logo
مسلسل "النُّص".. حين يصبح "النشال" بطلا قوميا

مسلسل "النُّص".. حين يصبح "النشال" بطلا قوميا

الجزيرة١٦-٠٣-٢٠٢٥

تكمن خطورة الدراما في قدرتها على إضفاء البطولة على أي شخصية حتى ولو كان سارقا أو قاتلا، ولعل انقلاب الهرم في العالم وفي الغرب بصفة خاصة يعود في جزء كبير منه إلى موجة الأفلام الهوليودية التي انحازت إلى زعماء العصابات، وأشهرها "العراب" 1972 للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، و"رفاق طيبون" 1990 لمارتن سكورسيزي.
وفي تاريخ الفن المصري تعد ملحمة "أدهم الشرقاوي الإذاعية" 1962 واحدة من أكثر حالات سوء الفهم التي سببتها الدراما حين اقتحمت عالم "أدهم الشرقاوي" الغامض وأظهرته بطلا ومناضلا وطنيا خالصا، في حين أكد عدد من معاصريه أنه لم يكن إلا شخصا منحرفا أسال الدماء في قريته وقتل الكثير من الأبرياء.
ويلعب الفارق الزمني والاجتماعي بين حالتي القاتل أدهم الشرقاوي والنشال عبد العزيز النص بطل مسلسل "النُّص" لصالح الأول فنيا، لكنه يسجل حقيقة جديدة لصالح النشال التائب ولصالح الجمهور أيضا، وهي ذلك النضوج الذي تلقى جمهور المشاهدين به العمل، واعتبار أنه لم يكن إلا عملا فنيا جيدا.
نشال في سبيل الوطن
يعتمد مسلسل "النُّص" -الذي يُعرض منذ بداية رمضان- على تكييف درامي لعمل صحفي/ أدبي مستوحى من "مذكرات نشال" التي كتبها الصحفي المصري أيمن عثمان، مستندا إلى نصوص تعود إلى المعلم عبد العزيز النُّص، وهو نشال سابق عاش في مصر خلال عشرينيات القرن الماضي.
ونُشرت هذه المذكرات لأول مرة عام 1927 في جريدة "لسان الشعب"، وأثارت حينها جدلا واسعا نظرا لطبيعتها الفريدة، إذ تسرد تفاصيل تجارب شخصية حقيقية لنشال يصف مغامراته في عالم الجريمة بأسلوب غير مألوف.
وشارك في كتابة سيناريو المسلسل كل من عبد الرحمن جاويش وسارة هجرس ووجيه صبري، في حين قدّم أحمد أمين دور البطل عبد العزيز النُّص، ليضفي على العمل طابعا خاصا.
تميز المسلسل بأسلوبه المختلف عن المعتاد، إذ وظف أمين فكرة تقديم معلومات مكتوبة توضح المفردات الاجتماعية والتاريخية المستخدمة في حوار كل حلقة، مما جعل المشاهدة أشبه بتجربة قراءة كتاب، فيتنقل المشاهد بين متن الحكاية وهوامشها لفهم أبعادها التاريخية والاجتماعية بعمق أكبر.
ورغم أن نشال العمل الأصلي -الذي قدمه المؤلف أيمن عثمان في كتابه- لم يكن صاحب دور وطني في مقاومة الإنجليز إبان احتلالهم مصر فإن المسلسل حوّله من مجرد نشال إلى "نشال في سبيل الوطن"، وهو أمر يبدو مخيفا في ظل التداخل القيمي بين سلبية صورة "النشال" الذي هو سارق يستحق العقاب والاحتقار الاجتماعي وبين القيمة الإيجابية لمن يناضل في سبيل وطنه، وبالتالي يمكن ببساطة أن يغفر له نهبه الأبرياء والمساكين مقابل عمله من أجل الوطن.
