logo
العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(20)

العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(20)

الجريدة 24٢١-٠٣-٢٠٢٥

أمينة المستاري
الأديان الإنسانية وعبادة الإنسان
يشير المؤلف إلى أنه إذا كانت 300 سنة الماضية عصر العلمانية المتنامية، فإن الحداثة عصر حماسة دينية مكثفة وجهود تبشيرية، وحروب دينية هي الأكثر دموية، وعرف عصرنا الحديث ظهورالليبرالية والشيوعية والنازية والقومية...وهذه العقائد يطلق عليها أيديولوجيات.
يقارن هراري بين الشيوعية والإسلام، فالإسلام يعتبر النظام فوق بشري مقدر من قبل إله خالق قادر، أما الشيوعية السوفييتية لم تؤمن بآلهة، لكنها تمتلك نصوصا مقدسة وكتبا نبوية كرأس المال لماركس، وكان لها أيام أعياد وعلماء ولكل وحدة جيش قسيس أي مفوض...، فيما كانت البوذية لا تعير اهتماما بالآلهة لكنها تصنف كدين... و"ربما طريقة التفكير هذه لن تعجب الكثيرين" يقول هراري.
يفرق يوفال أيضا بين الدين والنسبية وكرة القدم، ويؤكد أن الإسلام والبوذية (قانون الطبيعة) والشيوعية (قانون التاريخ الماركسي) أديان لأنها أنظمة من المعايير والقيم الإنسانية التي تقوم على الإيمان بنظام فوق بشري .
وتركز أديان الآلهة على عبادة الألهة، أما الأديان الإنسانية فتعبد الإنسانية أو الإنسان العاقل الذي له طبيعة فريدة ومقدسة.
وقسم يوفال الإنسانية إلى ثلاث طوائف متنافسة: الإنسانية الييبرالية التي تؤمن أن "الإنسانية" خاصية للأفراد من البشر، وأن حرية الأفراد مقدسة، والنواة الداخلية للفرد التي تعطي معنى للعالم وهي مصدر كل سلطة أخلاقية وسياسية ويجب حمايتها " حقوق الإنسان"، فيعترض الأوربيون مثلا على التعذيب والإعدام ويعاقب القاتل مثلا بأفضل طريقة "إنسانية" ممكنة، للحفاظ على حرمة الإنسان وإعادة بنائه، لكن الليبرالية لا تنكر وجود الإله، فهي تقوم على معتقدات توحيدية، وأن الطبيعة المقدسة والحرة لكل فرد هو تراث للاعتقاد المسيحي التقليدي في حرية النفس الفردية وخلودها.
وتعتبر الإنسانية الاشتراكية طائفة إنسانية مهمة، تسعى إلى المساواة بين جميع البشر، لأن انعدام المساواة أسوأ تجديف ضد قدسية الإنسانية، يقول هراري، فتنبني على أسس توحيدية مثلها مثل الإنسانية الاشتراكية، بخلاف الإنسانية التطورية التي ينتمي إليها أشهر النازيين، الذين اعتقدوا أن البشرية ليست شيئا عاما وأبديا بل هي نوع قابل للتغيير، يمكنه أن يتطور( سوبرمان) أو ينحط، لذلك دافعوا عن حماية ورعاية العرق الآري، وإبادة الأنواع المنحطة من الإنسان العاقل كاليهود، الغجر...وأن الإنسان العاقل ظهر بعد تفوق مجموعة غابرة، وانقراض مجموعات متدنية كالنياندرتال.
اعتبر النازيون أن الإنسان العاقل انقسم إلى عدة أعراق منفصلة، ولكل منها صفات فريدة، وكان للعرق الآري صفات كالعقلانية والنزاهة والجمال والاجتهاد...ولديه بالتالي القدرة على تحويل الإنسان إلى "سوبرمان"، واعتبر باقي الأجناس كالسود واليهود يمتلكون صفات رديئة، واستبعدوا فكرة تزاوج بينها وبين الجنس الآري حتى لا يدنسون العرق ويودون به إلى الإنقراض.
أظهرت الأبحاث الجينية التي أجريت بعد سنة 1945 أن الفرق بين تلك الأعراق أقل مما افترضه النازيون، في الوقت الذي كان النخب الغربية سنة 1933 تعتقد أن العرق الأبيض متفوق ويجب حمايته لكونه الأذكى، الأمهر ...فحاولوا تقييد الهجرة من الصين أو إيطاليا إلى الدول "الآرية" كالولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا.
