
إفريقيا الجائعة.. حديقة واشنطن الخلفية
في 9 يوليو الجاري، استضاف ترامب خمسة رؤساء أفارقة في «غداء عمل» بالبيت الأبيض، ركّز على ما سمّاه «الفرص التجارية» التي قد تعود بالنفع على الطرفين. لكن حتى هذا اللقاء، الذي بدا احتفاليا في ظاهره، لم يخلُ من دلالات مثيرة للقلق. فمن حيث الشكل، لم يكن الغداء جزءا من استراتيجية شاملة لانفتاح أميركي جديد على إفريقيا، بل بدا كمبادرة انتقائية، أشبه بـ«تسوّق سياسي» يروم صفقات معدنية وتجارية، في محاولة واضحة لمنافسة الصين على كعكة القارة.
لقد أزال ترامب الستار عن النفاق المعتاد في الدبلوماسية الأميركية. فوزير خارجيته ماركو روبيو صرّح بوضوح أن واشنطن ستتخلى عن «نموذج المساعدات الخيرية»، وستتعامل فقط مع الدول التي تُظهر «القدرة على مساعدة نفسها». وبعبارة أخرى: لا حديث بعد الآن عن حقوق الإنسان أو الحكم الرشيد أو دعم الديمقراطية. المهم هو عدد الصفقات التجارية التي ينجزها السفراء، لا عدد المدارس أو مراكز الصحة التي تفتتحها المعونة الأميركية.
وبينما قد يرحّب بعض القادة الأفارقة بهذا النهج، ويجدون فيه راحة من الضغط الأخلاقي الأميركي، إلا أن الصورة الكبرى تفضح استخفافا هيكليا بالقارة. فاختيار الضيوف في غداء ترامب لم يكن نتيجة اعتبارات استراتيجية متوازنة، بل أقرب إلى المزاجية السياسية. فبعضهم، كان موجودًا في واشنطن أصلاً. وآخرون، لا تربطهم مصالح تُذكر بواشنطن، بل يواجهون تحديات داخلية تجعل من الدعوة دعما ضمنيا لشرعيات هشّة.
وفي هذا السياق، تبرز قضية ذلك البلد الإفريقي الصغير بوصفها نموذجا للفوضى في الرؤية الأميركية. لا توجد سفارة أميركية هناك، ولا مصالح اقتصادية تُذكر، لكن رئيسها تلقّى دعوة مميزة للبيت الأبيض، رغم أن شرعيته محل شك قانوني، بعد تأجيل الانتخابات. الرسالة الضمنية واضحة: واشنطن لا تُمانع في دعم زعماء شرعيتهم مهزوزة، ما داموا قادرين على على التعايش مع الصلف الأميركي وامتصاصه.
ولعل ما يُظهر حقيقة العلاقة الأميركية–الأفريقية أكثر من أي شيء، هو فرض الولايات المتحدة رسوما جمركية قاسية على دول إفريقية لا تستورد ما يكفي من السلع الأميركية. ليسوتو، الدولة الصغيرة التي تعتمد على تصدير الألماس والملابس، تعرضت لعقوبة اقتصادية لمجرد أنها تعاني من عجز تجاري مع أميركا. أما جنوب إفريقيا، فقد تلقت تهديدات مباشرة من ترامب بسبب عضويتها في مجموعة «بريكس»، ورفعت واشنطن سيف الرسوم بنسبة 30 % على صادراتها، في رسالة تنذر بعقوبات أوسع قد تطال دولًا أخرى كإثيوبيا ومصر.
وإذا كانت واشنطن قد حاولت من قبل التقليل من مخاوفها بشأن نفوذ الصين وروسيا في إفريقيا، فإن الوقائع اللاحقة كشفت العكس. فالإدارة الأميركية أضحت تعترف بأن نشاط بكين وموسكو يُهدد مصالحها في القارة. الصين، التي ضخت مئات المليارات في مشاريع الطاقة والبنى التحتية، تُتهم من قبل واشنطن بمحاولة تقويض النظام الدولي وتعزيز مصالحها الضيقة. أما روسيا، فتُقدَّم كقوة زعزعة، تستخدم الشركات العسكرية الخاصة لنشر الفوضى وتعظيم مكاسبها في الفراغات الأمنية.
وتزداد خيبة واشنطن حين تنظر إلى مواقف القارة السياسية. فمعظم دول إفريقيا رفضت إدانة الهجوم الروسي على أوكرانيا، ما يُفسَّر كصفعة دبلوماسية للغرب. وبينما تضخ الصين استثمارات تفوق 50 مليار دولار سنويا، وتُبرم مئات الصفقات مع عشرات الدول، لم تستثمر أميركا سوى 22 مليارا في 80 شركة خلال الفترة نفسها. بل إن الصين عقدت قمة ضخمة في 2006 مع 35 رئيسا إفريقيا، لا تزال واشنطن عاجزة عن مجاراتها في الزخم والحضور.
ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تحافظ على وجود عسكري مُنظّم في إفريقيا، رغم غياب الصراعات الساخنة المباشرة على نمط الشرق الأوسط. فقيادة «أفريكوم»، التي أُسست عام 2008، تُشرف على العمليات العسكرية الأميركية في 53 دولة، بما يعكس قناعة أميركية بأن القارة لا يجب أن تترك فارغة أمام الآخرين، حتى إن لم تكن أولوية سياسية أو اقتصادية.
وفي خضم هذا التدافع نحو القارة – من الشرق والغرب – يبرز سؤال يطعن في عمق الخطاب التنموي الدولي: هل ستستفيد إفريقيا من هذا التزاحم على مواردها؟ أم أنها تظل فريسة نَهَمٍ استعماريٍّ بثوبٍ جديد، تؤدي فيه الأنظمة الفاسدة دور الوسيط المُطيع؟ الإجابة المؤلمة أن الحديقة الخلفية قد لا تُزهر، ما دام من يُمسك بمقصِّ التقليم لا يريدها أن تنمو أصلا.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
حرب غزة ونهاية الحداثة
ربط عدد هذا الصيف من مجلة "فورين بوليسي" بين نهاية الحداثة وبين التحولات الكبرى في ديناميكيات القوة العالمية والعلاقات الدولية، حيث ننتقل من حقبة ما بعد الحرب الباردة إلى التعددية القطبية، لكن هذه الديناميكيات كانت مصحوبة أيضًا بتفكك المعايير التي تشكلت بعد الحرب الثانية (1939-1945)، وفي مقدمتها حقوق الإنسان. من المؤكد أن عصر حقوق الإنسان، وخاصة كمبدأ أساسي في السياسة الخارجية لرئاسة الولايات المتحدة، على وشك الانتهاء. ويعزى هذا التحول في المقام الأول إلى الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب، والتي كانت تهدف إلى فك السياسة الخارجية عن حقوق الإنسان، على عكس التقليد الذي استمر خلال الإدارات السابقة، بما في ذلك فترة ولاية ترامب الأولى. يركز نهج ترامب على العلاقات القائمة على المصالح بين الدول والنظام العالمي القائم على القوة العسكرية والاقتصادية، مع عدم لعب "مجتمع القيم" أي دور. الجديد الذي تشير إليه المجلة هو أن التزام الولايات المتحدة بحقوق الإنسان العالمية قد لا يستعيد الإجماع السياسي الذي كان يتمتع به ذات يوم، حتى بعد رئاسة ترامب. وعلى الرغم من ذلك، فإن الخطاب الأميركي حول الأهداف الأخلاقية غالبًا ما تناقض مع توظيفه الفعلي للقوة والمال في الخارج. وتُعتبر الإجراءات العسكرية التي اتخذها رؤساء مثل جورج دبليو بوش وباراك أوباما وجو بايدن، والتي أدت إلى ضحايا وإصابات كبيرة جدًا (قدّر مشروع جامعة براون عدد ضحايا الحرب على الإرهاب 2001-2021 بأكثر من 4.5 ملايين)، بمثابة تناقض مع فكرة "العصر الذهبي" لحقوق الإنسان. وبالإضافة إلى هذا كانت حماية حقوق الإنسان للمهاجرين في الولايات المتحدة محدودة بالفعل، وأصبحت أكثر تقييدًا في ظل إدارات مختلفة، مما يشير إلى استمرار المعاملة القاسية بدلًا من تغيير مفاجئ في عهد ترامب وحده. غزة هي التجسيد الحي لـ"نهاية عصر حقوق الإنسان"، ولا يُعزى هذا إلى حدثٍ فردي، بل إلى مزيجٍ من الخيارات السياسية، وتطبيق معايير مزدوجة، والتلاعب المتعمد باللغة