
لبنان يودّع زياد الرحباني أحد أبرز أقطاب الفن العربي الحديث
وزياد هو نجل الفنان الراحل عاصي الرحباني، والفنانة نُهاد حدّاد المعروفة بفيروز، ويُعد أحد أبرز المجددين في الأغنية اللبنانية والمسرح السياسي الساخر. بدأ مسيرته الفنية مطلع السبعينيات، حين قدم أولى مسرحياته الشهيرة "سهرية"، وكتب ولحن لاحقاً لوالدته فيروز العديد من الأعمال.
تميزت أعماله المسرحية بالكثير من النقد السياسي والاجتماعي المغلف بالسخرية والفكاهة.
ونعى الرئيس اللبناني، جوزاف عون، الرحباني قائلاً في بيان: "لم يكن زياد الرحباني مجرد فنان، بل كان حالة فكرية وثقافية متكاملة، كان ضميراً حيّاً، وصوتاً متمرّداً على الظلم، ومرآة صادقة للمعذبين والمهمّشين"، معتبراً أنه "كان يكتب وجع الناس، ويعزف على أوتار الحقيقة، من دون مواربة".
وكتب رئيس الوزراء، نواف سلام، في منشور عبر منصة إكس: "بغياب زياد الرحباني، يفقد لبنان فناناً مبدعاً استثنائياً وصوتاً حرّاً ظل وفيّاً لقيم العدالة والكرامة".
وقال وزير الثقافة اللبناني، غسان سلامة، عبر منصة إكس: "كنّا نخاف من هذا اليوم، لأننا كنا نعلم تفاقم حالته الصحية وتضاؤل رغبته في المعالجة".
ولم تُعرف بعد أسباب وفاته، لكن زياد الرحباني عانى خلال السنوات الأخيرة من وعكات صحية عدّة أثّرت على نشاطه الفني.
وُلد زياد الرحباني في الأول من يناير/كانون الثاني 1956، ونشأ في ظل أسرة فنية كانت لها بصماتها الواضحة، ليس فقط في لبنان، بل في العالم العربي أجمع. عُرف أبوه وعمّه، عاصي ومنصور الرحباني، بالأخوين الرحباني، واستطاعا رفقة الفنانة فيروز، زوجة عاصي، إحداث ثورة تجديدية في الغناء والتلحين والتأليف والمسرح.
كان لهذه النشأة أثرها الكبير على زياد، إذ بدت علامات اهتمامه بعالم الفن في سنّ مبكرة.
ولعلّ أبرز الأحداث التي ساهمت في انطلاقة مسيرة زياد، ما حدث عام 1973، حين كان زياد في عمر السابعة عشرة فقط، إذ أُصيب والده بوعكة صحية ألزمته المستشفى، وتزامن ذلك مع تحضير فيروز للعب الدور الرئيسي في مسرحية "المحطة"، فاستلهم منصور الرحباني من ذلك الموقف كلمات أغنية: "سألوني الناس"، التي تعبّر فيها فيروز عن افتقادها لزوجها المريض، وقدّم زياد في تلك الأغنية لحنه الأول لوالدته، لتكون تلك باكورة أغاني كثيرة لحنّها زياد، وأدتها فيروز، كان من أشهرها: "أنا عندي حنين"، "حبيتك تَنسيت النوم"، " سلملي عليه"، "وحدُن".
ولم يقتصر دوره على التلحين، إذ كتب الكثير من الأغاني التي أدتها والدته، نذكر منها: "عودك رنان"، " صباح ومسا"، "تنذكر ما تنعاد"، " البوسطة".
تزوّج الرحباني من دلال كرم ولهما ولد، لكنّ زواجهما لم يدم. وجمعته قصة حب طويلة مع الفنانة اللبنانية كارمن لبس استمرت 15 عاماً، وانتهت بالفراق.
