logo
أوشفيتز - غزّة

أوشفيتز - غزّة

العربي الجديدمنذ 4 أيام
تذكر المصادر التاريخية أن النسبة الأعظم من الموتى في معسكرات الاعتقال النازية ماتوا جوعاً، عبر سياسة ممنهجة كنت تستهدف التخلّص من هؤلاء الأعداء المفترضين. وينبغي التذكير هنا بأن الضحايا لم يكونوا يهوداً فحسب، وإنما كانوا خليطاً من الغجر واليهود والمعارضين سياسياً والفئات المصنّفة نازياً أنهم من "غير المرغوب فيهم". ومنذ أشرف هاينريش هيملر، في 27 إبريل/ نيسان 1940، على تأسيس معسكر أوشفيتز، شرع النازيون في تقييم علمي للمقاومة الجسدية للسجناء، وحساب دقيق للسعرات الحرارية والحصص الغذائية باسم نظام بيولوجي متفوّق، ينطوي على تحويل الضحايا "بشراً دون البشر"، يُستغلُّون بوحشية ثمّ يُهملون كنفايات عضوية. ورغم فظاعة هذه المظاهر وبشاعتها في ظلّ الحكم النازي، إلا أن اقتصاد الإبادة هذا لم يكن الأول من نوعه ولا الأخير. وإذا كان استخدام الجوع سلاحاً باستمرار في أوقات الحرب لإجبار العدوّ على الرضوخ، فقد ارتقى الكيان الصهيوني بتنظيم الجوع داخل غزّة إلى مستوى غير مسبوق من الإجرام. المفارقة الغريبة أن الصهاينة، الذين تاجروا طويلاً بضحايا معسكرات الاعتقال النازي، وفي مقدمتهم ضحايا معسكر أوشفيتز، استبطنوا الممارسات النازية ونقلوها بشكل أكثر وحشية لتطبيقها على الشعب الفلسطيني.
لا تُخفي بعض القيادات الصهيونية توجّهاتها الاستئصالية التي تتبنّى الإبادة على الطريقة النازية منهجاً للتعامل مع قطاع غزّة المُحتلّ، فقد تباهى وزير التراث الصهيوني عميحاي إلياهو بالقول إن "الحكومة مندفعة نحو محو غزّة. نشكر الله على أننا نمحو هذا الشرّ ونمحو السكّان. غزّة ستكون يهودية". وبالتوازي، تتصاعد الدعوات إلى إنشاء ما تسمّى "المدينة الإنسانية"، وهي تسمية شاعرية لما سيكون معسكر اعتقال داخل القطاع لاستكمال مخطّط الإبادة الجماعية، ولكن هذه المرّة من خلال عملية فرز فردي للتمييز بين من ينبغي قتله في المحرقة، ومن سيُهجَّر. في المرحلة الحالية، تحاول سلطة الاحتلال استغلال المجاعة لممارسة هيمنتها. تصبح المجاعة، بالتالي، وسيلة تلاعب خطيرة، إذ لا يمكن لأيّ حاجة أخرى أن تحلّ محلّ الحاجة إلى الطعام. هذه الضرورة الأساسية هي التي تعرّض السكّان الجائعين لضعف شديد، وتضعهم في موقف اعتماد على أولئك الذين يتحكّمون في الوصول إلى الغذاء. يقيم استغلال المجاعة علاقة قوة بين من يعانون من الأزمة الغذائية ومن يتلاعبون بها لأغراض سياسية. تصبح المجاعة بذلك سلاحاً مرناً، يمكن استخدامه لممارسة هيمنة كلّية أو جزئية على السكّان، من طريق التمييز العرقي.
لقد استخدمت المجاعة سلاحاً في سياق الحرب الصهيونية على القطاع، فبتجويع سكّان غزّة، لم يكن الصهاينة يأملون فقط في إضعاف قدرة الفلسطينيين على المقاومة، بل أيضاً في إيجاد بيئة مواتية للاحتلال الصهيوني، من خلال القضاء على (أو تهجير) السكّان، والهيمنة بشكل نهائي على قطاع غزّة. ينبغي أن نميّز هنا بين أمرَين: استغلال المجاعة لأغراض عسكرية للقضاء على الخصم، وهو الشائع في الحروب، ومن ناحية أخرى، المجاعة التي هدفها تدمير الإنسان، إذ تختزل هذه المجاعة الأفراد في طبيعتهم البيولوجية، وتجبرهم على عيش وجود يشبه حياة الحيوانات. في الواقع، ما يميز الماهية الإنسانية عن مجرّد الوظيفة الغذائية الحيوانية هو الثقافة الطهوية والقدرة على تجاوز الاحتياجات البيولوجية الأساسية، وهو ما يسمّى عادةً فنّ الطهو. لكن هذا الأخير يُهمل عند حدوث مجاعة. في لحظات الأزمات هذه، يصبح البقاء في قيد الحياة الهدف الأسمى، ويعيد الإنسانية إلى غرائزها الأكثر بدائية.
تعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام
تكون عملية تحويل البشر حيواناتٍ شديدةً إلى درجة أن السكّان المتضرّرين من هذه المجاعة يُجرّدون من إنسانيتهم بالكامل. وبمجرّد اعتبار هؤلاء السكّان حيواناتٍ تماماً، من خلال التسلسل الهرمي القائم بين الحيوانات والبشر، تصبح الأعمال المرتكبة ضدّهم مبرّرة بهذه الدونية المزعومة، وهذا ما يفسّر سلسلة المجازر التي حدثت في نقاط توزيع المساعدات بقطاع غزّة، وتقع على عاتق مؤسّسة أُنشئت في الولايات المتحدة ويديرها جنود ورجال أعمال إسرائيليون، وشركاتها الخاصّة. وتعتبر مؤسّسة غزّة للإغاثة الإنسانية والشركات التابعة لها تجسيماً لفكرة تجريد الفلسطيني من إنسانيته وتحويله هدفاً مستباحاً للقتل في أثناء رحلته للحصول على الطعام.
وتهدف هذه الازدواجية (مؤسّسة للإغاثة والتحكّم في المجاعة في الوقت نفسه) غالباً إلى إزالة أيّ شعور بالذنب لدى الجلّادين، فبتجريد الضحايا من إنسانيتهم، يسعى مرتكبو الإبادات الجماعية إلى التخلّص من أيّ مسؤولية أخلاقية تجاه أفعالهم. في الواقع، هذه طريقتهم لإقناع أنفسهم بأنهم لا يقمعون بشراً مثلهم. بالإضافة إلى ذلك، وعلى غرار الحيوان الذي يُضحّى به، ويُحوّل إلى لحم، فإن الفلسطيني لا يُسمح له بالبقاء إلا إن كان مفيداً.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