يؤكد هراري أن المواقف لم تتغير مع نشر البحوث العلمية الجديدة، لكن التطورات الاجتماعية والسياسية هي التي شكلت نقطة التغيير، واستغرق وقتا، يضيف يوفال أن النازية لم تكره البشرية لكنها كرهت الإنسانية الليبرالية وحقوق الإنسان والشيوعية...لكن بعد شيوع منطق التطور الدارويني، آمنوا بضرورة الانتقاء الطبيعي والتخلص من الأفراد الغير صالحين وترك الأصلح للبقاء والتكاثر.
يستدل الكاتب على ذلك بكتاب بيولوجيا ألماني " قوانين الطبيعة والبشرية" يتحدث عن كون القانون الأسمى للطبيعة هو أن كل الكائنات محتوم عليها صراع لا يرحم من أجل البقاء، ويخلص الكتاب إلى أن هذه المعركة هي الطريقة الوحيدة للمحافظة على الحياة...وهذه القوانين لا تقبل الجدل.
قوضت علوم الحياة الاعتقاد بكون كل فرد لديه طبيعة داخلية مقدسة، فلم يجد العلماء الذين يدرسون العمليات الداخلية للكائن البشري أي روح هناك، ويجادلون في كون السلوك البشري يتحدد بالهرمونات والجينات والتشابكات العصبية وليس بالإرادة الحرة.
سر النجاح
مكنت التجارة والإمبراطوريات والأديان العالمية من توحيد العقلاء، وهذا الانتقال ، يقول هراري، ربما كان نتيجة لديناميات التاريخ البشري.
ويعتبر أن كل لحظة في التاريخ هي بمثابة مفترق طرق، لكن المسارات تتشعب إلى المستقبل. ومن يصنع التاريخ أحيانا يسلك منعطفات غير متوقعة. ففي الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع اعتقد الامبراطور قسطنطين أن دينا واحدا سيساعده في توحيد مملكته المتنوعة عرقيا بعد قرن من الحروب الأهلية، واختار المسيح عيسى، وهنا يطرح هراري مجموعة من التساؤلات حول سبب اختيار الامبراطور لهذه الديانة والفرضيات المطروحة، ورغم أن المؤرخين بإمكانهم التكهن إلا أنهم لن يستطيعوا تقديم إجابة مقنعة.
فالباحثون يمكنهم تقديم تفسيرات حتمية لأحداث، لكن المؤرخين يميلون للتشكيك في النظريات الحتمية. والقاعدة التي لا تقبل الجدل في التاريخ أن ما يبدو حتميا في الإدراك المتأخر لم يكن واضحا في حينه.
يتساءل هراري هل إذا خرج العالم من الأزمة الاقتصادية العالمية فهل يعني أن الأسوأ لم يأت بعد؟ ويطرح مثالا على وضعية الصين وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية والأصولية...ليخلص إلى ضرورة بذل حجج جيدة لكل النتائج المتوقعة، لكن لا وجود لمعرفة يقينية.
فعند اعتلاء قسطنطين العرش سنة 306 م، لم تكن المسيحية أكثر طائفة شرقية باطنية، يقول هراري : "لو قلت بأنها دين الدولة الرومانية لو وجهت بالسخرية، كما هو الشأن أيضا في القول بأن حركة هاري كريشنا ستصبح دين الولايات المتحدة بحلول 2050م، والمثل الثاني يتعلق بالبلاشفة الذين لم يتوقع أن تسيطر جماعة روسية راديكالية صغيرة على البلاد في ظرف 4 سنوات...
"فلا يمكن تفسير التاريخ بطريقة حتمية لأنه عشوائي، وتعمل أغلب القوى على صنع الأحداث وأوجه التفاعل بينها معقدة، وتلك التغييرات تؤدي لاختلافات هائلة في النتائج." يقول هراري في كتابه، ويضيف : " التاريخ نظام فوضى من المستوى الثاني، وتأتي هذه الأنظمة إما بشكل فوضى لا تتفاعل مع التوقعات( الطقس الذي يتأثر بعوامل عدة)، لكن يمكن بناء نماذج حاسوبية تنتج تنبؤات جوية أفضل". أما الشكل الثاني فهي الفوضى التي تتفاعل مع التوقعات التي تدور حولها، فلا يمكن التنبؤ بها كالأسواق، السياسة... فالناس ينتقدون مثلا الخبراء لعدم توقعهم ثورات الربيع العربي سنة 2011... إذن
فدراسة التاريخ تهدف إلى توسيع الآفاق لفهم الواقع الحالي، دون الوقوع في فخ الحتمية.
شارك المقال

