت فجوة وهوة حضارية لم نستطع التغلب على تأثيرها حتى الآن. فقد تخلينا عن كثير من مظاهر حياتنا وأصولها، فصار التواصل بين الأهل ينجزه الهاتف بدلا من لقاءات الأهل، وكثير من القيم والأصول أظهرتها التكنولوجيا الحديثة على أنها عبء على الحضارة، فتركنا لباسنا التقليدي، وأغانينا التي تتحدث عن بطولات أجدادنا، وغيرها الكثير من الأمور. صار "المِهباش" يُستعمل للزينة، وما عاد مظهرا من مظاهر الشيخة والكرم. وبعد هذه الصدمة والفجوة الحضارية، بدأنا ننخرط في الحداثة حتى نكاد ننقطع عن تاريخنا وبداوتنا. وأخيرا، هل هناك مشروع أدبي مستقبلي؟ "امرأة قادمة من البعيد"، هذا هو عنوان مجموعتي القصصية الجديدة التي سترى النور قريبا بإذن الله. ومن العنوان، نرى أنها تتحدث عن امرأة جاءت بأحلامها المؤجلة وعن علاقتها بالرجل، ولكن تحت عناوين مختلفة كالحب والشوق والرغبة في السفر وغيرها من الأمور. مجموعة تتناول حياة النساء بشكل أكثر وضوحا، دون المساس بكينونتها وأنوثتها. قاصّة تحفر في تراث البادية وعلى صعيد متصل، ترى الدكتورة إنعام زعل القيسي أن هدى الأحمد قاصّة أردنية تحفر في تراث البادية الأصيل، وتكشف لنا عن دفائن الصحراء الثمينة وخفايا رمالها الذهبية في "أسرار خزنة"، لتحيل المقروء الثقافي عن واقع عشناه وعاشه أهلنا إلى واقع جميل نعيشه في مخيلتنا. فـ"خزنة" ومن حولها كانوا يستمتعون بـ"الجني الصغير" (الساحر المسموع)، كما كنتُ ومن حولي نستمتع بـ"الساحر المرئي" في السبعينيات. إنها تعزف على وتر بعث الماضي وتراثه الأصيل، فيشدنا الحنين والشوق لحياة جميلة ساحرة مضت. وأوضحت في حديث للجزيرة نت أن "خزنة طفلة شقيّة وجميلة بجديلتين سوداوين وعينين تتقدان ذكاء، ترعى الغنم، وفيّة للحيوان والإنسان". وأضافت أن "الفتاة السمراء الممشوقة القوام ذات الابتسامة الرقيقة" تصر على اللحاق ببنات البادية من أترابها وتتعلم كيف تحلب الأغنام لتجد عريسا يطلب يدها، وهي تحمل في صدرها أسرارا كثيرة. فجاء اسمها مقاربا لحالها ومفتاحا لفهم مضامين القصص؛ فمثلا: "خزنة" السرّ في تحطيم الراديو وغيرة والدتها من المرأة التي تتحدث داخله، و"خزنة" سر "الحنة الضائعة" ووقوع العروس مغشيّا عليها. لقد كانت "خزنة" بمثابة الصندوق المعدني الذي يستخدم لحفظ الأشياء الثمينة. وأشارت الناقدة الأكاديمية القيسي إلى غنى الموروث الثقافي الذي تتميز به بعض قصص المجموعة، ومنها قصة "البئر الغربي" التي يستدعي مضمونها إلى ذاكرتنا قصة أوردها ابن بطوطة في رحلته، وهي قصة أهل جزيرة "ذيبة المهل" (المالديف حاليّا) الذين كان يظهر لهم شهريّا عفريت من الجن يأتي من جهة البحر، ويطلب منهم تقديم قربان له من أجمل فتياتهم ويختفي بعد أن يحوزه. وعلى الرغم من اختلاف القرابين المقدمة بين أهل البادية في "البئر الغربي" وأهل جزيرة ذيبة المهل، فإن الجهل كان السمة المسيطرة على الناس. وترى القيسي أن هدى الأحمد نجحت في "أسرار خزنة" بتقديم مشاهد من حياة المرأة البدوية وأحلامها وأمنياتها، وبيان دورها في بيئتها الاجتماعية والمشكلات التي تتعرض لها بمهارة فنية لافتة، من خلال التبئير على شخصية "خزنة" شكلا ومضمونا. كما نجحت في عرض عادات البدو وتقاليدهم ومفردات لهجتهم وعباراتهم الأصيلة، وهو أمر يعكس تشبُّع القاصة بالثقافة البدوية الأصيلة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store