
«مقهى الروضة» يختصر روح بيروت و100 سنة من عمرها
الكتاب الصادر عن «دار نلسن في بيروت، يقدم «مقهى الروضة» كأنه قرية بيروتية داخل المدينة: ماسح أحذية مسنّ، و«بصّارة» نورية، ونُدُل من جنسيات مختلفة، وأطفال، ومثقفون، وعاشقون، وشيوعيون، وشعراء، وممثلون، وسياسيون... مكان مفتوح لكل الطبقات، على اختلاف الأمزجة والانتماءات، مكان عابر للأزمنة والأحداث.
عايش المقهى انسحاب الفرنسيين سنة 1943 بعد أن كان يستقبل جنود الانتداب، واحتُفل فيه بالاستقلال. استضاف اللاجئين الفلسطينيين بعد نكبة 1948، وتفاعل مع مظاهرات 1958، وفيه تابع الرواد صوت الرئيس المصري جمال عبد الناصر وهو يتلو استقالته بعد نكسة 1967، ثم واكب عودة السلم الأهلي، بعد حرب دامية، قبل أن يواكب مرارات ما تبعها.
من مقهى بسيط مكوَّن من طاولات خشبية على شاطئ البحر، بنرجيلاته وأحاديث البسطاء، في عشرينات القرن الماضي، مروراً بتحوله إلى ملتقى للمثقفين والكتّاب، ومكان لاجتماعاتهم، والبعض استعاض به عن المكتب، وهناك من اتخذ زاوية يومية ليكتب نصوصه، وهو أيضاً معبر للسياسيين والفنانين. من هنا مرّ الرئيس رفيق الحريري وزوجته نازك، ورئيس الوزراء الأسبق تمام سلام، والنائب إبراهيم منيمنة، والفنانات نانسي عجرم، وفلة، كما أصالة ووردة الجزائرية، وكثر لا يتسع المكان لذكرهم جميعهم.
يبدأ الكتاب بقصة حب وألفة بين الراوي وامرأة ترتاد المقهى. تنشأ بين الاثنين عاطفة تنمو بروية، وهما يتشاركان هذا النبض البيروتي الحي في المقهى. «يضحكان معاً كطفلين. يعيدهما المقهى إلى أيام البراءة واحتمال الأحلام. يتبخّر الوقت بينهما كالبخار الصاعد من فنجان الشاي».
لكن الحبيبة ذات الملامح الضبابية التي تشبه بيروت بتناقضاتها، وخياراتها، سرعان ما تضطر إلى الرحيل، تاركةً كاتبنا يبحث عن مزيد من المعاني في مكان تختلط فيه المشاعر كما تمتزج ضحكات الأطفال، بقرقعة النرجيلات، وصوت النرد بحفيف ورق الشجر، أمام مشهد البحر الممتد.
حين تخبره الحبيبة بنيّتها السفر، لا تطلب منه البقاء ولا الرحيل، لكنها تضع حبّهما في اختبار. «الحبّ والوقت لا يتّفقان»، يقول الكاتب. وإذا كان الحبّ قد انتصر على الزمن لوهلة، فالفراق سيفرض منطقه في النهاية. فإما زواجاً وسفراً، وإما بقاءً وانفصالاً. لذا، ينسحب بصمت، ويتركها تذهب، مخلّفة وراءها «لوعة الفقدان»، وظلّ عطر لا يزول من على الطاولة التي كانت لهما.
حكايته مع الحبيبة انتهت لكنها بقيت قابعة في الروح، فهو يستمر في ارتياد المقهى، متأملاً الوجوه، وأحوال العابرين، يراقب كل حركة وصوت، كأنما لم تعد المرأة هي صورة الوطن، وإنما هذه البقعة الصغيرة التي تختصر ببلاغة، كل ما يدور خارجها.
فالمقهى في موقع زحفت إليه الأبنية الشاهقة والمطاعم الفخمة والفنادق الفاخرة، وبقي صامداً بروائحه، وبساطته وأناسه العاديين، وكتابه الريفيين، ومثقفيه الباحثين عن واحة وسط الكتل الإسمنتية. «أوليس المقهى هو (العروس) الناجية من الاجتياح العُمراني والباطوني المتوحِّش، عروس صُمِّمت بقوَّة لتبقى متمسِّكة بطرحتها البيضاء وبفستانها الأخضر الذي لطالما زيَّن (رأس بيروت)؟».
