هل صحيح أن أمريكا نمر من ورق؟
انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو، خلال الأيام الماضية، تضمن مقتطفاً من مقابلة تلفزيونية مع الدكتور غازي ربابعة، استاذ العلوم السياسية، وتحليلاً سياسياً حول العدوان على غزة، يمكن للمرء أن يتفق أو يختلف معه. لكن الجانب الأهم في هذا المقتطف هو قوله إن "أمريكا نمر من ورق"، فهل هذا صحيح؟
"أمريكا نمر من ورق":
يقول الدكتور ربابعة "الناس يتحدثون عن أمريكا ... وأمريكا هي نمر من ورق. أعطني معركة واحدة دخلت فيها أمريكا وانتصرت. هُزمت في لبنان وخسرت 400 (جندي) من المارينز. ودخلت العراق وهُزمت، ودخلت أفغانستان وهُزمت. وفي فيتنام انهزمت، وفي الصومال انهزمت. صحيح أن أمريكا تمتلك ألف قاعدة عسكرية في العالم، لكن لم يبق على أراضيها سوى 30 ألف جندي فقط، ولكنها تختبىء بحماية المحيطات، بحر الظلمات".
أمريكا ليست نمراً من ورق:
وفي معرض الرد على الدكتور غازي ربابعة أقول: إن استنتاجاته أعلاه تناقض الواقع، وتفتقر الى الدقة، مع كل الاحترام لشخصه الكريم. فأمريكا لم تُهزم في حرب فيتنام مثلاً، بل انتصرت وتحقق لها ما أرادت من وراء تلك الحرب، والعبرة في النتائج. فقد كان من نتائج تلك الحرب أن تمكن الرئيس الأمريكي الأسبق آنذاك، ريتشارد نيكسون، من "فتح الصين"، كما يشار الى ذلك في الأدبيات السياسية الأمريكية، من خلال زيارته التاريخية إليها، عام 1972.
فالتفوق الأمريكي في حرب فيتنام أجبر الزعيم الصيني "ماو تسي تونغ" على التخلي عن "مبدأ عدم التعايش السلمي مع النظام الرأسمالي"، كما تريد أمريكا. واستطاع "نيكسون" أن يقيم علاقات دبلوماسية بين بلاده والصين. وبعد فترة من وفاة "ماو" بدأت الصين في التحول من دولة ذات اقتصاد اشتراكي، منطوية على نفسها، الى دولة "رأسمالية" منفتحة على العالم. ونما اقتصادها 70 مرة، وأصبح أسرع الاقتصادات الكبرى نمواً، إلى أن أصبح ثاني اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة.
وهكذا فإن من نتائج "حرب فيتنام" أن تحول اقتصاد الصين من النظام الاشتراكي الى النظام الرأسمالي، وأصبحت البلاد جزءًا من المنظومة الاقتصادية الدولية، وتم فك عزلتها، وتخلت عن "مبدأ ماو في عدم التعايش السلمي مع الرأسمالية". هذه النتائج لم تكن لتتحقق للولايات المتحدة لولا أنها انتصرت في حرب فيتنام. بل ان حرب فيتنام كانت من أكبر انتصارات الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وأطول حروبها، إذ استمرت مدة 21 عاماً، 1954-1975.
الانتصار في حروب أفغانستان:
أما أفغانستان فقد انتصرت فيها الولايات المتحدة مرتان. المرة الأولى عندما اخترعت، عام 1979، "فكرة الجهاد" للتصدي للغزو السوفياتي في ذلك العام. وقد استطاعت الولايات المتحدة تجنيد شباب العرب والمسلمين ليقاتلوا السوفيات، وزودتهم بأهم سلاح فتاك ضد الطائرات ألا وهو صاروخ "ستينغر"، الذي كان يصطاد المروحيات السوفياتية، كما يصطاد المرء العصافير. حيث كانت المروحيات هذه وسيلة النقل الأهم في ضوء وعورة تضاريس البلاد. وكانت نتيجة تلك الحرب هي هزيمة الجيش السوفياتي وانسحابه، ثم انهيار الدولة السوفياتية فيما بعد. فحققت أمريكا هدفاً طالما راود ساستها لعقود، وبذلك انتهت ما سميت بـ "الحرب الباردة". وهكذا خرجت أمريكا منتصرة.