دولرة الليرة السورية... اقتصاد حائر بسعر صرف لا يعترف به أحد
دولرة الليرة السورية... اقتصاد حائر بسعر صرف لا يعترف به أحد

العربي الجديد

timeمنذ 6 ساعات

  • العربي الجديد

دولرة الليرة السورية... اقتصاد حائر بسعر صرف لا يعترف به أحد

لم يعد الحديث في سورية عن سعر صرف الدولار مجرّد مسألة تقنية محصورة بالمصارف أو التجار، بل أصبح جزءاً من الهمّ اليومي للمواطن السوري، ومعياراً يعكس مستوى معيشته ومدى استقرار حياته، ولو جزئياً، في بلدٍ يحاول طيّ صفحة الحرب وما خلّفته من إرثٍ ثقيل، إلّا أن وهم الاستقرار لا يكفي لنقول إنّنا بخير، في بلد يُقال فيه الكثير عن الأمن، ويُقال أكثر عن الاقتصاد، لكنّ ما لا يُقال هو أنّهما لا يملكان القدرة على الحياة إن تُركا منفصلين. وفي ثنائية الأمن والاقتصاد، لا يمكن تجاهل خطوات الحكومة السورية في الملف الأمني، من عودة مظاهر الطمأنينة، وإرساء الحلول السلمية بدلاً من الانتقام، والحلول الدبلوماسية بدلاً من العنف واستخدام القوة، في نتائج فاقت التوقعات. لكن، هل يكفي هذا؟ أم أنه يبقى في دائرة الهشاشة إن لم تُبنَ تحته قاعدة اقتصادية صلبة؟ فلا أمن يدوم إذا لم تُشترَ السلع، ولا استقرار يتحقق إن بقيت الأسعار تُنطح السقف، و"الرواتب" الخجولة تجرجر نفسها، في بلدٍ يُذهلك بتناقضاته، من غلاءٍ يفوق التوقّعات في أسعار وإيجارات عقاراته، وارتفاع أسعار سلعه، أمام دخلٍ هو أقرب إلى الصفر المتحرّك، ما يجعل الأمن على حافةٍ قد تنهار سريعاً، لا قدّر الله. الدولار بين تسعيرتَين المفارقة أن مصرف سورية المركزي حدّد سعر الدولار بـ11 ألف ليرة سورية، في حين يتداول الناس الدولار في السوق السوداء بسعر يتأرجح بين 9,500 و10,200 ليرة، في تفاوتٍ غريب بين السعر الرسمي وسعر السوق غير النظامية. فأيهما يملك القيمة الحقيقية؟ أمام امتناع المركزي عن بيع الدولار أو شرائه، وترك موازين العرض والطلب مفتوحة أمام السوق، فإن ذلك يدل صراحةً على أن المركزي لا يملك القدرة على مجاراة السوق، وأنه فقير بالقطع الأجنبي والعملة المحلية. السعر المتداول لا يمكن أن يكون حقيقياً، وإلّا فأين إعلان الدولة عن تخفيض سعر الدولار؟ ولماذا لم يشعر به أحد؟ بل على العكس، فرغم التحسّن المزعوم، ما تزال الأسعار مرتفعة، ما يعني أن الدولار لا يُسعّر على أساس اقتصادي، فالميزان التجاري مختل تماماً على خلفية الواردات والصادرات، أمام انفتاح السوق السورية المتعطّشة للسلع وشرائها بالدولار، مقابل وارداتٍ متواضعة جداً حتّى اللحظة. إذاً، السعر الرسمي الذي لا تعترف به السوق هو سعرٌ نظري، لا يُصرف به الدولار في الواقع، وبالتالي يصبح بلا قيمة عملية، ما قد يُضعف شرعية المؤسّسة النقدية، ويؤدي إلى فقدان ثقة المواطن والمستثمر، خصوصاً أن المركزي لا يوفّر الدولار، لا للمواطن ولا للمستورد، ما يدفع الجميع إلى التوجّه نحو السوق السوداء لتأمين العملة الصعبة، وبالتالي تعكس هذه السوق السعرَ الحقيقي الناتج عن العرض والطلب. المشكلة الكبرى تكمن في انعكاس هذا التفاوت على آلية التسعير: هل يجري التسعير على أساس السعر الرسمي أم سعر السوق؟ الباحث الاقتصادي ملهم جزماتي اعتبر أن الفجوة بين سعر الصرف في المصرف المركزي والسوق السوداء هي إحدى أشكال التشوّهات الاقتصادية، ودلالة على شح السيولة النقدية لدى المركزي، لذلك لا يستطيع شراء العملة الأجنبية بالسعر الأعلى الذي يحدّده بنفسه. كما رأى أن تأثير هذه الفجوة يتمثل في اتساع رقعة الاقتصاد غير الرسمي، وتذبذبٍ مستمر لسعر صرف الليرة مقابل العملات الأجنبية، وبالتالي فقدان الثقة بالعملة المحلية، وتفضيل أكبر للاحتفاظ بالعملة الأجنبية، وفقدان المركزي السوري لدوره الأساسي ضابطاً للسوق النقدية في البلاد. وأضاف أن هذه الحالة من شأنها إضعاف الثقة بالاقتصاد السوري على المدى البعيد من المستثمرين، الذين يرغبون بوجود هيكل إداري قادر على إدارة السياسة النقدية، واستمرار هذه الحالة سيثير الشكوك حول أهلية المركزي في أداء أدواره الاقتصادية التقليدية. هل يعكس سعر الصرف عجز الدولة؟ لا تحتاج قراءة الواقع المعيشي للمواطن السوري، إلى أرقامٍ مبهرة أو تقارير أممية لتوصيفه. الراتب الشهري، في كثير من الحالات، لا يتجاوز مئة دولار، بينما إيجار غرفة واحدة قد يتخطّى هذا الرقم. الأسعار قد تقفز، ربما ليس بفعل ارتفاع الدولار، بل أحياناً بفعل الإشاعة، أو المزاج، أو انقطاع مادة معينة. الناس يأكلون أقل، يسافرون أقل، يضحكون أقل. نعم، الحكومة تتحدث عن خطط ورؤى ومشاريع استثمارية وعلاقات اقتصادية خارجية، لكن المواطن لا يراها سوى وعود، قد تتحول إلى هواجس بشأن قدرة الدولة على أداء دورها بوصفها ضامناً اقتصادياً، وبأن الحكومة عاجزة عن ضبط السوق، وتوفير السلع والخدمات والطاقة، وحماية الرواتب من التآكل. ولا بدّ من التذكير بأن سعر الصرف هو مؤشّر، لا على وضع العملة فحسب، بل على حال الاقتصاد كلّه، فعندما ترتفع الليرة في السوق السوداء، ليس بالضرورة أن يكون ذلك مدعاة للفرح أو التفاؤل، لأنها ظاهرة قد تكون نتيجة جمود اقتصادي، أو تباطؤ في الطلب على الدولار، أو تراجع في الاستيراد. إذاً، كلها مؤشرات على الركود لا على التعافي. ما يعني، في قراءة أعمق، أن أدوات السياسة النقدية باتت تلهث خلف السوق بدل أن تقودها. فلا يخفى على المراقب الحصيف أن هذه الظاهرة لا تُقرأ بالأرقام وحدها، بل هي في عمقها تعبيرٌ عن خللٍ مزدوج في وظيفة الدولة ومنطق الاقتصاد. فالسعر الرسمي، الذي لطالما اعتُبر أداة سيادية لضبط السوق، أصبح حبراً على ورق، بينما السوق الموازية، التي يُفترض أن تكون جريمة مالية، تحوّلت إلى ملاذٍ آمن للناس والمؤسّسات، وحتى