ولإعطاء نكهة واقعية يترك المؤلف الكلام، لمثقفين أدمنوا المكان، ولا يزالون يرتادونه يومياً. المخرج رفيق علي أحمد، يعدّ المقهى، صباحاً، مكتباً، ومكاناً لإنهاء أشغاله أو لقاء صحافيين، وبعد الظهر للاستمتاع والجُلوس مع النَّاس وسماع أخبارهم ولعب طاولة الزَّهر. «دوامه ثابت لا يتغيَّر، وحالُه كحال المنارة البحريَّة، ودولاب مدينة الملاهي القريبة».
لقاءان يوميان لا يفوِّتهما هذا الفنان الذي استوحي غالبية مسرحياته من أجواء المقهى، وكتبها على طاولاته، بين الأشجار، وأمام البحر؛ يجلس أمام «أفُقٌ حُرّ مفتوح، حيث تتحرر مخيِّلتُه الريفيَّة من كلّ قيود. يكتُب ويمزِّقُ ويحفظُ ويُردِّدُ».
رفيق علي أحمد لا ينظر إليه على أنه مقهى، بل حديقةٌ، بستانٌ، والمكانُ الوحيد في بيروت «يلّي بتحطّ أجريك ع الأرض، بتحسّ بالتراب. بعد فيه أشجار، بتطلع بتشوف السَّماء والبحر». لا بل المقهى «حديقتَه السريَّة»، وليس كما يمكن أن نتخيله مكاناً للهروب من النَّاس.
كثيرون مروا من هنا، بينهم الشاعر عصام العبد الله، الذي يستذكره في الكتاب الصحافيُّ والمَسرحيُّ والمُخرجُ، عبيدو باشا، ويقول عنه إنه في خضمِّ الحوارات الحادة التي كانت تدور، حول مواضيع سياسية خلافية «كان يُديرُ النِّقاشات بحرفيِّة واقتدار، ولا يسمحُ بالصُّراخ أو تبادُل الشَّتائم. حافظ على قواعِد اللُّعبة».
عبيدو باشا هو الآخر ركن من أركان المقهى. مداوم مخلص، يعدّ الروضة «صومعته المفضلة». هنا يشعر بالألفة، والبساطة، وببيروت أيام زمان، ويتمتع بعلاقات إنسانية «غير رأسمالية». احتفظ لنفسه بزاوية خاصة ومكان يجلس فيه كل صباح. «يأتي للكِتابةِ والقِراءةِ والتأمُّلِ ولِقاء الأصدِقاء والأحبَّة. تقع زاويتُه الثقافيَّةُ إلى يمين المدخَل، قرب حافَّة تُطلّ على بحر (المسبحِ العسكري) والأُفق البعيد حيث يسرح نظره. يختار تلك الزاوية، التي لا يجلس عليها أحد غيره قبل الظُّهر». يشعر هنا بنبض حي، بينما «المطارح الثانية جُثث».
ولا ينقضي السرد دون أن تعرف القصة المفصلة لعائلة شاتيلا التي أسست المقهى، وتناوبت أجيالها المتعاقبة على إدارته. البداية كانت مع عبد الرحمن زكريا شاتيلا، رجل بسيط من رأس بيروت، ورث عن والده الفلّاح، الأرض وحب العائلة. مطلع عشرينات القرن الماضي افتتح مقهى متواضعاً قرب البحر. بالنسبة إليه، كان مساحة فرج توفّر له قوت يومه مع عائلته.
عندما سقط الحكم العثماني وجاء الفرنسيون، تبدّلت ملامح المدينة: لبس الناس غير ما كانوا يلبسون، وجاءت النساء إلى الشاطئ بلباس السباحة، وصار الزبائن يتحدثون لغات مختلفة. أمام هذه التحولات، لم يتردّد عبد الرحمن في تطوير المقهى. ابنه البكر بدأ التوسعة بهدوء، وأضاف طاولات جديدة، وطوّر قائمة المأكولات، وخفّض الأسعار ليستقبل العائلات والطلاب والفقراء تماماً كما الأغنياء.
في أحد الأيام، دخل المقهى رجل أنيق آتٍ من مدينة حمص، وأُعجب بجمال المكان، واقترح عليه: «سمّوه الروضة، تيمّناً بالروضة التي في بلدي». لم يتردّد عبد الرحمن. ومنذ ذلك الحين، صار الاسم جزءاً من الذاكرة.