أما الاحتلال الأمريكي لافغانستان، بعد أحداث أيلول سبتمبر 2001، فقد كان عملية عسكرية ناجحة حققت من خلالها الولايات المتحدة أهدافاً متعددة، في مقدمتها الاستحواذ على ثروات باطن الأرض من المعادن. إذ تمتلك أفغانستان النحاس، وخام الحديد، وعناصر اخرى نادرة من المعادن، إلى جانب مناجم الألمنيوم الكبيرة، والذهب، والفضة، والزنك، والزئبق. إضافة إلى الليثيوم، والنفط والغاز الطبيعي واليورانيوم والفحم. وقد استولت الولايات المتحدة كل هذه المعادن عبر عقدين كاملين من الزمن، حتى أنها غادرت ولم تأبه بسحب معداتها العسكرية، وتركتها غير آسفة عليها. فالحقيقة إذن أن أمريكا انتصرت في هذه الحرب أفغانستان ولم تنهزم.
احتلال العراق والاستحواذ على عائداته النفطية:
أما قول الدكتور ربابعة أن أمريكا انهزمت في العراق، فهذا قول يجانب الصواب تماماً. فقد حققت أمريكا أهدافها من احتلال العراق، 2003، وأكثر من ذلك. إذ أسقطت نظام صدام حسين، ثم فتحت الطريق لإيران الفارسية كي تتوسع على حساب المنطقة العربية، فقام "بول بريمر"، بتسليم العراق لإيران، على طبق من ذهب. ثم سمحت أمريكا لإيران بالسيطرة على سوريا، ثم اليمن فيما بعد، إضافة إلى لبنان. حتى ظن الملالي أنهم أعادوا بناء إمبراطورية فارس القديمة.
أما من حيث الثروة النفطية، فقد وضعت الولايات المتحدة، على الفور، يدها على جميع صادرات النفط العراقي، التي تبلغ أكثر من 100 مليون برميل شهرياً. ولم يمض شهر واحد على سقوط بغداد حتى أصدر الرئيس الأمريكي آنذاك، جورج بوش الابن، أمراً تنفيذياً بإنشاء "صندوق تنمية العراق" كي تودع فيه عائدات النفط العراقي.
وما زال هذا الأمر قائماً بعد مرور أكثر من عقدين. وهناك رقم متداول لحجم عائدات النفط العراقي، منذ 2003، لغاية 2021، حسب تصريح للرئيس العراقي برهم صالح، الذي قال انها بلغت أكثر من تريليون دولار. ويرسل القائمون على "صندوق تنمية العراق"، في واشنطن، الفُتات إلى حكومة بغداد، لتغطية المصاريف الشهرية والرواتب فقط، ما يكفي لإبقاء الشعب العراقي على قيد الحياة.
أما باقي العائدات النفطية فتظل بيد الأمريكيين "في الصندوق". بما يعني أن العراق خاضع تماماً للاستعمار الأمريكي والهيمنة التامة. فكيف يقال لنا أن أمريكا انهزمت في العراق؟ فهذا القول يخالف الواقع جملةً وتفصيلاً. فقد حققت أمريكا كل ما أرادت من وراء احتلال العراق وأكثر من ذلك.