والأطر القانونية، مما جعل مبادئ حقوق الإنسان الأساسية "غير شرعية وغير فعّالة". إن استعداد الشخصيات السياسية والفكرية الغربية المؤثرة "للموافقة على إبادة غزة ومذبحة سكانها وتجويع أهلها، إلى جانب اضطهاد السكان في الضفة الغربية، قد خلق فجوة هائلة في النظام الأخلاقي العالمي". يتجلى هذا بوضوح من خلال الاعتقاد بأن حياة المدنيين الفلسطينيين أقل قيمة "بمئات المرات" من حياة الإسرائيليين، ويتم رفض الدعوات لوقف إطلاق النار لحماية الأطفال باعتبارها معاداة للسامية. نهاية الحداثة يشير مفهوم "نهاية الحداثة" إلى أزمة توجه، حيث تنهار الأطر التقليدية لفهم التقدم والمجتمع والحكم والعلاقات الدولية، مما يؤدي إلى حالة كبيرة من عدم اليقين ويجعل من الصعب رسم مسار مستقبلي. يستكشف المؤرخ كريستوفر كلارك مفهوم "نهاية الحداثة"، ويرى أن هناك أزمة تتكشف "أمام أعيننا – وفي رؤوسنا أيضًا"، مما يشير إلى أن الحداثة تتفكك. وفقًا لكلارك، فإن العصر الحديث، الذي استمر من نهاية الحرب العالمية الثانية حتى حوالي 1989-1990، قد انتهى وبتنا نشهد انهيار الأطر التقليدية. لكن كيف انهارت الأطر التقليدية لفهم التقدم والمجتمع والحوكمة؟ ميزة العدد أنه جمع في إجابته بين: المداخل الثقافية والتطورات المجتمعية ودورها في تشكيل ديناميكيات القوة الدولية، كما أنه استطاع أن يربط بين المستويات كافة، وطنية وإقليمية ودولية، في صعيد واحد يرسم به التحولات التي تحدث في العلاقات الدولية، وبروز التعددية القطبية، والدور الذي تلعبه القضايا الثقافية والمجتمعية في تشكيل المشهد الجيوسياسي، بالإضافة إلى علاقة هذا كله بالتطورات داخل الكتل الإقليمية والدول الأخرى. تشير المجلة إلى أن هذا التفكك يؤثر على كيفية إدراك الناس للتاريخ والتنمية الاقتصادية والتماسك الاجتماعي والأنظمة السياسية. لعدة عقود بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة في أوروبا، شهدت فترة من "السلام الدائم" و"النمو الاقتصادي"، بدعم من الولايات المتحدة. لقد عزز هذا العصر الشعور بالوصول إلى "نقطة الذروة في تطور تاريخي طويل"، والوقوف على "أرض الحداثة المرتفعة". وقد تجسد هذا المنظور في مفاهيم مثل "نهاية التاريخ" لفرانسيس فوكوياما، مما يشير إلى أن التقدم التاريخي قد وصل إلى نهايته. كانت الحداثة، خلال هذا الوقت، مدعومة بـ"أسطورة" محددة و"سرد عظيم" يضع الناس في الوقت المناسب ويوفر إحساسًا بالاتجاه. وقد تضمنت هذه الرواية عددًا من المكونات منها: التقدم: الاعتقاد بأن المجتمع يتجه نحو زيادة الديمقراطية، والمساواة الكبرى، وظهور الأسرة النووية، وتراجع التدين، وتغلغل قانوني أعمق، ودول دستورية تحرر الأفراد من علاقات القوة الشخصية. نشر المعلومات: حيث يتم نشرها في المقام الأول من خلال "قنوات الإعلام المؤثرة" و"الصحفيين المدربين"، بدلًا من الكلام الشفهي ومروجي الشائعات. الرخاء الاقتصادي: حيث يوجد رابط مباشر بين زيادة الرخاء والنمو الاقتصادي. القيم العالمية: تم اعتبار عالمية حقوق الإنسان والمزايا الجوهرية لنموذج مجتمعي ليبرالي ديمقراطي محدد أمرًا لا غنى عنه. كان التفاؤل الذي أعقب تفكك الكتلة الشرقية وإنشاء دولة ألمانية جديدة سلميًا 1989 و1990 قصير الأجل. أدت سلسلة من "الكوارث" اللاحقة، بما في ذلك انهيار الاتحاد السوفياتي، والحروب المختلفة، والأزمات المالية وأزمة الهجرة العالمية، إلى تحول عميق، كما أن "النمو المذهل" غير المتوقع للصين في ظل نظام الحزب الواحد تحدى أيضًا الافتراضات السائدة حول النظام العالمي. إعلان وقد أدى هذا إلى نهاية "عصر ما بعد الحرب الباردة" وظهور "التعددية القطبية"، و"تفكك الحداثة" أمام أعيننا – وفق ما أشار إليه كلارك. تتلاشى الهياكل التقليدية مثل وسائل الإعلام الوطنية، والأحزاب السياسية كمرسيات للهوية، والنمو كمبدأ أساسي. الأحزاب السياسية القديمة تتفكك إلى "فصائل محاصرة"، وتتنازل عن نفوذها للشعبويين، ويكافح "الوسط السياسي الضعيف ضد اليسار الراديكالي واليمين المتطرف". ولم تعد "سردية التنمية" (التاريخ العالمي كرواية تكوينية) توفر الرفاهية. ينظر الآن على نطاق واسع إلى النمو الاقتصادي على أنه "كارثي بيئيًا". إن التهديد الوشيك لتغير المناخ "يثير تساؤلات حول طبيعة المستقبل". ويُنظر إلى الرأسمالية نفسها على أنها "تهديد للتماسك الاجتماعي"، وأدت إلى تفاوتات في الفرص والدخول والثروات بين الدول وفي داخل الدول أيضًا. وأدت الأزمات الأخيرة، مثل الأزمة المالية العالمية وجائحة كوفيد-19، إلى "تقويض الثقة" بشكل خطير في المؤسسات المالية والهيئات الحكومية والخبرة العلمية ووسائل الإعلام التقليدية. كما أدت الإبادة الجماعية في غزة إلى تقويض الثقة في التنظيم الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وما صاحبه من قواعد وتقاليد. وهناك انقلاب في الإعلام، حيث استولى "مروجو الشائعات"- على الإنترنت- على زمام المبادرة من الصحفيين المحترفين، مما أدى إلى "تشظي المعرفة والآراء" و"الاستقطاب المتعمد"، كما أدى الذكاء الاصطناعي إلى موت المؤلف. هذه الأزمة "داخل عقولنا أيضًا"، مما يجعل "التأمل الهادئ" صعبًا وسط "صرخات المعركة وحجج الديماغوجيين المتوحشين". وفي الولايات المتحدة، هناك ما يُتصور أنه "نشر عدواني للسلطة الرئاسية"، ويُخشى أن يشبه النظام الملكي، وهو انحراف عن نيّة المؤسسين في فصل السلطات. إن تصرفات الرئيس ترامب، مثل تهديد المعارضين، وتسليح الأموال الفدرالية، وتحدي الأوامر القضائية، والتشكيك في الدستور، تشير إلى انحراف عن الأعراف التاريخية والبنية الدستورية الأساسية. إن "الكونغرس ذا الأغلبية الجمهورية شديدة التحيز الحزبي" والذي يُظهر ولاءً شديدًا لترامب، يُفاقم مخاطر هذه "الرئاسة الإمبراطورية". توضح المقارنات التاريخية، مثل قرار ريتشارد نيكسون عام 1971 بتعليق تحويل الدولار إلى ذهب، كيف يمكن لأفعال زعيم أن "تقلب النظام النقدي العالمي رأسًا على عقب"، مما يؤدي إلى فترات من التضخم المرتفع وعدم الاستقرار الاقتصادي. وتوجد مخاوف أيضًا من أن سياسات ترامب المتعلقة بالرسوم الجمركية قد تُحدث ديناميكيات سلبية مماثلة. إن العصر الحالي يتميز بالتعددية القطبية، بدلًا من الاستقرار ثنائي القطب في فترة الحرب الباردة أو القطبية الواحدة بعدها، ويشمل ذلك انسحاب الولايات المتحدة من الالتزامات الدولية والعلاقات المتوترة مع الشركاء التقليديين، مما يؤدي إلى اتباع نهج قائم على المصالح في التعامل مع العلاقات بين الدول بدلًا من نهج قائم على القيم المشتركة. لقد ظهرت قوى