يثبت أحمد أمين في "النُّص" مكانته بصفته مبدعا شاملا، وليس مجرد ممثل فقط، ويؤكد رغم اقتصار عمله على الدراما التلفزيونية دون السينما أنه يقف في مقدمة صناع الدراما المشرقة التي تقدم التشويق والإثارة بشكل ناضج لا مراهقة فيه، كما تقدم الترفيه والمعرفة دون مبالغة أو تعقيد.
تدور أحداث مسلسل "النُّص" في النصف الأول من القرن الـ20 حينما كان المجتمع المصري منقسما اقتصاديا بين طبقتين واضحتين: الأولى تضم الملك وحاشيته والإنجليز الذين ينعمون بالثراء والسلطة، في حين تتألف الطبقة الثانية من الأغلبية الفقيرة من الشعب المصري التي تكافح من أجل لقمة العيش.
عبد العزيز النُّص -وهو نشال تائب- يعمل "كمسري" (محصّل التذاكر) في ترام القاهرة، ويتولى رعاية شقيقه الأصغر الذي يدرس بكلية الحقوق، لكن سرعان ما تتعقد حياته عندما يُقبض على شقيقه بسبب انتمائه إلى تنظيم فدائي سري يقاوم الاحتلال البريطاني.
يحاول عبد العزيز بكل الطرق تأمين الإفراج عن أخيه، لكنه يجد أن راتبه من عمله الشريف لا يكفي لتغطية أتعاب المحامي، فيجد نفسه مضطرا للعودة إلى عالم النشل لجمع المال اللازم.
ومع عودته إلى مهنته السابقة يعيد عبد العزيز إحياء علاقاته القديمة في عالم الجريمة، لكنه يلتزم بمبدئه الأساسي: عدم سرقة الفقراء، وخلال إحدى عملياته يسرق رجلا إنجليزيا ثريا، ليجد نفسه لاحقا في مواجهة غير متوقعة، إذ يستعين به ضابط شرطة وطني في خطة تهدف إلى إحباط عمليات تهريب الآثار المصرية من قبل قوات الاحتلال.
وهكذا يتحول عبد العزيز من نشال عادي إلى نشال وطني مستخدما مهاراته لخدمة المقاومة، ويلتحق به آخرون ممن يرغبون في المشاركة في النضال بأسلوبهم الخاص.
أحمد وأسماء وحمزة
شهد مسلسل "النُّص" مباراة في الأداء التمثيلي كان طرفاها أحمد أمين بطل العمل والممثل ذو الألف وجه حمزة العيلي الذي جسّد دور "درويش" صاحب الطموحات الفنية بلا قدرات، والذي يعمل على هامش الفن في مخزن ملابس أحد المسارح، لكنه يرى أن مكانه هو خشبة المسرح، في حين لا يستطيع أن يتحدث بشكل سليم.
يشكل "درويش" أو حمزة العيلي تلك المفارقة الأبدية بين الأحلام والقدرات التي تؤدي بصاحبها إلى أن يتحول إلى مسخ في أنظار الآخرين، وقد نجح حمزة دون افتعال في إتقان تقديم الشخصية في حالاتها المختلفة بشكل آسر ومفجع.
وعلى العكس، قدمت أسماء أبو اليزيد دور رسمية المحتالة الجميلة، لتبدو بين أجواء العمل كما لو كانت قادمة من المستقبل، فقد أكد إيقاع حديثها وأدائها وحركتها أنها تنتمي إلى اللحظة الحالية، ويبدو غياب دور المخرج معها واضحا.