لبعض دوائر الدولة نفسها. ولا نعني بذلك رفع يد الدولة أو السيطرة بالقوة، بل الدعوة إلى إدارة السوق بأدوات رقابية حقيقية لضبط الأسعار ومنع التلاعب، إضافة إلى تعزيز ثقة المواطن بأن البنوك قادرة على تلبية احتياجات السوق من العملات الأجنبية والمحلية، بوصفها مؤسساتٍ فاعلة، وبشفافيةٍ تشجّع المغتربين على التحويل من خلال المصارف المعتمدة. سورية تعلن اعتمادها على مواردها في تأكيدٍ لتصريحٍ سابق، أكد حاكم مصرف سورية المركزي عبد القادر حصرية أنّ بلاده لن تستدين من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، وأن سورية، بأمرٍ من الرئيس أحمد الشرع، لن تلجأ إلى الديون الخارجية، مبرّراً الخطوة بسعي الحكومة لبناء اقتصادٍ صحي قائم على الإنتاج والصادرات، من دون الاعتماد على فوائد مرتفعة أو مغريات استثمارية محفوفة بالمخاطر. تصريحٌ تُرفع له القبعة، كما يُقال، لكن أين هذه الموارد؟ إذا كان النفط خارج السيطرة، والزراعة، بصفتها مقوّماً من مقوّمات الاقتصاد السوري الرئيسية، تصارع الجفاف وتقنياتٍ منتهية الصلاحية، والصناعة في الرمق الأخير، والسياحة معطّلة، فما هي المقوّمات إذاً؟ وأين البيئة الاستثمارية المؤهلة لتوفير عوائد مستقرة للمستثمرين؟ وما هي ملامح استعادة النشاط الكامل لقطاعات الاستثمار التي صرّح بها المسؤول؟، فبعيداً عن الانتقاد المنفلت، هي مجرد أسئلة بسيطة، تضع المواطن أمام تناقض الخطاب الرسمي والواقع الاستثماري والمعيشي، ليتولّد ما هو أخطر من الفقر؛ وهو الشّك. عند سؤال الأكاديمي والمحلل الاقتصادي فراس شعبو، قال إنّ القرار، من وجهة نظر اقتصادية، صحيح، والمشكلة ليست في الدَّين، فهناك دولٌ متقدمة وناشئة تتعامل بالدين، لكنها تستطيع إدارة هذا الدين واستثماره بوجود مؤسساتٍ قوية. وأضاف أن المشكلة لدى الدول النامية تكمن في تحويل هذا الدين إلى مشاريع استهلاكية، لا إنتاجية، مثل مصر ولبنان وتونس، ما أغرقها بسبب الفوائد الكبيرة وعدم قدرتها على السداد. وبالعودة إلى الواقع والسياق السوري، اعتبر شعبو أن الوضع قد لا يتوافق مع أي فكر اقتصادي، خصوصاً أن معظم الموارد تحتاج وقتاً أطول لإعادة تأهيلها واستثمارها، وبالتالي، سيسهم ضعف التمويلات والدعم الخارجي في إبطاء عملية التنمية وسرعة التعافي. واعتبر أن القرارات الحكومة في الخصخصة، وفي دعم القطاع الخاص وتخفيف تدخل الحكومة، وإزالة الدعم عن المحروقات والخبر، وتحرير سعر الصرف، تتوافق مع شروط صندوق النقد الدولي، فإمكانية الاقتراض على شكل منح أو ديون ممكنة، ومطلوبة إن توجهت توجهاً صحيحاً في الاستثمار ودعم الإنتاج. ويبقى سؤال المواطن السوري الأبرز؛ متى ستقرّر الحكومة السورية تبديل العملة التي ما تزال تذكّرهم بالنظام السابق، وإلى متى سيحملون أكياساً مكدّسة بالأوراق النقدية لشراء سلعة بسيطة؟