الخلاصة: استنتاجات غير دقيقة
إن أقوال واستنتاجات الدكتور غازي ربابعة، التي عبر عنها، في المقطع المنشور من المقابلة، ليست دقيقة، وغير صائبة. والصحيح أن الولايات المتحدة لم تخض حرباً، منذ الحرب العالمية الثانية لغاية الآن، إلا وانتصرت فيها وحققت أهدافها. دليل ذلك أنها تهيمن على عالم اليوم، وتفرض إرادتها على دوله فرضاً، في كل المجالات. فالمنتصر هو الذي يفرض إرادته، بينما المهزوم لا يستطيع ذلك. فلو كانت الولايات المتحدة مهزومة وغير قوية لما استطاعت أن تفرض هيمنتها على باقي العالم. هذا مع كل التحية والتقدير للاستاذ الدكتور غازي ربابعة، القامة العلمية الكبيرة، الذي تخرجت على يديه أجيال من طلاب العلوم السياسية والعلاقات الدولية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


أخبارنا
منذ 16 ساعات
- أخبارنا
د. خالد الوزني يكتب : الحد الأدنى للأجور بين المقطوعية والإنتاجية
أخبارنا : بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية سجال عميق ظهر على إحدى القنوات التلفزيونية في لبنان منذ عدة أيام، وبحضور وزير العمل اللبناني حول أهمية الاتفاق على حدٍّ أدنى للأجور. بيد أنَّ الذاكرة التاريخية لمفهوم الحد الأدنى للأجور تشير إلى أنَّ هذا المفهوم ظهر أولاً في أواخر القرن التاسع عشر في نيوزيلاندا، ثمَّ في أستراليا، لتنتقل الفكرة إلى بريطانيا العظمى مع بدايات القرن العشرين، في العام 1909، وهي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، آنذاك، والتي امتدت أراضيها ومستعمراتها، لتظهر الحاجة فيها إلى استغلال خيرات المناطق المستعمرة، الزراعية، والمعدنية، والتعدينية، ما يرتبه ذلك من حاجة إلى استقطاب نوعية من العمالة غير الماهرة، والمهنية الفلاحية والتصنيعية عبر مستويات بحد أدنى من الأجر، لا يكفي لقضاء كافة الحاجات، ولا يسد متطلبات الحياة بشكل كامل، ويجعل من العودة الدائمة إلى العمل متطلب حياة ووجود. أمّا في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ظهرت فكرة الحد الأدنى للأجور مع بدايات العام 1938، أي مع بزوغ الحرب العالمية الثانية، والحاجة أيضاً إلى عمال السُّخرة، والعمالة متدنية الأجور، القادرة على العمل ساعات طوال، طلباً للمال، وتلبية للحاجات الأساسية، ضمن ظروف الحرب القاسية. مفهوم الحد الأدنى للأجور يدور حول أهداف ظاهرها الحدُّ من الفقر، وحماية الطبقات العاملة من الاستغلال، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ضمن ما عُرِف بمعايير العدالة في العمل، أمّا باطنها فقد تفاوت بين مصلحة صاحب العمل، وتحقيق استيعاب عادل للعمالة. وتلجأ الدول المختلفة إلى تلك المعايير، أو القوانين أو الأنظمة تحت مظلة أهدافٍ تسعى للعدالة الاجتماعية، والحدِّ من الفقر، وتحفيز الاقتصاد المحلي، والحدِّ من الحاجة إلى الاعتماد على الدعم الحكومي. بيد أنَّ مفهوم الحد الأدنى للأجور جاء في شكل تحديد الحد الأدنى لأجر ساعة العمل، وليس تحديد حدٍّ أدنى لأجٍر شهريٍّ مقطوع. والحقيقة وبعيداً عن النقاش والجدال حول أيهما أكثر عدالة وتحقيقاً للهدف الأمثل للعمالة، فإنَّ اعتماد الحد الأدنى لساعة العمل أظهر جدواه للعمال أكثر من الأجر الشهري المقطوع. والواضح من التطبيقات العالمية في الدول المتقدمة، والاقتصادات الأكثر إنجازاً أنها جميعاً تُطبِّق الحد الأدنى على أساس الساعة وليس الأجر الشهري، مع مراعاة أنَّ العمل بدوام كامل يتطلَّب حداً أدنى وأعلى لساعات العمل الأسبوعية، وما زاد على ذلك، برغبة