
الحرب العالمية الثانية مستمرة حتى اليوم
نادراً ما تكون مسارات التاريخ منظمة أو واضحة. فالعصور تتداخل، وتستمر قضايا عالقة من فترة سابقة بالتأثير في ما يليها. وكانت الحرب العالمية الثانية حرباً لا مثيل لها من حيث مدى تأثيرها في حياة الشعوب ومصائر الأمم، فقد كانت مزيجاً من صراعات متعددة، شملت كراهيات عرقية وقومية تفاقمت بعد انهيار أربع إمبراطوريات، وإعادة رسم الحدود خلال مؤتمر باريس للسلام الذي أعقب الحرب العالمية الأولى. ورأى عدد من المؤرخين أن الحرب العالمية الثانية كانت مرحلة من حرب طويلة امتدت من عام 1914 إلى عام 1945، أو ربما امتدت إلى حين انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، أي إنها كانت حرباً أهلية عالمية، أولاً بين الرأسمالية والشيوعية، ثم بين الديمقراطية والديكتاتورية.
ومما لا شك فيه أن الحرب العالمية الثانية جمعت خيوط التاريخ العالمي [وحدت مسارات وأجزاء متعددة من التاريخ العالمي]، نظراً إلى امتدادها الواسع النطاق وتسريعها لنهاية الاستعمار في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. ومع ذلك، وعلى رغم مشاركة الجميع في هذه التجربة العالمية ودخولهم في النظام الذي بني بعدها، فإن كل دولة شاركت في الحرب نسجت سرديتها الخاصة عن هذا الصراع العظيم وتمسكت بها.
حتى مسألة نقطة بداية الحرب لا تزال موضع جدل. ففي الرواية الأميركية، بدأت الحرب فعلياً عندما دخلت الولايات المتحدة الصراع بعد الهجوم الياباني على بيرل هاربور خلال السابع من ديسمبر (كانون الأول) 1941، ثم إعلان الديكتاتور الألماني أدولف هتلر الحرب على الولايات المتحدة بعد أيام قليلة. وفي المقابل، يصر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن الحرب بدأت خلال يونيو (حزيران) 1941، عندما غزا هتلر الاتحاد السوفياتي، متجاهلاً الغزو السوفياتي والنازي المشترك لبولندا خلال سبتمبر (أيلول) 1939، الذي يمثل بداية الحرب بالنسبة إلى معظم الأوروبيين. ومع ذلك، يرى بعض أن بداية الحرب تعود إلى ما قبل ذلك. فبالنسبة إلى الصين، بدأت عام 1937 مع الحرب الصينية اليابانية، أو حتى قبل ذلك مع الاحتلال الياباني لمنشوريا عام 1931. وكثير من اليساريين في إسبانيا مقتنعون بأنها بدأت عام 1936 عندما أطاح الجنرال فرانسيسكو فرانكو بالجمهورية، مطلقاً شرارة الحرب الأهلية الإسبانية.
هذه الرؤى العالمية المتضاربة للتاريخ لا تزال تشكل مصدر توتر وعدم استقرار في السياسة العالمية. فبوتين ينتقي من التاريخ الروسي ما يناسبه، جامعاً بين تمجيد تضحيات الاتحاد السوفياتي في "الحرب الوطنية العظمى"، وهو الاسم الذي تعرف به الحرب العالمية الثانية في روسيا، وأفكار المنفيين من القياصرة الروس البيض الرجعية بعد هزيمتهم على يد الجيش الأحمر الشيوعي في الحرب الأهلية الروسية بين عامي 1917 و1922. وتشمل هذه الأفكار مبررات دينية للتفوق الروسي على كامل مساحة أوراسيا "من فلاديفوستوك إلى دبلن"، كما وصفها ألكسندر دوغين عراب بوتين الأيديولوجي، إلى جانب كراهية عميقة متجذرة لأوروبا الغربية الليبرالية. وبدأت مثل هذه الأفكار في الانتشار أيضاً داخل الدائرة المقربة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
لقد أعاد بوتين ترميم صورة الزعيم السوفياتي في زمن الحرب العالمية الثانية جوزيف ستالين الذي كان مسؤولاً مباشرة، كما قال الفيزيائي والمعارض السوفياتي أندريه ساخاروف، عن وقوع عدد من الضحايا والوفيات يفوق بالملايين الأعداد المنسوبة إلى هتلر. ويصل الأمر بالرئيس الروسي إلى حد الإصرار على أن الاتحاد السوفياتي كان بإمكانه الانتصار على ألمانيا النازية بمفرده، على رغم أن ستالين نفسه وغيره من القادة السوفيات اعترفوا سراً بأن الاتحاد السوفياتي لم يكن ليصمد لولا المساعدة الأميركية. كما أدركوا أن حملة القصف الاستراتيجية الأميركية-البريطانية ضد المدن الألمانية أجبرت الجزء الأكبر من سلاح الجو الألماني على العودة إلى الداخل من الجبهة الشرقية، مما منح السوفيات تفوقاً جوياً. والأهم من ذلك، يرفض بوتين الاعتراف بأهوال الحقبة الستالينية. وقد أخبرتني ماري سواميس، ابنة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل خلال عشاء عام 2003، بأن تشرشل سأل ستالين خلال لقاء غير رسمي في أكتوبر (تشرين الأول) 1944 عن أكثر ما يندم عليه الزعيم السوفياتي في حياته. فأخذ ستالين لحظة للتفكير قبل أن يجيب بهدوء "قتل الكولاك"، أي الفلاحين مالكي الأراضي. وقد بلغت هذه الحملة ذروتها في المجاعة المفتعلة داخل أوكرانيا بين عامي 1932 و1933، المعروفة بالهولودومور (أي الموت جوعاً)، التي تسبب فيها ستالين بمقتل أكثر من 3 ملايين شخص، مما أدى إلى زرع كراهية عميقة لموسكو لدى عدد من الناجين وذريتهم.
واستطراداً، أنتجت الحرب العالمية الثانية أيضاً توازناً غير مريح في الغالب بين أوروبا والولايات المتحدة. فطموحات هتلر للهيمنة أجبرت المملكة المتحدة على التخلي عن دورها المزعوم الذي نصبته لنفسها كشرطي العالم، واللجوء إلى الأميركيين طلباً للمساعدة. وكان البريطانيون فخورين حقاً بدورهم في تحقيق النصر النهائي للحلفاء، لكنهم حاولوا إخفاء مرارة تراجع نفوذهم العالمي من خلال ترديد عبارة مأثورة، مفادها أن المملكة المتحدة تمكنت من "لعب دور يفوق وزنها" [استطاعت ملاكمة خصم يفوق فئة وزنها أي إنها تفوقت على منافسين أقوى] في الحرب، ومن خلال التمسك "بعلاقتها الخاصة" مع الولايات المتحدة. وكان تشرشل قلقاً من احتمال انسحاب القوات الأميركية من أوروبا بعد نهاية الحرب في المحيط الهادئ عام 1945. وعلى رغم أن المواقف الأميركية ظلت تتأرجح بين الرغبة في لعب دور عالمي نشط من جهة، والانعزالية من جهة أخرى، فإن التهديد من موسكو ضمن بقاء واشنطن منخرطة بعمق في أوروبا إلى أن انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991.
اليوم، تدخل أول حرب قارية كبرى في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية عامها الرابع، مدفوعة جزئياً بقراءة بوتين الانتقائية للتاريخ الروسي، في حين تهدد النزاعات الدامية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى بالاتساع أكثر. وخلال الوقت نفسه، يبدو أن إدارة ترمب تتخلى عن دور الولايات المتحدة القيادي العالمي في لحظة من التخبط والارتباك. قبل 80 عاماً، مهدت نهاية الحرب العالمية الثانية الطريق لنظام دولي جديد قائم على احترام السيادة الوطنية والحدود. لكن الآن، قد يكون الوقت حان لدفع ثمن باهظ نتيجة التردد الأميركي، والتهاون الأوروبي، والنزعة الانتقامية الروسية.
أكثر من مجرد رقم
انطبعت القسوة المفرطة للحرب العالمية الثانية في ذاكرة أجيال عديدة. فقد كانت أول صراع حديث يقتل فيه مدنيون بأعداد تفوق أعداد المقاتلين بكثير. ولم يكن ذلك ممكناً إلا من خلال نزع الصفة الإنسانية عن العدو [تجريد الأعداء من إنسانيتهم] بدوافع أيديولوجية، من خلال القومية التي بلغت ذروتها والعنصرية التي روج لها على أنها فضيلة من جهة، وصراع الطبقات اللينيني الذي دعم إبادة جميع صور المعارضة من جهة أخرى (ومن اللافت أنه بعد الحرب، سعى الدبلوماسيون السوفيات إلى منع ذكر الصراع الطبقي، بما فيه القتل الجماعي الذي ارتكبه الاتحاد السوفياتي ضد الأرستقراطيين والبرجوازيين والفلاحين مالكي الأراضي، ضمن اتفاق منع الإبادة الجماعية التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1948).
في المجمل، لقي نحو 85 مليون شخص حتفهم في الحرب العالمية الثانية، ويشمل هذا الرقم أولئك الذين فارقوا الحياة بسبب المجاعة والأمراض. لقد قتلت ألمانيا النازية قرابة 6 ملايين يهودي، إلى جانب ضحايا آخرين، في الهولوكوست. وفقدت بولندا نحو خمس سكانها، أي ما يقارب أيضاً 6 ملايين شخص. أما الصين فقد فقدت أكثر من 20 مليوناً، معظمهم ماتوا جوعاً أو مرضاً لا في ساحات المعارك. وتراوح تقديرات عدد قتلى الاتحاد السوفياتي بين 24 و26 مليوناً، كثير منهم ماتوا دون داع. وكان ستالين عام 1945 مدركاً أن العدد تجاوز 20 مليوناً، لكنه لم يعترف إلا بثلث ذلك الرقم في محاولة لإخفاء حجم الكارثة التي تسبب بها لشعبه. وأشار ديفيد رينولدز، الباحث في العلاقات الدولية، إلى أن ستالين "استقر على رقم 7.5 مليون لأنه بدا بطولياً بما فيه الكفاية، من دون أن يكون إجرامياً بصورة صادمة".
لقد جمعت الحرب العالمية الثانية خيوط التاريخ العالمي معاً
لا يكفي أن نتذكر الضحايا الذين طمست هوية كثر منهم عمداً على يد قاتليهم. أما بالنسبة إلى الناجين، سواء كانوا أسرى حرب أو مدنيين محتجزين في المعسكرات، فقد غير الصراع حياتهم بطرق لا يمكن حصرها. وغالباً ما كان الضحايا الأوائل هم أولئك الذين استسلموا لمصيرهم. بينما كان الناجون على الأرجح هم أولئك الذين تمتعوا بعزيمة صلبة للعودة إلى عائلاتهم، والتمسك بمعتقداتهم، أو الشهادة على جرائم لا توصف.