ولعل شهرة زياد تعدّت ارتباطه بأعمال فيروز، إذ أدّى الكثير من الأغاني بصوته، وكان بعضها علامة فارقة رددها الكثيرون على مرّ الأجيال، نذكر منها:
"بلا ولا شي"، "عايشة وحدا بلاك"، "أنا مش كافر".
وبالعودة إلى مسرحية "المحطة" التي مثّلت أيضاً ظهوره الأول على الخشبة بدور الشرطي، والدور ذاته لعبه أيضاً في مسرحية "ميس الريم"، وهي المسرحية التي لحّن مقدمتها.
واتجه زياد نحو كتابة وإخراج مسرحياته الخاصة به، والتي حملت بصمته المميزة وتضمنت آراءه السياسية والاجتماعية التي لم تخلُ من السخرية ونقد الواقع، ومن مسرحياته: "سهرية"، "نزل السرور"، "بالنسبة لبكرا شو"، "شيء فاشل"، "بخصوص الكرامة والشعب العنيد".
وفي العام 1980، حصدت مسرحية "فيلم أمريكي طويل" التي كانت وقائعها تجري في مستشفى للأمراض النفسية نجاحاً منقطع النظير، وقد اختصر فيها مشاكل المجتمع اللبناني وطوائفه التي كانت تغذّي آنذاك نار الحرب الأهلية.
شارك زياد في تقديم برامج إذاعية عدة، تزامنت مع أحداث كبيرة عصفت بلبنان، أبرزها الحرب الأهلية بين سنوات 1975 و 1990، وعبّر خلالها عن مواقفه السياسية من الأحداث المتسارعة، مثل برنامج " بعدنا طيبين... قول الله"، و"نص الألف خمسمية"، و"العقل زينة"، و"الإعلان رقم 1، 2، 3، 4" الذي أعقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري.
وتخللت أحاديثه تعليقات ساخرة، وعبارات بارزة اقتبسها كثيرون فيما بعد لوصف المشهد السياسي في العديد من البلدان العربية.
شارك زياد في أدوار سينمائية صغيرة، مثل دوره في الفيلم اللبناني "طيّارة من ورق"، والفيلم الجزائري "نهلة" نهاية السبعينات، وفي كلا الفيلمين، كان هو المؤلف للموسيقا التصويرية، وهو جانب آخر من جوانب إبداعه الفني.
كتب زياد كذلك سلسلة من المقالات الصحفية، أبزرها العَمود الذي واظب على كتباته لصحيفة الأخبار بين أعوام 2006 و 2018.
وبداية السبعينات، نُشر لزياد الرحباني كتاب "صديق الله"، وهو ديوان شعري كتبه في بداية مراهقته.
وعُرف عن زياد الرحباني، لا سيما في شبابه، أنه كان صاحب أفكار سياسية يسارية ومتمردة.
وكان أيضا عازفاً موسيقياً، لا سيما على البيانو، وتنوعت أعماله الموسيقية بين الجاز والشرقي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


BBC عربية
منذ يوم واحد
- BBC عربية
الأم الحزينة في حضرة الغياب: أغنية فيروز الأخيرة مع زياد
لم يكن محبّو فيروز يتمنّون أن يكون اللقاء المنتظر بها في مناسبة أليمة، كعزاء ابنها زياد الرحباني. توافد المئات إلى كنيسة رقاد السيّدة في بلدة المحيدثة - بكفيا الجبلية، في منطقة المتن (جبل لبنان)، يوم الإثنين، لتشييع الموسيقار الراحل عن 69 عاماً. في باحة الكنيسة، كنا نسمع الناس يتهامسون: "هل رأيتِ الستّ؟ هل فيروز هنا حقاً؟ سلّمتَ عليها؟ معقول سوف نراها؟" تقدّم المعزّون نحو فيروز كما لو أنهم في حالة انخطاف. كانت تجلس في ركن الصالة، يقتربون منها بصمت، ينحنون أمامها لثوانٍ، يُتمتِمون كلمات مواساة، ثم يمضون، وكأنهم تبرّكوا. بدت، بمنديلها الأسود المُسدل على شعرها، بوقارها وثباتها، كأنها نواة مجرّة تدور الكواكب حولها في صمت. الناس يقتربون منها كأنّهم مأخوذون بجاذبية لا تُقاوَم، تخضع لقوانين فيروزيّة خفيّة. في حضرة فيروز، وقف الجميع دون تمييز بين شخصيات عامّة ومواطنين، بين أصحاب سلطة وبسطاء؛ كلّهم سواء، ينتظرون لحظة الوقوف أمامها. لأعوام طويلة، اعتادت فيروز الغياب. اختارت الابتعاد عن الأضواء، ونادراً ما ظهرت في حفلات أو أصدرت أغنيات جديدة أو تحدّثت في مقابلات صحافية. لذلك، ترك وجودها، على مقربة من المئات ولساعات طويلة، محاطة بالكاميرات، أثراً عميقاً في نفوس الحاضرين. على وجوه الناس في باحة الكنيسة ارتسم شيء من عدم التصديق: عدم تصديق لرحيل زياد، الفنان الذي ترك أثراً عملاقاً في الموسيقى والمسرح العربي لأكثر من نصف قرن، وعدم تصديق لوجود والدته بينهم. لكنها كانت هناك، جالسة أمام نعش ابنها، لا كأيقونة، ولا كفنانة، ولا كمحبوبة جماهير، ولا حتى كفيروز، بل كأم زياد فقط، كصاحبة العزاء. وفي حضرة حزنها، وأمام نعش زياد، تكثّف الصمت. همس الناس همساً. لحظة وصولها إلى صالة العزاء صباح الإثنين، ارتبك الصحافيون تحت وقع المفاجأة، فحدث تدافع لبضع دقائق، وحاول بعضهم اقتحام خصوصيّة العائلة. لكن، ما إن جلست على كرسيها، سكن كل شيء. لم يعد أحد يرغب بإزعاجها، وعلت أصوات المرتّلين. البعيدة القريبة غياب فيروز وحضورها مسألتان لطالما أثارتا الجدل. بعضهم يلومها على "الاعتصام في برجها العاجي"، كما يُقال. وبعضهم يروّج لتكهّنات حول حالتها الصحية مع تقدّمها في العمر. وآخرون يدافعون عن حقّها في العزلة واحترام خصوصيّتها ورغبتها في حياة هادئة تشبهها، بعيدة عن الضجيج. لكنّ خيار الاحتجاب، في عيون محبّيها، يثير الشوق والغصّة معاً، لأن خفوت حضورها لا يتناسب مع حجم العاطفة الجارفة تجاهها. فمحبّة فيروز، في الوجدان العام، ليست مجرّد ذائقة فنية أو إعجاباً بسيدة صنعت مجداً غنائياً ومسرحياً فريداً، وكانت العمود الثالث في المدرسة الرحبانية مع رفيق دربها عاصي، وشقيقه منصور. محبّة فيروز جزء من هوية الناس، من طريقتهم في التعريف عن أنفسهم. مكانتها كأيقونة ورمز وإرث، ليست تفصيلاً في يوميات ملايين اللبنانيين والعرب، بل ظلٌّ طاغٍ. لكن هل تعني المسافة الغياب حقاً؟ صحيح أن فيروز معتصمة في بيتها، إلا أنها لم تخرج من قلوب الناس. فهي بعيدة قريبة، تغيب ولا تغيب، مثل نجمة كفرغار، كما في أغنيتها الشهيرة من فيلم "بنت الحارس" (1968). يرى كثيرون في ابتعادها حكمة، وقراراً مدروساً. فربما ترى أن الكلام لم يعد يضيف ولا ينقص، وأن مواقفها، باتت حملاً ثقيلاً. ففي السنوات الماضية، تعرّضت فيروز أحياناً لهجمات بسبب تصريحات لم تصدر عنها، بل نُسبت إليها. فالكلّ يريد لفيروز أن تشبهه، بينما ترى هي، أن من