إقليمية جديدة، تؤكد هيمنتها في مجالات اهتمامها، وهو ما يذكرنا بالقرن التاسع عشر الذي لم يكن يمكن التنبؤ بأحداثه. ومع حالة عدم اليقين التي تسود حال التغيرات الكبرى، عادة ما نلجأ لمقارنة الحاضر بالماضي، أو نستخدم القياس التاريخي لعله يساعدنا في فهم ما نتعرض له من تغيرات في أوقات الاضطرابات والتغيير. عندما لا يكون هناك إحساس واضح بالاتجاه، تساعدنا القياسات التاريخية على مواجهة القلق الحالي والتغلب على "أزمة التوجيه". إنها توفر طريقة لفهم العالم، وربط الحاضر بالماضي وجعل المواقف غير المألوفة تبدو أكثر ألفة. على سبيل المثال، تم استدعاء الحروب الصليبية، أو ما أطلق عليه مؤرخونا حروب الفرنجة، بالإضافة إلى الحقبة الاستعمارية الغربية لفهم التوحش الإسرائيلي المدعوم غربيًا. وعلى الرغم من أهمية هذه التشبيهات التاريخية، فإنها لم تسعفنا في فهم طبيعة هذه الهجمة المعاصرة التي تكتسب طبيعتها من عوامل وهياكل جديدة، ولها تأثيرات مختلفة. يشير أحد مقالات العدد إلى أن القياسات التاريخية تعتبر أدوات فكرية قيمة يمكنها المساعدة في رسم خريطة الخيارات التي يواجهها صناع السياسات. إنهم يملؤُون عالم صنع القرار بشخصيات وتفاصيل تاريخية، مما يجعل الخلافات المعقدة أكثر وضوحًا للعامة. ومع ذلك، هناك خطر يتمثل في أن صناع السياسات قد يختارون بشكل انتقائي القياسات التي تتناسب مع معتقداتهم الحالية، مما قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات خاطئة. أحد أدوار القياسات التاريخية هو خلق شعور بالهوية والاتجاه. لقد خلق "العصر الحديث" أساطيره الخاصة، وهي قصة ساعدت الناس على تحديد موقعهم في الوقت المناسب، وفهم من أين أتوا وإلى أين يتجهون. إن النظر إلى الماضي يمكن أن يساعد في رسم مسار نحو المستقبل، فهو بمثابة إطار معرفي لفهم التحولات الجارية، لكنه لا يكفي وحده لرسم إستراتيجيات التأهب الممكنة للتعامل معها. خطورة النظر التاريخي وحده أنه قد يتحول إلى نبوءات مستقبلية تستدعي التاريخ بالرغم من أن التاريخ لا يكرر نفسه. في الواقع الجيوسياسي الحالي، الخوف أن تحل فينا القياسات التاريخية محل رؤى المستقبل باعتبارها الوسيلة الأساسية لمواجهة هذا التوحش غير المسبوق. يختار صناع السياسات وكثير من مثقفينا هذه القياسات بشكل انتقائي، مما قد يشكل فهمهم للأزمات ويؤثر على القرارات ومنظور التحليل، وأحيانًا ما تكون له "عواقب وخيمة". في المقابل، فلا يزال عدد من مثقفينا عالقين في حقبة الحداثة، يبشرون بصبحها الذي لم يتنفس على أوطاننا، ومتماهين مع أسئلتها وقضاياها، ولم يستطيعوا أن يتقدموا خطوات ليتحرروا من طريقة التفكير التي هيمنت عليهم لعقود. وعلى الرغم من أن منطق القياسات التاريخية يقلل إلى حد كبير من المركزية الغربية حين يجعلها أكثر تجذرًا في مجموعة متنوعة من التواريخ الوطنية، فإن هؤلاء المثقفين تسيطر عليهم هذه المركزية، ولا يرون مستقبل أوطانهم إلا فيها ومنها. على سبيل المثال، بينما قد ينظر البعض في الغرب إلى أزمة النظام الدولي الحالية على أنها عودة إلى الفاشية، قد يُنظر إليها في الصين على أنها النهاية الحاسمة لـ"قرن الإذلال" الذي عاشوه، بينما هؤلاء المثقفون ينظرون إلى سبب هزيمتنا أو نكبتنا الثانية أننا لم نحقق الحداثة التي تفككت.


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
"ريفييرا غزة" و"السيادة الإسرائيلية في الضفة" يناقشها الكنيست بجدية
نظمت القوى اليمينية في الكنيست يوم الثلاثاء منتدى سياسيا عرضت فيه خطة "متكاملة" لتهجير أهالي قطاع غزة وإسكان 1.2 مليون يهودي مكانهم، من أجل إنشاء "ريفييرا غزة"، تحقيقا لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ويوم الأربعاء عرضت الوزيرة الليكودية غيلا غملئيل خطة جديدة لإعادة إعمار قطاع غزة بعد تهجير أغلبية أهله وتوطين يهود هناك. وتأتي هذه النشاطات في إطار الحمى الاستيطانية التي أصابت المجتمع الإسرائيلي مؤخرا، والتي من بين أبرز مظاهرها تعاظم الدعوات لفرض السيادة اليهودية ليس فقط في غزة وإنما كذلك في الضفة الغربية. وبدأت اليوم الأربعاء في الكنيست، وفي آخر يوم قبل بدء العطلة الصيفية التشريعية، مناقشة مشروع فرض السيادة على الضفة الغربية. ومن الواضح أن الائتلاف اليميني الحاكم، الذي كان يأمل "تصفية الحسابات" وإقرار قوانين جوهرية، يجد نفسه في جلسته الأخيرة دون أغلبية أو سيطرة، لكن ذلك لم يمنعه من محاولة التصويت على قرار إعلاني بشأن فرض السيادة على الضفة الغربية. ويقود هذا القرار أعضاء من الائتلاف والمعارضة، على حد سواء، يحاولون جهد استطاعتهم تطويق أي فرص مستقبلية لاستئناف العملية السياسية ومنع التعامل مع خطط محتملة لتنفيذ حل الدولتين. ويقف إلى جانب هذا القرار الإعلاني أغلب أعضاء الكنيست من "الليكود" و"شاس" و"إسرائيل بيتنا" وحزبي سموتريتش وبن غفير. ولم يلتزم بتأييد مشروع القرار الحريديم من حزب "يهدوت هتوراه"، لأنهم أعلنوا موقفا يعارض التصويت إلى جانب الحكومة قبل الاتفاق على قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية. عودة الأجندة القومية وينظر كثير من أعضاء الكنيست ومن قادة اليمين إلى أن التصويت على مشروع القانون هذا حتى بصيغته الإعلانية "تصويت على قرار تاريخي"، إذ ينص مشروع القانون على أن "يهودا والسامرة"، وهو الاسم الذي تطلقه إسرائيل على الضفة الغربية، "جزء لا يتجزأ من الوطن التاريخي للشعب اليهودي". ويقولون إن هذا التصويت ليس سوى إعادة لقضية السيادة في هذه المنطقة "إلى الأجندة القومية". ووفق ما أوردت صحيفة "معاريف"، فإن مشروع القرار ينص على أن هذه المناطق "جزء لا يتجزأ من الوطن التاريخي للشعب اليهودي"، ويدعم تطبيق القانون الإسرائيلي على هذه المنطقة كجزءٍ من الرؤية الصهيونية والسياسة الأمنية، لا سيما في ضوء التغييرات التي طرأت منذ هجوم 7 أكتوبر. ورغم الطابع الإعلاني للمقترح، وغياب أي وضع قانوني ملزم أو تغيير فعلي في السياسات، فإنه يُثير صدى سياسيا، لا سيما بين أحزاب الائتلاف. وقد أعلن العديد من الوزراء وأعضاء الكنيست دعمهم لهذه الخطوة، بمن فيهم وزير العدل ياريف ليفين، والوزراء يوآف كيش، وإيلي كوهين، وميري ريغيف، وأعضاء من التيار الصهيوني الديني. وكتب ليفين على صفحته بفيسبوك "سيصوت الكنيست على قرار تاريخي لصالح السيادة الإسرائيلية على يهودا والسامرة. سأكون هناك وأصوت لصالحه". كما أكد حزب الصهيونية الدينية أيضا دعمه للمقترح، مشيرا إلى أنه "قرار تاريخي يدعم تطبيق القانون الإسرائيلي في يهودا والسامرة". مقدمة للضم عموما وكما