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(20)
العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(20)

الجريدة 24

time٢١-٠٣-٢٠٢٥

  • الجريدة 24

العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(20)

أمينة المستاري الأديان الإنسانية وعبادة الإنسان يشير المؤلف إلى أنه إذا كانت 300 سنة الماضية عصر العلمانية المتنامية، فإن الحداثة عصر حماسة دينية مكثفة وجهود تبشيرية، وحروب دينية هي الأكثر دموية، وعرف عصرنا الحديث ظهورالليبرالية والشيوعية والنازية والقومية...وهذه العقائد يطلق عليها أيديولوجيات. يقارن هراري بين الشيوعية والإسلام، فالإسلام يعتبر النظام فوق بشري مقدر من قبل إله خالق قادر، أما الشيوعية السوفييتية لم تؤمن بآلهة، لكنها تمتلك نصوصا مقدسة وكتبا نبوية كرأس المال لماركس، وكان لها أيام أعياد وعلماء ولكل وحدة جيش قسيس أي مفوض...، فيما كانت البوذية لا تعير اهتماما بالآلهة لكنها تصنف كدين... و"ربما طريقة التفكير هذه لن تعجب الكثيرين" يقول هراري. يفرق يوفال أيضا بين الدين والنسبية وكرة القدم، ويؤكد أن الإسلام والبوذية (قانون الطبيعة) والشيوعية (قانون التاريخ الماركسي) أديان لأنها أنظمة من المعايير والقيم الإنسانية التي تقوم على الإيمان بنظام فوق بشري . وتركز أديان الآلهة على عبادة الألهة، أما الأديان الإنسانية فتعبد الإنسانية أو الإنسان العاقل الذي له طبيعة فريدة ومقدسة. وقسم يوفال الإنسانية إلى ثلاث طوائف متنافسة: الإنسانية الييبرالية التي تؤمن أن "الإنسانية" خاصية للأفراد من البشر، وأن حرية الأفراد مقدسة، والنواة الداخلية للفرد التي تعطي معنى للعالم وهي مصدر كل سلطة أخلاقية وسياسية ويجب حمايتها " حقوق الإنسان"، فيعترض الأوربيون مثلا على التعذيب والإعدام ويعاقب القاتل مثلا بأفضل طريقة "إنسانية" ممكنة، للحفاظ على حرمة الإنسان وإعادة بنائه، لكن الليبرالية لا تنكر وجود الإله، فهي تقوم على معتقدات توحيدية، وأن الطبيعة المقدسة والحرة لكل فرد هو تراث للاعتقاد المسيحي التقليدي في حرية النفس الفردية وخلودها. وتعتبر الإنسانية الاشتراكية طائفة إنسانية مهمة، تسعى إلى المساواة بين جميع البشر، لأن انعدام المساواة أسوأ تجديف ضد قدسية الإنسانية، يقول هراري، فتنبني على أسس توحيدية مثلها مثل الإنسانية الاشتراكية، بخلاف الإنسانية التطورية التي ينتمي إليها أشهر النازيين، الذين اعتقدوا أن البشرية ليست شيئا عاما وأبديا بل هي نوع قابل للتغيير، يمكنه أن يتطور( سوبرمان) أو ينحط، لذلك دافعوا عن حماية ورعاية العرق الآري، وإبادة الأنواع المنحطة من الإنسان العاقل كاليهود، الغجر...وأن الإنسان العاقل ظهر بعد تفوق مجموعة غابرة، وانقراض مجموعات متدنية كالنياندرتال. اعتبر النازيون أن الإنسان العاقل انقسم إلى عدة أعراق منفصلة، ولكل منها صفات فريدة، وكان للعرق الآري صفات كالعقلانية والنزاهة والجمال والاجتهاد...ولديه بالتالي القدرة على تحويل الإنسان إلى "سوبرمان"، واعتبر باقي الأجناس كالسود واليهود يمتلكون صفات رديئة، واستبعدوا فكرة تزاوج بينها وبين الجنس الآري حتى لا يدنسون العرق ويودون به إلى الإنقراض. أظهرت الأبحاث الجينية التي أجريت بعد سنة 1945 أن الفرق بين تلك الأعراق أقل مما افترضه النازيون، في الوقت الذي كان النخب الغربية سنة 1933 تعتقد أن العرق الأبيض متفوق ويجب حمايته لكونه الأذكى، الأمهر ...