واجبها وحقّها الحفاظ على إرث يتجاوز المناكفات. الكبار يصلون إلى مرحلة ما بعد الحاجة للكلام. يتدثّرون بمنديلها كان آخر ظهور علنيّ لفيروز في سبتمبر/أيلول 2020، حين زارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في منزلها، وقلّدها وسام جوقة الشرف الفرنسي، أرفع وسام تمنحه الدولة الفرنسية. خرجت عن اللقاء يومها مجموعة صور نادرة لفيروز، لم يحظ بها محبّوها منذ زمن. جاءت الزيارة في خضمّ الانهيار المالي وأزمة المصارف وتفجير مرفأ بيروت، وكأنها تذكير بأن لبنان، رغم كل ما خسره، ما زال يملك فيروز. فيروز: ماذا تعني الأيقونات المعلقة على جدار بيتها؟ فيروز: المغنية اللبنانية والأخوان عاصي الرحباني ومنصور الرحباني في لقاء خاص مع راديو بي بي سي عام 1961 تكرّست هذه المكانة الأيقونية بمرور الزمن، إذ عايشت المغنية التسعينية مآسي أبناء بلدها كافة، على امتداد ما يقارب القرن، وتقاطعت مآسي الوطن مع مآسيها الشخصية، من الحرب الأهلية، إلى رحيل زوجها عاصي الرحباني عام 1986، ثم وفاة ابنتها ليال عام 1988. ومع جلوسها أمام نعش زياد، تجلّت لحظة لا تكثّف حزنها الخاص فقط، بل حزن وطن لم يعد يحتمل المزيد من الخسارات. ومع أنها صاحبة المصاب، إلا أن الناس، وهم يلتفّون حولها، بدا كأنهم يرغبون في التدثّر بمنديلها، لكي تعزّيهم هي، وتُطمئنهم أن ظلّها لا يزال بينهم. في وداع زياد، كانت "سيّدة الأصول"، تؤدّي واجبها، متقدّمة عائلة الرحباني، متعالية على خلافات طالما كُتب عنها، وعن معارك قضائية بين ورثة عاصي وورثة منصور كان لها وقع إعلاميّ سلبيّ على مدى سنوات. ورغم ثقل اللحظة، كانت الساعات التي قضتها بين الناس، نافذة إلى معرفة نادرة وثمينة. عرفنا أنها بصحة جيدة، رغم التعب والشيخوخة وخطواتها التي أثقلها الحداد. عرفنا أيضاً أنها محاطة بأيدٍ أمينة: فإلي يمينها جلست ابنتها ريما الرحباني، تراقب كلّ حركات والدتها، وإلى يسارها محاميها الشخصي فوزي مطران، الذي حرص على ألّا يبالغ أحد المعزّين بالانفعال أمامها. الأم الحزينة صور فيروز في جنازة ابنها تستحضر سلسلة من المشاهد القديمة، ارتبط فيها حضورها العام بارتداء الأسود، خصوصاً في تسجيلاتها لترانيم الجمعة العظيمة، أي ذكر صلب المسيح، لدى الطوائف المسيحية. على مدى العقود الثلاثة الماضية، تحوّل هذا الطقس إلى موعد ثابت، ينتظره الناس للحصول على إطلالة نادرة على "الستّ". كانت تظهر في التسجيلات النادرة جاثية، تغطي رأسها بالمنديل الأسود، وترنّم. لهذا لم يكن غريباً أن يشببها كثيرون على مواقع التواصل، بـ"الأم الحزينة"، بعد انتشار صورها في العزاء، في استعارة من صورة مريم العذراء في صلوات الرثاء المسيحية. في الذاكرة الدينية والأسطورية على السواء، تظهر الأم والإبن كمحورين لمشهد الفقد. في اللاوعي الجمعي، ثمة دائماً ذلك الرابط المقدّس بين الأم وابنها، سواء في المسيحية، أو في الميثولوجيا القديمة حيث كانت