لم يتمكن عدد من الجنود الأسرى الآخرين من العودة إلى ديارهم. فجنود الجيش الأحمر السوفياتي الذين جندوا قسراً في الجيش الألماني اعتقلوا وهم يرتدون الزي الألماني في فرنسا، وسلموا إلى الضباط السوفيات الذين أعدموا القادة المشتبه فيهم داخل الغابات قبل نقل البقية إلى الاتحاد السوفياتي. هناك، حكم على الجنود بالعمل القسري في الشمال المتجمد. وبعد أيام قليلة من استسلام ألمانيا، أمرت القوات البريطانية، في المنطقة الخاضعة لولايتها داخل النمسا، بتسليم أكثر من 20 ألف يوغوسلافي معاد للشيوعية إلى السلطات الشيوعية اليوغوسلافية، التي أعدمتهم ثم دفنتهم داخل مقابر جماعية. وسلمت القوات البريطانية إلى السلطات السوفياتية جماعات من القوزاق الذين كانوا مواطنين سوفيات لكنهم قاتلوا إلى جانب ألمانيا. ومن المرجح أن الحكومة البريطانية كانت تدرك المصير القاسي الذي ينتظر هؤلاء الجنود، لكنها خشيت أن يؤدي إطلاق سراحهم إلى احتجاز السلطات السوفياتية لأسرى الحرب البريطانيين الذين حررهم الجيش الأحمر في بولندا وشرق ألمانيا. كذلك، اعتقل الجيش الأحمر 600 ألف جندي ياباني شمال الصين ومنشوريا، وأرسلوا جميعاً إلى معسكرات عمل في سيبيريا، حيث ماتوا وهم يؤدون أعمالاً شاقة.
وعلى مدى عقود بعد الحرب، بقيت ذكراها حية في نفوس أولئك الذين عاشوها. فقد شكل النظام العالمي بعد الحرب على يد أجيال كان هدفها منع تكرار مثل هذه المأساة. لكن بالنسبة إلى أولئك الذين لم يعايشوا الصراع وينظرون إليه من زمننا الحاضر [بلا إحساس حقيقي بمعناه]، فقد يكون عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية مجرد رقم، إذ من الصعب استيعاب حقيقة موت عشرات الملايين. وفقدان هذا الرابط المباشر مع الماضي يعني فقدان العزيمة المشتركة التي حافظت، على مدار 80 عاماً، على سلام متواصل بين القوى العظمى، وإن كان غير مكتمل بصورة كبيرة [على رغم عيوبه].
القتالات التي لم تنته
لقد تركت الحرب العالم مكاناً مختلفاً تماماً. وفي الدول المتحاربة، لم تسلم من آثار الحرب إلا أرواح قليلة. وكثير من النساء اللاتي فقدن أزواج المستقبل في المعارك لم يتزوجن قط ولم ينجبن أطفالاً، بينما وجدت أخريات أن الرجال العائدين لم يتمكنوا من تقبل حقيقة أن النساء قد تولين إدارة كل شيء في غيابهم، مما جعلهم يشعرون بأنهم أصبحوا بلا فائدة. وفي الواقع، كان رد الفعل الأقوى في أوروبا القارية. ففي ألمانيا، علم رجال كانوا أسرى أثناء الحرب، للمرة الأولى عن حالات الاغتصاب الجماعي التي ارتكبتها في الغالب قوات الجيش الأحمر. وشعروا بالمذلة لأنهم لم يكونوا هناك للدفاع عن نسائهم، ولم يتمكنوا من تقبل فكرة أن النساء واجهن هذه الصدمة بالطريقة الوحيدة الممكنة، وهي الحديث عنها في ما بينهن. وفي فرنسا وغيرها من الدول التي احتلت، تساءل الرجال العائدون من معسكرات الاعتقال والعمل القسري في ألمانيا كيف تمكنت النساء، اللاتي لم يكن لديهن أي مصدر دعم، من البقاء على قيد الحياة، وبدأوا يشكون في علاقاتهن مع جنود العدو أو تجار السوق السوداء. ليس من المستغرب أن ردود الفعل هذه أدت إلى فترة من التراجع الاجتماعي استمرت خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الـ20.
استمر الصراع السياسي العنيف حتى بعد انتهاء الأعمال العدائية. وخلال أغسطس (آب) 1945، بعد وقت طويل من انتهاء القتال في المسرح الأوروبي، بدأ الاتحاد السوفياتي في إطلاق سراح الجنود الإيطاليين العاديين الذين أسرهم خلال الجزء الأخير من حملة دول المحور لاحتلال ستالينغراد. لكن هؤلاء الجنود أعيدوا إلى ديارهم من دون ضباطهم، لأن زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي كان قد ناشد موسكو تأخير عودة السجناء الأعلى رتبة، الذين قد يدينون الاتحاد السوفياتي علناً ويؤثرون سلباً على فرص الحزب في الانتخابات المقبلة. وتجمعت الجماعات الشيوعية في محطات القطارات داخل إيطاليا للترحيب بالجنود العائدين، ظناً منهم أنهم سيكونون أكثر تعاطفاً مع قضيتهم. لكنهم أصيبوا بالصدمة عندما رأوا أن الجنود كتبوا عبارة "أباسو كومونيزمو" abbasso comunismo، التي تعني فلتسقط الشيوعية، على عربات القطار، واندلعت الاشتباكات في المحطات. وصفت الصحف الشيوعية أولئك الجنود العائدين الذين انتقدوا الاتحاد السوفياتي بأي صورة من الصور بأنهم "فاشيون".
انطبعت القسوة المفرطة للحرب العالمية الثانية في ذاكرة أجيال عديدة
وأزيلت الحدود أو أُعيد ترسيمها أثناء الحرب وبعدها. ولم يعد كثير من النازحين يعرفون جنسياتهم. واقتُلعت أعداد كبيرة من السكان وأحياناً مدن بأكملها من جذورها، أو تعرضت للإجلاء أو القتل على يد القوات شبه العسكرية والشرطة السرية والقوات العسكرية. وخلال عام 1939، رحل البولنديون من الأراضي التي أصبحت فجأة جزءاً من غرب أوكرانيا إلى مناطق مهجورة في كازاخستان أو سيبيريا وتركوا هناك ليموتوا جوعاً. مدينة لفوف البولندية احتلها السوفيات مرتين والنازيون مرة واحدة، وأرسلوا يهودها إلى معسكرات الموت. وبعد الحرب، أعيد تسمية لفوف وأعطيت اسماً أوكرانياً جديداً، وهو لفيف. وفي مؤتمر يالطا خلال فبراير (شباط) 1945، إذ اجتمع قادة بريطانيا والاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة لمناقشة تنظيم أوروبا ما بعد الحرب، أجبر ستالين قوى الحلفاء على قبول أن تنقل بولندا بأكملها غرباً، إذ تحصل على مقاطعات ألمانية سابقة في الجانب الغربي، بينما يستولي الاتحاد السوفياتي على المقاطعات البولندية من جهة الشرق. ولتنفيذ هذا المخطط، أجرى الجيش الأحمر أكبر عملية تهجير قسري ممنهجة للسكان خلال التاريخ الحديث، إذ هجر أكثر من 13 مليون ألماني وبولندي وأوكراني.
ومع استمرار المناقشات داخل يالطا في مؤتمر بوتسدام خلال أغسطس (آب) 1945، أصبحت رغبة ستالين في توسيع الأراضي السوفياتية واضحة. فقد أبدى اهتمامه بالسيطرة على المستعمرات الإيطالية السابقة في أفريقيا، واقترح الإطاحة بفرانكو في إسبانيا. وخلال استراحة خلال المحادثات، قال السفير الأميركي لدى الاتحاد السوفياتي أفيريل هاريمان لستالين "لا بد أن وجودك الآن في برلين يشعرك بالسرور، بعد كل ما عانته بلادك". نظر ستالين إليه من دون أي تغيير في تعابير وجهه، ورد قائلاً "القيصر ألكسندر وصل إلى باريس". لم تكن العبارة مزاحاً على الإطلاق، ففي العام السابق كانت القيادة السوفياتية أمرت بوضع خطط لغزو فرنسا وإيطاليا والاستيلاء على المضائق بين الدنمارك والنرويج. في عام 1945، قال الجنرال السوفياتي سيرغي شتيمنكو لسيرغو بيريا، نجل قائد الشرطة السرية السوفياية الذي كان يثير الرعب في عهد ستالين "كان من المتوقع أن يتخلى الأميركيون عن أوروبا الغارقة في الفوضى، بينما تصاب بريطانيا وفرنسا بالشلل بسبب مشكلاتهما الاستعمارية". وهذا ما عده القادة السوفيات فرصة سانحة. ولكن عندما علمت موسكو أن الولايات المتحدة باتت قريبة من صنع القنبلة الذرية تخلت عن هذه الخطط، على رغم أن رغبتها في التوسع لم تكن قد تغيرت.
كانت الحرب العالمية الثانية، بطبيعة الحال، أيضاً بداية العصر النووي. فقد رأى كثر في اختراع القنبلة الذرية مصدر رعب، وعدُّوا قصف الولايات المتحدة لمدينتي هيروشيما وناغازاكي جريمة حرب. ومع ذلك، فإن استهداف هاتين المدينتين اليابانيتين خلال أغسطس 1945 انطوى على خيار أخلاقي بالغ الصعوبة. فقبل أن تسرع القنابل من نهاية الحرب، كان الجنرالات اليابانيون يرفضون الاستسلام وفقاً للشروط التي أصدرتها قوات الحلفاء في إعلان بوتسدام خلال يوليو 1945، وأرادوا مواصلة القتال. بل كانوا مستعدين للتضحية بملايين المدنيين اليابانيين عبر إجبارهم على مقاومة الغزو المرتقب باستخدام رماح من الخيزران وعبوات ناسفة مربوطة بأجسادهم. وبحلول عام 1944، كان نحو 400 ألف مدني يلقون حتفهم شهرياً بسبب المجاعة داخل مناطق شرق آسيا والمحيط الهادئ وجنوب شرقي آسيا التي كانت تحت الاحتلال الياباني. وأراد الحلفاء إنقاذ أسرى الحرب من الأميركيين والأستراليين والبريطانيين الذين كانوا يتضورون جوعاً في معسكرات الاعتقال اليابانية، أو يذبحون بأوامر من طوكيو. وهكذا، وعلى رغم أن القنبلة الذرية أودت بحياة أكثر من 200 ألف ياباني، فقد تكون، في مفارقة أخلاقية مقلقة، قد أنقذت أرواح عدد أكبر بكثير.
