
تقسيم سوريا بين الحلم والواقع
بقلم : جمال بن ماجد الكندي
مسألة تقسيم سوريا حلم راود ويُراود القوى الاستعمارية الإمبريالية في المنطقة، ومعها الكيان الصهيوني، وله واقع على الأرض إما أن ينسجم معه أو يخالفه، وهذه المخالفة تنبع من المجتمع السوري نفسه الذي يصنع هذا الواقع لأنه يدرك تبعات تقسيم سوريا إلى دويلات صغيرة يكون قرارها السياسي والعسكري ليس بيدها، بل بيد من قسمها واحتمت بظله.
بدأت مقالتي بهذه المقدمة لسرد سرديتين؛ إحداهما حصلت في الماضي، والأخرى تحصل اليوم، وكلا السرديتين يُراد منهما تقسيم سوريا، فوقعت بين حلم التقسيم من قبل المستعمر، والواقع السوري الذي إما أن يثبت الحلم أو يقضي عليه. وللقضاء على هذا الحلم، لا بد أن تكون هناك مقومات لدى السلطة السياسية، والزعامات الطائفية في سوريا، وهي مبدأ سوريا الموحدة تحت علم واحد، حاضنة لكل الأقليات والإثنيات المتنوعة فيها، والتي تُقدر بأكثر من 30% من سكان سوريا. فمن خلال هذه الأقليات، يشتغل الإسرائيلي وغيره على تفتيت المجتمع السوري وإيجاد دويلات الطوائف.
من هنا، سنذكر السردية الأولى أو الحلم الذي كان يراود الاستعمار الفرنسي لتقسيم سوريا. ففي عام 1920م، بعد معركة ميسلون الشهيرة التي انتهت باحتلال فرنسا لسوريا، أرادت فرنسا تقسيم سوريا إلى عدة كيانات طائفية بهدف السيطرة عليها ومنع تكوين دولة سورية موحدة وقوية. فكان المشروع يهدف إلى تقسيم سوريا إلى: دولة حلب، دولة دمشق، دولة الدروز، دولة العلويين، على أن يكون أساس هذا التقسيم طائفياً في هذه الدويلات الأربع. فماذا واجه هذا المشروع الاستعماري؟ واجه على الأرض الواقعَ السوري في ذلك الوقت، وهو الرفض. فالتاريخ النضالي السوري يذكر لنا أن مقاومة هذا المشروع بدأت من مناطق الأقليات السورية، وهي المناطق التي من خلالها يدخل المحتل لهدم بنيان الوحدة السورية.
بدأت الثورة السورية الكبرى ضد المستعمر الفرنسي، وعندما يكون هناك مستعمر، تتوحد كل القوى الوطنية في الوطن، وهذا ما حدث في سوريا. بدأت الثورة السورية الكبرى عام 1925، وقادها سلطان باشا الأطرش، وهو درزي من جبل العرب (محافظة السويداء)، وهي من المحافظات التي يحاول الإسرائيلي اليوم استغلالها لتكوين دويلة درزية تحت ذريعة الحماية. فشل الفرنسيون في الماضي في تكوين هذه الدويلة، لأن هناك قيادات وطنية، مثل سلطان باشا الأطرش، حاربت هذا المشروع، فتبعها وطنيون سوريون في دمشق وحماة وحلب واللاذقية، وستبقى أسماؤهم خالدة لأنها أفشلت مشروع التقسيم. ومن أبرزهم: صالح العلي، إبراهيم هنانو، وقبلهم وزير الدفاع السوري وقائد معركة ميسلون يوسف العظمة، وغيرهم من القادة السياسيين والعسكريين الذين أفشلوا المخطط الفرنسي لتقسيم سوريا. وبهذه اللحمة الوطنية، تحقق لسوريا الاستقلال الكامل تحت علم واحد في 17 أبريل 1946، وأصبح هذا اليوم عيداً للسوريين يسمى عيد الجلاء.
ما ذكرته في السردية التاريخية هو ما كان يُراد تحقيقه من قبل المحتل الفرنسي، فكان حلمهم، لكن أفشله الواقع، فالسوريون في ذلك الوقت لم يرضوا بدولة الطوائف. وسوريا اليوم أمام السيناريو نفسه، بل هو أشد وأقسى وأعقد، ويتطلب رجالًا وطنيين من طينة من واجهوا الاستعمار الفرنسي، لأنه في الماضي كانت فرنسا وحدها من تقود هذه الجبهة، أما اليوم فمن يقود هذه الجبهة كُثُر، ليس أولهم ولا آخرهم العدو الصهيوني.