إعلان
وقدّم الممثل عبد الرحمن محمد دور "زقزوق" ابن زوجة "النص" ورفيقه في رحلة النهب والوطنية بشكل مميز، ويعد بكوميديان جيد في المستقبل.
الانسحاب إلى الماضي
لطالما اتبعت الدراما المصرية نهج "الموجات"، إذ يؤدي نجاح عمل معين إلى ظهور مجموعة من الأعمال المشابهة في المواسم اللاحقة، فعندما يحقق مسلسل تاريخي نجاحا تمتلئ الشاشات في رمضان التالي بعدد من المسلسلات التي تسير على النهج ذاته.
ومن أبرز هذه الظواهر "موجة دراما الطرابيش" التي اجتاحت الدراما المصرية في العقد الأول من القرن الـ20، تماما كما يحدث في السينما، إذ تتحول الاهتمامات الإنتاجية بين مواضيع مختلفة، من أفلام تجارة المخدرات إلى أفلام المغامرات بحسب النجاح الذي يحققه كل نوع.
وفي هذا السياق، جاء مسلسل "عمر أفندي" من تأليف مصطفى حمدي وبطولة أحمد حاتم ورانيا يوسف وآية سماحة ومصطفى أبو سريع، وإخراج عبد الرحمن أبو غزالة، ليعيد إحياء روح "دراما الطرابيش" لكن بأسلوب مختلف.
فبينما كانت هذه الدراما في السابق تدور حول قصور الباشوات ونواديهم الفاخرة اختار "عمر أفندي" أن ينقل الأحداث إلى عالم البسطاء، مقدما رؤية أكثر التصاقا بالحياة اليومية لعامة المصريين، وهو ما ساعده في تحقيق نجاح كبير عند عرضه في سبتمبر/أيلول الماضي.
أما مسلسل "النُّص" فقد اتخذ طريقا أكثر عمقا في تصوير المجتمع المصري، إذ لم يكتفِ بتقديم أماكن وبيوت تعكس حياة تلك الفترة، بل أعاد إحياء القاموس اللغوي للثلاثينيات، مما أضفى على العمل طابعا كوميديا خاصا، إذ بدت المصطلحات التي يستخدمها الأبطال وكأنها قطع أثرية لغوية مستخرجة من متحف التاريخ.
هذا الاهتمام بالتفاصيل جعل العمل ثريا بصريا ولغويا، وأتاح للمشاهدين فرصة الغوص في أجواء زمن ماضٍ، ربما بدافع الحنين إليه أو للهروب من قسوة الحاضر، خاصة في ظل التحولات الحادة التي شهدها المجتمع المصري منذ الثلاثينيات وحتى الآن.
بهذا الشكل، نجح مسلسل "النُّص" -وهو تعبير عامي يشير إلى "النصف"- في حجز مكانه على قمة دراما رمضان، ليس فقط بسبب ارتفاع نسب مشاهدته، بل لأنه قدّم عملا يحترم عقل المشاهد ويمنحه تجربة درامية تتجاوز حدود اللحظة الآنية، في زمن بات أكثر قبحا وتعقيدا، ليصبح بمثابة نافذة على ماضٍ أكثر دفئا وأصالة.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"سلمى وقمر" و"عثمان في الفاتيكان" يتصدران جوائز مهرجان أفلام السعودية
"سلمى وقمر" و"عثمان في الفاتيكان" يتصدران جوائز مهرجان أفلام السعودية