العامل، يُعَوَّض عنه بأجر إضافي بمعدل زيادة يصل إلى نحو 25% عن أجر الساعة العادية. الحد الأدنى للأجور باستخدام الساعة الإنتاجية يُعَدُّ أكثر عدالة للعامل ولصاحب العمل لعدة أسباب، منها المرونة في عدد ساعات العمل، ما يشجِّع عمل طلبة الجامعات، وبعض المضطرين للعمل الجزئي، وممَّن لا تتطلَّب طبيعة عملهم تواجد لأكثر من ساعات قليلة، بحيث ينتقلون بعدها من مكان عمل إلى آخر. كما أنَّ الحد الأدنى للساعة أكثر سهولة في المقارنة، وبالمراقبة، وبالتعامل مع ظروف العمل المتنوّعة، الموسمية، أو المهنية. وقد سمح مفهوم العمل المرن، والعمل عن بُعد، وما تطوَّر إليه سوق العمل بعد «كوفيد 19» بالكثير من التطوُّرات التي تجعل من تحديد ساعات العمل المرنة، وتحديد أجر للساعة، أكثر نجاعة في الإنتاج والعمل الحر. اللجوء إلى الحد الأدنى لأجر ساعة العمل أفضل بكثير في استيعاب العمالة المحلية، وفي إحلال العمالة، وفي توفير مرونة لصاحب العمل، وللعامل، وفي تحقيق العوائد للجانبين. جميع الدول المتقدِّمة تتعامل بهذا المفهوم، ولا تلجأ إلى الحد الأدنى الشهري المقطوع، وعند البحث تجد أنَّ تلك الدول تسجِّل أقل معدلات للبطالة. الدروس تقول إنَّ الحد الأدنى لأجر الساعة أكثر منطقية وأكثر منفعة لجانبي المعادلة من الحد الأدنى الشهري، مع أنَّ المقاربتين يتنافيان مع مفهوم حرية السوق، وفوائض العرض والطلب، كما أنهما قد ينفعان العمالة الوافدة أكثر من المحلية وخاصة في الدول التي يكون فيها سوق العمل منفلتاً، وبعيداً عن التنظيم والانضباطية والرقابة على العمالة الوافدة، ويفتقر أيضاً للتخطيط السليم لخريطة عمل استشرافية للقوة البشرية الوطنية. khwazani@ أ.د. خالد واصف الوزني أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية


أخبارنا
منذ يوم واحد
- أخبارنا
أ. د. ليث كمال نصراوين : محطات دستورية من استقلال المملكة الأردنية الهاشمية
أخبارنا : تحتفل الأسرة الأردنية الواحدة بالذكرى التاسعة والسبعين لاستقلال المملكة الأردنية الهاشمية، حيث يستحضر الأردنيون في هذه المناسبة الوطنية أبرز المحطات التاريخية والدستورية التي ساهمت في تحقيق الاستقلال ودحر المستعمر الأجنبي. فأولى محطات الكفاح نحو الحرية كانت في عام 1916، عندما أطلق الشريف الحسين بن علي طلقته الأولى، معلنا ثورته ضد الحكم العثماني وبدء مشروع النهضة العربية الكبرى. وقد تمكنت الجيوش الثائرة من طرد المحتل العثماني عن أراضي شرق الأردن في عام 1918، وواصلت زحفها نحو مدينة دمشق التي دخلتها في شهر تشرين الأول من العام ذاته. وعندها، قام الأمير فيصل بن الحسين بتشكيل أول حكومة مستقلة موحدة في سوريا الطبيعية برئاسة الفريق علي رضا الركابي، إلا أن الدول الاستعمارية أجهضت كافة المحاولات العربية بتوقيعها اتفاقيتي سايكس بيكو وسان ريمو لتقسيم البلاد العربية بين المستعمر الفرنسي والبريطاني. ورغم ذلك، استمر الشريف الحسين بن علي في مشروعه الوحدوي، فأرسل ابنه الأمير عبدالله الأول بن الحسين إلى دمشق لمساعدة الثوار السوريين في قتال الفرنسيين. ولدى وصوله وصل إلى عمان في آذار من عام 1921، سارع وزير المستعمرات البريطاني تشرشل للتفاوض معه لتأسيس حكومة وطنية مستقلة في شرق الأردن تحت الانتداب البريطاني. وعلى الفور، أصدر الأمير عبدالله مرسوما أميريا في شهر نيسان من عام 1921 بتشكيل أول حكومة في شرق الأردن برئاسة رشيد طليع، حيث كان مجلس الوزراء في ذلك الوقت يُسمى مجلس المشاورين ورئيس الوزراء يُسمى الكاتب