بين الكونغرس والكنيست
بين الكونغرس والكنيست

العربي الجديد

timeمنذ 14 ساعات

  • العربي الجديد

بين الكونغرس والكنيست

أيّاً تكن نتائج زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، ولقاؤه الرئيس الأميركي ترامب حول وقف إطلاق النار في غزّة، لا شيء يغيّر الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية التي لا تختلف معها سياسة الإدارة الأميركية. التوتّر والتهديدات المتبادلة بين إيران من جهة، وإسرائيل وأميركا، من جهة ثانية، قائمة. إسرائيل تستعدّ لجولة ثانية من المواجهات، وإيران تتصرّف وكأنّها انتصرت، وتعلِّق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتعلن تمسّكها بحقّها في تخصيب اليورانيوم، رغم اعتراف وزير خارجيتها بإصابة منشآتها النووية بأضرار جسيمة. لا تزال الصواريخ الباليستية تُطلَق نحو الداخل الإسرائيلي من الحوثيين (أنصار الله) في اليمن. يعلن نتنياهو: "مشاركة الولايات المتحدة في وقف التهديد الإيراني ليست شرطاً، وسنفعل كلّ ما يمكن لإنهاء هذا التهديد". طبعاً، يأتي كلامه بعد المشاركة الأميركية الحاسمة في الحرب. ويضيف: "الخطر الإيراني أكبر من خطر القومية العربية التي لطالما هددّتنا". اليوم، لم يعد ثمّة عرب فاعلون، ولم يعد ثمّة "قومية عربية"، والخطر هو في مكان آخر ولا بدّ من إزالته. وفي الكونغرس الأميركي يُقدَّم مشروع قانون "يمنح الرئيس ترامب سلطة السماح لإسرائيل في الوصول إلى قاذفات B2 الشبحية، والقنابل المدمّرة للتحصينات، إذا اتضح أن إيران تواصل تطوير أسلحة نووية". يعني قد تزوّد إسرائيل بهذه الأسلحة لتستكمل ضرب إيران. أيّ وقف لإطلاق النار في غزّة توافق عليه الحكومة الإسرائيلية هو بمثابة سلفة لترامب، ومحاولة كسب الوقت وإطلاق سراح رهائن لا أكثر وفي إسرائيل، مشاريع قوانين في الحكومة والكنيست ترمي إلى السيطرة الكاملة على كلّ فلسطين. وقّع حزب ليكود (حزب نتنياهو) رسالةً موجّهةً إلى الكنيست تدعو إلى تطبيق السيادة الإسرائيلية على الفور في "يهودا والسامرة"، بالاستناد إلى "إنجازات إسرائيل ضدّ كلٍّ من إيران وحلفائها، والفرصة التي أتاحتها الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، ودعم ترامب". وتزامن ذلك مع إعلان وزير العدل الإسرائيلي ياريف ليفين أنه "حان وقت السيادة وضمّ الضفة الغربية. هذه الفترة هي الفرصة التي يجب ألا نفوّتها"، ثمّ إعلان وزيرة الاستيطان: "على العرب في غزّة الرحيل. عليهم أن يغادروا. لن نعطيهم الشراب والطعام. العالم سوف يستقبلهم. عليهم المغادرة". وتأكيداً لهذا التوجّه، قرّر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش إنشاء محكمة حاخامية في مستوطنة أرئيل، في شمالي الضفة الغربية، التي تعدّ من أكبر المستوطنات، في مسعى إلى "تعزيز قبضتنا على أرض إسرائيل"، و"تعزيز السيادة في الخدمات الدينية". وأضاف، بكلّ وقاحة وصفاقة، أنه يجب على "السعودية أن