الجزيرة

time٢٤-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

"سلمى وقمر" و"عثمان في الفاتيكان" يتصدران جوائز مهرجان أفلام السعودية

أسدل مهرجان أفلام السعودية الستار على دورته رقم 11 التي أُقيمت في مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) بمدينة الظهران، خلال الفترة من 17 إلى 23 أبريل/نيسان الجاري. وشهد الحفل الختامي حضور عدد من صنّاع السينما والنقاد، بعد أسبوع من العروض والفعاليات انتهى بالإعلان عن منح "النخلة الذهبية" لـ7 أفلام ضمن المسابقات الرسمية. وقدّم حفل الختام كل من عائشة كاي وخالد صقر، في حضور درامي أعاد شخصيتي "أم إبراهيم" و"أبو إبراهيم" من مسلسل "شارع الأعشى" الذي عُرض في مارس/آذار الماضي. تكريم الحساوي ومن أبرز مشاهد ختام النسخة الـ11 من مهرجان أفلام السعودية تكريم الممثل والمخرج والمنتج السعودي إبراهيم الحساوي، تقديرًا لعطائه الفني الممتد في المسرح والدراما ودوره الداعم لصناعة السينما المحلية، وتتويجًا لمسيرة فنية بدأها منذ عقود وبالتحديد منذ ثمانينيات القرن الماضي، وكان خلالها حاضرًا في أعمال شكلت جزءًا من الذاكرة الفنية السعودية. وفي كلمة ألقاها خلال الحفل، أعرب الحساوي عن امتنانه للمخرجين وصنّاع الأفلام الذين منحوه الفرصة للمشاركة في أعمالهم، وخص بالشكر زوجته التي وقفت إلى جانبه طوال سنوات العمل. وقال "شاركت في العديد من المهرجانات، لكن هذا التكريم يحمل نكهة مختلفة، فقد كنت شاهدًا على المهرجان منذ انطلاقته الأولى". إعلان الجوائز كما شهد الحفل توزيع جوائز "النخلة الذهبية" على نخبة من الأعمال المميزة، احتفاءً بإبداع صناع السينما من السعودية وخارجها. وفي المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، فاز فيلم "سلمى وقمر" للمخرجة عهد كامل بجائزة أفضل فيلم. بينما نال مشعل المطيري جائزة النخلة الذهبية لأفضل ممثل، وذلك دوره في فيلمي "هوبال" و"ثقوب" بمهرجان أفلام السعودية. كما حصل الفيلم العراقي "أناشيد آدم" على جائزة أفضل فيلم روائي خليجي. وقد منحت لجنة التحكيم تنويهات خاصة لعدد من الأفلام تقديراً لمقارباتها البصرية والدرامية، حيث شملت "ثقوب" للمخرج عبد المحسن الضبعان، و"هوبال" لعبد العزيز الشلاحي، و"سوار" لأسامة الخريجي. أما في فئة الفيلم الروائي القصير، فقد فاز "ميرا ميرا ميرا" للمخرج خالد زيدان بجائزة "النخلة الذهبية" متفوقًا على منافسيه في هذه الفئة. أما جائزة "عبد الله المحيسن" للعمل الأول، فكانت من نصيب فيلم "شرشورة" للمخرج أحمد النصر، بينما حصد "وهم" للمخرج عيسى الصبحي جائزة أفضل فيلم روائي خليجي قصير. كما منحت لجنة التحكيم تنويهاً خاصاً لفيلم "انصراف" تقديرًا لتميزه الفني ضمن الأعمال المشاركة. وفي مسابقة الأفلام الوثائقية، حصل "عثمان في الفاتيكان" للمخرج ياسر بن غانم على جائزة "النخلة الذهبية" بعد منافسة قوية مع أفلام أخرى. أما جائزة "جبل طويق" لأفضل فيلم يتناول مدينة سعودية، فقد فاز بها "قرن المنازل" للمخرج مشعل الثبيتي. وفي فئة الفيلم الوثائقي الخليجي، توج "الجانب المظلم من اليابان" للمخرج عمر فاروق بالجائزة الأولى. كما منحت لجنة التحكيم تنويهيْن خاصين لكل من فيلمي "دينمو السوق" و"عين السبعين" تقديرًا لمحتواهما المتميز. قصص تُرى وتُروى وركزت النسخة رقم 11 من مهرجان أفلام السعودية على أفلام تتناول قضايا الذاكرة والانتماء من وجهات نظر شخصية واجتماعية، والتركيز على محوري "قصص تُرى وتُروى" و"سينما الهوية". وقد اتسم برنامج الأفلام بتنوع يعكس تداخل الواقع والخيال وطرح أسئلة جمالية وفكرية. وفي كلمته الختامية، توجه مدير المهرجان أحمد الملا إلى الحضور بالقول "كل عام، تضيفون لمهرجاننا قصة جديدة. اليوم، نحتفل بالإبداع الذي صنعناه معًا".

أحمد أمين الهارب من ظله إلى إبداع الشاشة
أحمد أمين الهارب من ظله إلى إبداع الشاشة