فحاولوا تقييد الهجرة من الصين أو إيطاليا إلى الدول "الآرية" كالولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا. يؤكد هراري أن المواقف لم تتغير مع نشر البحوث العلمية الجديدة، لكن التطورات الاجتماعية والسياسية هي التي شكلت نقطة التغيير، واستغرق وقتا، يضيف يوفال أن النازية لم تكره البشرية لكنها كرهت الإنسانية الليبرالية وحقوق الإنسان والشيوعية...لكن بعد شيوع منطق التطور الدارويني، آمنوا بضرورة الانتقاء الطبيعي والتخلص من الأفراد الغير صالحين وترك الأصلح للبقاء والتكاثر. يستدل الكاتب على ذلك بكتاب بيولوجيا ألماني " قوانين الطبيعة والبشرية" يتحدث عن كون القانون الأسمى للطبيعة هو أن كل الكائنات محتوم عليها صراع لا يرحم من أجل البقاء، ويخلص الكتاب إلى أن هذه المعركة هي الطريقة الوحيدة للمحافظة على الحياة...وهذه القوانين لا تقبل الجدل. قوضت علوم الحياة الاعتقاد بكون كل فرد لديه طبيعة داخلية مقدسة، فلم يجد العلماء الذين يدرسون العمليات الداخلية للكائن البشري أي روح هناك، ويجادلون في كون السلوك البشري يتحدد بالهرمونات والجينات والتشابكات العصبية وليس بالإرادة الحرة. سر النجاح مكنت التجارة والإمبراطوريات والأديان العالمية من توحيد العقلاء، وهذا الانتقال ، يقول هراري، ربما كان نتيجة لديناميات التاريخ البشري. ويعتبر أن كل لحظة في التاريخ هي بمثابة مفترق طرق، لكن المسارات تتشعب إلى المستقبل. ومن يصنع التاريخ أحيانا يسلك منعطفات غير متوقعة. ففي الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع اعتقد الامبراطور قسطنطين أن دينا واحدا سيساعده في توحيد مملكته المتنوعة عرقيا بعد قرن من الحروب الأهلية، واختار المسيح عيسى، وهنا يطرح هراري مجموعة من التساؤلات حول سبب اختيار الامبراطور لهذه الديانة والفرضيات المطروحة، ورغم أن المؤرخين بإمكانهم التكهن إلا أنهم لن يستطيعوا تقديم إجابة مقنعة. فالباحثون يمكنهم تقديم تفسيرات حتمية لأحداث، لكن المؤرخين يميلون للتشكيك في النظريات الحتمية. والقاعدة التي لا تقبل الجدل في التاريخ أن ما يبدو حتميا في الإدراك المتأخر لم يكن واضحا في حينه. يتساءل هراري هل إذا خرج العالم من الأزمة الاقتصادية العالمية فهل يعني أن الأسوأ لم يأت بعد؟ ويطرح مثالا على وضعية الصين وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية والأصولية...ليخلص إلى ضرورة بذل حجج جيدة لكل النتائج المتوقعة، لكن لا وجود لمعرفة يقينية. فعند اعتلاء قسطنطين العرش سنة 306 م، لم تكن المسيحية أكثر طائفة شرقية باطنية، يقول هراري : "لو قلت بأنها دين الدولة الرومانية لو وجهت بالسخرية، كما هو الشأن أيضا في القول بأن حركة هاري كريشنا ستصبح دين الولايات المتحدة بحلول 2050م، والمثل الثاني يتعلق بالبلاشفة الذين لم يتوقع أن تسيطر جماعة روسية راديكالية صغيرة على البلاد في ظرف 4 سنوات... "فلا يمكن تفسير التاريخ بطريقة حتمية لأنه عشوائي، وتعمل أغلب القوى على صنع الأحداث وأوجه التفاعل بينها معقدة، وتلك التغييرات تؤدي لاختلافات هائلة في النتائج." يقول هراري في كتابه، ويضيف : " التاريخ نظام فوضى من المستوى الثاني، وتأتي هذه الأنظمة إما بشكل فوضى لا تتفاعل مع التوقعات( الطقس الذي يتأثر بعوامل عدة)، لكن يمكن بناء نماذج حاسوبية تنتج تنبؤات جوية أفضل". أما الشكل الثاني فهي الفوضى التي تتفاعل مع التوقعات التي تدور حولها، فلا يمكن التنبؤ بها كالأسواق، السياسة... فالناس ينتقدون مثلا الخبراء لعدم توقعهم ثورات الربيع العربي سنة 2011... إذن فدراسة التاريخ تهدف إلى توسيع الآفاق لفهم الواقع الحالي، دون الوقوع في فخ الحتمية. شارك المقال

العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(18)‎
العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(18)‎

الجريدة 24

time٢٠-٠٣-٢٠٢٥

  • الجريدة 24

العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(18)‎

أمينة المستاري ولادة الأديان التوحيدية بمرور الوقت، آمن أتباع الديانات المتعددة الآلهة بالإله الوحيد وبكونه القوة العليا للكون، وآمنوا بإمكانية عقد صفقات معه، وهكذا ولدت الأديان التوحيدية، يقول هراري، وظهر أول جين توحيدي يقول هراري، في مصر سنة 350ق.م بإعلان الفرعون أخناتون أن الإله آتون، القوة العليا التي تحكم الكون، واتخذه كدين للدولة وحاول القضاء على باقي الآلهة لكن بعد وفاته تم التخلي عن عبادة آتون لصالح الآلهة القديمة. ورغم استمرار عبادة الآلهة، إلا أنها بقيت هامشية لفشلها في تبني رسالتها العالمية الخاصة، لم تقدم اليهودية إلا القليل ولم تكن ديانة تبشيرية واعتبرت مرحلتها "التوحيد المحلي" وجاء الاختراق الكبير مع المسيحية، فقد بدأ بالإيمان كطائفة يهويدية باطنية سعت لإقناع اليهود أن يسوع الناصري هو المسيح الذي طال انتظاره، وأدرك أحد قادة الطائفة "بولس الطرسوسي" أنه إذا كان الرب قد تجسد ومات على الصليب من أجل خلاص البشرية فيجب أن يسمع هذا كل العالم وليس فقط اليهود لذلك يجب نشر الإنجيل في العالم. وبدأ المسيحيون تنظيم أنشطة تبشيرية استهدفت جميع البشر، واستولت هذه الطائفة على الإمبراطورية الرومانية. ثم ظهر دين توحيدي آخر في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي: الإسلام. بدأ بطائفة صغيرة لكن بمفاجأة تاريخية أغرب وأسرع تمكن من الخروج والسيطرة على امبراطورية هائلة تمتد من المحيط إلى الهند. حاول التوحيديون مرارا وتكرارا تقوية أنفسهم عن طريق محو أية منافسة. فحوالي سنة 500م كانت الإمبراطورية الرومانية مسيحية، وانهمك المبشرون في نشر المسيحية ببلدان أوربا وآسيا والهيمالايا... ومع القرن 16 سيطر التوحيد على معظم القارة الأفروآسيوية، باستثناء شرق آسيا والأجزاء الجنوبية من إفريقيا. فوسع مخالبه ليجتاح هذه المناطق، والآن يلتزم الناس بدين توحيدي أ آخر والنظام السياسي مبني على أسس توحيدية. يشير هراري إلى أنه كان صعبا على معظم الناس هضم فكرة التوحيد الكامل، واستمروا في تقسيم العالم إلى "نحن" و"هم"، وكانوا يرون السلطة العليا بعيدة وغريبة عن احتياجاتهم الدنيوية. وطردت الأديان التوحيدية الآلهة من الباب الأمامي لتدخلها من النافذة الجانبية، فظهر مجمع آلهة خاص بها، من القديسين، وكان لكل مملكة قديس شفيع يحميها، فقد كانوا هم الآلهة نفسها متنكرة . معركة الخير والشر تولد عن الديانات التعددية أديان