الديانات تستعيد صورة "الأم الإلهة" و"الابن المخلّص"، بتمثيلات وطرق مختلفة. لكن، إلى جانب صورة الأم المكلومة، برز نوع آخر من الحداد: حداد على علاقة فنية استثنائية جمعت فيروز بزياد. في تلك العلاقة، لم يكن زياد مجرّد امتداد لمدرسة الرحابنة، بل كان صوتاً خاصاً، اصطدم بإرث والده، وجادل صورة والدته، وغيرّ مسارها الفنّي. لم يتعامل زياد مع فيروز كرمز لا يمسّ، بل كمغنية يملك صوتها قابلية التعبير عن أبعاد لم تُلامسها من قبل. حرّكها من موقع الأيقونة، إلى امرأة تغنّي عن الخوف، عن الخيبة، عن الحبّ المتعثّر، عن هشاشتها، عن رغبتها بالانعتاق من صور الحبّ التقليدي. هذا التحوّل لم يكن صوتياً أو تقنياً أو موسيقياً فقط. في نظر كثيرين، كان لحظة إعادة تعريف لصوت فيروز. جعله أقرب، أكثر عرضة للانكسار، بدون أن يفقده هيبته. لم تكن تلك الأغاني مجرّد تجريب موسيقي. أعاد زياد رسم ملامح فيروز، ووسّع حدودها. وفي الوقت نفسه، رسّخ مكانته كملحّن مختلف، صاحب مشروع فني مستقل، في أعمال مثل "كيفك إنت"، و"بلا ولا شي"، و"كبيرة المزحة". هكذا، في حضورها المهيب أمام نعشه، بدت فيروز وكأنها تنهي مع زياد، أغنيتهما الأخيرة معاً.


BBC عربية
منذ 2 أيام
- BBC عربية
كيف أثّر فن وفكر زياد الرحباني بأجيال متعاقبة؟
احتشد محبو زياد الرحباني صباح اليوم، أمام المستشفى الذي فارق فيه الحياة أول من أمس، لإلقاء نظرة أخيرة على نعشه، قبل التوجه لتشييعه في مسقط رأسه. الدعوات إلى التجمع أتت بمبادرة من أصدقائه، دون الإعلان عن أي تشييع شعبي منظّم أو حداد رسمي من قبل الحكومة. وسادت على وسائل التواصل الاجتماعي مطالبات بإعلان يوم التشييع يوم حداد رسمي، بقيت من دون استجابة. لبنان يودّع زياد الرحباني أحد أبرز أقطاب الفن العربي الحديث زياد في ذاكرة الأجيال استطاع زياد الرحباني أن يحفر أعماله الموسيقية والمسرحية والإذاعية، في ذاكرة أكثر من جيل. هناك أجيال عرفته وحفظت مسرحياته بدون مشاهدتها، وحافظ على مكانته الفنية لدى الناس، من أولى أعماله حتى آخرها، وردّدت جمل زياد وعباراته كأنها أمثالاً شعبية. مكانة زياد لدى محبيه، والإجماع على حبّ أعماله الفنية، صنعهما زياد بعيداً عن انتمائه إلى عائلة الرحابنة، وتحديداً منزل السيدة فيروز وزوجها الموسيقار عاصي الرحباني. فرغم الجدل والانقسام القائم حول أفكاره ومواقفه السياسية وآرائه الحادّة والصريحة للغاية، تمكن الرحباني عبر فنّه من خلق هذا الإجماع، ومن أن يحافظ على هذه المكانة من جيل إلى جيل. الموسيقي الشامل والعالمي وُصف زياد بالثائر على إرث الأخوين الرحباني الموسيقي (عاصي ومنصور)، لكنه لم ينكر يوماً فضل هذا المنزل على موهبته، قال إنه في الموسيقى، ورث عن عاصي كلّ شيء. فيمكن العثور على صوت وأسلوب الرحابنة في ألحانه الأولى مثل "سألوني الناس" و"قديش كان في ناس". في مرحلة لاحقة، يمكن القول إنّ زياد خرج من عباءة الرحابنة بشكل كامل، فكان