العالم الذي صاغته الحرب
سواء للأفضل أو الأسوأ، أعادت الحرب العالمية الثانية ضبط مسار السياسة العالمية. فقد مهدت هزيمة اليابان الطريق في النهاية لصعود الصين الحديثة. وكان انهيار الإمبراطوريات البريطانية والهولندية والفرنسية بين عامي 1941 و1942 بمثابة نهاية أوروبا الإمبريالية، كما أن تجربة الحرب دفعت نحو حركة التكامل الأوروبي. وفي غضون ذلك، ارتفعت مكانة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى مستوى القوى العظمى. وأنتجت الحرب العالمية الثانية الأمم المتحدة، التي كانت أهدافها الرئيسة حماية سيادة الدول ومنع العدوان المسلح والاستيلاء على الأراضي. كانت الأمم المتحدة حلم الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، وكان مستعداً للسماح لستالين بالسيطرة الكاملة على بولندا لتحقيق ذلك. ولكن، خلال فبراير من العام الحالي، أدارت الولايات المتحدة ظهرها للمبادئ التأسيسية للأمم المتحدة، وصوتت إلى جانب روسيا ورفضت إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأدت الحرب العالمية الثانية أيضاً إلى الحرب الباردة. ويرى بعض المؤرخين أن هذا الصراع الجديد بدأ عام 1947 مع اتفاق كلاي-روبرتسون، الذي قررت ضمنه السلطات البريطانية والأميركية إعادة التصنيع في غرب ألمانيا، مما أثار ريبة ستالين. وبالفعل، شهد ذلك العام تصاعداً حاداً في التوترات، إذ أصدر ستالين خلال سبتمبر أمراً للأحزاب الشيوعية الأوروبية بإخراج أسلحتها تحضيراً لحرب مقبلة، مما مهد الطريق لحصار برلين خلال العام التالي. لكن جذور هذا الصراع تعود إلى وقت أبكر بكثير، وتحديداً إلى يونيو 1941. فقد أصيب ستالين بصدمة عميقة جراء "عملية بارباروسا"، وهي الغزو النازي للاتحاد السوفياتي الذي بدأ ذلك الشهر، ومنذ ذلك الحين عقد العزم على إحاطة نفسه بدول تابعة في وسط وجنوب أوروبا، كي لا يفاجأ بغزو جديد مرة أخرى.
من الصعب استيعاب حقيقة موت عشرات الملايين
على مدى قرون، كانت روسيا مهووسة بالهيمنة على جيرانها لمنع تطويقها. وكان هاجس ستالين هو بولندا. أما بوتين، فقد حافظ على هذه الذهنية الأساس، لكن في نظره، فإن الجبهة الأكثر هشاشة لبلاده هي أوكرانيا، التي يدعي أنها جزء من روسيا. وعندما ترجم هذا الادعاء إلى فعل عبر غزو أوكرانيا عام 2022، أعاد إلى المشهد سمة من سمات حقبة الحرب العالمية الثانية كانت قد غابت إلى حد كبير عن السياسات العالمية منذ ذلك الحين. فقد لعب القادة -وكثير منهم عززتهم الأنظمة التسلطية التي كانوا يسيطرون عليها- دوراً محورياً في تحديد مسار ذلك الصراع الواسع. من تشرشل إلى روزفلت إلى ستالين، أعادت مناوراتهم إلى المخيلة الشعبية فكرة "الرجل العظيم" الذي يقود مجرى التاريخ. أما خلال الأعوام الأخيرة، فقد كان تأثير القادة السياسيين أقل نسبياً، إذ قيد النظام الاقتصادي العالمي المعولم حركتهم بصورة كبيرة، كما أن الانشغال المستمر بكيفية استقبال الإعلام لقراراتهم يجعل كثراً منهم أكثر حذراً من أن يكونوا جريئين. ولأعوام، بدا أن شخصيات القادة لن تعود لتحدد مجرى الأحداث كما فعلت خلال الحرب العالمية الثانية. لكن غزو بوتين غير ذلك، وكذلك فعل ترمب، الذي اتخذ من بوتين نموذجاً يحتذى.
اليوم، ومع احتفال روسيا بيوم النصر خلال التاسع من مايو (أيار)، يبدو أن بوتين عازم على استغلال سردية "الحرب الوطنية العظمى" إلى أقصى حد. وقد يعيد تسمية مدينة فولغوغراد إلى ستالينغراد -وهو الاسم الذي تم التخلي عنه عام 1961 ضمن حملة نزع الستالينية التي أطلقها الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف- وذلك لتسليط الضوء على انتصار الجيش الأحمر في معركة ستالينغراد عام 1943، التي شكلت نقطة التحول النفسية الكبرى في الحرب. وقد يمعن أيضاً في تشويه التاريخ، محاولاً تبرير استمرار حربه داخل أوكرانيا من خلال الزعم بأن الأوكرانيين "نازيون"، في تناقض صارخ مع تأكيده السابق قبل الغزو بأن الأوكرانيين لا يختلفون عن الروس.
وفي الحقيقة، لا توجد مجموعة واحدة من الاستنتاجات يمكن استخلاصها من الحرب العالمية الثانية. فهي عصية على التعميم، ولا يمكن تصنيفها بسهولة. فهي تتضمن قصصاً لا تعد ولا تحصى عن المآسي والفساد والنفاق وجنون العظمة، والخيانة والخيارات المستحيلة والسادية التي لا تصدق. لكنها تتضمن أيضاً قصصاً عن التضحية بالنفس والتعاطف، إذ تمسك الناس بإيمانهم العميق بالإنسانية على رغم الظروف المروعة والقمع الطاغي. وسيظل مثالهم دائماً جديراً بالتذكر والاقتداء، مهما اشتدت ظلمة النزاعات خلال أيامنا هذه.
مترجم عن "فورين أفيرز"، السابع من مايو (أيار) 2025
أنتوني بيفور مؤلف كتابي "سقوط برلين عام 1945" و"روسيا: الثورة والحرب الأهلية بين 1917 و1921"
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 4 ساعات
- Independent عربية
نشوة روسيا الكاذبة
لسنوات قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام احتفالات يوم النصر السنوية في 9 مايو (أيار)، والتي تحيي ذكرى الانتصار السوفياتي على هتلر في الحرب العالمية الثانية، كي يُظهر عظمته الشخصية. فالنصر السوفياتي عام 1945 كان دائماً ويبقى أحد الأحداث التاريخية القليلة جداً التي توحد الشعب الروسي بصدق، وطبعاً لم يسَعْ بوتين مع نضوج نظامه إلا استغلال المناسبة والاستفادة منها. وفوق ذلك، أضفى طابعاً شخصياً على الحدث، مستولياً حتى على بعده الوطني وطقوسه العامة. إذ إن "الفوج الخالد"، مثلاً، الذي يعد مبادرة من المجتمع المدني تجتذب مئات آلاف الروس العاديين للاشتراك في مسيرة كبرى يحملون خلالها صور أسلافهم الذين قاتلوا في الحرب، قد وُضع تحت إمرة الكرملين بشكل كامل. وفي عام 2015، في الذكرى السبعين ليوم النصر، قاد بوتين بنفسه، في وسط موسكو، أحد أرتال الفوج المذكور. لكن هذه المناسبة السنوية اكتسبت معنى معاصراً منذ بدأت روسيا "عمليتها الخاصة" في أوكرانيا عام 2022. إذ على مدى السنوات الثلاث الماضية روّج الكرملين بقوة لفكرة تقول إن النزاع القائم في الجوار (في أوكرانيا) يمثل استمراراً للحرب الوطنية الكبرى ضد الغرب، العدو الذي مثله في القرون الماضية نابليون وهتلر، وتمثله اليوم أوكرانيا وأوروبا (بعد أن جرى استثناء الولايات المتحدة من لائحة الأعداء إثر عودة دونالد ترمب إلى الرئاسة). وهذا غدا جزءاً أساسياً من الدعاية السياسية الرسمية للدولة الروسية، وقد جرى في السياق تصميم استعراضات "يوم النصر" والاحتفالات والطقوس المرتبطة به، من أجل ترسيخ هذه الأطروحة في أذهان الناس. وقد بدا بوتين في هذا السياق، لهذه الأسباب كلها، عازماً على الاحتفال بالذكرى الثمانين لانتصار الاتحاد السوفياتي، بجلبة خاصة. إذ هدفه اليوم أن يظهر أيضاً أنه غير معزول عن العالم، وأن أفضل جزء من هذا العالم، أي تلك الدول والشعوب التي حاربت ولا تزال تحارب ما يسميه الكرملين "الهيمنة الغربية" و"الاستعمار"، تدعم روسيا، على رغم الاستعمار الإمبراطوري الصرف للعملية الأوكرانية. من هنا، ولهذا السبب، جرت دعوة ممثلي "الغالبية العالمية"، المصطلح الذي يعتمده الكرملين للإشارة إلى دول ما يعرف بـ "الجنوب العالمي"، والتي يتخيل بوتين نفسه قائداً غير رسمي لها، للمشاركة في استعراضات يوم النصر هذا العام. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وقد كان من بين المشاركين في العروض جنود من ميانمار، إضافة إلى ضيوف كبار الشخصيات من غينيا الاستوائية، وبوركينا فاسو، ودول أخرى. ومن نافل القول هنا إن تلك الدول لم يكن لها أي صلة بانتصار عام 1945. بيد أن حليفاً تاريخياً واحداً لروسيا حضر من دون شك: الصين، ممثلة بزعيمها الكبير شي جينبينغ، الذي التقى بوتين في الكرملين عشية الاحتفالات. وقد كان لعراضة الوحدة والتحالف هذه بين موسكو وبكين، قيمة رمزية مهمة، على رغم أن حاجة شي لبوتين تبقى أقل بكثير من حاجة بوتين إليه. ومع ذلك من الصعب عدم ملاحظة أن حلفاء الاتحاد السوفياتي الأساسيين في الحرب العالمية الثانية، الذين حققوا معاً النصر التاريخين، لم يكونوا حاضرين في احتفالات بوتين. فما معنى هذا الأمر غير العزلة عن العالم؟ مع ذلك، يكمن خلف هذه الذكرى السنوية الخاصة تغيير أكثر أهمية ويتمثل بالعلاقة المتحولة بين روسيا والولايات المتحدة منذ عودة ترمب إلى الرئاسة. لقد تضاءلت، في اللحظة الراهنة، النشوة الروسية التي احتفت بتحسن العلاقات مع واشنطن هذا الربيع، لكن العديد من أفراد النخبة الروسية والمواطنين الروس العاديين ما زالوا يعلقون آمالهم على إدارة ترمب للقيام بوساطة ناجحة لإنهاء الحرب، وتأمين الدعم الأميركي للشروط والمطالب الروسية. إذ إن الإدارة الأميركية الجديدة، بالنسبة لبوتين، لا توفر فقط فرصة لتحقيق اتفاق اقتصادي مؤات في لحظة أخطار متزايدة تواجهها روسيا، بل تتيح أيضاً فرصة للخروج من مستنقع الفوضى في أوكرانيا مع الاحتفاظ بماء الوجه. وعلى رغم عدم حضور ترمب أو أي ممثل آخر من إدارته احتفالات يوم النصر (في موسكو)، إلا أنه تم رفع الولايات المتحدة في بيانات الكرملين الرسمية وفي دعايته، إلى مرتبة الشريك، شريك تاريخي يشكل نقيضاً مباشراً لأوروبا، التي غدت الآن (بالنسبة لبوتين) العدو الأساسي. هذا الأمر، منذ وقت ليس ببعيد، كان معكوساً. التناغم مع ترمب منذ بداية الحرب الباردة على الأقل، لعبت الولايات المتحدة دوراً مركزياً في الوعي الجمعي الروسي. وكان الروس ينظرون إلى هذه القوة العظمى التي تنافسهم بمزيج من الإعجاب والكراهية والاستعلاء والحسد. هم غالباً كانوا يعدون أنفسهم أكثر تفوقاً من الناحية الروحية، لكن أدنى مادياً من منافسيهم "اليانكيين" (الأميركيين). وقد أسهم الذهن المؤامراتي، بطبيعة الحال، وعلى مدى فترة طويلة من الزمن، بترسيخ فكرة وقوف الولايات المتحدة خلف كل حدث استثنائي في العالم، بما في ذلك مشكلات روسيا الداخلية، التي هي، بحسب أصحاب ذاك النمط من التفكير، نتيجة سياسات أميركية خفية. وفي الدعاية السياسية الروسية بالسنوات الأخيرة بات شائعاً سماع إحالات إلى "الإمبريالية الأنغلو-أميركية" أو "الأنغلو-ساكسونية"، المصطلحين اللذين يشكلان تعبيراً روسياً مهيناً عن الهيمنة الخطرة التي تمارسها الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد أدرجت أوروبا ببساطة، في مركّب الكراهية هذا، في خانة عامة لمصطلح "الغرب". ونتيجة لذلك عوملت أوروبا، حتى في عهد بوتين، بالطريقة عينها تقريباً التي عوملت بها الولايات المتحدة، إذ كلما ساءت المواقف تجاه الولايات المتحدة، غدا الروس أكثر تشككاً وريبة تجاه الاتحاد الأوروبي. بيد أن انتصار ترمب (في الانتخابات الأميركية) وجهوده الهادفة لتحقيق السلام جاءت كي تقلب هذا التفكير (الروسي) التقليدي رأساً على عقب. فأوروبا الآن، بما في ذلك المملكة المتحدة، غدت المصدر الرئيس للشر، فيما باتت الولايات المتحدة هي الخيرة. وفي أواخر فبراير (شباط)، خلال زيارة قام بها لمقر "جهاز الأمن الفيدرالي" (خليفة الـ "كي جي بي"، الجهاز الأمني السوفياتي الذي تخرج منه)، أشار بوتين إلى أن الاتصالات مع الإدارة الجديدة في واشنطن "تستحضر آمالاً معينة"، مضيفاً "ليس الجميع سعداء أمام اسئناف التواصل الروسي – الأميركي"، وأنه على الأجهزة الأمنية (الروسية) البقاء متيقظة كي لا تحيد "المحادثات" الجديدة عن مسارها. واستكمالاً لهذا السياق والنهج أبدى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعد أيام قليلة تعليقاً ذكر فيه أنه خلافاً للعقيدة السوفياتية والروسية القديمة، فإن الولايات المتحدة لم تكن يوماً من دعاة الحرب على روسيا، بل أن أوروبا هي من شكل الخطر الأساسي. إذ "على مدى الـ 500 عام الماضية، انبثقت جميع مآسي العالم من أوروبا أو حدثت بفعل السياسات الأوروبية"، وفق كلامه. وقد راح العديد من المواطنين العاديين في روسيا وحتى أفراد من النخبة السياسية يتصورون، على وقع هذه التصريحات (الرسمية)، صيغاً ورؤًى للسلام. وبحلول النصف الثاني من عام 2024 غدا واضحاً سلفاً أن غالبية الروس يرغبون في قيام محادثات سلام، إلا أن هذا الاتجاه تزايد على نحو ملحوظ مع وصول ترمب إلى الرئاسة مجدداً. ويرى العديد من الروس الآن أن الولايات المتحدة تمثل شريكاً برغماتياً، ويتوقعون نهاية الحرب عبر مفاوضات مباشرة بين موسكو وواشنطن. ووفق استطلاع أجراه في يناير (كانون الثاني) "مركز ليفادا" المستقل، توافق المستطلعون على أن السلام، من حيث المبدأ، يمكن تحقيقه فقط عبر وسيط، وهذا الوسيط طبعاً قد يكون الولايات المتحدة إلى جانب آخرين. على أن تلك القناعة بوساطة تقودها الولايات المتحدة بدت مترسخة على نحو ملحوظ مع حلول فبراير. إذ في استطلاع آخر أجراه "مركز ليفادا" بذلك الشهر، قالت غالبية كبيرة من المستطلعين، 70 في المئة، إنه يجب أن تكون الولايات المتحدة إلى مائدة المفاوضات مع روسيا، حتى أن غالبية أكبر، 85 في المئة، وافقت على انعقاد الاجتماعات الثنائية بين روسيا والولايات المتحدة التي بدأت في المملكة العربية السعودية بذلك الشهر. فعلى رغم فهمهم لضرورة وجود اتفاقيات مع أوكرانيا، يبقى الهدف الأكثر أهمية بنظر الرأي العام الروسي متمثلاً بإيجاد أرضية مشتركة مع ترمب. إذ عبر إقناع الرئيس (الأميركي) لدعم مطالب بوتين الأساسية، سيُضمن لروسيا راهناً التوصل إلى اتفاقية سلام مستدامة، وإقامة روابط اقتصادية مفيدة في المستقبل. وعلى وقع هذه التوقعات خفف الروس على نحو ملحوظ مشاعر عدائهم لأميركا. فبعد أن كانت نسبة المستطلعين الذين أظهروا موقفاً إيجابياً من الولايات المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2024 لا تتعدى الـ 16 في المئة، فإن نسبة هؤلاء تضاعفت تقريباً وسجلت معدل الـ 30 في المئة مع حلول فبراير 2025. غالبية الروس يلتزمون ما يشبه "توافق الصمت" حيال الحرب القائمة كذلك فإن التركيز البلاغي تجاه الولايات المتحدة الذي مارسه الكرملين أسهم في تعزيز شعبية هذا الأخير. وفي السياق وربما مدفوعة بآمال تحقيق السلام، ارتفعت وفق استطلاعات ليفادا أيضاً، نسبة تأييد وزير الخارجية سيرغي لافروف، التي كانت سابقاً في حالة ركود، وذاك جعله لفترة وجيزة ثاني أكثر السياسيين موثوقية بعد بوتين، على رغم تراجعه مرة أخرى إلى المركز الثالث في أبريل (نيسان) حين بدأت المفاوضات تتعثر، ليعاود الحلول خلف رئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين صاحب المركز الثاني في العادة. كما كان استعداد واشنطن الواضح لعقد صفقات مع موسكو في ذاك السياق قد شجع مجتمع الأعمال الروسي، حتى أن البعض رأى إمكانية أن تغدو الولايات المتحدة مصدراً للإيرادات في الموازنة الوطنية. وذاك أمر من شأنه أن يكون مهماً، إذ إن عائدات النفط التي أسهمت في تجديد موارد خزائن المال الروسية بمعظم فترة الحرب، تشهد في عام 2025 انخفاضاً كبيراً بفضل التدني العالمي في الأسعار. وتدرك النخب السياسية والتجارية الروسية في هذا الإطار أن سياسات ترمب الاقتصادية قد تؤدي إلى المزيد من التآكل في أسعار النفط وإلى تعقيد صادرات الطاقة الروسية. بوتين من جهته، بتركيبته وعقده النفسية (إحساسه بالعظمة الشخصية) وبمخططاته الجيوسياسية (حلمه بروسيا الكبرى) بات له في نهاية المطاف، كما يرى كثيرون من الروس، نظيراً يمكنه أن يتفق معه على إعادة تقسيم العالم. إذ مع ترمب، وفق رأي كثيرين، يمكن لبوتين أن يحول الحرب المستعرة إلى حرب باردة ويكتفي بذلك– إذ إن الموارد العسكرية والمالية الروسية لها حدود في النهاية. وهذه الافتراضات تغذيها النظرة الروسية لترمب نفسه. إذ إن جزءاً كبيراً من الروس يرون في ترمب صانع سلام حقيقياً وسياسياً "رصيناً وحاذقاً"، وفق ما وصف بعض المشاركين في استطلاع ليفادا. وهو أيضاً، للعديد من الروس العاديين، رجل أعمال يفهم لغة الصفقات البرغماتية، المتضمنة سلاماً يأمل الروس في أن يكون بطريقه إليهم. إلى هذا، وعلى نقيض النظرة إلى الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، لا يرى معظم الروس في ترمب معادياً لروسيا. وعلى رغم غياب التقدم (في المساعي السلمية) تبقى الآمال بوساطة تقودها الولايات المتحدة موجودة، وليس هناك في أوساط الروس، حتى الآن على الأقل، خيبة أمل