
خيارات تركيا بين الجغرافيا والتاريخ
ومن يتابع السياسة التركية منذ عقود يدرك أنها ليست مجرد استجابة آنية لأحداث تقع هنا أو هناك، بل تنطلق من رؤية طويلة الأمد؛ تقوم على إدراك عميق لمكانتها على الساحة الدولية، ببعديها الثقافي والسياسي، وتجذرها الحضاري، وتاريخها الذي لا يزال يرخي بظلاله على قراراتها المعاصرة والمستقبلية. فنراها تتحرك دبلوماسياً من البلقان إلى القوقاز، ومن بحر إيجة إلى بوابة الشام، بعين على المستقبل، وأخرى لا تنفك تلتفت إلى ماضٍ ورثته وتعتز به حتى اليوم.
وهنا تظهر الجغرافيا التي روّضتها تركيا، فحوّلتها من واقع محتوم بتجاذباته، إلى مشروع واع ومدروس؛ فهي ليست دولة عادية من حيث الموقع والتأثير، بل إنها قلب نابض بين قارتي آسيا وأوروبا؛ حيث تشرف على ثلاثة بحار إستراتيجية، وتحدها ثماني دول، وتلامس قوس الأزمات، من سوريا والعراق جنوباً، إلى أوكرانيا وروسيا شمالاً، وهذا الموقع لا يتيح لها البقاء على الحياد، بل يفرض عليها دوراً إقليمياً فاعلاً، بحكم الواقع الجغرافي والسياسي، شاءت أنقرة أم أبت.
ولأن صانع القرار تعامل مع الحيز الجيوسياسي كرؤية إستراتيجية ناضجة، لا كعبء مثقل بالصعوبات، تدرك تركيا أن أمنها القومي لا يُبنى داخل حدودها فقط، بل في عمقها الإقليمي، لذلك بادرت وتحالفت، وأعادت ترتيب خرائط المصالح، إدراكاً منها أن الدفاع الوقائي عن المجال الحيوي هو حماية للأمن القومي، وإيماناً منها أن أي فراغ سيحوّل الساحة إلى بؤر صراع لا تنتهي، وأنها إن لم تتحرك فستدفع ثمن ذلك آجلاً أو عاجلاً.
وإدراكاً منها لأهمية البحار كجزء لا يتجزأ من أمنها الإقليمي، اندفعت تركيا بقوة إلى ساحة شرق المتوسط، التي أصبحت في السنوات الأخيرة أحد أكثر ميادين التنافس الإستراتيجي سخونة، لا سيما في ظل الاكتشافات المذهلة للثروات الباطنية هناك. ولم يكن هذا التحرك من فراغ؛ بل استند إلى إرث تاريخي طويل في البحر المتوسط، يمتد من أيام "خير الدين بربروس" حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
فمن بيده القرار يدرك أن من يخسر البحر سيطوَّق في اليابسة، وأن الحدود البحرية لا تقل أهمية عن البرية، وأن تهميش أنقرة في شرق المتوسط هو مقدمة لتطويقها اقتصادياً وسياسياً، وهذا ما ترفضه في ظل تنامي قوتها العسكرية، ومخزونها البشري، وصعودها الاقتصادي الذي تجاوزت فيه دولاً وازنة في الإقليم والعالم، وقبل كل شيء حقوقها المشروعة بموجب القانون الدولي.
تدرك تركيا أن صيانة الجغرافيا لا تكتمل إلا بتعاون إقليمي يعيد ترتيب الأولويات على أساس المصالح المشتركة، لا على وقع الاستقطاب الدولي المؤقت؛ لذلك تبرز الحاجة الملحة إلى تنسيق أعمق بين الجمهورية التركية ودول الإقليم
ومن الطبيعي في ظل هذه الخيارات المعقدة أن تبرز تحديات داخلية وأخرى خارجية، لكن الثابت أن صانع القرار السياسي والعسكري في أنقرة، ومعه شرائح واسعة من النخب التركية، ينطلقون من مسلّمة راسخة: تركيا يجب أن تكون لاعباً لا ملعباً.
إن توجهات السياسة التركية الإقليمية ليست نتاج ضغوط لحظية أو انفعالات طارئة؛ بل تأتي في إطار توازن دقيق بين الجغرافيا التي تفرض واقعاً لا مفر منه، والتاريخ الذي يزودها بشرعية الحركة. ورغم العقبات تسير في خط إستراتيجي، تحاول من خلاله أن تكون رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في ملفات المنطقة ومعادلاتها.