التجديد جلياً في الألحان والكلمات والمسرحيات. ورغم الانتقادات التي وُجهت له مع بداية تلحينه وكتابته لوالدته فيروز، بعد وفاة والده عاصي، إلا أنّ لزياد فضل في اختزال المسافة بين فيروز والأجيال الجديدة. لحّن زياد الكثير من الأنماط الموسيقية المختلفة، من الطرب الشعبي اللبناني والمصري إلى الموسيقى الكلاسيكية والفانك والجّاز، الذي ترك فيه بصمته الخاصة جداً، منذ بداية الثمانينيات. كما لحّن أناشيد دينية وأناشيد سياسية وثورية، وكتب كلماتها. كان واقعياً إلى أبعد تقدير، حتى في أغانيه الرومانسية. هذه الواقعية في اختياره لكلمات أغانيه ونصوصه هي ما ميّزه عن الرحابنة الآخرون. تحوّلت أغنية "بحبك بلا ولا شي" إلى نوع من دعوة إلى علاقة حب طبيعية لا اصطناع فيها، ولا تبرّج ولا حتى ملابس: "ولا فيه بهالحب مصاري، ولا ممكن فيه ليرات، ولا ممكن فيه أراضي، ولا فيه مجوهرات". وفي ألبوم "مونودوز"، عاتبت إمرأة زياد حبيبها على رسالة حب فيها الكثير من المبالغات، فقالت "ما منيحة الرسالة ولا الحب الخيالي". وثار زياد حتى على الأغنية الوطنية التي تميّز بها الرحابنة، وعلى الفولكلور التي تجدّد مع عائلته. كتبت عنه نيويورك تايمز عام 1988، مقالاً تناول موسيقاه في الجاز تحت مسمى "الجاز الشرقي". هذه التسمية سقطت لاحقاً، وأصبح كل ما يؤلفه أو يعيد توزيعه، مصنّف تحت اسم "موسيقى زياد الرحباني". موسيقى زياد ليست مجرد لقاء بين آلات غربية وشرقية. ويصعب تصنيفه في لون محدد عند سماع مقطوعات مثل "أبو علي"، "ميس الريم"، "بالنسبة لبكرا شو"، "هدوء نسبي" والتي لا تشبه واحدة منها الأخرى. بعد إعلان وفاته، كتبت عن رحيله نيويورك تايمز مرة أخرى، وواشنطن بوست ولوموند الفرنسية وصحف ومواقع عالمية أخرى. أمراض داخلية مزمنة في الأغنية السياسية، انحاز زياد بوضوح للعدالة الاجتماعية وللأفكار اليسارية. انتقد السياسي، لكنه انتقد أيضاً المواطن الفرد والمواطنين الجماعة. كلامه في السياسة رافقه تشريح للمجتمع. هاجم الطبقات السياسية والسلطة والأحزاب والمسؤولين مع توجيه نقد ساخر إلى المجتمع الذي خرج من رحمه هؤلاء. كان سياسياً في موسيقاه وفي أعماله حتى في نشاطه وموافقه. لم يوفر أحداً من النقد، لا اليمين اللبناني الذي هاجمه بشدة قبل وخلال الحرب الأهلية، ولا اليسار التقليدي الذي انتقده، أو اليسار الليبرالي والأحزاب الدينية. أفكاره السياسية كانت دافعاً في ترك منزل والديه وانتقاله إلى القسم الغربي من بيروت – كانت بيروت مقسومة خلال الحرب إلى شرقية وغربية – حيث التنوع السياسي يشمل الأحزاب اليسارية والقومية والإسلامية. كل طرف سياسي أراد أن يكون زياد منه وله. كان قريباً جداً من الحزب الشيوعي اللبناني، يشارك في احتفالاته السنوية ويقدم له الأناشيد والأغاني ثم ابتعد عنه وانتقده في الإعلام. ناصر حزب الله لا سيما بعد حرب عام 2006، وعاد وانتقد تعامل الحزب مع الملفات الداخلية ولاسيما