تم التوافق يوم الأربعاء، فإن التصويت في الواقع ليس على مشروع قانون متكامل وإنما على اقتراح لجدول الأعمال ليس له من الناحية القانونية أي صفة ملزمة. وهو واقعيا لا يغيّر الوضع القانوني للضفة الغربية، لكنه يقدم الأساس القانوني وإعلان نوايا للخطوات التالية التي يطمح اليمين بفرضها، وهذا بطبيعة الحال نوع من المقدمة للضم الزاحف الجاري حاليا على الأرض. وسبقت هذه الجلسة حملة واسعة من مجلس المستوطنات حول فرض السيادة الإسرائيلية تتضمن لوحات إعلانية ضخمة وتوقيع عرائض من جانب وزراء وشخصيات إسرائيلية وأميركية عامة. وبرز بين الأميركيين المؤيدين لهذه الخطوة ديفيد فريدمان الذي كان في عهد بايدن سفيرا لأميركا في تل أبيب، وقد سبق لفريدمان أن أعلن أن فرض السيادة الإسرائيلية هو "الحل الأمثل للجميع. وهم حل الدولتين انتهى بعد 7 أكتوبر ولن يعود أبدا.. هذه فرصة نادرة لا ينبغي تفويتها. يهودا والسامرة وُعد بها اليهود من الله". ويعمل المستوطنون في الضفة الغربية على تفكيك اتفاق أوسلو عبر سلسلة من عمليات الاستيطان من جهة، والحث على عودة الجيش لاحتلال مواقع داخل المدن الفلسطينية من جهة أخرى. ومن أبرز ما يتطلعون إليه حاليا إخراج "قبر يوسف" في محيط نابلس من المنطقة "أ" التي تخضع للسيطرة الإدارية والأمنية للسلطة الفلسطينية، وتحويلها إلى منطقة "ج" التي تسيطر عليها إسرائيل أمنيا وإداريا. وقد جمعت عرائض وتواقيع عشرات من أعضاء الكنيست لإعادة سيطرة الجيش الإسرائيلي على هذا الموقع. "ريفييرا غزة" وفي مثل هذه الأجواء عُقد في الكنيست يوم الثلاثاء أول مؤتمر تحت شعار"ريفييرا غزة-من الرؤيا إلى الواقع" الذي عرض المنظمون فيه "نماذج اجتماعية وقانونية لترسيخ سيطرة يهودية دائمة على القطاع". وقد عُرضت في المؤتمر خطة "عملية" ومفصلة لتجديد الاستيطان اليهودي في جميع أنحاء قطاع غزة. وخلال المؤتمر، زعم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش أن "رئيس الأركان أبلغني قبل أسبوع بضرورة ضم الحدود الشمالية لقطاع غزة من منظور أمني". وحضر المؤتمر، الذي عُقد في قاعة بالكنيست، "وزراء وأعضاء كنيست ورؤساء مجالس ومهنيون ومعاهد بحثية". وأفادت وسائل الإعلام أن "المشاركين قدموا خططا تنفيذية وُضعت في الأشهر الأخيرة، تتضمن نماذج لوجيستية وقانونية وأمنية واجتماعية لإقامة سيطرة يهودية دائمة على قطاع غزة". ويحظى مؤتمر "ريفييرا غزة" بأهمية خاصة في هذا الوقت بالذات الذي تتعاظم فيه الانتقادات لإسرائيل والإدانات لسياسة التجويع والإبادة الجماعية التي تنتهجها في غزة. كما أن سياسة تهجير السكان تُناقَش في المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها جريمة حرب موصوفة. ومع ذلك أعلن سموتريتش في المؤتمر "سنحتل غزة"، وأن لدى إسرائيل الآن فرصة "لإعادة توطين" سكان غزة. وعرضت في المؤتمر خطة صاغتها حركة "نحلة" الاستيطانية، ودعمها أعضاء الكنيست، تتضمن احتلال غزة بالكامل، وإنشاء شريط من الفنادق على طول الساحل، و"مدينة متطورة تكنولوجيا"، ومساحات زراعية واسعة، كل ذلك مع إخلاء السكان الفلسطينيين بالكامل. كما عُرضت على الحاضرين مخططاتٍ ورسوماتٍ لغزة تحت السيطرة الإسرائيلية. ووفقا لمعدي الخطة المُقدمة في المؤتمر، سيعيش 1.2 مليون يهودي في قطاع غزة، وسيتم نفي جميع سكان غزة، سواءً أرادوا ذلك أم لا. الوجود المدني الدائم وكتبت الصحف الإسرائيلية أن الرؤية المركزية المُقدمة هي عودة الاستيطان اليهودي إلى غزة، "ليس فقط لأسباب أيديولوجية، بل أيضا بهدف ضمان الأمن القومي والاستقرار الاقتصادي وركيزة أساسية للبنية التحتية للدولة". ويؤكد المخططون أن الوجود المدني الدائم سيشكل جدارا دفاعيا ويمنع عودة الإرهاب، ويزعمون أن الطموح هو تحويل القطاع من بؤرة صراع إلى منطقة حيوية للحياة والابتكار والسياحة. وبموجب الخطط المعروضة سيتم إنشاء مدينتين مركزيتين، واحدة في شمال القطاع وأخرى في جنوبه، بتخطيط حضري متقدم، يضم حوالي 300 ألف وحدة سكنية ومليون نسمة. وإضافة إلى ذلك، سيتم إنشاء جامعة ومراكز أبحاث في مجالي الزراعة والشؤون البحرية، والتي ستُدرّب ما يصل إلى 25 ألف طالب، بجانب حديقة تكنولوجية متطورة تغطي 4800 دونم، ستوفر آلاف فرص العمل في مجالات المعرفة والتكنولوجيا. وعدا ذلك سيتم إنشاء قطاع سياحي على طول الساحل يضم فنادق وقرى سياحية وأنشطة رياضات مائية وبنية تحتية للسياحة الدولية. وسيتم تخصيص جزء كبير من الأرض، حوالي 77,000 دونم، للزراعة الذكية مع التركيز على الصادرات والابتكار الزراعي والبحث. كما تشمل الخطة أيضا تطويرا حول وادي غزة، الذي سيتم دمجه في مساحات خضراء ومسارات للمشي لمسافات طويلة ورياضات وسياحة بيئية. خطة غملئيل واليوم الأربعاء أيضا أعلنت وزيرة العلوم والابتكار غيلا غملئيل، التي كانت سبّاقة في إعداد خطة رسمية لتهجير سكان قطاع غزة عرضت بعد أيام فقط من 7 أكتوبر، ما أسمتها "خطة غملئيل ترامب" للهجرة الطوعية من غزة. وحسب موقع "والا"، فإن خطتها تستند إلى فكرة ترامب بإنشاء ريفييرا ومدينة سياحية عامرة بالحياة "مثل تل أبيب"، ولكن يعيش فيها عرب ويهود. وقد عرضت الخطة بطريقة فيديو أُعِد عبر الذكاء الاصطناعي، تظهر فيه غزة المستقبل، حيث يعلن نتنياهو وترامب وغملئيل تفاصيل الخطة، ثم تُعاد بناء غزة كمدينة سياحية نابضة بالحياة تُذكرنا بتل أبيب، وتُقدم تعايشا مُبهجا بين اليهود والعرب في المدينة الجديدة التي سيتم بناؤها. ومن غير الواضح ما إذا كانت الخطة تتوافق مع رسائل مؤتمر "ريفييرا غزة"، أو مع الإدارة الأميركية. تجدر الإشارة إلى أن كل المشاريع التي تُطرَح تعبّر عن توق قوي لدى الحكومة الإسرائيلية لتهجير سكان قطاع غزة من جهة وفرض السيادة على الأرض الفلسطينية بأسرها. وربما لهذا السبب كان أكثر من معنى لما نشر قبل أيام من زيارة رئيس الموساد ديفيد برنيع إلى واشنطن لمناقشة أمر حث أميركا على تشجيع عدة دول بينها إندونيسيا وليبيا والسودان ودول أفريقية وأخرى أميركية لاتينية لاستقبال فلسطينيين ضمن ما يُسمى بـ"الهجرة الطوعية". ويدور الحديث هنا عن تهجير مليوني فلسطيني من قطاع غزة أو على الأقل ثلثي سكان القطاع. كما أن هناك صلة بين كل هذه المسائل وما يتكرر إعلانه من جانب حكومة نتنياهو عن نيتها إنشاء ما يسمى بـ"المدينة الإنسانية" كمحطة لتهجير الفلسطينيين لاحقا. وتصطدم خطط التهجير الطوعي بعوائق قانونية، لأن القانون الدولي لا يراها سوى هجرة قسرية بعد أن أبادت إسرائيل في قطاع غزة كل مقومات الحياة، وبعد أن أعلنت رسميا نيتها تحقيق هذه الهجرة قسرا أو طواعية.