ولا يمكن فصل خيارات الدولة التركية عن التطورات والأحداث العالمية التي تعيد تشكيل موازين القوى، ولا عن الأسئلة الكبرى التي تفرضها الجغرافيا المعقدة والتاريخ العميق؛ فتركيا، وهي تخوض غمار هذه المرحلة المضطربة، تبدو عازمة على تجاوز موقع الدولة المتأثرة إلى موقع الدولة المؤثرة، بل وصانعة التوازن في محيطها، عبر بناء شراكات، والدفاع عن مصالحها البحرية والبرية، ومد نفوذ وقائي استباقي يحول دون تهديد أمنها في الإقليم، ورفضها أن تكون محاصَرة داخل حدود ضيقة.
وفي خضم هذه التقلبات المتزايدة، تدرك تركيا أن صيانة الجغرافيا لا تكتمل إلا بتعاون إقليمي يعيد ترتيب الأولويات على أساس المصالح المشتركة، لا على وقع الاستقطاب الدولي المؤقت؛ لذلك تبرز الحاجة الملحة إلى تنسيق أعمق بين الجمهورية التركية ودول الإقليم، التي تشترك معها في التهديدات والتحديات المستقبلية، وتستثمر في الجغرافيا؛ وذلك بهدف وقف التيار الجارف الذي يسعى لتفكيك المنطقة.
ما لم تدرك الدولة التركية أن الجغرافيا في السياسة المعاصرة لم تعد مجرد خطوط على خرائط، بل صارت أداة سيادية وأفقاً إستراتيجياً، وأن عليها أن تستثمر هذا الإرث في ترسيخ استقرار طويل الأمد، فإنها قد تجد نفسها في مهب تغيرات الإقليم وصراعاته
لذا، فإن خيار التوحد الإقليمي ليس ترفاً، بل ضرورة لحماية شعوب المنطقة من سيناريوهات الفوضى، التي تسعى بعض القوى لجعلها مقدمة لمشروع تقسيمي هدام لتحقيق مصالحها.
ختاماً: قد لا تكون خيارات "تركيا" الإقليمية مثالية أو خالية من الأخطاء، لكن ما لا يمكن إنكاره أنها تنبع من فهم راسخ لهوية الدولة وموقعها في عالم مضطرب، وإدراك عميق لخفايا الصراع وأسبابه؛ فتركيا ليست جزيرة معزولة، ولا دولة هامشية، بل وريثة حضارة وقوة إقليمية صاعدة.
وما لم تدرك الدولة التركية أن الجغرافيا في السياسة المعاصرة لم تعد مجرد خطوط على خرائط، بل صارت أداة سيادية وأفقاً إستراتيجياً، وأن عليها أن تستثمر هذا الإرث في ترسيخ استقرار طويل الأمد، فإنها قد تجد نفسها في مهب تغيرات الإقليم وصراعاته، بدل أن تكون فاعلة في هندسة توازناته الحالية والمستقبلية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 دقائق
- الجزيرة
مظاهرة في إسطنبول تنديدا بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة
شارك آلاف الأتراك في مظاهرة احتجاجية تنديدا بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ورفضا للإبادة الجماعية وتجويع الفلسطينيين بالقطاع. اقرأ المزيد المصدر: الجزيرة


الجزيرة
منذ 2 دقائق
- الجزيرة
الشراكة الإستراتيجية بين الغرب والكيان
تُعد القضية الفلسطينية محورا مركزيا لفهم ديناميكيات العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، حيث تتقاطع فيها الأجندات الجيوسياسية والاقتصادية والأيديولوجية، وفي قلب هذا الصراع تبرز الشراكة الإستراتيجية بين الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية، والكيان كمحدد رئيسي لمسار القضية الفلسطينية. هذه الشراكة ليست مجرد تحالف سياسي أو عسكري، بل هي بنية هيكلية متجذرة في إطار إمبريالي يهدف إلى ترسيخ الهيمنة الغربية في المنطقة على حساب الحقوق الفلسطينية الأساسية. على الصعيد السياسي، تبرز الولايات المتحدة كحليف لا يتزعزع، حيث استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي بشكل منهجي لحماية الكيان من أي محاسبة دولية الجذور التاريخية: تأسيس الشراكة في سياق الإمبريالية تعود جذور الشراكة بين الغرب والكيان الصهيوني إلى سياقات الإمبريالية الأوروبية في القرنين الـ19 والـ20.. وعد بلفور (1917) يمثل نقطة انطلاق رمزية لهذه العلاقة، حيث عكس التزام بريطانيا العظمى بدعم إقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين. لكن هذا