الجزيرة

time٠٧-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

أحمد أمين الهارب من ظله إلى إبداع الشاشة

قبل عشر سنوات بأشهر، وتحديدا قبل 2015، كان أحمد أمين صحفيًّا، وذا خبرة واسعة في مجال الأطفال، وله باع طويل في تقديم المحتوى الموجه إلى نفس الفئة العمرية. وقد كتب عدة مسلسلات رسوم متحركة شهيرة، غير أن هذه الشهرة لم تنعكس على شخصه، فظل متواريًا في الظلال حتى قرر ترك كل ذلك خلفه والبدء من جديد، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره. أحمد أمين ممثل ومقدم برامج وصحفي سابق، تنقّل بين كل الأدوار السابقة بمهارة، وترك بصمة في هذه المجالات. فهو لم يقدمها روتينيا، بل جعلها تشبهه، وهذه صفة تميز الفنان الحقيقي. قفزة ثقة أحمد أمين من جيل الثمانينات، شهدت حياة هذا الجيل العديد من السمات المشتركة، فهم أبناء مغتربين في الدول العربية، فعلى سبيل المثال، أمين من مواليد دولة الكويت، عمل فيها والده. وتربى كثير من أبناء هذا الجيل على الفصل الصارم بين الهوايات والمسيرة المهنية التي تؤمن لقمة العيش. فبينما عشق أمين الفن بأشكاله المتعددة والتحق بكلية فنون جميلة، إلا أنه عمل في صحافة الأطفال سنوات قبل أن يقرر التخلي عن هذه المسيرة التي تُقيد مواهبه، وقفز بثقة تجاه ممارسة الفنون بالصورة التي يحلم بها. يقول أحمد أمين في أحد البرامج التلفزيونية، إنه استلهم هذه القفزة الشجاعة من أخيه الأكبر، الذي ترك كذلك عمله في الإعلانات ليتفرغ للفن التشكيلي، في خطوة قد يعتبرها كثيرون مغامرة شديدة التهوّر. فكثيرون يتصورون في أنفسهم الموهبة، وقد يكونون موهوبين فعلا، غير أن القليلين هم من تستطيع الموهبة الوصول بهم إلى بر الأمان المادي والنجاح العملي. في السنوات التي سبقت عام 2015، شغل أحمد أمين منصب رئيس تحرير مجلة "باسم"، وبحث عن منفذ لهواياته الفنية، فشارك في صناعة أفلام قصيرة مع زملائه، وكتب العديد من مسلسلات الرسوم المتحركة للأطفال، منها "سكر وبنجر" و"كراكيب" و"بسنت ودياسطي" بأجزائه، و"القبطان عزوز" بأجزائه كذلك. غير أنه قرر مواجهة الكاميرا لأول مرة عام 2015، واستغلال انتشار منصة "يوتيوب" في تقديم فيديوهات قصيرة تحت عنوان "30 ثانية"، يسخر فيها من مواقف حياتية اعتيادية بأسلوب طريف استطاع الوصول إلى مستخدمي المنصة سريعا، وتحويل محتواها إلى صيحة رائجة للغاية، الأمر الذي أهله للخطوة التالية التي ربما كانت حلمًا من أحلامه وقتا طويلا، ولم يتخيل تحققه بهذه السرعة. في 2016، انتقل أحمد أمين ومحتواه الساخر وأسلوبه الذكي للغاية في النقد الاجتماعي من "يوتيوب" إلى التلفاز، في برنامج "البلاتوه" الذي استمر ثلاثة مواسم، وساهم في تحريك المياه الراكدة في البرامج التلفزيونية التي استولى عليها شكل البرامج الحوارية أو "التوك شو" سنوات. الوصول إلى الحلم داعب حلم التمثيل أحمد أمين منذ سن مبكرة، ورغم اتخاذه خطوات فنية، سواء عبر اليوتيوب أو برنامج "البلاتوه" الذي قدم فيه أدوارًا متعددة، إلا أنه ظل "الحلم" أو الخطوة القادمة التي لا بد منها. وفعلا، في 2017، ظهر أمين في مسلسل "خلصانة بشياكة" في دور صغير، ثم في فيلم "الكنز" في