من ترمب. لكن من المهم الملاحظة هنا أن المواقف الإيجابية الجديدة التي يعتمدها الروس تجاه الولايات المتحدة ليست سوى جزء من التوقعات الكبرى التي كانت سائدة وتتطلع لنجاح مفاوضات السلام. ففي أوساط الطبقة الليبرالية الصغيرة في روسيا يفصل الناس ترمب عن الولايات المتحدة. إذ إنهم عموماً ينظرون بشكل سلبي إلى زعيم الـ"ماغا"، إن لم يكن برعب، لكنهم يميلون إلى اعتبار الولايات المتحدة معقلاً للعالم الغربي والديمقراطية. وتأمل هذه الفئة الليبرالية بأن تسهم المؤسسات الديمقراطية في البلاد (في الولايات المتحدة) بمنع الأخيرة من الغرق في الاستبداد. هذه الشريحة من المواطنين الروس تضم من الناحية السوسيولوجية الفئة الشبابية الأكثر تعليماً والأشخاص الذين لا يوافقون على سياسات بوتين بما في ذلك حربه في أوكرانيا؛ إضافة، على وجه التحديد، لأولئك الذين لديهم توجه ليبرالي. ويميل أفراد هذه الشريحة إلى متابعة واستهلاك الأخبار المستقلة، غالباً عبر "يوتيوب" (الذي يمكن مشاهدته من خلال "في بي أن" VPN [الشبكة الخاصة الافتراضية وهي تقنية تسمح للمتصفح بتفادي الحظر الإلكتروني وإخفاء المكان الجغرافي للمتصفح])، الغادي الآن للعديد من الروس منصة أساسية لتلقي المعلومات والآراء بعيداً من القنوات الرسمية. لذا، بطريقة أو بأخرى، فإن نظرة الروس إلى الولايات المتحدة تبقى عاملاً أساسياً في تكوين نظرتهم بالنسبة لموقع روسيا في العالم. سلام أو مماطلة؟ في خلفية آمال الروس الجديدة بالسلام، تتراكم الآثار النفسية للحرب، فقد خلّف الثمن الإنساني الباهظ، وضراوة القتال، واستمراريته التي تبدو بلا نهاية، أثراً صامتاً على السكان. وعلى رغم أن المعارك لم تقتصر آثارها على من في الجبهات، فإن غالبية الروس ما زالوا يلتزمون ما يشبه "توافق الصمت" حيال صدمات الحرب. ووفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة "ليفادا" في أبريل، يرى 40 في المئة من الروس أن سياسات بوتين التوسعية ألحقت ضرراً بالبلاد، مقابل 33 في المئة يعتقدون أنها أفادتها، بينما بقي 28 في المئة غير متأكدين. ويشير أولئك الذين يرون ضرراً أكثر من نفع إلى حجم الخسائر البشرية، فيما يتمسك الفريق الآخر بفكرة "استعادة الأراضي الروسية التاريخية". وبالنسبة لكثيرين من الروس، يبدو أن من الأسهل الحفاظ على حياة طبيعية من خلال تجاهل واقع الحرب أو تجنّب التفكير فيها. فباستثناء المناطق الحدودية، تبقى "العملية الخاصة" بعيدة من حياة معظم الناس، ولم تؤدِ الضربات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية أو في منطقة كورسك إلى كسر هذا الحاجز النفسي. ومع ذلك، فإن غالبية واضحة من الروس تتمنى لو أن الحرب تنتهي وتختفي. وهناك في هذا الإطار بالطبع أولئك الذين كانوا على الدوام ضد الحرب، إلا أن هؤلاء لا يتجاوزون نسبة الـ 20 في المئة من السكان– أي نفس حجم الفئة المتحمسة بتأييدها لبوتين والتي يعرف أفرادها بلقب "الوطنيون الألتراس"، الذين يريدون استمرار الحرب مجادلين بضرورة أن تُنهي روسيا المهمة. أما معظم الناس العاديين المؤيدين لعقد محادثات سلام فما زالوا يضعون شرطين أساسيين لذلك: ألا تنضم أوكرانيا لحلف الناتو، وأن تبقى الأراضي التي احتلها الجيش الروسي جزءاً من الأراضي الروسية. كذلك هناك مشكلة أخرى أيضاً، وهي أن العديد من الناس استفادوا مالياً من الاقتصاد العسكري والمكافآت المختلفة وزيادات الرواتب التي جاءت في سياقه. لذا فإن البعض ينظر لاحتمالات السلام الوشيكة على أنها تهديد لمكاسبه المحتملة، وذاك أمر سارعت الدولة، التي تعاني دائماً من نقص القوى العاملة، للاستفادة منه. ففي الأشهر الماضية بدأت تظهر في الأمكنة العامة ملصقات تدعو الروس إلى الإسراع، قبل انتهاء الحرب، لتوقيع عقد عسكري مربح. مع هذا، ولكل متابع جيد للوقائع، يبقى السلام بعيد المنال. وبما أن ترمب وبوتين تباحثا في الفكرة، سيتعين على الزعيم الروسي في هذا السياق أن يبدأ بتصوير ما أنجزه حتى الآن على أنه انتصار. ولأن الكرملين تجنب تحديد ما يعنيه "النصر"، فإن غالبية الروس على الأرجح سيرون اتفاق السلام متوافقاً بالحد الأدنى مع مطالب بوتين، ومتناسباً بالتالي مع المواصفات المطلوبة. بعبارة أخرى، ليس ضرورياً أن تزيد القوات الروسية تحركها غرباً كي تزعم موسكو تحقيق النصر. علاوة على ذلك، بمواصلة الحرب وتكبد المزيد من الخسائر الروسية، قد يُصعّب بوتين تحقيق نهاية يمكن للجمهور أن يسميها نصراً: فروسيا لم تشهد بعد كارثة اقتصادية، لكن "الركود التضخمي"، الذي هو مزيج من النمو الاقتصادي البطيء والتضخم المرتفع، ترسخ على نحو جلي. التحدي الأكبر بالنسبة لبوتين يتمثل بكيفية الحفاظ على الاستقرار حين يتوقف القتال. إذ إن مئات آلاف المحاربين سيعودون من الجبهات. وهؤلاء جميعهم أبطال حرب، وسيطالبون بأن يجري التعامل معهم على هذا الأساس. لكن لن يكون هناك في المتناول ما يكفي من فرص العمل المرغوبة وغيرها من المكافآت. وهنا قد تبدأ المشكلات بالتفاقم. فالمجتمع العادي نفسه الذي اعتاد لفترة طويلة على تجاهل الحرب وعدم الاكتراث لها، قد يبدأ بالنظر إلى المحاربين القدامى على أنهم منافسون في مجالات الوظائف، غير مرحب بهم. إلى هذا، فإن التغييرات الهيكلية في الاقتصاد التي أجراها الكرملين منذ عام 2022، المتضمنة أجوراً أعلى ومعاملة تفضيلية للشركات والعمال ضمن المجمع الصناعي - العسكري، يجب أن تُعكس. ويمكن لهذا الأمر أن ينتج آثاراً مزعزعة للاستقرار. لكن إن استمرت الحرب وفشلت الحكومة في تلبية حاجات المحاربين القادمين من الجبهات، أو تلكأت في التعامل مع التشوهات المتزايدة في الاقتصاد المحلي، فستواجه حتى مشكلة أعظم. من هنا فإن بوتين يواجه أزمة توقعات متضخمة. وهو عبر إطالته أمد التفاوض مع ترمب، يقوم بممارسة التحوط: فإنهاء المرحلة المستعرة من النزاع سيؤدي، من جهة، إلى تحولات مزعزعة للاستقرار في الاقتصاد والمجتمع؛ وسينبغي عاجلاً أم آجلاً، من الجهة الأخرى، إرضاء التوقعات العامة المتزايدة التي ترى السلام آتياً. في الوقت الراهن لا يملك بوتين أي حل، وهو يماطل. وقد يدرك أن معظم الروس مستعدين، على الأقل لفترة أطول قليلاً، لتقبل مماطلته وتسويفه في إنهاء الحرب. لكن أيضاً هناك عامل آخر يلعب دوراً، وهو صبر ترمب المحدود. المستبد الروسي في المقابل لن يرغب في تفويت فرصة نادرة متمثلة بالتحالف مع رئيس أميركي، وذلك لسببين اثنين، سياسي واقتصادي: فمعاهدة السلام قد تنقلب إلى صفقة اقتصادية مؤاتية، وعائداتها ستطيل عمر نظام بوتين. لا أحد في الواقع يمكنه أن يتنبأ متى قد "ينسحب" ترمب من جهوده السلمية، وفق ما هدد مسؤولون في إدارته، أو كيف يمكن لبوتين أن يتفاعل مع فكرة غياب أي صفقة محتملة. بيد أن رفض التفاوض قد يزيد الوضع العام السائد تعقيداً وخطورة. تلك هي معضلة بوتين في الحقيقة. ولاء المستهلك النخب الروسية وسط حالة عدم اليقين هذه، تبقى بمثابة الصندوق الأسود. من الصعب قياس رغبة تلك النخب بالسلام أو تقدير مواقفها تجاه النظام الذي تخدمه. فالناس غير الراضين (عن الوضع) هم في حالة صمت، أما الفئة الأكثر تكيفاً فيندفع أفرادها لبناء مستقبل مهني يمكنهم من خلاله الجمع بين الولاء السياسي الكامل وبين الكفاءة التكنوقراطية. حتى أن العديد من أفراد النخبة هؤلاء يتوقعون نهاية الحرب، وإن لم يكن ذلك قريباً. إذ مثلاً، وفي إحدى أحدث مقابلاته، بدا لافروف مستهدفاً المسؤولين الروس الليبراليين الذين يتصورون مستقبلاً مختلفاً بعد الحرب. وقد حذر لافروف في السياق أنه لو رفعت العقوبات فإن بعض "الليبراليين" سيحاول "التراجع عن إنجازي استبدال الواردات والسيادة في اقتصادنا". من غير الواضح من قصد وزير الخارجية في كلامه هذا، ناهيك عن قلة ما يمكن للسياسات المتبعة خلال الحرب أن تظهره لأولئك الذين قصدهم. فعمليات تحقيق "السيادة" (الاقتصادية، أي الاعتماد على الذات) والمستويات غير المنضبطة في الإنفاق العسكري خلقت سلفاً مشكلات اقتصادية هائلة وطويلة الأجل. في كل الأحوال، علينا ألا نخلط بين توقعات السلام والنصر المتزايدة وبين الآمال