الوعد لم يكن مجرد تعبير عن التعاطف مع الحركة الصهيونية، بل كان جزءا من إستراتيجية استعمارية تهدف إلى تأسيس قاعدة متقدمة في الشرق الأوسط، لضمان السيطرة على الممرات التجارية والموارد الإستراتيجية، لا سيما بعد اكتشاف النفط في المنطقة. من منظور نظري، يمكن قراءة هذا الدعم في إطار مفهوم "الاستعمار الاستيطاني"، الذي طوره باتريك وولف، حيث يُعتبر الكيان الصهيوني امتدادا للمشروع الاستعماري الغربي، الذي يعتمد على إحلال مستوطنين مدعومين من قوى إمبريالية محل السكان الأصليين. هذا الدعم استمر بعد تأسيس الكيان في 1948، حيث تولت الولايات المتحدة دور الراعي الأساسي، خاصة في سياق الحرب الباردة، حيث رأت في الكيان حليفا إستراتيجيا لمواجهة النفوذ السوفياتي في المنطقة. إن هذه الجذور التاريخية تكشف عن طبيعة الشراكة كمشروع هيمنة جيوسياسية، لا مجرد تعاون ثنائي قائم على القيم المشتركة كما يُروج له. الأدوات السياسية والعسكرية: آليات الهيمنة تتجلى الشراكة الإستراتيجية في الأدوات السياسية والعسكرية التي يستخدمها الغرب لدعم الكيان الصهيوني. على الصعيد السياسي، تبرز الولايات المتحدة كحليف لا يتزعزع، حيث استخدمت حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي بشكل منهجي لحماية الكيان من أي محاسبة دولية. فوفقا لتقارير الأمم المتحدة، استخدمت الولايات المتحدة الفيتو أكثر من 50 مرة بين 1972 و2023 لمنع قرارات تدين الانتهاكات الإسرائيلية، بما في ذلك التوسع الاستيطاني والعمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية. هذا السلوك يكشف عن دور الغرب كحامٍ لنظام دولي يعطي الأولوية للمصالح الجيوسياسية على مبادئ القانون الدولي. على الصعيد العسكري، يُعد الدعم الأميركي للكيان الصهيوني أحد أبرز مظاهر هذه الشراكة؛ إذ تقدم الولايات المتحدة مساعدات عسكرية سنوية تتجاوز 3.8 مليارات دولار، إلى جانب صفقات أسلحة متقدمة تشمل طائرات مقاتلة من طراز "إف-35″، وأنظمة دفاع صاروخية مثل القبة الحديدية. هذا الدعم ليس مجرد مساعدة تقنية، بل هو تمكين مباشر لسياسات القمع والتوسع الإسرائيلية، بما في ذلك الحملات العسكرية ضد قطاع غزة، التي أسفرت عن آلاف الضحايا المدنيين، ودمار واسع النطاق. يمكن تحليل هذا الدعم من خلال مفهوم "إمبريالية الأسلحة"، الذي يشير إلى استخدام التفوق العسكري كأداة لفرض الهيمنة الإقليمية، حيث يعمل الكيان الصهيوني كوكيل إقليمي للمصالح الغربية. التناقض الأخلاقي: نقد الخطاب الليبرالي الغربي يكشف الدعم الغربي للكيان الصهيوني عن تناقض جوهري في الخطاب الليبرالي الغربي، الذي يروج لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.. من الناحية النظرية، يمكن تفسير هذا التناقض من خلال إطار ما بعد الاستعمار، وبالأخص مفهوم "الاستشراق" الذي طوره إدوارد سعيد، حيث يتم تصوير الفلسطينيين كـ"آخر" لا يستحق الحقوق ذاتها التي تُمنح للغربيين أو حلفائهم. تقارير منظمات حقوقية دولية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، وثقت بشكل منهجي انتهاكات الكيان الصهيوني، بما في ذلك التطهير العرقي في القدس الشرقية، والحصار الاقتصادي على غزة، والسياسات التي تُصنف كنظام فصل عنصري. ومع ذلك، يواصل الغرب، وخاصة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، تجاهل هذه التقارير أو التقليل من شأنها. هذا الانحياز يكشف عن ازدواجية معايير عميقة، حيث يتم تطبيق مبادئ حقوق الإنسان بشكل انتقائي بناء على المصالح الجيوسياسية. على سبيل المثال، بينما يُدين الغرب انتهاكات حقوق الإنسان في سياقات أخرى (مثل الصين أو روسيا)، فإنه يوفر غطاء سياسيا ودبلوماسيا للكيان الصهيوني، مما يعزز ثقافة الإفلات من العقاب. من منظور أخلاقي، يمكن القول إن هذه الازدواجية لا