دور مطرب في ملهى بأحد العصور القديمة التي تناولها الفيلم. غير أن فرصته الأولى كممثل أتت له في مسلسل "الوصية" خلال رمضان عام 2018. قدم مسلسل "الوصية" لأحمد أمين الفرصة ليظهر بصورة مختلفة عمّا اعتاده المشاهدون في "البلاتوه" أو في "30 ثانية"، فعلى مدار الثلاثين حلقة كان الشريك المثالي لبطل المسلسل أكرم حسني في تقديم كوميديا طريفة نافست مسلسلات الموسم الرمضاني المتخم بالأعمال الكوميدية، وأثبت المسلسل، أن أحمد أمين لا يزال لديه المزيد ليقدمه لجمهوره. بعد التمثيل في احترافية في "الوصية"، أخذ أحمد أمين خطوة فنية مختلفة، وذلك عبر "أمين وشركاه"، وهو برنامج يقدم في حلقاته اسكتشات وعروضا تمثيلية ومسرحية مختلفة، وساهم في ظهور عدد من الممثلين الذين أصبحوا من الوجوه المعروفة في السنوات التالية، مثل حاتم صلاح ورحمة أحمد. وذلك قبل أن يعود أمين مرة أخرى للتمثيل، لكن هذه المرة بصورة مفاجئة للعديد من محبيه. فبينما يمكن تصنيف كل البرامج والأعمال التلفزيونية والسينمائية السابقة تحت إطار "الكوميديا"، فإن مشروعه التالي ينتمي بصورة كبيرة إلى الرعب، ويُعتبر أول عمل مصري على منصة نتفلكس، وهو مسلسل "ما وراء الطبيعة" الذي قدم فيه دور طبيب أمراض الدم "رفعت إسماعيل" الذي يعرفه كثير من القراء عبر السلسلة القصصية التي نُشرت على مدار العقود الماضية وكتبها الراحل أحمد خالد توفيق. وبالرغم من الحس الساخر الشهير لشخصية رفعت إسماعيل الأدبية، إلا أنه أكثر تعقيدًا من الناحية الدرامية عند مقارنته بما قدمه أحمد أمين من قبل على الشاشة. وبالتالي، انتهج الممثل أسلوبًا آخر في التمثيل، أظهر جانبًا مختلفًا من موهبته، وجعله يخرج من إطار الممثل الكوميدي الذي ضاقت به هذه الموهبة. الأمر الذي أهله لتقديم دور أكثر تعقيدًا وصعوبة في مسلسله التالي "جزيرة غمام"، والذي يقدم فيه دور الثائر الزاهد "عرفات" الذي يحارب الشر في الجزيرة التي تحمل نفس اسم المسلسل، ويتم استغلال سكانها من أشرار يبحثون عن كنوزها. يعود أحمد أمين للكوميديا مرة أخرى في "الصفارة" عام 2023، وهو المسلسل الذي ساهم في تأكيد موهبة كل من "طه دسوقي" و"آية سماحة". فكعادته، يسمح أمين لممثلين بجواره للتألق، ويعطي لهم الفرصة لإظهار أفضل ما عندهم، وهو الأمر الذي يقوم به مرة أخرى في 2025 بمسلسل "النص" الذي عُرض خلال رمضان الجاري. إعلان غرد "النص" خارج سرب المسلسلات المتنافسة في هذا الموسم، فهو ذو لمسة كوميدية واضحة، غير أنه ليس المنافس المثالي لمسلسلات مثل "أشغال شقة" و"الكابتن". فهو يقدم كوميدياه في إطار من الدراما التاريخية، وتدور أحداثه خلال الاحتلال الإنجليزي مصر، حول شخصية "النص" النشال الذي يُحارب المحتلين بأسلوبه الخاص. خلال السنوات العشر الماضية، قدم أحمد أمين أوجهًا مختلفة لموهبته؛ فهو الممثل الذي هرب من سجن الكوميديا بصورة غاية في البراعة، ومقدم البرامج التي لم يهجرها بمجرد نجاحه كممثل، بل يسعى لتقديم كل ما هو جديد ومختلف، كما في برنامجه "الفاميليا" في 2022، والكوميديان الذي يظهر في مشاهد قليلة كضيف شرف ويسرق الأضواء. ولا يزال لديه المزيد ليقدمه في السنوات القادمة.