تدفع ثمن السلام، ونرفض تقديم تنازلات. من غير المعقول أن يُطلَب منا تقديم تنازلات مثل التخلّي عن الأرض أو قبول دولة فلسطينية إرهابية مقابل السلام. لقد بذلنا جهداً كبيراً في مواجهة إيران وحماس، وهما تهديدان مشتركان لنا وللسعودية، لذا ينبغي أن تكون (الرياض) هي من يدفع ثمن السلام، لا العكس... إسرائيل ليست بحاجة إلى توسّل السلام... ماضون في توسيع اتفاقات السلام بدعم من الرئيس ترامب، سلام مقابل سلام، من دون شروط. ومن يختار الوقوف معنا سيكون شريكاً في ما نقدّمه من أمن واقتصاد وابتكار وقيم". هذه المواقف هي حقيقة المشروع الإسرائيلي بكلّ أبعاده، وأيّ وقف لإطلاق النار توافق عليه الحكومة الإسرائيلية هو بمثابة سلفة لـ"ترامب"، ومحاولة كسب الوقت وإطلاق سراح رهائن لا أكثر، وليس ثمّة تراجع عن المشروع الحقيقي، ثمّة فرصة لن تتكرّر، وينبغي عدم تفويتها، كما يعلن نتنياهو وحلفاؤه: "وليس لأحد فضل علينا... نحن قاتلنا نيابةً عن الجميع... خلّصنا العرب والمنطقة من المشروع النووي الإيراني"، واحتفظت إسرائيل بالتأكيد بمشروعها النووي خارج أيّ رقابة دولية، وبمنع أيّ دولة أخرى في المنطقة من امتلاك طاقة نووية. بهذا المنطق يتمسّك المسؤولون الإسرائيليون بما طرحه سموتريتش. على العرب أن يدفعوا ما عليهم، تماماً مثلما فعل ترامب معهم، ومع حلفائه الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي (ناتو). إسرائيل تضغط على كلّ العرب، تستهدف أمنهم واستقرارهم. تعتبر سورية تحت الرقابة والسيطرة، ولبنان تحت التهديد والسيطرة والرقابة المشدّدة الدائمة، وثمّة استعداد عند الحدود الأردنية، والخطر الذي يمكن أن يأتي منها. وكذلك من مصر، وهذا يعني وضع الجميع تحت السيطرة والمراقبة لاستكمال المشروع الاستراتيجي باحتلال فلسطين كلّها، وتهجير أهلها، وتأكيد هيمنة إسرائيل الواسعة على كلّ المحيط "لتضمن أمنها ومستقبلها قوةً متفوقةً". لا تنقص العرب الكفاءات، ولا الإمكانات المالية، لكنّهم يفتقدون الرؤية والإرادة والإدارة للأسف نجحت اسرائيل في تحقيق كثير من الأهداف، بالعقل والعلم والإعلام والدبلوماسية والذاكرة والتكنولوجيا، وبالدراسات والأبحاث وتراكم الخبرات والمؤسّسات الراصدة للطاقات وتوجيهها والاستفادة منها، ولكلّ موقف أو مصطلح أو حركة تظهر هنا أو هناك، تمسّ من وجهة نظرها الثوابت والمبادئ الإيمانية والسياسية والأمنية المصيرية التي تقوم عليها دولة الاحتلال، التي نجحت أيضاً في الاستخبارات والاختراقات التي شهدناها من لبنان إلى سورية وقلب إيران، وغيرها من الدول، وبالصناعات والابتكارات النوعية في المجالات العسكرية والأمنية والتقنية والزراعية وغيرها. لا تنقص العرب الكفاءات، ولا الطاقات، ولا الإمكانات المالية الهائلة، لكنّهم يفتقدون الرؤية والإرادة والإدارة، ولن ينجو أحد من خطر المشروع الإسرائيلي وأهدافه.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store