الإداري. وقد استمر الأمير عبدالله في خطوات الإصلاح الدستوري في شرق الأردن، فسارع إلى تشكيل لجنة لوضع مشروع دستور جديد في عام 1923 الذي رفضه المستعمر البريطاني واستبدل به قانونا أساسيا (دستورا) في عام 1928، استمد نصوصه وأحكامه من المعاهدة التي أبرمتها الحكومة البريطانية ممثلة بالمارشال بلوفر ورئيس حكومة شرق الأردن في ذلك الوقت حسن خالد أبو الهدى. أما المرحلة الدستورية الأهم من مراحل الاستقلال، فكانت في الفترة بين عامي 1928 و1946 عندما أعلن سكان شرق الأردن رفضهم للمعاهدة الأردنية البريطانية لعام 1928. وقد أخذت المعارضة الأردنية منحنى جديداً تمثل بتشكيل أحزاب سياسية استنادا لقانون الجمعيات العثماني لعام 1909، أهمها حزب الشعب وحزب التضامن وحزب الإخاء، حيث أجمعت هذه الأحزاب الأردنية على المطالبة بالاستقلال التام لشرق الأردن عن الانتداب البريطاني. وعلى الصعيد الخارجي، شهدت الفترة بين عامي 1928 و1946 أحداثا هامة ساهمت في زيادة الضغوطات السياسية على الحكومة البريطانية لإعلان استقلال شرق الأردن. فقد نشبت الثورة الفلسطينية في عام 1936 التي وقف الأردنيون معها، ورفعوا علم الثورة العربية الكبرى شعارا لها. ثم بدأت الحرب العالمية الثانية في عام 1939، حيث تحججت الحكومة البريطانية بأن انشغالها في الحرب يمنعها من التفكير في إعلان استقلال إمارة شرق الأردن. وبعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها، طلبت الحكومة الأردنية من بريطانيا أن تفي بوعودها لها، فظهرت أولى بوادر الاستجابة البريطانية على لسان وزير خارجيتها إرنست بيفن في خطابه الذي ألقاه باجتماع هيئة الأمم المتحدة في عام 1946، الذي أشاد فيه بالتطور السياسي الذي حصل في شرق الأردن، وبأنه قد وصل مرحلة يمكن معها التفكير برفع الانتداب عنها. وفي 22 آذار من عام 1946، جرى توقيع معاهدة صداقة وتحالف بين الحكومة البريطانية ونظيرتها الأردنية، تضمنت اعتراف بالحكومة البريطانية بالاستقلال الكامل لشرق الأردن، مع احتفاظها بقوات عسكرية لها في شرق الأردن بحجة مساعدة الجيوش الأردنية وتدريبهم. وقد استمر التواجد العسكري البريطاني حتى قام الحسين بن طلال في عام 1956 بتعريب قيادة الجيش الأردني، وذلك بإعفاء كلوب باشا من منصبه وتعيين الأمير لواء راضي عناب رئيس أركان حرب الجيش العربي الأردني. وقد تم عرض المعاهدة الأردنية البريطانية لعام 1946 على مجلس الوزراء برئاسة إبراهيم هاشم الذي قبلها بتاريخ 30 آذار 1946، وقرر عرضها على المجلس التشريعي، الذي اجتمع يوم السبت الموافق 25 أيار 1946 وقرر بالإجماع إعلان شرق الأردن دولة مستقلة استقلالا تاما، ومبايعة الأمير عبدالله بن الحسين ملكا دستوريا على البلاد، على أن يُعطى لقب حضرة صاحب الجلالة ملك المملكة الأردنية الهاشمية. وفي ضوء إعلان الاستقلال، جرى تعديل القانون الأساسي لعام 1928. إلا أن المطالب الشعبية الرافضة لمعاهدة عام 1928 قد دفعت الحكومة الأردنية لوضع دستور جديد للبلاد، هو دستور الاستقلال لعام 1946، الذي تم إقراره في 28 كانون الأول 1946 وتصديقه ونشره في الجريدة الرسمية في شباط 1947. وقد تضمن دستور الاستقلال مجموعة من المبادئ الدستورية التي لم تكن موجودة في القانون الأساسي لعام 1928، أهمها أن نظام الحكم نيابي ملكي وراثي، وإن كان قد قرر مسؤولية الوزراء أمام الملك وليس أمام مجلس النواب. ومنذ استقلالها، بدأت المملكة الأردنية الهاشمية بلعب دور بارز عربيا ودوليا في الدفاع عن هموم الأمة العربية. فبعد ثلاثة