مسلسل "النُّص".. حين يصبح "النشال" بطلا قوميا
مسلسل "النُّص".. حين يصبح "النشال" بطلا قوميا

الجزيرة

time١٦-٠٣-٢٠٢٥

  • الجزيرة

مسلسل "النُّص".. حين يصبح "النشال" بطلا قوميا

تكمن خطورة الدراما في قدرتها على إضفاء البطولة على أي شخصية حتى ولو كان سارقا أو قاتلا، ولعل انقلاب الهرم في العالم وفي الغرب بصفة خاصة يعود في جزء كبير منه إلى موجة الأفلام الهوليودية التي انحازت إلى زعماء العصابات، وأشهرها "العراب" 1972 للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، و"رفاق طيبون" 1990 لمارتن سكورسيزي. وفي تاريخ الفن المصري تعد ملحمة "أدهم الشرقاوي الإذاعية" 1962 واحدة من أكثر حالات سوء الفهم التي سببتها الدراما حين اقتحمت عالم "أدهم الشرقاوي" الغامض وأظهرته بطلا ومناضلا وطنيا خالصا، في حين أكد عدد من معاصريه أنه لم يكن إلا شخصا منحرفا أسال الدماء في قريته وقتل الكثير من الأبرياء. ويلعب الفارق الزمني والاجتماعي بين حالتي القاتل أدهم الشرقاوي والنشال عبد العزيز النص بطل مسلسل "النُّص" لصالح الأول فنيا، لكنه يسجل حقيقة جديدة لصالح النشال التائب ولصالح الجمهور أيضا، وهي ذلك النضوج الذي تلقى جمهور المشاهدين به العمل، واعتبار أنه لم يكن إلا عملا فنيا جيدا. نشال في سبيل الوطن يعتمد مسلسل "النُّص" -الذي يُعرض منذ بداية رمضان- على تكييف درامي لعمل صحفي/ أدبي مستوحى من "مذكرات نشال" التي كتبها الصحفي المصري أيمن عثمان، مستندا إلى نصوص تعود إلى المعلم عبد العزيز النُّص، وهو نشال سابق عاش في مصر خلال عشرينيات القرن الماضي. ونُشرت هذه المذكرات لأول مرة عام 1927 في جريدة "لسان الشعب"، وأثارت حينها جدلا واسعا نظرا لطبيعتها الفريدة، إذ تسرد تفاصيل تجارب شخصية حقيقية لنشال يصف مغامراته في عالم الجريمة بأسلوب غير مألوف. وشارك في كتابة سيناريو المسلسل كل من عبد الرحمن جاويش وسارة هجرس ووجيه صبري، في حين قدّم أحمد أمين دور البطل عبد العزيز النُّص، ليضفي على العمل طابعا خاصا. تميز المسلسل بأسلوبه المختلف عن المعتاد، إذ وظف أمين فكرة تقديم معلومات مكتوبة توضح المفردات الاجتماعية والتاريخية المستخدمة في حوار كل حلقة، مما جعل المشاهدة أشبه بتجربة قراءة كتاب، فيتنقل المشاهد بين متن الحكاية وهوامشها لفهم أبعادها التاريخية والاجتماعية بعمق أكبر. ورغم أن نشال العمل الأصلي -الذي قدمه المؤلف أيمن عثمان في كتابه- لم يكن صاحب دور وطني في مقاومة الإنجليز إبان احتلالهم مصر فإن المسلسل حوّله من مجرد نشال إلى "نشال في سبيل الوطن"، وهو أمر يبدو مخيفا في ظل التداخل القيمي بين سلبية صورة "النشال" الذي هو سارق يستحق العقاب والاحتقار الاجتماعي وبين القيمة الإيجابية لمن يناضل في سبيل وطنه، وبالتالي يمكن ببساطة أن يغفر له نهبه الأبرياء والمساكين مقابل عمله من أجل الوطن. يثبت أحمد أمين في "النُّص" مكانته بصفته مبدعا شاملا، وليس مجرد ممثل فقط، ويؤكد رغم اقتصار عمله على الدراما التلفزيونية دون السينما أنه يقف في مقدمة صناع الدراما المشرقة التي تقدم التشويق والإثارة بشكل ناضج لا مراهقة فيه، كما تقدم الترفيه والمعرفة دون مبالغة أو تعقيد. تدور أحداث مسلسل "النُّص" في النصف الأول من القرن الـ20 حينما كان المجتمع المصري منقسما اقتصاديا بين طبقتين واضحتين: الأولى تضم الملك وحاشيته والإنجليز الذين ينعمون بالثراء والسلطة، في حين تتألف الطبقة الثانية من الأغلبية الفقيرة من الشعب المصري التي تكافح من أجل لقمة العيش. عبد العزيز النُّص -وهو نشال تائب- يعمل "كمسري" (محصّل التذاكر) في ترام القاهرة، ويتولى رعاية شقيقه الأصغر الذي يدرس بكلية الحقوق، لكن سرعان ما تتعقد حياته عندما يُقبض على شقيقه بسبب انتمائه إلى تنظيم فدائي سري يقاوم الاحتلال البريطاني. يحاول عبد العزيز بكل الطرق تأمين الإفراج عن أخيه، لكنه يجد أن راتبه من