توحيدية، وولدت أديانا ثنوية، هذه الأخيرة تبنت وجود قوتين اثنتين متعارضتين: الخير والشر. يضيف يوفال نوح هراري أن الأديان الثنوية تؤمن بأن الشر قوة مستقلة لا تخلقها قوة الخير وليست تابعة لها. وتعتبر أن الكون عبارة عن ساحة معركة بين القوتين. فالثنوية وجهة نظر جذابة للعالم لأنها تقدم إجابة قصيرة لمشكلة الشر التي اعتبرت من اهتمامات الفكر البشري، وتطرح أسئلة حول لماذا يحدث الشر والأمور السيئة لأناس طيبين؟؟ من التفسيرات المعروفة، يقول هراري، أنه في حالة لم يكن هناك شر فالبشر لا يستطيع الاختيار بين الشر والخير ولن تكون هناك إرادة حرة للاختيار. وتثير هذه الإجابة تساؤلات جديدة فاختيار الشر الذي يجلب عقابا إلهيا، يتساءل هراري إذا كان الرب يعلم أن شخصا سيقوم بالشر فلماذا خلقه أصلا؟ كتب اللاهوتيون كتبا يجيبون فيها عن هذا السؤال، ورغم ذلك فالأديان التوحيدية تجد صعوبة في التعامل مع مشكلة الشر. وجهة النظر الثنوية لها عيوبها الخاصة، حسب هراري، فهي تثير مشكلة النظام، أما الأديان التوحيدية فهي جيدة في شرح هذه المشكلة. لقد ازدهرت الديانات الثنوية لأزيد من 1000 سنة، وظهر نبي يدعى "زرادشت" في آسيا الوسطى، وتعتقد الديانة الزرادشتية أن هناك معركة كونية بين إله الخير مزدا وإله الشر أنجرا ماينيو، وأصبح الدين الرسمي للامبراطورية الفارسية والساسانية، وألهم ديانات كالغنوصية والمانوية في الصين ...لكن الأديان التوحيدية امتصت المعتقدات الثنوية، وإن كان عدد من المسيحيين والمسلمين واليهود يؤمنون بقدرة القوة الشريرة. لكن ذلك مستحيل يقول هراري، فإما أن تؤمن بإله واحد أو بقوتين متعارضتين...واعتبر مفهوم الثنوي أن هناك معركة بين النفس الخيرة والجسم الشرير. يخلص المؤلف إلى القول أن التوحيد هو مطياف من الإرث التوحيدي والثنوي والتعددي والأرواحي...مخلوطة تحت مظلة إلهية واحدة... فالمسيحي النموذجي مثلا يؤمن بإله واحد وأيضا بالشيطان الثنوي...ويسبغ علماء الدين على هذا اسم التوفيقية. قانون الطبيعة يعتبر هراري أن جميع الأديان تشترك في سمة واحدة تركز على الاعتقاد بآلهة وغيرها من الكيانات الخارقة للطبيعة. والتاريخ الديني للعالم لا يختزل في تاريخ الآلهة، فقد ظهرت أديان خلال الألفية الأولى قبل الميلاد، كالبوذية والكونفشيوسية والأبيقورية... أديان القانون الطبيعي القديمة والتي ترى أن النظام فوق البشري نتاج قوانين طبيعية، لكنها لم تتخلص أبدا من عبادة الآلهة، ومع تطور الطوائف البوذية بدأت في عبادة الكائنات المستنيرة وطلب المساعدة منها.. شارك المقال

العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(12)‎
العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(12)‎