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
كثرة المتعلمين ربما تُسقط الحضارة الغربية .. مؤرخ أميركي يتنبأ بالفوضى المقبلة
في صيف عام 2010، نشر بيتر تورشين، عالم البيئة الروسي المولد الذي قرر التحول إلى مؤرخ، تنبؤًا غريبًا ومثيرًا في مجلة "نيتشر" العلمية. استند الرجل في ورقته البحثية إلى مجموعات بيانات ونماذج رياضية تبدو غامضة، مدعيًا أن المجتمع الأميركي سيشهد موجة دراماتيكية من التوتر السياسي والاجتماعي في وقت ما حوالي عام 2020. مرّ كلام تورشين مرور الكرام على دوائر السياسة وصناع القرار، ولم يُعره أحد اهتمامًا يُذكر. بعد 10 سنوات وبضعة أشهر، وفي يناير/كانون الثاني 2021، وبينما كانت قنابل الغاز تتساقط في ساحة "لافاييت" بقلب العاصمة الأميركية واشنطن، مستهدفة أنصار الرئيس الأميركي الخاسر في الانتخابات حينها دونالد ترامب ، الذين كانوا يحاصرون مبنى الكابيتول (مقر الكونغرس)، فيما عُرف بتمرد السادس من يناير، بدا تحذير تورشين نبوءةً صادقة بشكل مخيف. تورشين لم يعتبر نفسه نبيًا يوحى إليه، لكن المتابعين رأوا صعود ترامب تأكيدًا لما قاله، ورأوا في اقتحام مبنى الكابيتول اعترافًا بمصداقية الأدوات التحليلية والنماذج الرياضية التي استخدمها للتنبؤ. إنه عالم، وما يمارسه هو العلم الذي أطلق عليه اسم "ديناميكيات التاريخ" (Cliodynamics)، وهو تخصص يتعامل مع التاريخ باعتباره نظامًا فيزيائيًا، يخضع للرياضيات، وتحكمه دورات، وتؤثر فيه حلقات التغذية الراجعة، وتميزه نقاط التحول. فقد قال تورشين في مقابلة عام 2023 مع بودكاست "التبسيط العظيم" (The Great Simplification): "إننا الآن في وضع حساس للغاية.. إن فردًا واحدًا فقط يُمكنه دفع المسار إما إلى حرب أهلية فوضوية، وإما إلى الإصلاح والتجديد". لكن إذا كان تورشين قد تنبأ بهذه القلاقل، فماذا عن تنبؤاته الأخرى؟ والسؤال الأهم، هل يسير التاريخ بهذه الدقة الرياضية بالفعل؟ وإن كان كذلك، فما الذي نحتاج أن نعرفه عن أدواته؟ وهل يمكننا استخدامها للتنبؤ بمستقبلنا أيضًا؟ إعلان تورشين وصعود ترامب وانهيار الحضارة يمثل بيتر تورشين، عالم العلوم المعقدة ورائد علم "الكليوديناميكس"، الذي صاغ المصطلح عام 2003 لأول مرة، شخصية محورية في مجال تخصصه الذي يُعنى بفهم الديناميكيات التاريخية للمجتمعات والدول. يصف تورشين الشخصيات -مثل دونالد ترامب- بأنهم نماذج كلاسيكية لما يطلق عليها "النخب المضادة"، من حيث كونهم أفرادا يتمتعون بامتيازات عالية في مجتمعاتهم، لكن طموحاتهم تُحبَط بسبب تضخم النخب السياسية التقليدية، مما يدفعهم إلى التطرف وتعبئة الجماهير الذين يميلون إلى القوميات الوطنية لتحدي النظام القائم. كما ينظر إلى هذه " الشعبوية" التي يمثلها ترامب تحت شعار "أميركا أولا"، كنتيجة مباشرة لعدم المساواة في الثروة وتضخم النخب المسيطرة، وهي عوامل يسلط نموذج "الكليوديناميكس" الضوء عليها كمحركات للتفكُك المجتمعي والاضطرابات السياسية. وفقًا لتورشين، يُعد صعود شخصيات مثل ترامب ظاهرة ليست في ذاتها السببَ الجذري لعدم الاستقرار، بل إن هذا الصعود عَرَضٌ للمحركات الهيكلية الكامنة في المجتمع. يمثل ترامب نموذجًا "للنخب المضادة" التي تَظهر نتيجة للإفراط في إنتاج النخبة وإفقار الجماهير، والتي تستغل السخط الشعبي وعدم المساواة في الثروة لتحدي النظام القائم، فالولايات المتحدة تمر حاليًا "بمرحلة ممتدة من الانهيار المنهجي"، وتبدو فيها المعارك الانتخابية مجرد "معركة واحدة في حرب مستمرة" حيث تسعى النخب المضادة إلى إزاحة "الدولة العميقة" المتجذرة. ومع ذلك، فإن نجاح هذه النخب المضادة ليس مضمونًا، وقد تؤدي التوترات الأيديولوجية والشخصية داخل تحالفاتهم إلى تفككها. ويستدل على ذلك بالسوابق التاريخية، فالخروج من هذه الأزمات غالبًا ما ينطوي على عنف شديد، وحروب أهلية، وثورات، وفقدان كبير للأرواح، وتدهور اجتماعي واسع النطاق، مما يؤدي إلى "إعادة ضبط" الدورة المجتمعية. في كتابه "أزمنة النهاية" (End Times) المنشور عام 2023، بعد نهاية فترة ولاية ترامب الأولى، وقبل فوزه على الرئيس السابق جو بايدن ، يستخدم تورشين فترة ترامب لتوضيح كيف تتجلى الضغوط البنيوية الديموغرافية الكامنة في السياسة المعاصرة، حيث تستغل النخبة المظالم الشعبية والمشاعر القومية واليمينية المتنامية لتحقيق طموحاتها في السلطة، وبالتالي تحقيق أهداف ومشاريع سياسية متطرفة. أما مستقبلا، فيتوقع تورشين أن تستمر الاضطرابات ما لم تُتخذ إجراءات لمعالجة الأسباب الهيكلية الكامنة في سياسات السلطة، والتي يترأسها أمثال ترامب بكل ما يمثّل من ممارسات ليست مألوفة، في حين يعتمد المستقبل على مدى إدراك النخب الحالية للمخاطر النظامية، وهل ستتخذ إجراءات استباقية لإعادة التوازن المجتمعي، أم أنها ستواصل خلق الضغوطات التي ستؤدي إلى مزيد من الاضطرابات، وربما إلى انهيار الحضارة كما نعرفها. المسار الغريب لبيتر تورشين يتميز المسار الفكري لتورشين بغرابة منهجه، تمامًا كنظرياته. وُلد في الاتحاد السوفياتي عام 1957، وهو ابن عالم الكمبيوتر المنشق فالنتين تورشين، وهاجر إلى الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي. في الأصل، درس تورشين ليكون عالم أحياء ورياضيات، وبنى مسيرته المهنية في نمذجة ديناميكيات أعداد الحشرات. ولكن في حوالي عام 2000، مر بما يسميها "أزمة منتصف العمر الفكرية"، فانطلق نحو السؤال الطموح: لماذا تنهار المجتمعات؟ منحته دراسته وخلفيته المتنوعة منظورًا متعدد التخصصات، من خلاله، يرى المجتمعات البشرية كأنظمة معقدة قابلة للتحليل الكمي، وهو يتولى حاليا منصب أستاذ بجامعة كونيتيكت الأميركية، كما تركز اهتماماته البحثية على منحنيات التطور التاريخي، وعلم الاجتماع التاريخي الكلي، والتحليل الكمّي للتغيرات الاجتماعية على المدى القريب والبعيد. وقد نشر كثيرًا من المقالات في مجلات علمية محكّمة، بالإضافة إلى تأليفه بضعة كتب، أحدثها كتاب "أزمنة النهاية" عام 2023، وهو أيضا يُدير مشروعا يستهدف توفير بنية تحتية لجمع وتحليل البيانات التاريخية للأمم بشكل منهجي، مما يدعم النتائج التجريبية التي تستشرف تلك التغيرات والتطورات التي تحدث في المجتمعات، كما يدعم عبر قاعدة بياناته الضخمة إمكانية تطبيق هذا المنهج الكمي على التاريخ الإنساني. يقول تورشين: "كان التاريخ هو التخصص الوحيد الذي لم يُحلل رياضيًا". وبناء على المبادئ الدقيقة لعلم التعقيد (Complexity science)، بدأ تورشين بناء نماذج للإمبراطوريات والثورات بالطريقة التي قد يرسم بها عالم الأحياء خرائط لديناميكيات المفترس والفريسة. كانت النتيجة هي علم الكليوديناميكس، الذي يمكن ترجمته إلى الديناميكيات الكلية للتاريخ، وهو نهجٌ يعتمد على البيانات والمحاكاة لرصد إيقاعات التاريخ، بالاعتماد على سجلاتٍ تمتد لآلاف السنين. قد تكون تواريخ الحروب، أو سجلات الأجور، أو الإيرادات الضريبية، أو إحصاءات جرائم قتل سياسية، كل هذا يغذّي الآلة بأنماطٍ متوالية تُمكن العالم من رصدها والتنبؤ بمستقبلها. وأشارت النتائج إلى استنتاجٍ مثير: تمر المجتمعات بموجاتٍ -يمكن توقعها إلى حدٍ ما- من النمو، وعدم المساواة، وعدم الاستقرار، والانهيار. تستند نظريات تورشين إلى إرث فكري عميق، حتى لو لم تُصغ بنفس الطريقة أو تستخدم ذات الأدوات. ففي القرن 14 الميلادي، قدم ابن خلدون في كتابه "المقدمة" إحدى أقدم النظريات حول صعود الحضارات وانهيارها بشكل دائري. فقد رأى ابن خلدون أن الدول تنشأ في رحم العصبية (أي التماسك الاجتماعي)، وتزدهر مع الرخاء، ثم تبدأ بالاضمحلال عندما يقوّض الترف وحدة الجماعة، وهي أفكار تتناغم مع نموذج تورشين حول فائض النخب وتفاقم البؤس الاجتماعي. وحديثًا، رصد مفكرون -مثل أرنولد توينبي- إيقاع التحدي والاستجابة في الحضارات، بينما طوّر عالم الاجتماع السياسي جاك غولدستون نظرية ديموغرافية بنيوية في التسعينيات، حدَّد فيها الضغوط السكانية وتزاحم النخب كعوامل تؤدي إلى الثورات، وهي الأسس التي يستند إليها تورشين صراحةً. حتى جوزيف تاينتر، الذي ربط في دراساته حول انهيار المجتمعات المعقدة، بين فشل المجتمعات والعوائد المتناقصة على التعقيد المؤسسي، سبق تورشين في تحذيراته. لقد سعى هؤلاء المفكرون، عبر قرون وثقافات متعددة، إلى كشف الآليات الخفية التي تحكم صعود الحضارات وسقوطها، وهو التقليد الفكري الذي يحييه تورشين اليوم من خلال النماذج الرياضية، والبيانات التاريخية. خلافًا للمفكرين التاريخيين السابقين عليه، قدم تورشين علم الديناميكيات التاريخية الذي يهتم بتطبيق التحليل الإحصائي حيال التطور التاريخي للمجتمعات. ويفعل ذلك من خلال دمج علم الاجتماع التاريخي الكلي، بما يحوي من تمثلات ثقافية وسياسية واقتصادية، مع البيانات الرياضية للعمليات الاجتماعية طويلة الأمد. كل ذلك بهدف اكتشاف مبادئ ومرتكزات عامة تفسر عمل وتطور تلك المجتمعات عبر التاريخ. ومن خلال هذه الطريقة، يجعل من التاريخ علمًا تحليليًا يتجاوز السرديات والتأريخ الجامد، ليختبر الفرضيات بدقة مقابل البيانات التجريبية، ومن ثم يتنبأ بالتطورات التي ستحدث مستقبلا. هكذا يُعيد علم الكليوديناميكس تعريف الهدف من البحث التاريخي، من حيث وصف الأحداث الماضية، ومسبّباتها، مستندا إلى بنك بيانات ضخم، ومن ثم ينتقل إلى تحديد الآليات الكامنة التي يمكن أن تتنبأ بالتطورات المجتمعية المستقبلية، كما يسعى إلى "قوانين تاريخية" عالمية، وإن كان ذلك مع التحفظات بهدف مراعاة تباينات التطور الثقافي والسلوكي للمجتمعات، وللإجابة أيضا على أسئلة مثل: لماذا تحدث التطورات بطريقة نمطية؟ وماذا قد يحدث بعد ذلك في ظل ظروف مماثلة؟ هذا الطموح التنبؤي له تداعيات عميقة على صنع سياسات الأنظمة الحاكمة، كما له تداعيات حول سؤال: لماذا تصعد هذه الأنظمة من الأساس؟ وكيف نتجنب صعودها؟ لقد أظهرت تطبيقات الكليوديناميكس قدرتها على تفسير أحداث تاريخية سابقة، مثل انهيار الإمبراطورية الرومانية والثورات الأوروبية الصاعدة في القرنين 17 و19، وحتى الثورة المصرية عام 2011، من خلال تحليل كمي للبيانات التاريخية لتلك المجتمعات. كما استطاع تورشين تقديم رؤى حول "قصص النجاح" التاريخية، حيث تمكنت مجتمعات مثل الولايات المتحدة خلال العصر التقدمي، وهي فترة امتازت بالإصلاح السياسي (1897 – 1920)، وبريطانيا في فترة حركة الميثاقية، وهي كذلك حركة قادتها الطبقة العاملة من أجل الإصلاح السياسي في البلاد بين عامي 1838 و1848، كما في روسيا خلال إصلاحات ألكسندر الثاني بداية من عام 1961؛ تمكنت هذه المجتمعات من تجنب الثورات الكبرى وأحداث العنف من خلال سياسات إصلاحية استباقية. كما يُعد "بنك بيانات سيشات" أداة البحث الرئيسية لدى مدرسة تورشين، حيث تُجمع البيانات التاريخية التجريبية لاختبار التنبؤات النظرية حول استشراف التطورات الاجتماعية بما يشمل صعود وانهيار وتأزم المجتمعات، كذلك كيفية تفادي أو تأجيل أو الخروج من تلك الانهيارات، بالإضافة إلى معالجة الضغوطات التي تواجهها. كما يساعد "سيشات" في الإجابة على أسئلة رئيسية حول تطور المجتمعات البشرية المعقدة، ودورات الضغوط الاجتماعية، وسبب خروج بعض المجتمعات من الأزمات سالمة بينما تعاني أخرى. لكن، إلى أي أسس ومرتكزات نظرية تستند إليها مدرسة تورشين وعلم الكليوديناميكس؟ تاريخ العالم يتسق مع نظرياته "في الوقت الحاضر، قد تواجه الحضارة الغربية المصير ذاته نظرًا لوجود علامات واضحة على أزمات متنوعة، مثل اتساع فجوة التفاوتات الاقتصادية والانقسامات السياسية والصراعات العنيفة، فضلًا عن الكوارث البيئية. ويَعتبر بعض المتابعين أن ما يحدث مؤشر على أزمات عالمية متعددة تُشكل تهديدًا خطيرًا، ربما يكون وجوديًّا للمجتمعات المعاصرة".. هكذا وصف بيتر تورشين، تنبؤاته حول تصدّعات الحضارة الغربية، في مقال نشرته مجلة "نيو ساينتيست" في ديسمبر/كانون الأول 2023. يطبق تورشين إطاره المفاهيمي على سياقات تاريخية مختلفة، مثل فرنسا في القرن 14 الميلادي، والحرب الأهلية الإنجليزية بين عامي 1642-1651، وتمرد تايبينغ في الصين عام 1850، وروسيا ما قبل الثورة البلشفية عام 1917، ويرسم أوجه تشابه متعددة مع المناخ الحالي في الولايات المتحدة. ففي الحرب الأهلية الإنجليزية، أسهمت عوامل مثل تضخم النخب الدينية والعسكرية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية للشعب، وضعف السلطة الملكية، في تأجيج الصراع الذي أدى إلى انهيار النظام القائم. ومن أبرز الأمثلة في أبحاث بيتر تورشين هي الصين في أواخر عهد أسرة تشينغ، حيث أدى ازدهار التعليم إلى واحد من أدمى الصراعات في تاريخ البشرية، وهي ثورة تايبينغ (1850-1864). في صميم هذه الأزمة كان نظام امتحانات الخدمة المدنية، وهو نظام بيروقراطي عمره قرون، كان يختار المسؤولين على أساس الجدارة العلمية الكونفوشيوسية. ومع تزايد عدد السكان في القرنين الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، استثمرت المزيد من العائلات في تعليم النخبة، مما أغرق النظام بعدد هائل من المرشحين الطامحين. لكن عدد المناصب الرسمية بقي ثابتا نسبيا، مما أدى إلى فائض من الطامحين النخبويين المحبطين، وهم رجال تلقوا تدريبا نخبويا ولديهم طموحات عالية، لكنهم وجدوا أنفسهم بلا طريق نحو السلطة أو المكانة. يصف تورشين هذا الخلل بما يسميه "فائض النخب"، ويعتبره عاملا أساسيا في زعزعة الاستقرار. كثير من هؤلاء المتعلمين المحبطين أصبحوا راديكاليين مؤدلجين، وانضموا إلى الحركات المناهضة لأسرة تشينغ أو حتى قادوها. أحدهم كان هونغ شيوتشوان، الذي كان مرشحا خاسرا في امتحانات الدولة قبل أن يعيد تعريف هويته ليصبح "أخًا ليسوع المسيح"، وقاد ثورة تايبينغ التي أسفرت عن مقتل أكثر من 20 مليون شخص. في نموذج تورشين لم تكن هذه الانتفاضة دينية أو سياسية فحسب، بل كانت حتمية بنيويًّا بمجرد أنْ تجاوز فائض النخب قدرة النظام على الاستيعاب. شهدت أوروبا في العصور الوسطى ديناميكية مشابهة، لا سيما في إنجلترا وفرنسا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ففي إنجلترا، أدّى السلام الطويل إلى نشوء جيل من النبلاء والفرسان لم تعد هناك حاجة إلى خدماتهم العسكرية. ومع