التي ترى أن الكرملين سيتبنى الليبرالية مرة أخرى. فنظام بوتين هو جامد وشديد القمعية. وبحسب موقع منظمة "أو في دي إنفو" OVD-info، الهيئة المستقلة لمراقبة مسائل حقوق الإنسان في روسيا، فإن الدولة هناك، اعتباراً من مطلع مايو، وجهت اتهامات بارتكاب جرائم سياسية بحق أكثر من 3284 شخصاً، يقبع الآن 1590 شخصاً منهم في السجن. وقد قامت وزارة العدل (الروسية) راهناً بتصنيف أكثر من 900 كيان روسي "كعملاء أجانب"، مع إضافة كيانات جديدة إلى اللائحة أسبوعياً، علماً أن أكثر من 500 كيان منها هم أفراد مواطنون يواجهون قيوداً شديدة من ناحية الحقوق. كذلك تضع الدولة قائمة منفصلة تضم المنظمات غير المرغوب بها في البلاد، سواء كانت روسية أو أجنبية، وكل من يتعاون مع تلك المنظمات قد يواجه ملاحقة جنائية. هذا ويطبق الحظر على جميع الوسائط المستقلة على الإنترنت، فلا يمكنها العمل إلا بطريقة غير قانونية، ولا يمكن الاطلاع على محتواها وقراءتها ومشاهدتها إلا من خلال الـ "في بي أن". هذه الدولة الحصينة لن تختف بسهولة وبساطة عندما تصمت المدافع. فالشروط التي لا تنفك تتزايد والتي تطلب إظهار السلوك الوطني، من اعتماد طقوس الولاء (الوطني) في المدارس إلى التصريحات اللفظية التي تعبر عن الولاء "للبوتينية" من قبل رؤساء الشركات والجامعات والمكتبات وغيرها من المؤسسات والمعاهد، لن تنحسر. كما أن النظام لن يوقف حربه التي يشنها على المجتمع المدني. لا بل إن الكرملين في الحقيقة، مع انتهاء انشغاله بالحرب، يمكن أن يضاعف القمع والتلقين العقائدي بحق الشباب الروسي. يواجه بوتين أزمة "توقعات متضخمة" وإن انفتح الغرب من جديد أمام الروس وتمكنت النزعة الاستهلاكية من معاودة الازدهار، قد يكون كافياً لإبقاء شريحة السكان الكبيرة التي لا تهتم بالشؤون السياسية ممتثلة، في ظل نظام ينحو حتى نحو المزيد من التشدد والقسوة. هناك بالفعل مقدار كبير من التكهنات بعودة وشيكة للعلامات التجارية الغربية إلى روسيا. ففي مارس (آذار)، قال قرابة نصف الأشخاص الذين استطلعهم مركز ليفادا إنه ينبغي التدقيق بكل شركة غربية، ولا ينبغي السماح بالعودة إلى السوق الروسية إلا للشركات التي تعد موالية لروسيا. وقال قرابة 20 في المئة من المستطلعين إنه ينبغي السماح لجميع الشركات التي غادرت بالعودة إلى روسيا من دون قيود، فيما قال ربع المستطلعين إنه لا ينبغي أبداً السماح لتلك الشركات بالعودة. وهنا يمكن القول بكلام آخر إن العديد من الروس على ما يبدو يفترضون أن الشركات الغربية ستتدفق إلى روسيا بمجرد انتهاء الحرب. وذاك يعني أن العديد من الروس هم أيضاً عرضة لـ"التوقعات المتضخمة". لإشباع أي من تلك الرغبات سيتعين على بوتين التوصل لإتفاق سلام، ويفضل أن يستتبعه بصفقة اقتصادية مع ترمب، أو بسلسلة من الصفقات. حينها فقط سيكون بالإمكان إطالة أمد العقد الاجتماعي الضمني الذي أبرمه الكرملين مع المجتمع الروسي. فمقابل قيام الدولة بتحقيق السلام والنصر، سيتوقع من المواطنين إظهار الولاء الكامل للنظام (والذين لا يفعلون ذلك سيواجهون ردود فعل انتقامية). وكمكافأة على ذلك، سيتم الحفاظ على اقتصاد السوق ومستويات الاستهلاك الطبيعية. طبعاً لقد نجح بوتين فعلاً في جعل أعداد كبيرة من المواطنين الروس متواطئين معه، وذاك إلى حد ما، يضمن ولاءهم له. لكن إبقاء شعب بأكمله رهينة سياسية، فيه جانب سلبي. إذ لو أزيل العنصر الأساسي لهذا النظام، أي بوتين، فسيبدأ ذاك النظام بالانهيار. إزاء هكذا سيناريو، ومع تكيف الروس تجاه الظروف الخارجية الجديدة، قد تولد توقعات متضخمة مستجدة. لكن حينها، عند تلك النقطة، سيتم توجيه هذه التوقعات نحو زعيم جديد. أندريه كوليسنيكوف كاتب أعمدة صحافية في "نيويورك تايمز" الأميركية و"نوفايا غازيتا" الروسية. مترجم عن "فورين أفيرز"، 9 مايو 2025


الشرق الأوسط
منذ 8 ساعات
- الشرق الأوسط
موسكو تبلور مذكرة تفاهم لوقف النار بـ«سرِّية» وتتوقع نقاشات صعبة حولها
بعد مرور يومين على دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الطرفين الروسي والأوكراني إلى الشروع «فوراً» في مفاوضات للتفاهم على آليات لوقف إطلاق النار ومسار التسوية السياسية، أعلن الكرملين أنه بدأ بإعداد «مذكرة تفاهم» لعرضها على الجانب الأوكراني تشتمل شروط الهدنة المنتظرة وآليات مراقبة تنفيذها. وتزامن تأكيد موسكو مع التزامها العمل بسرعة لدفع جهود التسوية، مع بروز مؤشرات إلى استعدادات يقوم بها الطرفان لزيادة الضغط العسكري في حال فشلت جهود التهدئة. صورة مُركّبة تُظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ف.ب) قال الناطق الرئاسي ديمتري بيسكوف، إن الجانب الروسي بدأ العمل على إعداد مذكرة تفاهم حول الهدنة، وألمح إلى أن هذا المسار قُطعت فيه أشواط خلال اليومين الماضيين، مشيراً إلى أن «العمل على مذكرة التفاهم يتقدم بشكل ديناميكي». كان الرئيس فلاديمير بوتين قد أعلن بعد مكالمة هاتفية مع ترمب، الاثنين، استعداده لإعلان هدنة مشروطة في أوكرانيا. واقترح وضع «مذكرة تفاهم» في هذا الشأن يلتزم الطرفان بموجبها بتفاصيل الهدنة وآليات تنفيذها والرقابة عليها. ومباشرةً بعد المكالمة، تحدث ترمب عن ضرورة شروع الطرفين؛ الروسي والأوكراني، في مفاوضات مباشرة لتحقيق هذا الهدف. وردَّ بيسكوف خلال إفادة يومية الأربعاء، على اتهامات أوكرانية وأوروبية لروسيا بمحاولة المماطلة وكسب الوقت، وأكد التزام بلاده العمل بسرعة لإنجاز المذكرة. وزاد مخاطباً الصحافيين: «لا أحد يرغب في تأخير العملية. الجميع يعمل بنشاط وحيوية. سوف نُبقيكم على اطِّلاع دائم». لكنَّ اللافت أن الناطق الرئاسي تحدث عن إحاطة العمل الجاري لإعداد المذكرة، بتكتم. وأوضح أنه «يتم تنفيذ معظم العمل بموجب المذكرة بطريقة سرية ولا ينبغي أن تكون علنية». وكشف عن أنه فضلاً عن مذكرة التفاهم على الهدنة، سيتم وضع لائحة منفصلة بالشروط التي يطرحها الطرفان لوقف إطلاق النار. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ب) كما أشار إلى تسريع العمل؛ لتنفيذ الاتفاق الوحيد الذي نجم عن جولة المفاوضات في إسطنبول منتصف الشهر، المتعلق بتبادل الأسرى. وقال بيسكوف: «تجري الاستعدادات أيضاً لتبادل ألف سجين مقابل ألف سجين». لكنه لم يحدد سقفاً زمنياً لإنجاز الوثائق التي يجري وضعها حالياً، وقال إنه لم يتم اتخاذ قرار بعد بشأن مكان إجراء المفاوضات الإضافية؛ وزاد أن بلاده «لم تتلقَّ أي مقترحات محددة من الفاتيكان للتعاون في إطار التسوية». في إشارة إلى اقتراح الفاتيكان استضافة جولة المفاوضات المقبلة بين روسيا وأوكرانيا. في الوقت ذاته، أكد الناطق أن روسيا ترحب بجهود جميع البلدان التي تريد المساهمة في إنهاء الصراع. ومع الغموض الذي يحيط الوثيقة التي يتم وضعها في موسكو، وغياب أي إشارات إلى ما إذا كانت كييف بدورها تعمل على وضع نسختها الخاصة من مذكرة التفاهم على الهدنة، فإن الكرملين توقع مواجهة صعوبات كبيرة عند التفاوض على وقف النار، ورسم ملامح التسوية المقبلة. وقال بيسكوف إن أمام موسكو وكييف «اتصالات صعبة لوضع نص مشترك لمذكرة تفاهم بشأن معاهدة السلام ووقف إطلاق النار». وأوضح آلية العمل المتوقعة، مشيراً إلى أن «الجانبين الروسي والأوكراني سوف يضعان مسودات، وسيجري تبادل هذه المسودات، ثم ستُجرى اتصالات مكثفة لصياغة نص موحد. لا توجد مواعيد نهائية، ولن تكون هناك مواعيد نهائية. من الواضح أن الجميع يرغب في إنجاز ذلك بأسرع وقت ممكن، ولكن، بالطبع، يكمن الشيطان في التفاصيل». بدوره أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، الثلاثاء، أنّه يتوقع أن تعرض روسيا «خلال أيام» شروطها لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع أوكرانيا، معتبراً أنّ هذه الخطوة ستسمح لواشنطن بتقييم مدى جدّية موسكو في سعيها للسلام. وقال روبيو، خلال جلسة استماع أمام لجنة في مجلس الشيوخ، إنّه «في وقت ما، قريباً جداً، ربّما خلال بضعة أيام، ربّما هذا الأسبوع، سيقدّم الجانب الروسي الشروط التي يريدها أن تتحقّق»؛ للتوصل إلى وقف لإطلاق النار. وأوضح أنّ الروس سيعرضون «شروطاً عامة فحسب، تمكّننا من التقدّم نحو وقفٍ لإطلاق النار، وهذا الوقف لإطلاق النار من شأنه أن يسمح لنا بعد ذلك بالدخول في مفاوضات مفصّلة لإنهاء النزاع». وأضاف: «نأمل أن يحدث هذا الأمر. نعتقد أنّ ورقة الشروط التي سيطرحها الروس ستخبرنا بالكثير عن نياتهم الحقيقية». وتابع: «إذا كانت ورقة شروط واقعية ويمكن البناء عليها، فليكن... أما إذا تضمّنت مطالب نعلم أنها غير واقعية، فأعتقد أنّ ذلك سيكون مؤشّراً» على نيات روسيا. يجلس الناس أمام خيام بمركز إقامة مؤقت في كورسك بعد إجلائهم بسبب القتال بين القوات الروسية والأوكرانية (أ.