عمله الشريف لا يكفي لتغطية أتعاب المحامي، فيجد نفسه مضطرا للعودة إلى عالم النشل لجمع المال اللازم. ومع عودته إلى مهنته السابقة يعيد عبد العزيز إحياء علاقاته القديمة في عالم الجريمة، لكنه يلتزم بمبدئه الأساسي: عدم سرقة الفقراء، وخلال إحدى عملياته يسرق رجلا إنجليزيا ثريا، ليجد نفسه لاحقا في مواجهة غير متوقعة، إذ يستعين به ضابط شرطة وطني في خطة تهدف إلى إحباط عمليات تهريب الآثار المصرية من قبل قوات الاحتلال. وهكذا يتحول عبد العزيز من نشال عادي إلى نشال وطني مستخدما مهاراته لخدمة المقاومة، ويلتحق به آخرون ممن يرغبون في المشاركة في النضال بأسلوبهم الخاص. أحمد وأسماء وحمزة شهد مسلسل "النُّص" مباراة في الأداء التمثيلي كان طرفاها أحمد أمين بطل العمل والممثل ذو الألف وجه حمزة العيلي الذي جسّد دور "درويش" صاحب الطموحات الفنية بلا قدرات، والذي يعمل على هامش الفن في مخزن ملابس أحد المسارح، لكنه يرى أن مكانه هو خشبة المسرح، في حين لا يستطيع أن يتحدث بشكل سليم. يشكل "درويش" أو حمزة العيلي تلك المفارقة الأبدية بين الأحلام والقدرات التي تؤدي بصاحبها إلى أن يتحول إلى مسخ في أنظار الآخرين، وقد نجح حمزة دون افتعال في إتقان تقديم الشخصية في حالاتها المختلفة بشكل آسر ومفجع. وعلى العكس، قدمت أسماء أبو اليزيد دور رسمية المحتالة الجميلة، لتبدو بين أجواء العمل كما لو كانت قادمة من المستقبل، فقد أكد إيقاع حديثها وأدائها وحركتها أنها تنتمي إلى اللحظة الحالية، ويبدو غياب دور المخرج معها واضحا. إعلان وقدّم الممثل عبد الرحمن محمد دور "زقزوق" ابن زوجة "النص" ورفيقه في رحلة النهب والوطنية بشكل مميز، ويعد بكوميديان جيد في المستقبل. الانسحاب إلى الماضي لطالما اتبعت الدراما المصرية نهج "الموجات"، إذ يؤدي نجاح عمل معين إلى ظهور مجموعة من الأعمال المشابهة في المواسم اللاحقة، فعندما يحقق مسلسل تاريخي نجاحا تمتلئ الشاشات في رمضان التالي بعدد من المسلسلات التي تسير على النهج ذاته. ومن أبرز هذه الظواهر "موجة دراما الطرابيش" التي اجتاحت الدراما المصرية في العقد الأول من القرن الـ20، تماما كما يحدث في السينما، إذ تتحول الاهتمامات الإنتاجية بين مواضيع مختلفة، من أفلام تجارة المخدرات إلى أفلام المغامرات بحسب النجاح الذي يحققه كل نوع. وفي هذا السياق، جاء مسلسل "عمر أفندي" من تأليف مصطفى حمدي وبطولة أحمد حاتم ورانيا يوسف وآية سماحة ومصطفى أبو سريع، وإخراج عبد الرحمن أبو غزالة، ليعيد إحياء روح "دراما الطرابيش" لكن بأسلوب مختلف. فبينما كانت هذه الدراما في السابق تدور حول قصور الباشوات ونواديهم الفاخرة اختار "عمر أفندي" أن ينقل الأحداث إلى عالم البسطاء، مقدما رؤية أكثر التصاقا بالحياة اليومية لعامة المصريين، وهو ما ساعده في تحقيق نجاح كبير عند عرضه في سبتمبر/أيلول الماضي. أما مسلسل "النُّص" فقد اتخذ طريقا أكثر عمقا في تصوير المجتمع المصري، إذ لم يكتفِ بتقديم أماكن وبيوت تعكس حياة تلك الفترة، بل أعاد إحياء القاموس اللغوي للثلاثينيات، مما أضفى على العمل طابعا كوميديا خاصا، إذ بدت المصطلحات التي يستخدمها الأبطال وكأنها قطع أثرية لغوية مستخرجة من متحف التاريخ. هذا الاهتمام بالتفاصيل جعل العمل ثريا بصريا ولغويا، وأتاح للمشاهدين فرصة الغوص في أجواء زمن ماضٍ، ربما بدافع الحنين إليه أو للهروب من قسوة الحاضر، خاصة في ظل التحولات الحادة التي شهدها المجتمع المصري منذ الثلاثينيات وحتى الآن. بهذا الشكل، نجح مسلسل "النُّص" -وهو تعبير عامي يشير إلى "النصف"- في حجز مكانه على قمة دراما رمضان، ليس فقط بسبب ارتفاع نسب مشاهدته، بل لأنه قدّم عملا يحترم عقل المشاهد ويمنحه تجربة درامية تتجاوز حدود اللحظة الآنية، في زمن بات أكثر قبحا وتعقيدا، ليصبح بمثابة نافذة على ماضٍ أكثر دفئا وأصالة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store