على مدى عقود، تناوب أبناء العائلة على تسلم مفاتيح المقهى وأداروه بحب؛ حافظوا على الأشجار، وزيّنوا الزوايا بالأصداف، واعتنوا بالنُدُل، وحفظوا أسماء الزبائن، واستفسروا واطمأنوا على مَن يتغيب منهم عن الحضور. وعُرف محمد شاتيلا ومعه الحاجة «أم عبد»، بحكمتهما وبساطة الروح وحسن الضيافة.
صمد المقهى في وجه كل الأعاصير: من أحداث 1958، إلى الحرب الأهلية، إلى اجتياح المقاهي الحديثة والمولات. وفي كل مرحلة، ظلّ مقهى الروضة فسحةَ تنفُّس لأبناء المدينة.
يرسم الكاتب بالكلمات ملامح المقهى الاستثنائي بصموده، بناسه، بتفاصيله، بتاريخه، ويبدع في بث الروح في نصّه، وهو يجعلك تشعر بأنك تعيش اللحظة التي يتحدث عنها، فتتابع ما يدور في المقهى من تجديدات وتحولات؛ تتذوق أطباقه، وتشرب الشاي على طاولاته. وفي حرص على الاحتفاظ بروح التشويق يترك لك مفاجأة في نهاية الكتاب حول قصة ماسح الأحذية الذي يبدو غامضاً ويثير التساؤلات خلال السرد، لنكتشف خفاياه، ونعرف قصته المثيرة وأسراره المؤثرة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

صحيفة سبق
منذ 35 دقائق
- صحيفة سبق
"هيئة الأدب" تدعو دور النشر للتسجيل في معرض الرياض الدولي للكتاب 2025
أعلنت هيئة الأدب والنشر والترجمة بدء استقبال طلبات التسجيل لدور النشر المحلية والدولية الراغبة في المشاركة في معرض الرياض الدولي للكتاب 2025، والمقرر إقامته في مدينة الرياض خلال الفترة من 2 إلى 11 أكتوبر المقبل، على أن تستمر فترة التسجيل حتى 19 أغسطس 2025. ويمكن للراغبين في المشاركة التسجيل عبر الرابط الإلكتروني المخصص: ويُعد معرض الرياض الدولي للكتاب منصة ثقافية كبرى تجمع تحت مظلتها صناع الأدب والنشر والترجمة من مختلف أنحاء العالم، بهدف دعم صناعة النشر، وتعزيز حركة الترجمة، وتأكيد دور الأدب كمكون أساسي للثقافة والمعرفة. كما يسعى المعرض إلى ترسيخ ثقافة القراءة في المجتمع، ويتيح لدور النشر استعراض أحدث إصداراتها أمام جمهور واسع من القراء والمهتمين ضمن أجواء ثقافية وتفاعلية. ويضم المعرض برنامجًا ثقافيًا حافلًا يشمل ندوات ومحاضرات وورش عمل بمشاركة نخبة من المثقفين والخبراء من داخل المملكة وخارجها، كما يشتمل على جناح "ركن المؤلف السعودي"، لدعم المؤلفين السعوديين، وتمكينهم من عرض أعمالهم بشكل مباشر للجمهور، خصوصًا ممن يمتلكون حقوق النشر والتوزيع الذاتي. ويقدم المعرض لهذا العام تجربة متميزة للأطفال من خلال "جناح الطفل"، الذي يحتفي بأدب الأطفال واليافعين، ويضم برامج تفاعلية وورش عمل إبداعية تسهم في تنمية الخيال وترسيخ حب القراءة لدى النشء، في بيئة تعليمية آمنة وجاذبة. ويُعد معرض الرياض الدولي للكتاب أحد أبرز الفعاليات الثقافية في العالم العربي، نظرًا لما يشهده من إقبال جماهيري واسع ومشاركة كبيرة لدور نشر من مختلف الدول العربية والدولية، إضافة إلى تنوع برنامجه الثقافي، مما يرسخه كحدث ثقافي رائد على الساحة الإقليمية والدولية.