الجريدة 24

time١٤-٠٣-٢٠٢٥

  • الجريدة 24

العاقل...تاريخ مختصر للجنس البشري(12)‎

أمينة المستاري التمييز بين الجنسين في التاريخ والمجتمعات في الوقت الذي شكل العرق أمرا مهما في تشكيل الهوية عند الأمريكيين المعاصرين، لم يكن له نفس الأهمية لدى المسلمين في العصور الوسطى ومع ذلك، برزت تراتبية واضحة قائمة على النوع الاجتماعي، حيث كانت الأولوية للذكور على الإناث. بدأ التمييز ضد المرأة منذ الطفولة، حيث فضل الذكور على الإناث في العديد من الثقافات ، على سبيل المثال في الصين، أدت سياسة الولد الواحد في الصين مثلا إلى قتل الفتيات لإتاحة الفرصة لإنجاب ولد. كما كانت النساء في بعض المجتمعات ملكا للرجال، حيث يدفع تعويض مالي لعائلتها في حالة اغتصابها، وتصبح " المغتصبة" زوجة لمغتصبها، وهو تقليد تبنته المجتمعات اليهودية. ناقش يوفال هراري في كتابه حالات الاغتصاب غير المجرمة، خاصة إذا لم تكن الضحية مملوكة لرجل معين أو إذا كان المغتصب هو الزوج نفسه. فحتى عام 2006 ، لم تكن 53 دولة تجرم اغتصاب الزوجة من طرف زوجها، وهو مفهوم ظل شائعا منذ العصور القديمة. وهنا يطرح الكاتب تساؤلات جوهرية؟ هل تم تقسيم البشر إلى رجال ونساء مجرد بناء ثقافي؟ أم أن له جذور بيولوجية قديمة؟ يرى هراري أن الاختلاف البيولوجي بين الرجل والمرأة مثل القدرة على الإنجاب، أدت إلى تباينات ثقافية وقانونية وسياسية، ومع ذلك، فإن المجتمعات غالبا ما تربط بعض الصفات بالذكورة والأنوثة دون أن يكون لها أساس بيولوجي واضح، على سبيل المثال في أثينا القديمة اعتبر امتلاك "رحم" سببا كافيا لمنع الشخص من المشاركة في التجمعات السياسية أو تولي مناصب عليا، على عكس أثينا الحديثة حيث أصبحت النساء جزءا من المشهد السياسي ويحظين بتمثيل برلماني. ويعتبر اليونانيون المعاصرون أن الرجل رجل لعلاقاته مع الجنس الآخر وأن العلاقة بين جنسين مختلفين طبيعية أما بين جنسين متشابهين غير طبيعي، يقول هراري :" البيولوجيا تمكن والثقافة تحرم". وحول تغير مفهوم الرجولة والأنوثة، يشير هراري إلى أن مفهوم الذكورة والأنوثة ليس ثابتا، بل يتغير بمرور الوقت. ففي القرن الثامن عشر، كان مظهر لويس الرابع يرمز للرجولة بينما في القرن 21 يتجسد هذا المفهوم بشكل مختلف تماما كما يظهر في صورة باراك أوباما. ويميز العلماء بين "الجنس" كتصنيف بيولوجي (ذكر وأنثى) ، و"نوع الجنس" كتصنيف ثقافي (رجل وأنثى)، حيث تختلف التوقعات الاجتماعية حول الذكورة والأنوثة من مجتمع إلى آخر، بل ومن حقبة إلى أخرى. كما يشير الكاتب إلى أن الذكورة والإناث يجب أن يثبتوا هويتهم الجندرية عبر طقوس وعروض مستمرة، وإلا فقدوا استحقاقهم لها. الأبوية والتراتبية الاجتماعية منذ الثورة الزراعية، كانت المجتمعات أبوية، حيث كانت الصفات المرتبطة بالرجولة تحظى بقيمة أعلى من تلك المرتبطة بالأنوثة. فنوع الجنس هو سباق يتنافس فيه بعض العدائين للحصول على الميدالية البرونزية فقط. ورغم أن مجموعة من النساء استطعن الوصول إلى السلطة مثلا إليزابيث الأولى، فقد ظل النفوذ السياسي والعسكري والقضائي مقتصرا على الرجال. فالأبوية كانت هي القاعدة في المجتمعات الصناعية والزراعية، ومورس التمييز ضد من لم يكونوا "رجالا حقيقيين". ويخلص الكاتب إلى أن النظام الأبوي العالمي لم ينشأ بمحض الصدفة، وأن هناك أسباب بيولوجية عامة وراء تفضيل الذكورة على الأنوثة. قوة العضلات: هل تفسر الهيمنة الذكورية الفرضية الأكثر شيوعا أن الرجال أقوى من النساء بدنيا، مما مكنهم من السيطرة على الموارد والنفوذ السياسي: لكن هذه النظرية تواجه مشكلتين: أولاهما النساء يعتبرن أكثر مقاومة للجوع والإرهاق من الرجال، ويمكن لهن أداء العديد من المهام البدنية التي يؤديها الرجال. المشكلة الثانية أن النساء تم استبعادهن من وظائف لا تتطلب مجهودا كالكهنوت والسياسية... يشير الكاتب أنه لا توجد علاقة مباشرة بين القوة البدنية والقوة الاجتماعية، حيث تظهر التجربة البشرية أن الهيمنة الاجتماعية لا تعتمد بالضرورة على التفوق الجسدي. العنف والعنوان ...هل يفسران السلطة الذكورية؟ هناك فرضية أخرى تربط سيطرة الرجال باستعدادهم الفطري للعدوانية، مما جعلهم القوة المهيمنة في الحروب. ومع ذلك، يتساءل هراري: حتى لو كان الجنود رجالا، لماذا يجب أن يكون القادة والسياسيون رجالا أيضا؟ يجيب الكاتب، أنه في العديد من المجتمعات لم يكن القادة العسكريون يحملون السلاح بأنفسهم، كما هو الحال كان في الإمبراطورية الفرنسية بإفريقيا والماندرين في الصين. فلا يمكن اعتبار أن ضعف النساء البدني أو انخفاض التستوستيرون منعهن من الانضمام للجنرالات أو السياسيين، ولإدارة الحرب يكفي قدرتك على التحمل، وليس القدرة البدنية، فالحرب مشروع معقد يتطلب درجة استثنائية من التنظيم والتعاون والاسترضاء فتكون القدرة على الحفاظ على السلام داخليا والحصول على الحلفاء خارجيا، وفهم ما يدور في ذهن العدو مفتاح النصر، لذلك فالنساء عرفن بقدرتهن على التلاعب والمراوغة مقارنة مع الرجال، ويشتهرن برؤية الأشياء من منظور الآخرين، لذلك كان يجب أن يكن سياسيات وبانيات إمبراطوريات...وهو نادر الحصول في العالم الحقيقي. التفسير الجيني للهيمنة الذكورية التفسير البيولوجي الثالث يفترض أن جينات الذكورة التي عبرت إلى الجيل التالي كانت للرجال الأكثر طموحا وعدوانية وتنافسية. في المقابل كانت المرأة بحاجة إلى شريك أن يساعدها ويتقاسم معها بعض العبء، مما أدى إلى انتشار جينات الأنوثة الخاضعة، بخلاف النساء اللواتي تقاتلن من أجل السلطة فلم يتركن جينات قوية للأجيال القادمة. فكانت نتيجة هذه الاستراتيجية أن برمج الرجال ليكونوا طموحين متفوقين في السياسة أما النساء فكرسن حياتهن لتربية الأطفال. هذه المقاربة خيبت الظن، فلم تعتمد النساء على نساء أخريات، وهيمن الذكور اجتماعيا، بخلاف ما عرف عن الشنابز والبونوبوات فكانت الإناث يعتمدن على الإناث وبنين شبكات اجتماعية نسائية بالكامل، فيما قضى الذكور وقتهم في القتال وهمش الغير متعاونين، لماذا إذن لم يكن ذلك بين العقلاء؟ أسئلة لا يمكن معرفة أجوبتها، بالنسبة للكاتب المهم أنه خلال القرن الماضي شهدت الأدوار الجنسية ثورة هائلة. فمجتمعات اليوم تمنح الطرفين وضعا قانونيا وحقوقا سياسية وفرصا اقتصادية متساوية، ورغم الفجوة ، فالأمور تبدلت، يقول هراري، أن هذه التغيرات المثيرة تجعل تاريخ نوع الجنس محيرا، وتساءل إذا كان النظام الأبوي قائما على أساطير لا على حقائق بيولوجية، فلماذا ظل مستقرا وقويا طوال هذا الوقت؟ شارك المقال

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store