ب) وأقر الاتحاد الأوروبي رسمياً، الثلاثاء، الحزمة السابعة عشرة من العقوبات على موسكو، مستهدفاً 200 سفينة من أسطول «الشبح». من جانبه، هاجم كيريل دميترييف، رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي، والمفاوض الاقتصادي الرئيسي مع واشنطن، هذا القرار بالقول: «يبذل السياسيون ووسائل الإعلام الغربية جهوداً جبارة لتعطيل الحوار البنّاء بين روسيا والولايات المتحدة». وقال روبيو إن ترمب يعارض في الوقت الحالي فرض عقوبات جديدة خشية أن تمتنع روسيا عن المجيء إلى طاولة المفاوضات. وقال مصدر مطلع لـ«رويترز» إن ترمب تحدَّث إلى زعماء أوكرانيا وأوروبا بعد مكالمته مع بوتين وأخبرهم بأنه لا يريد فرض عقوبات الآن ويريد إتاحة الوقت للمحادثات. وستطلب أوكرانيا من الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل بحث خطوات جديدة كبيرة لعزل موسكو، تشمل مصادرة أصول روسية وفرض عقوبات على بعض مشتري النفط الروسي. وستُقدم وثيقة أوكرانية إلى التكتل الذي يضم 27 دولة لاتخاذ موقف مستقل أكثر صرامةً بشأن فرض العقوبات في ظل الضبابية التي تكتنف دور واشنطن مستقبلاً. وفي الوثيقة التي تتضمن 40 صفحة من التوصيات، ستكون هناك دعوات لتبني تشريع يسرِّع مصادرة الاتحاد الأوروبي أصول الأفراد الخاضعين للعقوبات وإرسالها إلى أوكرانيا. ويمكن حينها لهؤلاء الخاضعين للعقوبات المطالبة بتعويضات من روسيا. كان الطرفان الروسي والأوكراني قد عقدا في إسطنبول قبل أسبوع، أول جولة مفاوضات مباشرة منذ ثلاث سنوات. وعلى الرغم من أن اللقاء كان قصيراً، واستمر نحو ساعتين فقط، فإن الطرفين أعلنا أن أجواء النقاشات كانت مثمرة وإيجابية. واتفق الطرفان خلالها على تبادل واسع للأسرى، وعلى العودة إلى طاولة المفاوضات قريباً. وطلب الجانب الأوكراني عقد قمة روسية - أوكرانية لتسهيل مسار المفاوضات، وهو أمر لم ترد عليه موسكو بعد، لكنها أعلنت أن فريقي التفاوض على استعداد لوضع تصورات كل منهما للهدنة المقترحة وآليات تنفيذها والرقابة عليها. في غضون ذلك، بدا أن الاستعدادات الجارية لتسريع وتيرة المفاوضات وتقريب احتمال إعلان هدنة مؤقتة تمهد الطريق لمفاوضات السلام النهائية، تجري بالتزامن مع تصعيد الطرفين الروسي والأوكراني استعداداتهما لتصعيد ميداني في حال فشلت جهود التهدئة الحالية. وتقول كييف إن موسكو تواصل حشد آلاف الجنود على طول الحدود بالقرب من منطقتي سومي وخاركيف، مع توقع محاولة توغل واسعة في المنطقة. ووفق خبراء عسكريين فإن موسكو وضعت خططاً لإنشاء منطقة عازلة على طول الحدود مع المنطقتين اللتين شكَّلتا نقطة انطلاق مهمة للقوات الأوكرانية التي هاجمت كورسك ومناطق مجاورة ونجحت الصيف الماضي في السيطرة على أجزاء واسعة من المقاطعة الروسية، قبل أن تنجح روسيا في طرد القوات الأوكرانية منها قبل أسابيع بعد معارك ضارية استمرت لأشهر. وتشير مصادر أوكرانية إلى أن بوتين قد يضع بين أهدافه في حال انهارت جهود الهدنة، محاولة فرض سيطرة مطلقة على مدينة خاركيف التي تقول السردية الروسية إنها بين أبرز «المدن الروسية» في أوكرانيا الحالية. وزار بوتين، الثلاثاء، منطقة كورسك للمرة الأولى منذ إعادة فرض سيطرة الجيش الروسي عليها الشهر الماضي. والتقى حاكمها بالإنابة ألكسندر خينشتين، وممثلي منظمات تطوعية. ونقل بيان الكرملين عن خينشتين قوله خلال الاجتماع مع بوتين، إن «عملية لإزالة الألغام» تجري حالياً في منطقة كورسك، حيث «تُزال عشرات العبوات الناسفة يومياً». وبثت قناة «روسيا 24» التلفزيونية العامة صوراً للقاء بين بوتين ومتطوعين، حول طاولة كبيرة وهم يتناولون الشاي وسكاكر. كذلك، اقترح إنشاء متحف مخصص «للأحداث التي وقعت في منطقة كورسك خلال عاميْ 2024 و2025 من أجل الحفاظ على ذكرى ما جرى هنا، وذكرى بطولة المدافعين عنا»، وهي فكرة حظيت بدعم بوتين. وأعلن الرئيس الروسي خلال الزيارة خططاً لإعادة الإعمار في المنطقة. مثل محطة الطاقة النووية «كورسك-2» بالقرب من المدينة. وكان بوتين قد زار أطراف كورسك في مارس (آذار) الماضي وتعهد خلال زيارته بـ«تحرير المنطقة في أسرع وقت. في المقابل، تقول مصادر روسية إن أوكرانيا تؤدي دورها بتحضيرات لتصعيد عسكري في حال فشلت جهود التهدئة. ووفق تقارير، فإن كييف تواصل تجهيز أفواج من طائرات مسيَّرة حديثة لشن هجمات على المدن الروسية. وبدا أن الضغط العسكري من الجانبين يواكب مسار التحضير للمفاوضات حالياً. وتبادلت موسكو وكييف ضربات جوية خلال اليومين الماضيين، وشنت مسيَّرات أوكرانية هجوماً قوياً على موسكو ومدن أخرى ليلة الأربعاء، في حين تعرضت مدن أوكرانية لهجمات صاروخية ومدفعية في الفترة نفسها. وأسفر هجوم روسي على موقع تدريب في شمال شرقي أوكرانيا عن مقتل ستة جنود أوكرانيين وإصابة أكثر من عشرة آخرين، وفق ما أعلن الحرس الوطني الأوكراني، الأربعاء. من جهته أعلن الجيش الروسي أنه أسقط 159 طائرة مسيّرة أوكرانية في غضون 12 ساعة في مناطق عدة. من جانب آخر، قُتل أندري بورتنوف، النائب والمساعد السابق لكبير موظفي الرئاسة الأوكرانية في عهد فيكتور يانوكوفيتش، المقرَّب من روسيا، بإطلاق النار عليه أمام مدرسة يرتادها أولاده قرب مدريد، حسبما أفاد به مصدر في الشرطة الإسبانية. وهرعت الشرطة إلى بلدة بوسويلو دي ألاركون الراقية، حيث أطلق «عدد من الأشخاص» النار على رجل «في الظهر والرأس» فيما كان «يهم بركوب سيارة»، حسبما قال المصدر، مؤكداً أن القتيل هو بورتنوف الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات بسبب شبهات فساد. وقال المصدر إن مطلقي النار «فرُّوا لاحقاً من المكان باتجاه منطقة حرجية»، مضيفاً أن الحادثة وقعت أمام مدرسة أميركية خاصة. وعثرت أجهزة الطوارئ على رجل ممدد على الرصيف قرب المدرسة وقد تعرض لإصابات قاتلة «سببها ثلاث طلقات على الأقل من سلاح ناري»، حسبما أفادت به المتحدثة إنكارنا فرنانديز، للصحافيين. وأضافت: «يمكننا فقط تأكيد وفاة هذا الشخص». وذكرت وسائل إعلام إسبانية أن الضحية كان قد أخذ أولاده إلى المدرسة قبل مقتله. كان بورتنوف نائباً في البرلمان الأوكراني في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأصبح لاحقاً مساعد كبير موظفي الرئاسة الأوكرانية في عهد فيكتور يانوكوفيتش، حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والذي فرّ إلى روسيا عام 2014 بعد الاحتجاجات المؤيدة للاتحاد الأوروبي في أوكرانيا. وغادر بورتنوف أوكرانيا بعد سقوط يانوكوفيتش، وعاش في روسيا والنمسا قبل أن يعود إلى وطنه بعد انتخاب الرئيس الحالي فولوديمير زيلينسكي. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات عليه في عام 2021 بتهمة الفساد، قائلةً إنه استخدم نفوذه في القضاء، للتمكن من الوصول إلى المحاكم الأوكرانية وتقويض جهود الإصلاح. وحسب تقارير إعلامية، استخدم علاقاته داخل دوائر السلطة للفرار من أوكرانيا مجدداً عام 2022، رغم الحظر المفروض على سفر الرجال المطلوبين للخدمة العسكرية. ولم تعلق السلطات الأوكرانية بعد على الحادثة، لكنّ مسؤولاً في جهاز استخبارات عسكرية قال لوكالة الصحافة الفرنسية، طالباً عدم ذكر اسمه، إن بورتنوف قُتل بإطلاق نار. وكانت أوكرانيا قد تبنّت أو ارتبط اسمها بعدة عمليات اغتيال في روسيا وفي مناطق أوكرانية تحتلها موسكو منذ بدء الغزو في عام 2022، استُهدفت خلالها شخصيات سياسية أو عسكرية أو داعمين آيديولوجيين للحرب.