أيام فقط من استقلاله، شارك الأردن في قمة انشاص في 28 أيار من عام 1946، التي أعلن فيها القادة العرب بأن القضية الفلسطينية هي قلب القضايا القومية. أما المرحلة الدستورية الأخيرة من مراحل الاستقلال، فبدأت بعد وحدة الضفتين في عام 1950، حيث تعهد الملك عبدالله الأول ابن الحسين بإرساء مبادئ الحكم النيابي الديمقراطي الكامل، فأعلن في خُطبة العرش التي ألقاها بافتتاح مجلس الأمة في ذلك العام عن تشكيل لجنة خاصة لمراجعة نصوص الدستور. فصدر الدستور الحالي لعام 1952 الذي كرّس عناصر النظام النيابي الكامل بأن نقل مسؤولية الوزراء أمام مجلس النواب. ومنذ ذلك التاريخ، خضع الدستور الأردني لسلسلة من التعديلات كان آخرها في عام 2022، بما يتوافق مع التطورات السياسية الداخلية والخارجية التي شهدتها المملكة، والتي أثبتت بأن الدستور الوطني هو دستور حي، وإن كان جامدا من حيث آلية تعديله. أستاذ القانون الدستوري وعميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة


أخبارنا
منذ يوم واحد
- أخبارنا
المحامي معن عبد اللطيف العواملة : من عبق الاستقلال
أخبارنا : في 25 أيار من عام 1946، صدر بيان تاريخي عن المجلس التشريعي الأردني تلقاه الشعب بالبهجة العارمة، ومن ما جاء فيه: «... تحقيقا للأماني القومية وعملا بالرغبة العامة... واستنادا الى حقوق البلاد الشرعية والطبيعية... إعلان البلاد الأردنية دولة مستقلة استقلالا تاما وذات حكومة ملكية وراثية نيابية». و في ذلك اليوم المجيد ألقى جلالة الملك المؤسس خطابا عميقا ومؤثرا تضمن في أحد أجزائه التالي: «إنه لمن نعم الله أن يدرك الشعب بأن التاج معقد رجائه ورمز كيانه ومظهر ضميره ووحدة شعوره، بل انه لأمر الله ووصية رسله الكرام ان يطالع الملك الشعب بالعدل وخشية الله، لان العدل أساس الملك ورأس الحكمة مخافة الله. وإننا في مواجهة أعباء ملكنا وتعاليم شرعنا وميراث أسلافنا لمثابرون بعون الله على خدمة شعبنا، والتمكين لبلادنا، والتعاون مع إخواننا ملوك العرب ورؤسائهم لخير العرب جميعا ومجد الإنسانية كلها. على أننا ونحن في جوار البلد المقدس فلسطين العربية الكليمة؛ ستظل فلسطين بأعيننا وسمعنا. متوجهين الى الله العلي القدير بان يسدد خطانا ويثبتنا في طاعته وحفظ أمانته وأن يهدينا صراطا مستقيما». وكانت رحلة الاستقلال قد بدأت مع حقبة التأسيس منذ عام 1921 من خلال الحوار الوطني السياسي الساخن لسنوات قبل اقرار المجلس التشريعي للمعاهدة مع بريطانيا عام 1929، وكان موضوع الاستقلال المنتظر والمرتقب هو الهاجس الاكبر لدى الرعيل الاول في ذلك الوقت. و بقيت بريطانيا تؤجل محادثات الاستقلال بدعوى ان الظروف الدولية غير مواتية ومنها الحرب العالمية الثانية. وفي 1942 ارسل دولة توفيق ابو الهدى كتابا الى المعتمد البريطاني اعلمه فيه بنية البلاد الحاسمة بالاستقلال. وفي عام 1944 كتب سمو الأمير عبد الله إلى رئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرتشل ليؤكد على حتمية انهاء الانتداب. وفي 20 شباط 1946 سافر سمو الأمير الى لندن ومعه وفد رسمي مكون من السادة إبراهيم هاشم وعبد المنعم الرفاعي وبهاء الدين طوقان. وتم الاتفاق في 22 اذار من ذات العام على اجراءات إنهاء الانتداب، ومعها بدأت مرحلة متجددة من مسيرة بناء الدولة الحديثة ومؤسساتها. رحم الله الملك المؤسس، والملك طلال، والملك الحسين، وأطال في عمر سيدنا الملك عبد الله الثاني، وحفظ ولي عهده المفدى. فهنيئاً لنا بعيد الاستقلال، وعاش الأردن حراً منيعاً مهاباً.