فماذا حصل ويحصل في سوريا اليوم؟ لسرد هذا الأمر لا بد أن نرجع إلى ما قبل عام 2011م، أي قبل الربيع العربي، حيث كانت سوريا تحت قيادة واحدة، وإن كانت سلطوية، ولكن على الأرض، مقارنة بالوضع الحالي، كانت تنعم بدرجة كبيرة من الأمان والاستقرار والوحدة الوطنية، والمواطنون يعيشون حياتهم اليومية بشكل طبيعي من دون خوف من القتل بالهوية كما يحصل اليوم.
قبل 2011م لم تكن هناك جماعات مسلحة تسيطر على أجزاء من البلد، ولم يكن هناك تهجير جماعي أو أزمة لاجئين ومهجرين كما حدث بعد هذا العام، كان الوضع الاقتصادي جيدًا، ولم يكن هناك انهيار للعملة السورية، والأسعار لم تكن تتضاعف بشكل جنوني كل يوم، كل هذا وأكثر لم يكن قبل 2011م، والأهم من ذلك، كان هناك تعايش سلمي بين مختلف الطوائف السورية دون انقسامات عميقة ينتج عنها إهدار الدم ونزاعات طائفية مسلحة كما هو الحال في سوريا الجديدة.
ذكرتُ هذه السردية للواقع السوري قبل الربيع العربي لأصل إلى نتيجة ما بعد ربيع سوريا، إن صح تسميته بذلك، فالجميع يعلم بعشرية النار، وهي الحرب السورية بين الحكومة السورية السابقة والجماعات المسلحة في الجغرافيا السورية بكل صنوفها وأجنداتها السياسية، ومن يقف معها، إلى أن توقفت الاشتباكات بين الجيش السوري السابق وهذه الجماعات، وتكوَّن واقع سياسي وعسكري ظلَّ تقريبًا لسبع سنوات باتفاقات مبرمة وأمر واقع.
فكانت في الجغرافيا السورية ثلاثة أعلام تقف وراءها دول تساند هذه الأعلام، وقد ذكرتها سابقًا في مقال مفصل بعنوان 'ثلاثة أعلام في دولة': دولة المسلحين أو حكومة إدلب، وهم تحت المضلة التركية، وسميتها دولة المسلحين ليس عبثًا، ولكن بسبب الاتفاقيات مع الحكومة السورية السابقة، التي بموجبها تم إرسال هؤلاء المسلحين إلى محافظة إدلب السورية، ولها علمها الخاص. أكراد سوريا، الذين هم تحت المضلة الأمريكية في شمال شرق سوريا، ولهم علمهم الخاص. النظام السوري السابق، الذي كان يستحوذ على ما يقارب 70% أو أكثر من الجغرافيا السورية، وكان حلفاؤه هم الروس والإيرانيون.
ظلَّ هذا الوضع ما يقارب سبع سنوات في ظل مساكنة عسكرية بين الدويلات الثلاث -إن صح التعبير-مع وجود الموارد الطبيعية السورية تحت سيطرة دويلة الأكراد مع الحليف الأمريكي، وهذا بدوره خلق أزمة اقتصادية للحكومة السورية السابقة مع قانون قيصر الأمريكي.
جاء يوم التغيير الكبير قبل ثلاثة أشهر أو أكثر بقليل، وفي غضون عشرة أيام، ورثت حكومة إدلب بقيادة هيئة تحرير الشام حكومة دمشق، وعندما أقول 'ورثت' أقصد أن الموضوع صار بأمر سياسي، وانتهى حكم بشار الأسد دون مواجهة عسكرية حقيقية. أسرار سقوط الحكومة السورية السابقة ربما ستكشف يومًا ما، فالأيام دول.
يهمنا هنا أن هيئة تحرير الشام بدَّلت علم الدولة الرسمي الممثل في المحافل الدولية بعلمها الخاص، وتغير كل شيء؛ فهيئة تحرير الشامسيطرت على ما كانت تسيطر عليه حكومة بشار الأسد السابقة، ما عدا ما تسيطر عليه قسد وحكومتها في شمال شرق الفرات. هذه السيطرة الدراماتيكية لمسلحي إدلب، بتنوعاتهم الأصولية المختلفة، لم يستوعبها حتى الذين سيطروا على ما كانت تسيطر عليه حكومة بشار الأسد السابقة بهذه السرعة.
ومن جانب آخر، الشعب السوري تعب من القتال، ومنهك من الحصار الاقتصادي، وأراد من هذا التغيير أن يُفك الحصار الاقتصادي على سوريا بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد، لأن الغرب وأمريكا كانوا يحاصرون حكومة بشار الأسد بسبب البعد الإيراني والروسي. ولكن بعد سقوط الأسد بثلاثة أشهر، ما زال الحصار الاقتصادي قائمًا، لأن أمريكا تريد تنازلات أكثر من الحكومة الحالية، وعلى رأسها التنازل رسميًا عن الجولان.