المعيشية منها. انتظر منه السوريون كلاماً مع انطلاق انتفاضتهم على النظام في 2011، وحين تكلم هاجموه وخاصموه. لم يعلّق زياد أو يظهر أيضاً في المظاهرات التي طالبت بإسقاط النظام اللبناني عام 2019. إذ كان زياد قد الأمل في إحداث أي تغيير إيجابي في النظام اللبناني منذ مسرحية "فيلم أمريكي طويل" في بداية الثمانينيات. في كلمات واحدة من أغاني هذه المسرحية، "راجعة بإذن الله"، التي يتحدث بها عن عودة الحرب، يقول "بلد ظابط متل ما هو هيدا هو هيدا ياه، باسم الأب وباسم الله". وفي أغنية أخرى يقول "قوم فوت حلام أنه بلدنا صارت بلد، هي مش بلد...". كرّر هذه الأفكار لاحقاً في جميع لقاءاته التلفزيونية والإذاعية. وفي بعض أعماله الإذاعية الخاصة، بقي مصرّاً على أنه لا أمل في لبنان. تهكّم في احدى الحلقات الإذاعية، قائلاً إنه قام بالإبلاغ عن أحدهم، لأنه ما زال متمسكاً بالأمل، داعياً إلى "عدم ترك هؤلاء بيننا". يصف ذلك أيضاً في مقطوعة موسيقية منذ الثمانينيات بعنوان "أمراض داخلية مزمنة"، قاصداً لبنان، البلد الذي يعاني من مشاكل لن تنتهي بحسب زياد. كان زياد بمثابة جرس الإنذار الوحيد بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، دائم التشاؤم، محذراً من عودة الحرب في أي لحظة، وواصفاً "الحرية" التي يتغنى بها اللبنانيون مقارنة بدول عربية، بأنها "فوضى وليست حرية". كان زياد أيضاً معارضاً شديداً للمشاريع الاقتصادية التي ظهرت أعقاب انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. مسرحيات نسمعها ونحفظها دون أن نشاهدها واكب جيل السبعينات والثمانينات مسرحيات زياد عند عرضها، وتحديداً نزل السرور (1974)، بالنسبة لبكرا شو (1978) - تناول خلالهما الأوضاع قبل الحرب الأهلية - و فيلم أميركي طويل (1980) وشي فاشل (1983)، اللتان تناولتا الحرب وعرضتا خلالها. وعرف أكثر من جيل هذه الأعمال وحفظها وتفاعل معها من خلال سماعها مسجلة فقط. هذه القدرة على نقل أعمال مسرحية من جيل إلى آخر من خلال الصوت فقط، تفرّد بها الرحابنة، وخاصة زياد، وتحديداً مع جيلين ولدا خلال الحرب وبعدها. كتب زياد هذه المسرحيات وأخرجها ووقف ممثلاً على خشبة المسرح في دور البطولة. مسرحيات اجتماعية وسياسية ساخرة، تحولت مقاطع عديدة منها إلى نكات وعبارات يستخدمها اللبنانيون بشكل عفوي وتلقائي في يومياتهم. في "نزل السرور" (1974)، توقّع انفجار الوضع، واندلعت الحرب الأهلية اللبنانية بالفعل بعد عام فقط على عرضها. في "بالنسبة لبكرا شو" (1978)، ركّز على الوضع الاقتصادي الذي سيدفع باتجاه الحرب. في "شي فاشل" (1983)، صوّر اللبنانيون وكأنهم فريق عمل مسرحي غير متجانس، لا يمكنهم التعايش مع بعضهم البعض حتى كذباً. مسرح ما بعد الحرب بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار، أخرج عملين مسرحيين، هما "بخصوص الكرامة والشعب العنيد " 1993، و"لولا فسحة الأمل" 1994. عملان بلغة