تعكس فقط فشلا في تطبيق القيم الليبرالية، بل أيضا تواطؤا نشطا في استمرار القمع المنهجي للفلسطينيين. إن الشراكة بين الغرب والكيان الصهيوني تكشف عن أزمة عميقة في النظام الدولي، حيث تفشل المؤسسات الدولية في تحقيق العدالة أو فرض القانون الدولي في مواجهة النفوذ الغربي الآثار المنهجية على القضية الفلسطينية إن الشراكة الإستراتيجية بين الغرب والكيان الصهيوني لها آثار عميقة ومتعددة الأبعاد على القضية الفلسطينية: ساهمت في ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي من خلال تمكين التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية؛ فوفقا لتقارير الأمم المتحدة، تضاعف عدد المستوطنات غير الشرعية منذ توقيع اتفاقيات أوسلو (1993)، مما جعل حل الدولتين شبه مستحيل. هذا التوسع ليس مجرد انتهاك للقانون الدولي، بل هو إستراتيجية مدعومة غربيا لتغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي للأراضي الفلسطينية. أدت هذه الشراكة إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في قطاع غزة، حيث يعاني أكثر من مليوني فلسطيني من حصار اقتصادي وعسكري مدعوم ضمنيا من الغرب. الحملات العسكرية الإسرائيلية، مثل تلك التي وقعت في 2008-2009 و2014 و2023، أسفرت عن دمار هائل وخسائر بشرية كبيرة، دون أي محاسبة دولية فعلية؛ بسبب الحماية الغربية. من منظور نظري، يمكن قراءة هذه السياسات في إطار مفهوم "النخر السياسي" لأشيل مبيمبي، حيث يتم التحكم في حياة الفلسطينيين وموتهم كجزء من إستراتيجية سيادية تهدف إلى إخضاعهم. ساهمت هذه الشراكة في تهميش الصوت الفلسطيني على الساحة الدولية؛ فمن خلال السيطرة على المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، ومن خلال الدعاية الإعلامية التي تصور الكيان الصهيوني كـ"ديمقراطية" في مواجهة "الإرهاب" الفلسطيني، يتم تجريد الفلسطينيين من شرعيتهم الأخلاقية والقانونية. هذا التهميش ليس مجرد نتيجة ثانوية، بل هو هدف إستراتيجي للشراكة، حيث يسعى الغرب والكيان إلى إعادة صياغة الرواية التاريخية للصراع بما يخدم مصالحهما. نقد النظام الدولي: إعادة التفكير في العدالة إن الشراكة بين الغرب والكيان الصهيوني تكشف عن أزمة عميقة في النظام الدولي، حيث تفشل المؤسسات الدولية في تحقيق العدالة أو فرض القانون الدولي في مواجهة النفوذ الغربي. يمكن تحليل هذه الأزمة من خلال مفهوم "الهيمنة العالمية" لأنطونيو غرامشي، حيث يستخدم الغرب قوته السياسية والاقتصادية لفرض إجماع مزيف حول شرعية الكيان الصهيوني، وهذا الإجماع يعتمد على أدوات ناعمة (مثل الإعلام والخطاب الدبلوماسي)، وأخرى صلبة (مثل الفيتو والدعم العسكري)، للحفاظ على نظام دولي يخدم مصالح القوى المهيمنة. في الوقت ذاته، تثير هذه الشراكة تساؤلات حول إمكانية تحقيق العدالة في ظل نظام دولي تهيمن عليه دول قليلة.. إن استمرار الدعم الغربي للكيان الصهيوني، على الرغم من انتهاكاته الموثقة، يكشف عن الحاجة إلى إعادة التفكير في هيكلية النظام الدولي، بما في ذلك إصلاح مجلس الأمن، وتعزيز دور الدول النامية في صنع القرار العالمي. إن الشراكة الإستراتيجية بين الغرب والكيان الصهيوني تمثل بنية هيمنة إمبريالية، تهدف إلى ترسيخ السيطرة الجيوسياسية على الشرق الأوسط على حساب الحقوق الفلسطينية. ومن خلال الأدوات السياسية والعسكرية، والخطاب الليبرالي، والتأثير المنهجي على القضية الفلسطينية، تكشف هذه الشراكة عن تناقضات النظام الدولي، وفشله في تحقيق العدالة. إن مواجهة هذه الشراكة تتطلب نهجا نقديا يعتمد على فضح هذه التناقضات، وتعبئة المجتمع الدولي لدعم الحقوق الفلسطينية.. فقط من خلال تفكيك هذه البنية الإمبريالية يمكن استعادة العدالة، وتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير.