انخفاض عدد الحروب وفرص المناصب في البلاط الملكي، وجد أبناء النبلاء الأصغر سنًّا أنفسهم مهمّشين، فاتجه كثير منهم إلى الحروب الخاصة، أو افتعال الفوضى، أو الانضمام إلى الفصائل المتنافسة. بلغ التوتر ذروته في صراعات مثل حرب الوردة، وهي حرب أهلية نخبوية طويلة بين أسرتَيْ لانكاستر ويورك. وفي فرنسا خلال الفترة ذاتها، حدّ تركّز السلطة الملكية تحت حكم آل فالوا من نفوذ أمراء الإقطاع، رغم تزايد أعدادهم. وقد انفجر الغضب بين هؤلاء النبلاء المهمّشين في انتفاضات عنيفة مثل ثورة الجاكوري، ثم أسهم في إذكاء نيران حروب فرنسا الدينية لاحقا. في كلا البلدين، أصبحت الهرمية الاجتماعية ثقيلة في قمتها: عدد كبير من النخب، مقابل عدد محدود من المناصب النخبوية المتاحة. وتكمن بصيرة تيرتشين في أن ما حدث لم يكن فشلا أخلاقيا أو مجرد مصادفة، بل نتيجة نظامية ناجمة عن تفاعلات ديموغرافية ومؤسسية تراكمت عبر الزمن. ما يربط بين هذه اللحظات التاريخية وغيرها هو الضغط الناتج عن تجاوز أعداد الطموحين لعدد الفرص المتاحة، حين تُنتج المجتمعات عددا من الأفراد ذوي التطلعات النخبوية يفوق قدرة النظام على استيعابهم. هؤلاء الطامحون المحبطون يتحولون إلى ما يسميه تورشين النخب المضادة، وهم الأشخاص الذين يمتلكون التعليم، والعلاقات، والضغائن الكافية لتنظيم الاضطرابات السياسية. سواء في الصين في القرن التاسع عشر أو إنجلترا في القرن الخامس عشر، فإن هذه الديناميكيات تخلق تصدعات في النظام السياسي يمكن أن تنفجر في شكل ثورة، أو تمرد محدود أو حرب أهلية. وتكمن مساهمة تورشين في إظهار أن مثل هذه الأحداث ليست انفجارات عشوائية، بل تتبع إيقاعات بنيوية يمكن ملاحظتها وقياسها، وفي بعض الحالات يمكن التنبؤ بها. كما يستشهد تورشين باقتحام مبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني 2021 كحدث يؤكد جوانب مماثلة من تنبؤاته، فقد كان الاقتحام بمثابة مشهد ختامي لفترة رئاسية مليئة بعدم احترام المؤسسات الأميركية، والتفاف السُلطة والقرار حول شخص ترامب النرجسي. وما يُمكن ملاحظته أكثر هو تجلي هذه الممارسات والسلوكيات في الفترة الرئاسية الحالية لترامب. وتُعد الولايات المتحدة دراسة حالة مركزية، تقدم الأبحاث أيضًا أمثلة محددة للإفراط في إنتاج النخب وعواقبه في دول غربية أخرى مثل كندا وأستراليا. في أستراليا، ورغم تشجيع التعليم العالي، يذهب حوالي نصف الأجور في جامعاتها الكبرى للأكاديميين فقط، بينما يواجه العديد من الخريجين ديونًا كبيرة، مما يشير إلى مشكلات تتعلق بالإفراط في إنتاج النخب، وهي إشكالية أساسية في التفاف الثروة حول نخبة بعينها. أما كندا، التي تتمتع بأعلى نسبة من العمال ذوي التعليم العالي في مجموعة الدول الصناعية السبع، فتعاني بشكل متناقض من انخفاض الإنتاجية، وعدم تطابق كبير بين المهارات الأكاديمية ومتطلبات سوق العمل، وأدى ذلك إلى ارتفاع معدل البطالة بين الشباب ، وهو ما اعتبره بنك كندا "حالة طوارئ اقتصادية". يرى تورشين أن الفترة منذ سبعينيات القرن العشرين شهدت تضخما هائلا في التعليم، فقد تزايدت أعداد الشهادات الجامعية والعليا بشكل كبير، دون أن يواكب ذلك توفر وظائف ذات مكانة عالية، مما أدى إلى إيجاد فائض من النخب المحبطة. ويتزامن هذا مع ما يسميه "مضخة الثروة"، حيث أدت زيادة الإنتاجية إلى إثراء النخب، في حين ظلت الأجور على حالها بالنسبة لمستويات المعيشة وغلاء الأسعار، مما ترك الغالبية متخلّفة عن ركب الثراء. ويحذر تورشين من أن هذه الأنماط تزيد من احتمالات التفكك السياسي، حتى لو كان توقيت الانفجار الفعلي غير قابل للتنبؤ. نموذج تورشين يفسر صعود زهران ممداني في نيويورك في هذا السياق، يمكن اعتبار صعود زهران ممداني في سباق رئاسة بلدية نيويورك لعام 2025 نتيجة بنيوية للقوى نفسها التي وثّقها تورشين. فقد شكّل صعوده السريع، من مرشح بعيد بنسبة 1% في فبراير/شباط إلى فوزه في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي بنسبة 56%، دليلا على تصاعد المشاركة السياسية من قِبل مجموعات جديدة تمّت تعبئتها سياسيا. وتشمل هذه المجموعات الناخبين الشباب من حملة الشهادات الجامعية، وكثير منهم يمتلكون مؤهلات أكاديمية دون آفاق مهنية حقيقية -وهم مثال واضح على النخب الفائضة التي تحدث عنها تورشين- وقد التفّوا حول برنامج ممداني الذي يدعو إلى تجميد الإيجارات، والمواصلات المجانية، وزيادة الضرائب على الأثرياء. وبلغة تورشين فإن هؤلاء يمثلون طامحين نخبويين لم تتحقق تطلعاتهم عبر القنوات التقليدية للسلطة أو الاقتصاد. أما قاعدة دعم ممداني الشعبية فقد تكونت بالأساس من طلاب الجامعات المرموقة وخريجيها، والمجتمعات المهاجرة في الولايات المتحدة، ونشطاء من الطبقة المهنية المثقفة، وهي مجموعات تحمل طموحات نخبوية وتركّز على التغيير البنيوي للنظام. ويعكس دعمهم له ما وصفه تورشين بغضب الخاسرين، وهم أفراد يمتلكون مؤهلات أو تطلعات نخبوية لكنهم مستبعدون من الدوائر النخبوية التقليدية. وبالنسبة للعديد من الناخبين من أصول جنوب آسيوية، أو المسلمين، أو التقدميين في ظل صعود اليمين، شكّلت حملة ممداني بوابتهم إلى المشهد السياسي، فهي تتناغم مع رؤاهم بشأن الثروة وتوزيعها ومواقفهم المناهضة للمؤسسة. وتعكس تعبئة هذه المجموعات الفائض من النخب الواعية سياسيا التي تسعى إلى منافذ بديلة للتأثير والتمثيل. إن الهجوم المضاد من قِبل رجال الأعمال، والنخب السياسية التقليدية، وحتى حملات التشويه والإسلاموفوبيا ضد ممداني، كلها تُعد أمثلة حية على ما يتحدث عنه تورشين، إذ يشير الرجل إلى أن المنافسة الشديدة بين النخب، سواء كانت من أجل دعم رجال أعمال ضد آخرين أو ضد الجماهير، أو الحصول على التأييد، أو فرض الهيمنة الأيديولوجية، غالبا ما تؤدي إلى تفكك التماسك السياسي وتغذية الاستقطاب. وفي مدينة نيويورك، تعكس حالة القلق في الأوساط الاقتصادية والانقسامات داخل الحزب الديمقراطي كيف أن النخب التقليدية تقاوم أي فرصة وصول للوافدين الجدد إلى مراكز صنع القرار، مما يسهم في حالة من عدم الاستقرار السياسي. في حالة النخب العتيقة المناهضة لممداني، ظهر ذلك بجلاء خلال الأسبوع الماضي عندما قرر أندرو كومو، المرشح الديمقراطي الخاسر أمام زهران في الانتخابات التمهيدية، الترشح مستقلا على منصب العمدة، فهذه النخب لن تتوقف عن القتال حتى النهاية. إضافات تورشين النظرية لم تكن إضافة تورشين تتعلق بالأدوات فحسب، بل بالأفكار أيضًا. وتُعد النظرية البنيوية الديموغرافية (SDT) مساهمة تورشين الأساسية، وهي إطار مفاهيمي لفهم الضغوط الاجتماعية طويلة الأمد التي يمكن أن تؤدي إلى الاحتجاجات والثورات والحروب الأهلية، وغير ذلك من أحداث جماعية تؤدي إلى انهيار الدول والحضارات. تفترض هذه النظرية أن المجتمعات البشرية المعقدة تتكون من ثلاثة مكونات رئيسية متفاعلة وهي: السكان، والنخب، والدولة، وينشأ عدم الاستقرار من خلال شبكة التفاعلات المتبادلة بين هذه المكونات. تُظهر النظرية أن مؤشرات اجتماعية متباينة، مثل الأجور، والديون، ومستويات التعليم، ترتبط وتتفاعل مع بعضها، بل وتساهم في عدم الاستقرار السياسي. على سبيل المثال، يؤدي النمو السكاني السريع في الدول إلى التوسع الحضري وزيادة الاستهلاك، بما يضغط على الأجور ويزيد من إمكانية تعبئة الجماهير لعدم كفاية هذه الأجور لمتطلبات العيش الجديدة والمُتجددة، بفعل العيش في زمن الاستهلاك. في الوقت نفسه، يمكن أن يؤدي انخفاض الأجور للعامة إلى زيادة إيرادات النخب، بما يُسبب وفرة باهظة لدى تلك النخب، تساعد على زيادة المنافسة والصراع داخلها، وهو ما يُسبب عدم استقرار نظام الحكم. هذا الصراع، بالإضافة إلى استياء الشعب من الفجوات الطبقية التي تظهر وتتضح في كل التمظهرات العمرانية والاستهلاكية، يُضعف سلطة الدولة ويزيد من ضائقتها المالية الرسمية، بما يخلق حلقة مفرغة تؤدي إلى تآكل الثقة وزيادة الانقسامات المُجتمعية وحدوث الاضطرابات، وهذا يعني أن الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمن المجتمعي يتطلب نهجًا شموليًا يراعي المساواة بين كل هذه المكونات. وتُظهر أعمال بيتر تورشين الأخرى مسارًا ثابتًا لتطوير نظرياته وتحسينها من خلال تطبيقها على سياقات تاريخية متنوعة وتجميع البيانات التجريبية، مثل الديناميكيات التاريخية: لماذا تنهض الدول وتسقط؟ (2003)، وهو عمل تأسيسي سابق يقدم نماذج رياضية لشرح العمليات التاريخية، وهو بمثابة مقدمة عامة لأهداف وطرق علم الكليوديناميكس. وفي كتابه "الحرب والسلام والحرب.. صعود وسقوط الإمبراطوريات" (2006)، يستكشف تورشين ديناميكيات الدول الإمبراطورية ودور الحرب والتعاون في تطور المجتمعات. أما في كتاب "الدورات العلمانية"، فيدرس الدورات الديموغرافية البنيوية طويلة الأمد في المجتمعات ما قبل الصناعية، ويقدم أدلة تجريبية على الطبيعة الدورية للديناميكيات التاريخية. كما يقدم في كتابه "عصور الفتنة.. تحليل بنيوي ديموغرافي للتاريخ الأميركي" (2017)، تحليلا مفصلا لتاريخ الولايات المتحدة من منظور النظرية البنيوية الديموغرافية، ويُظهر دورتين من الارتفاع الحاد في مؤشر الإجهاد السياسي، بينما يقدم في كتابه "فهم الماضي" إحصائيات تاريخية واسعة، مؤكدًا على الأساس التجريبي والنظري لعلم الكليوديناميكس. يركز بيتر تورشين على أمثلة تاريخية مثلما حدث في فرنسا، بهدف توضيح دورات الازدهار والانهيار المجتمعي. ففي القرن 13 الميلادي، كانت الدولة الفرنسية مزدهرة، لكنها شهدت انهيارًا في خمسينيات القرن 14. كان هذا الانهيار مدفوعًا بصراعات داخلية بين الفصائل النخبوية، بالإضافة إلى النزاعات مع الإنجليز، مما أدى إلى مذابح متبادلة استمرت حتى معركة أجينكور الشهيرة عام 1415. تبع ذلك فترة ثانية من الانهيار حتى عام 1453، حيث بقي الجنود الإنجليز في فرنسا لنهب ما تبقى من ثروات الدولة. خلال هذه الفترة، انخفض عدد سكان فرنسا إلى النصف تقريبًا، ليصل إلى حوالي 10 ملايين نسمة، ما أدى إلى انخفاض عدد النبلاء، أي النخبة الرأسمالية بالمفهوم الحديث، بمقدار ثلاثة أرباع، مما أتاح المجال المجتمعي لبداية دورة جديدة من الاستقرار والنمو مرة أخرى، حيث إن الزيادة السكانية مع ارتكاز الثروة بيد نخبة قليلة، بالإضافة إلى تصارعها فيما بينها حول هذه الثروة، فضلا عن الصراع مع الإنجليز أو أي قوى خارجية، تُضعف الدولة وتمهد الطريق إلى انهيارها. يؤكد هذا التطور في كتابات تورشين وتعدد النماذج التي يرصدها، استمراريته في البحث عن التكامل النظري. ففي "الديناميكيات التاريخية" وضع الأساس النظري، وقدم "الدورات العلمانية" بهدف التحقق التجريبي، ثم طبق "عصور الفتنة" النظرية على تاريخ الولايات المتحدة، وأخيرًا قام في "أزمنة النهاية" بتوليف هذه النتائج لجمهور كبير، ما يوضح الالتزام بتوليد الفرضيات، والاختبار، والنشر العام، ويعزز من ادعاء أهمية علم الكليوديناميكس وتأثيره على صناعة السياسات التي تحكم المجتمعات والدول معًا. لكنه لم يسلم من الانتقادات شهد علم الكليوديناميكس دعمًا متزايدًا في المجتمع العلمي خلال العقدين الأخيرين، مما أدى إلى إطلاق مجلته الأكاديمية الخاصة " Clio Dynamics: The Journal of Quantitative History and Cultural Evolution " في عام 2010. لكن، ورغم الدعم، انتقد العديد من المؤرخين والباحثين من ذوي التخصصات المتباينة، نظريات وكتابات تورشين ومدرسته النظرية، وغالبًا ما كانت ردود أفعالهم سلبية تجاه التغطية الصحفية الشعبية المثيرة التي حظيت بها أعماله. ويشبّه الكثيرون منهم أسلوب تورشين بالتنجيم! كما تشمل مخاوفهم من صحة البيانات لفترات زمنية واسعة، وإمكانية حصر الأحداث التاريخية في سرد دوري مادي محض، ولذلك هو يلقى مقاومة من المتخصصين لنماذج تخصصاتهم، والذين لا يؤمنون بحتمية تكرار التاريخ لذاته، والذين قد ينظرون إلى "النظريات الكبرى للتاريخ" بتشكك بسبب الإخفاقات السابقة. في المقابل، يجادل المؤيدون بأن النموذج البنيوي الديموغرافي قد أثبت قدرته على تقديم تفسيرات جيدة لحالات تاريخية كثيرة من التمرد والثورة. برزت تجربة تورشين مع استقبال تنبُئه في عام 2010، حول الاضطرابات التي ستحدث في الولايات المتحدة، والتي لم تحظ باهتمام كبير إلا بعد أحداثٍ مثل 6 يناير/كانون الثاني 2021. يشير هذا النمط إلى "مشكلة كاساندرا"، ما يعني تجاهل التحذيرات الدقيقة في البداية، ليس من التشكك الأكاديمي فحسب، ولكن أيضًا من تردد نفسي أو سياسي في مواجهة الحقائق غير المريحة حول هشاشة المجتمعات وقابليتها للانهيار والتفكك. ورغم ادعاءاته العلمية، يحمل علم الكليوديناميكس دلالة معيارية قوية، كما يوفر أدوات للمجتمعات لتجنب الانهيار، مما يشير إلى ضرورة أخلاقية كامنة للعمل على منع الكوارث، إذ تمنح تلك الأدوات ونتائجها فرصا لتجنب -أو على الأقل تأجيل- الحروب الأهلية والثورات والانهيارات المجتمعية، كما تتضمن التحديات والاتجاهات المستقبلية للمجال اكتساب قبول أوسع، وتحسين النماذج، وتعزيز "بنك بيانات سيشات". كذلك، يهدف علم الكليوديناميكس إلى توفير رؤى سياسية لتجنب أو تخفيف الأزمات المستقبلية، بما يشير إلى أن المجتمعات يمكن أن تخرج من أزماتها سالمة "نسبيًا" من خلال إجراءات حازمة وموحدة من قبل النخب الحاكمة والإصلاحات السياسية. في النهاية، قدم بيتر تورشين مساهمات جوهرية في العلوم الاجتماعية من خلال ريادته لعلم الكليوديناميكس وتطويره للنظرية البنيوية الديموغرافية. ويبرز عمله المتجذر في خلفية متعددة التخصصات، إمكانية تطبيق المنهج العلمي على دراسة المجتمعات البشرية، ويسعى إلى تحديد الأنماط والدورات المتكررة التي تفسر صعود الحضارات وسقوطها. لا يدّعي تورشين معرفة كيفية إيقاف الثورة القادمة التي قد تُسقط حضارة ما، لكنّ لديه أفكارًا لما قد يأتي بعد تلك الثورة. فالمساءلة الديمقراطية، وإعادة توزيع الثروات، وضبط النخب، هي العوامل التي يراها في المجتمعات التي نجت من الانهيار. ولكن، قد تكمن موهبة تورشين الحقيقية في كيفية إعادة صياغة الزمن نفسه. وفي مواجهة صخب عناوين الأخبار المتلاحقة، يقدم تورشين رؤية بعيدة المدى، إذ يرى القرون لا السنوات، ويحلل الأنماط التاريخية، ولا ينقد السياسات الآنية.