مسرحية جديدة ومختلفة عن أعماله السابقة، لم يعجبا قسم كبير من جمهوره. كان زياد يتحدث في بداية التسعينيات عن ما يجري بعد العام 2000. بعد العام 2005، استعاد المشاهدون مقاطعاً من هذه الاعمال وكأنها تعكس واقعاً تنبأ فيه الرحباني. هنا تحدث زياد عن مجتمع ما بعد الحرب في لبنان، وتحوّل دوره من مواطن إلى ضابط أمن، يحاول جاهداً السيطرة على الوضع في الشارع، والحفاظ على صورة "السلم الأهلي". في ملحق خاص نشرته مجلة "الآداب" الفكرية عن زياد الرحباني، وصفته بـ"صائد التحولات والانكسارات". في أول مقابلة تلفزيونية طويلة أطلّ فيها زياد الرحباني في جزئين مع الزميلة الراحلة جيزال خوري على قناة محلية عام 1997، تعرّف جيل ما بعد الحرب على شخصية الموسيقى والمسرحي الذي صمدت أعماله من خلال الكاسيت والإذاعة. بعض الاتصالات التي كان زياد يتلقاها خلال الحلقة، كانت من مواطنين يسألونه عما سيجري، وإن كانت الحرب ستعود أم لا؟ إلى جانب المسرح والموسيقى، أطلّ زياد خلال الحرب الأهلية اللبنانية، على إذاعة "صوت الشعب"، في أعمال إذاعية ساخرة وناقدة، عرض من خلالها يوميات الحرب، "العقل زينة"، "بعدنا طيبين قولوا الله"، و"تابع لشي تابع لشي". تحوّلت هذه الأعمال إلى صور لذكريات عاشها اللبنانيون يومياً في حرب أهلية دامت نحو 15 عاماً. كما أظهرت هذه الأعمال الوجه العنيد لزياد، المشاكس والمشتبك مع جميع الأحزاب والميليشيات والقوى اللبنانية وغير اللبنانية المسيطرة على الأرض. لم يعد زياد إلى المسرح كاتباً ومخرجاً بعد منتصف التسعينيات، بسبب عدم توفر تمويل أو منتج، كما قال في أكثر من مقابلة، وأحياناً لأنه لم يكن يعلم عن ماذا سيكتب. واجه زياد العديد من الانتقادات، بسبب فكره السياسي وأحياناً للاعتراض على عمل موسيقي أو مسرحية، لكنّ ذلك لم يزحزح مكانته، ولا الإرث الفني الكبير والمتنوع الذي يمثّله. لم يكن زياد بحاجة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، لتواكبه الأجيال الجديدة، لم يملك يوماً أي حساب على أي منصة. إلا أنّ وسائل التواصل الاجتماعي لطالما كانت تضجّ بعباراته الساخرة وبمقاطع من مسرحياته وأغانيه عند أي مناسبة أو حدث يذكّر بكلامه. هذه ميزة في فنّ زياد، الموسيقي والمسرحي والساخر الآتٍ من زمن ما قبل الحرب، ومن جيل الأسطوانة والكاسيت والإذاعة، والذي صمد فكره وأعماله رغم كل هذه التحولات.


BBC عربية
منذ 2 أيام
- BBC عربية
فيروز تتلقى العزاء في نجلها ولبنان يودع زياد الرحباني
انطلقت مراسم تشييع الفنان المسرحي والموسيقي اللبناني الكبير زياد الرحباني الذي توفي السبت عن 69 عاما، فيما ظهرت والدته الفنانة فيروز في الكنيسة أثناء المراسم برباطة جأش لافتة وهي تودع نجلها وسط حضور فني وشعبي كبير. يمكنكم مشاهدة الحلقات اليومية من البرنامج الساعة الثالثة بتوقيت غرينيتش، من الإثنين إلى الجمعة، وبإمكانكم أيضا الاطلاع على قصص ترندينغ بالضغط هنا.