عكاظ
منذ ساعة واحدة
- عكاظ
حمزة نمرة يُطلق 3 أغنيات جديدة ضمن «قرار شخصي»
أطلق الفنان المصري حمزة نمرة مساء الأربعاء الدفعة الثالثة من ألبومه الجديد «قرار شخصي»، التي تضم ثلاث أغنيات متنوعة الطابع والمحتوى، عبر قناته الرسمية على «يوتيوب» ومختلف المنصات الموسيقية الرقمية. وتأتي الأغنية الأولى بعنوان «وافتكر»، من كلمات حازم ويفي وألحان نمرة، بتوزيع أندريه مينا، بينما حملت الأغنية الثانية اسم «بتستخبى»، وهي من كلمات محمود فاروق وألحان حمزة نمرة وتوزيع عمرو الخضري، وتُقدم بلون موسيقي مستلهم من الفلكلور الشعبي السويسي وآلات السمسمية. أما الأغنية الثالثة «طال غيابك»، فطُرحت بشكل فيديو كليب مصوّر، وتمزج بين الطابع العاطفي والرومانسي، من كلمات محمود فاروق، ألحان حمزة نمرة وأندريه مينا، وتوزيع الأخير. ويواصل نمرة تصدره «ترندات» المنصات الرقمية للأسبوع الثالث على التوالي، مع تصاعد الإقبال على أغنيات الألبوم التي طُرح منها حتى الآن 9 أغانٍ، من بينها «شمس وهوا» و«عزيز عيني» و«شيل الشيلة» و«يا سهرانين». يُذكر أن ألبوم «قرار شخصي» يضم 13 أغنية، يُطرح على أربع دفعات أسبوعية كل أربعاء عند السابعة مساءً، بثلاث أغنيات في كل دفعة، ويُختتم بالدفعة الأخيرة التي ستضم أربع أغنيات، من بينها الأغنية الرئيسية التي تحمل اسم الألبوم. أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 2 ساعات
- عكاظ
تكوين جنائزي
•• همسَت في جدار قلبي ذكرى شيء من أيام العمر.. تذكرت أصدقاء أضاؤوا الكون أريحية وسعادة.. كنا مراهقين متناقضين؛ نفكر في كل شيء، ولا نفكر في أي شيء.. استغرق تفكيري بابتسامة ناضحة في ذلك الشقي المتشظي.. كان يعذب أوتار مشاعرنا (بقفشاته) كسنَّان يشحذ السكاكين.. كان يغرس أشواكه المدببة على من يرى فيه نقطة ضعف.. ومع ذلك؛ كان غيابه مؤثراً، وحضوره مبهجاً. •• مشربية هذا الصديق المتفائل مصنوعة من حكايات تجمع القلوب وتقرّب المسافات.. مثل هذا يملك الكون دون وجل، ويكلم الدنيا دون خوف.. يتميّز بابتكار مُعْجِب وخيال مُبدع، يختار لنفسه ولغيره أزهى أنواع الانبساط والسرور.. تصدِّقه القلوب بتسامح وود وحب، وتعطيه الأذان الإصغاء ولا تدري.. يكتب مع الآخرين قصة مشتركة مُشبعة صالحة للنشر.. ذكراه يترك فراغاً لا يمكن نكرانه أو التنكر له. •• وعكسه تماماً؛ تمثال بشري تكوينه جنائزي.. أيامه متشابهة، وقلبه عرِج، وروحه متأوهة.. هواجسه مريرة وأحلامه محطمة.. لا يستطيع القيام من كبوته إلا بصعوبة.. سحابة كآبة سوداء تملأ صدره، واصفرار يعلو وجهه.. يُمرض نفسه بنفسه بجحيم دائم تصنعه يديه.. يتصحر كل يوم فيبتعد عن قائمة الشرف البشرية.. تلك فئة غنية في وصف الألم، فقيرة في وصف النِعم، فاختارت لنفسها متى تموت. •• كل واحد من هؤلاء يكتب حياته بلغة ميتة، ويقرؤها (بولدنة) ودعم المتحذلقين.. يزركش دنياه بالأنين فيحوّلها إلى هوس لا تنته فصوله.. فنون نحت ذاته تتسبب في عطب جهازه التعبيري.. أنَّات يطلقها بلغة صدئة بالغة البلادة في مشاهد صيرورتها لا نهائية.. أهات لا تهرم فيتحول إلى أنقاض غير نضرة لا ينبت فيها عشب.. أيها النسَّاج الأعمى أفق وإلا سيفلت منك الخيط. التماثيل البشرية.. بين العَرج والتأوّه: هناك، من يجمع القلوب ويقرّب المسافات وعكسه، تماثيل بشرية بهواجس مريرة وهناك؛ المتميّز بابتكار مُعْجِب وخيال مُبدع وعكسه؛ المُتقن لفنون نحت الذات والأنين أخبار ذات صلة