سودارس
منذ 9 ساعات
- سودارس
هنا أم درمان.. عامان من الإتلاف المتعمد لصوت السودان
في بيان إعادة السيطرة على هيئة الإذاعة والتلفزيون، قال المتحدث باسم الجيش السوداني "تمكنت قواتكم المسلحة، والقوات النظامية الأخرى، وأبناء بلادنا الذين يعملون جنبا إلى جنب معها، اليوم، من انتزاع مقر الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، ذاكرة ووجدان الأمة السودانية، من دنس مليشيا آل دقلو الإرهابية، والمرتزقة من الدول الأخرى". أثارت سيطرة قوات الدعم السريع على الإذاعة السودانية قلق وخوف الجهات الإعلامية والثقافية على الإرث الثقافي والتاريخي والمعرفي السوداني، المحفوظ منذ ما يقارب 100 عام داخل مباني الهيئة، في أرشيف مكتبة الإذاعة الصوتية. وقد خاطبت نقابة الصحفيين السودانيين، في بيان لها بعد أسبوعين من سيطرة تلك القوات على مباني الإذاعة، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو"، وناشدتها أن هناك خطرا حقيقيا يتهدد مكتبتي الإذاعة والتلفزيون، داعية اليونسكو إلى التدخل لدى الطرفين المتقاتلين لإنقاذ هذا الإرث من الضياع. كما أدانت النقابة عدم احترام المؤسسات المدنية، وتحويل المؤسسات الإعلامية إلى ميادين للمعارك العسكرية، وطالبت قوات الدعم السريع بالخروج الفوري من مباني الإذاعة والتلفزيون. إفناء مع سبق الإصرار المسلمي البشير الكباشي، مدير مكتب الجزيرة في السودان، يقول حول الساعات الأولى عقب إعادة سيطرة الجيش على مباني الإذاعة "حين سارعت إلى الإذاعة بعد استعادتها من احتلال قوات الدعم السريع، الذي استمر 11 شهرا بعد اندلاع الحرب، وجدتها كتلة ضخمة متفحمة، خربة، ليست أكثر من أنقاض مكان اختفت معالمه". ويستطرد الكباشي "وأنت تدلف إليها عبر بوابتها الكبيرة، تستقبلك آثار القصف، وقبيل مدخلها مجزرة لسيارات عديدة احترقت تماما، ولكنك أمام مبناها الرئيس لن تجد ما تقول غير: كان هنا مبنى اسمه الإذاعة، أصبح أثرا بعد عين. الفناء طال كل شيء، المدخل ليس أكثر من كتل فحم، والمبنى ليس أكثر من أطلال. ولن تجد بداخلها إلا أرضا محروقة، كتلا مسودة من أثاث، ومكانا حلكا، دكنا، سحما، لن تبصر بداخله شيئا، فأنت في كهف حالك، تنبعث منه رائحة الإتلاف المتعمد، والإفناء المقصود". هنا أم درمان من لندن دقت ساعة بيغ بن معلنة مواعيد نشرة الأخبار في إستوديوهات الإذاعة البريطانية من لندن ، وساد الصمت داخل إستوديو الأخبار، وخرج صوت مذيع النشرة عميقا وهادئا قائلا بثبات "هنا أم درمان". لثوان، خيم الصمت على صوت الميكروفون، وعقدت الدهشة ألسنة الزملاء في القسم العربي لإذاعة بي بي سي. عاد الصوت الرخيم مجددا بعد هنيهة، معتذرا لمستمعي الإذاعة البريطانية "وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي". ثم استدرك مصححا "هنا لندن ، نشرة الأخبار، يقرؤها عليكم أيوب صديق". ويبدو أن الإعلامي السوداني، أيوب صديق، قد دهمه الحنين إلى مرابع حياته العملية الأولى بالإذاعة السودانية في أم درمان ، التي بدأ العمل بها عام 1966 من خلال برنامجه الشهير "من أرشيف الإذاعة"، قبل التحاقه بإذاعة "بي بي سي" أواخر سبعينيات القرن المنصرم. تأسست الإذاعة السودانية في الأول من مايو/أيار 1940، وكان الغرض منها الدعاية لمعسكر الحلفاء إبان الحرب العالمية الثانية. وكان تمويلها من ميزانية الدعاية البريطانية ووزارة المستعمرات. أول بث لها كان من غرفة صغيرة مساحتها 12 مترا مربعا، بمباني حي البوستة بمدينة أم درمان القديمة. بدأت الإذاعة بثها على الموجة المتوسطة 524 مترا، ثم في عام 1943 أدخلت الموجة القصيرة 31 مترا. وفي عام 1954 أضيفت موجة متوسطة جديدة سمحت بوصول بث الإذاعة إلى معظم أنحاء السودان والخارج، حتى انتقلت إلى مبانيها الحالية عام 1957. أنشئت مكتبة الإذاعة مع تأسيسها عام 1940، وأضيفت إليها مكتبة الإنتاج السينمائي في عام 1942. في سبتمبر/أيلول 2023، قرعت نقابة الصحفيين السودانيين جرس الإنذار مجددا، في بيان آخر لها منذ اندلاع الحرب، مناشدة اليونسكو وجميع المنظمات العاملة في مجال حفظ التراث المادي والإنساني، لإنقاذ هذا الإرث وحمايته من الضياع، قائلة: "لا تزال الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون متوقفة عن العمل والبث، منذ 15 أبريل/نيسان الماضي، ويتواصل مسلسل اتخاذها ثكنة عسكرية مع مواصلة المعارك بداخلها، مما يشكل خطرا على ما تحمله من إرث تاريخي في مكتبتها المرئية والمسموعة، كونها تحتوي على إرث نادر". ويضيف البيان: "لقد أقدم الدعم السريع، منذ شهور -وفقا لشهادات متطابقة لشهود كانوا محتجزين بالمكان ذاته في وقت سابق- على تحويل مباني الإذاعة والتلفزيون إلى معتقلات، الأمر الذي يزيد من خطورة تدمير أو إتلاف أرشيف يقترب عمره من 100 عام، ويمثل إرثا سياسيا وثقافيا واجتماعيا للأمة السودانية". ذاكرة الأمة السودانية يقول الدكتور طارق البحر، مدير إدارة الدراما بالهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، للجزيرة نت "إن الضرر الذي وقع على الإذاعة ضرر بليغ، يتكون من شقين: شق مادي يتعلق بالمنشآت، وخاصة المكتبة، وشق معنوي وقع على جميع أهل السودان، باعتبار أن مكتبة الإذاعة بشقيها التقليدي والرقمي، هي الذاكرة السمعية لأهل السودان. داخل هذه المكتبة يحفظ الإرث الثقافي والاجتماعي والسياسي، في ترتيب عال من الأرشفة لكل الحقب السياسية منذ الاستقلال، بالإضافة إلى الإرث الغنائي بمختلف ضروبه، من اللون الذي يعرف باسم "الحقيبة"، مرورا بالغناء الحديث، وحتى غناء الريف". ويواصل البحر "المحزن، وما لم يكن يتصوره إنسان، أن قوات الدعم السريع استهدفت مدينة أم درمان والمنافذ الثقافية بها، وعلى وجه الخصوص الإذاعة. لقد استهدفوا الثقافة السودانية والحياة الاجتماعية السودانية، من أجل إحلال ثقافات أخرى يحلمون بها، وهيهات! هنالك آلاف الساعات المسجلة في إذاعة أم درمان في مختلف التخصصات: الدراما، الموسيقى، الوثائقيات، المنوعات، الأفلام... وجميعها تعبر عن الحياة السودانية. إذاعة أم درمان (الذاكرة السمعية) ذات تاريخ عريق، خاصة أنها من أوائل الإذاعات في العالم العربي وأفريقيا. إعادة الألق وتعويض ضياع محتويات الإذاعة يتم بمساهمة المستمعين، من خلال تسجيلاتهم في مكتباتهم المنزلية الخاصة". ويتمنى الإذاعي الشهير طارق البحر أن يعاد إعمار الإذاعة في أسرع فرصة ممكنة. وحول إعادة تأهيل الإذاعة ومكتباتها، يقول الدكتور البحر: "يجب أن ننظر نظرة مستقبلية، منذ الآن، لمسألة التخزين داخل الإذاعة، ويجب الاستفادة من التقنية في إعادة ترميم الصوت وإعادة إنتاجه بالطرق الحديثة، حتى نحفظ تاريخنا السمعي". فالإذاعة، كما يقول البحر، تعتبر رمزا من رموز العزة والكرامة لأهل السودان، وهي إحدى منظومات البلد الثقافية والاجتماعية التي لم يتخل عنها إنسان السودان طيلة حياته. كما أن الإذاعة أدت دورا كبيرا في الفعل الاجتماعي، وتوحيد أهل السودان من خلال الغناء والموسيقى والبرامج ونشرات الأخبار، ومن خلال نشرة أخبار الوفيات، فقد عرف السودانيون أصقاع السودان من خلال نشرة الساعة الثامنة، التي تذيع أسماء الوفيات في مختلف أنحاء البلاد، التي كانت سبل التواصل بين أجزائها ليست سهلة. لذلك فهو يتمنى أن يكون هناك جهد رسمي وأهلي لإعادة إذاعة أم درمان إلى مكانها الطبيعي الأول. حجم الضرر يقول الدكتور إبراهيم محمد عثمان إبراهيم، مدير الإدارة العامة لتقانة المعلومات بالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون "كنت من أوائل الذين دخلوا مباني الهيئة في ثاني أيام تحريرها لتقييم الوضع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لاحظت، منذ دخولي من البوابة الرئيسية لمباني الهيئة، أن مبنى الإذاعة محترق تماما، وعددا من العربات في الباحة الأمامية محترقة بالكامل. إستوديوهات الإذاعة كلها كانت عبارة عن مكان لحريق كبير. مبنى الإذاعة الرئيسي، الذي يضم الإستوديوهات وغرف الخوادم، مقسم إلى: إستوديوهات في الناحية الشمالية، الوسط الذي يضم مركز الأخبار، إستوديوهات في الناحية الجنوبية أصيبت بمجموعة من الدانات أدت إلى تدمير المبنى بالكامل، كل هذه المجموعات من الإستوديوهات دمرت تماما". وعن حجم الضرر الذي لحق بالإستوديوهات، يقول الدكتور إبراهيم "المنطقة الشمالية، التي تحتوي على مجموعة الإستوديوهات الشمالية، تعرضت لحريق جزئي نوعا ما، لكنها لم تدمر بالكامل. وقد امتدت ألسنة اللهب إلى الجزء الشمالي فقط. أما منطقة الوسط، التي تحتوي على جميع الخوادم التابعة للإستوديوهات، سواء الشمالية أو الجنوبية، للأسف هذه المنطقة قد احترقت بالكامل بسبب الانبعاث الناتج عن الحريق، وتعرضت لتدمير تام نتيجة للقصف، ولاحقا بفعل الحريق". ويضيف "تحتوي منطقة الوسط على ذاكرة الأمة السودانية، وتنقسم إلى جزأين: الأول يحتوي على الأرشيف في شكل أشرطة منذ تأسيس الإذاعة عام 1957 حتى عام 2000، والثاني يحتوي على الذاكرة الرقمية منذ إدخال نظام "نيتيا" الفرنسي للبث والإنتاج في العام 2000، وجميع المواد محفوظة على الخوادم مباشرة. هذه الخوادم، وهذه الغرفة، تعرضت لحريق كامل. كما دمرت غرفة الكنترول والبث الرئيسية (إم سي آر)، التي تعمل آليا على ربط الإستوديوهات بالشبكة، تدميرا تاما. وغرفة الباك أب، التي تحتوي على الأرشيف الرقمي، احترقت أيضا بالكامل". وحول الكيفية التي يمكن بها إعادة تأهيل ما حدث من دمار، يقول الدكتور محمد عثمان "احتفاظي بخوادم البث (البرودكشن) في منزلي منذ بداية الحرب ساعد، نوعا ما، في استعادة جزء كبير من البيانات، وما زلنا نعمل على استرجاع البقية. أما مواد الأرشيف التي تم تحويلها رقميا رغم الحريق، فلدينا نسخ احتياطية منها في غرفة التحول الرقمي، وقد استطعنا استعادة البيانات المخزنة هناك، لأنها كانت محفوظة تحت الأرض، إلى جانب آلات وأجهزة تحويل الأشرطة إلى ملفات رقمية. هذا هو الوضع فيما يتعلق بالإستوديوهات والإذاعة. والحمد لله رب العالمين، حتى الآن، استطعنا استعادة كل البيانات الرقمية، والعمل جار على استعادة بقية المواد". نضم صوتنا إلى الأصوات التي تنادي بعودة الإذاعة السودانية إلى العمل بكل طاقتها في أسرع وقت، ونتمنى أن نسمع قريبا، من داخل مباني الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون بأم درمان ، الجملة التاريخية الباذخة "هنا أم درمان ، إذاعة جمهورية السودان".