الجزيرة
منذ 2 دقائق
- الجزيرة
لنتخيل شرقا أوسط بدون إسرائيل
إن تخيلت يوما شرقا أوسط بلا إسرائيل، فكأنك تنزع من الجرح مسماره الأكثر حدة، لكنك لا تزيل الندوب ولا تمحو تاريخ الألم. في غياب هذا الكيان الذي تمخض عن مشروع استعماري طويل، سيجد الشرق الأوسط نفسه أمام أسئلة أعمق من مجرد الانتصار الرمزي أو العودة إلى ما قبل النكبة. فالمسألة لا تكمن فقط في إزالة دولة وكيان سياسي، بل في إعادة صياغة وعي جمعي كان، طوال عقود، معلَقا على صراع وجودي، يتغذى منه الخطاب السياسي، ويستمد منه الحاكم مشروعية سلطته، وتستيقظ به الشعوب على حلم الحرية والمقاومة. طوال قرن، كانت فلسطين هي "الجرح المؤسس" الذي يختزن معنى العدالة الضائعة والكرامة المهدورة. فهل سيبقى هذا المعنى قائما دون العدو الصهيوني؟ أم سيغدو الشرق الأوسط بلا بوصلة؟ كيف سيكون شكل المنطقة إذا اختفى هذا "العدو المركزي" الذي جسد، في الوعي العربي، معنى الشر المطلق؟ ربما سيكتشف العرب أن هزائمهم ليست كلها من صنع إسرائيل، وأن خرابهم الداخلي أكبر من أي احتلال. سيُطرح السؤال الذي طالما جرى تجاهله: ماذا بعد المقاومة؟ هل يمكن لشعوب مزقتها الأنظمة المستبدة، واحتلتها أنماط من التخلف والفساد، أن تعيد بناء ذاتها دون الحاجة إلى عدو خارجي يوحد صفوفها؟ غياب إسرائيل سيجعل الصراع مكشوفا بين الشعوب وحكوماتها، بين الحرية والاستبداد، بين مشروع نهضة مؤجل وأطلال تاريخ عالق. من زاوية فلسفية، يبدو الشرق الأوسط بلا إسرائيل كأنه يدخل مرحلة "الفراغ الرمزي". طوال قرن، كانت فلسطين هي الجرح المؤسس الذي يختزن معنى العدالة الضائعة والكرامة المهدورة. فهل سيبقى هذا المعنى قائما دون العدو الصهيوني؟ أم سيغدو الشرق الأوسط بلا بوصلة، يبحث عن شرعية وجوده في صراعات داخلية أكثر قسوة؟ ربما يُعيد هذا الغياب توجيه الوعي العربي من خطاب المظلومية إلى خطاب الفعل والإبداع، من التلويح بالماضي إلى اقتحام المستقبل. لكنْ هناك بُعد آخر: إن اختفاء إسرائيل لا يعني اختفاء القوى التي صنعتها ورعتها. سيبقى الغرب بمصالحه ومشاريعه، وستظل أميركا وأوروبا تبحثان عن "إسرائيل أخرى" تحفظ لهما السيطرة على منابع النفط وخطوط التجارة. فهل يمكن للشرق الأوسط أن يتحرر فعلا من شبكات الهيمنة الاستعمارية دون أن يعيد بناء ذاته سياسيا واقتصاديا وثقافيا؟ غياب إسرائيل سيكون اختبارا للوعي العربي: إما أن يولد مشروع نهضة حقيقي، أو يتكشف عجز الأنظمة العربية التي ربما ستصنع عدوا جديدا لتبرير وجودها وقمع شعوبها. إن الشرق الأوسط بلا إسرائيل ليس حلما ورديا كما يبدو في شعارات الحشود، بل هو سؤال مخيف عن حقيقة الخراب الداخلي، عن هشاشة النظام العربي، وعن استحالة النهضة ما لم نواجه ذواتنا قبل أعدائنا. فهل سنكتشف أن أكبر احتلال نعيشه ليس خارجيا، بل داخلي في العقول والنفوس؟ سيكتشف الشرق، وربما الغرب أيضا، أن الصراع لم يكن مع كيان غاصب فحسب، بل مع أنفسنا، مع تاريخنا الممزق، مع أوهام القوة التي اختبأت خلف شعارات النصر المؤجَل. بلا إسرائيل، سنضطر لمواجهة السؤال الذي لطالما تجنبناه: من نحن دون عدو يوقظ فينا الغضب؟ من نحن إذا لم يعد هناك "آخر" نحمله عبء انهياراتنا الداخلية؟ في هذا الشرق الذي عانى من كثافة التاريخ، سيصبح الغياب امتحانا للوعي: هل ستولد من رماد الكراهية نهضة تعيد ترتيب الذاكرة، أم سيتحول الفراغ إلى اقتتال جديد بين الأشقاء الذين لم يعرفوا يوما كيف يعيشون بلا صراع؟ غياب إسرائيل قد ينزع القناع عن الأنظمة التي وجدت في هذا الصراع ذريعة لبقاء دائم، وقد تكتشف الشعوب أن معركتها الأصعب لم تبدأ بعد، لأنها ضد العجز المزمن، ضد الاستبداد، ضد الركود الذي جعل من المقاومة كلمة مجردة من الحياة. فلسفيا، سيغدو الشرق الأوسط بلا إسرائيل كما لو كان يقف أمام مرآة الحقيقة لأول مرة. لن يعود هناك ظل خارجي يبرر تشوه الصورة؛ سنرى أنفسنا عراة أمام أسئلة الوجود: هل نحن قادرون على إنتاج المعنى دون خصم يُسقِط علينا أسباب العدم؟ هل يمكننا أن نحيا من أجل فكرة النهضة، لا من أجل فكرة العداء؟ ربما سنكتشف أن كل ما كنا نراه في إسرائيل كان انعكاسا لخرابنا الداخلي، وأن تحرير فلسطين الحقيقي يبدأ بتحرير العقل، بتحرير الخيال من قيود التاريخ المثقل بالأوهام. هل نعرف كيف نعيش بلا عدو خارجي؟ أم إن غياب إسرائيل سيفضح أننا لم نبنِ ذاتنا يوما، وأننا نحتاج دائما إلى "آخر" لنعرف من نحن؟ ربما لن تكون ولادة شرق بلا إسرائيل سهلة، لأنه سيحتاج إلى معركة وجودية مع نفسه، إلى ثورة وعي تعيد تشكيله من الداخل. لكن، أليس هذا الحلم هو المعركة التي تأخرت طويلا؟ أن نكسر قيودنا، لا قيود غيرنا فقط؟ أن نحرر الأرض من الخارج والروح من الداخل معا؟ الشرق بلا إسرائيل أشبه بطفل وُلد بلا ذاكرة للجرح. ستنهار أسطورة "المظلومية الكبرى" التي وحدت القلوب في الظاهر وفرقتها في العمق. سيصبح علينا أن نكتب تاريخا جديدا، بلا صرخة "العدو"، بلا نواح على الماضي. فهل نعرف كيف نعيش بلا عدو خارجي؟ أم إن غياب إسرائيل سيفضح أننا لم نبنِ ذاتنا يوما، وأننا نحتاج دائما إلى "آخر" لنعرف من نحن؟ فلسفيا وسياسيا، سيكون الغياب امتحانا للعقل. فالوجود لا يُقاس بعدد الأعداء، بل بقدرتنا على خلق معنى للحياة دون قيد أو استعمار. ربما سيولد شرقٌ آخر، شرق لا يبحث عن نفسه في شظايا الحروب، بل في وهج الحرية، شرق يعرف أن المعركة الحقيقية لم تكن يوما على حدود الجغرافيا، بل في عمق الوعي، في تحرير الإنسان من الاستبداد والجهل والتخلف.