من هنا، سندخل في مسألة الأقليات في سوريا، والتي هي بوابة التقسيم المفضلة لدى القوى الاستعمارية في المنطقة ولدى إسرائيل. فحكومة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة ببشار الأسد، تقع تحت سيادتها مناطق الأقليات المذهبية والطائفية في سوريا، ما عدا الأكراد في شمال شرق الفرات، وأقصد الدروز في محافظة السويداء، والعلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وبعض مناطق تواجد العلويين في سوريا، بالإضافة إلى الطائفة الشيعية.
قبل سقوط النظام السوري السابق، كان هناك تعايش سلمي بين هذه المكونات والحكومة، وبما أن رأس الحكومة السورية السابقة كان من هذه الأقليات، فقد كانت الحكومة السابقة متشكلة تقريبًا من جميع ألوان الطيف السوري، وتحكمها المظلة الوطنية، كما أن قوات الجيش والأمن كانت من هذا النسيج المتنوع في سوريا.
مشكلة حكام سوريا الجدد أنهم من لون واحد، راديكالي التوجه، حتى مع إخوتهم السنة في دمشق وحلب وغيرها. كما أنهم يحملون عداءً دموياً تجاه الأقليات الإثنية والمذهبية في سوريا، وهذا كان واضحًا أبان المعارك مع الحكومة السورية السابقة خلال عشرية النار السورية. وعند استلامهم الحكم في سوريا، بدأ الصدام مع الدروز في السويداء، ورُفِعت رايات الجهاد التي تعودنا سماعها ضد إخوة الوطن من قبل هذه الجماعات المسلحة، بينما تُرك جهاد المحتل الإسرائيلي، الذي يحتل أجزاءً من ثلاث محافظات جنوبية في سوريا.
مشروع التقسيم القديم بقيادة فرنسا ظهر اليوم لدروز السويداءمن البوابة الإسرائيلية، وأصبح التهديد بالتدخل لحماية الدروز معلنًا من قبل الإسرائيليين. ولكن وطنية رجال سلطان باشا الأطرش تُجهض كل مساعي الكيان الصهيوني لضم محافظة السويداء أو جعلها دويلة مستقلة تحت حمايته.
الأحداث الأخيرة الدامية في اللاذقية وطرطوس، وهي مناطق الأقلية العلوية في سوريا، تعيد مشهد الحرب الطائفية في هذا البلد، والحكومة السورية الجديدة، ومسلحوها الذين أصبحوا من رجال الأمن والجيش السوري الرسمي، للأسف، يرفعون ذات الشعارات الطائفية، لأنمكون هذا الجيش مبني على هذه الأيديولوجية المذهبية المقيتة.
ولا عجب في ذلك، لأن هذا المكون ليس سوريًا خالصًا، ففي بنيةالجيش والأمن للحكومة السورية الجديدة يوجد الشيشاني، والتركماني، والقوقازي، وحتى العربي، ومقاطع الفيديو منتشرة لجرائمهم ضد المدنيين وموثقة حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. ومن المفارقات أن ذات المرصد كان نفسه يوثق تجاوزات الحكومة السورية السابقة.
حلم تقسيم سوريا من قبل الفرنسيين في بداية القرن الماضي، كان حجر عثرة أمام الوحدة الوطنية السورية، فتمت محاربة فرنسا بهذه الوحدة من قبل جميع السوريين، بكافة طوائفهم المختلفة، فكان حلمًا استعماريًا بدده الواقع السوري في ذلك الوقت.
اليوم، حلم التقسيم يدخل سوريا من بوابات مختلفة: أمريكية، تركية، إسرائيلية، والوضع أخطر بكثير من السابق. ولكن يوجد بصيص من الأمل باتخاذ عدو مشترك، وهو الإسرائيلي، وانطلاق الوحدة الوطنية من هذه البوابة. والحكومة السورية الجديدة، إذا أرادت البقاء، فلا بد أن تغير من عقيدتها القتالية ونظرتها الراديكالية الأصولية تجاه المكون المختلف عنها، وتجعل الجامع هو الوطن والمواطنة.
ويجب أن تكون هناك مشاركة واسعة وحقيقية في الحكومة والجيش والقوى الأمنية لكل مكونات الشعب السوري دون إقصاء أو تهميش، لكي تقضي على كل دعوات التقسيم، خاصة تلك التي تصدر عن الكيان الصهيوني. إن وحدة سوريا ليست مجرد شعار، بل هي الضمان الحقيقي لاستقلالها وسيادتها، وهي السد المنيع أمام مشاريع التفتيت التي فشلت سابقًا وستفشل اليوم إذا وعى السوريون خطورة المرحلة.فلا يمكن بناء مستقبل آمن ومستقر إلا بتجاوز رواسب الحرب، والانطلاق نحو مصالحة وطنية شاملة تضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبارات أخرى. فالتاريخ يكتب اليوم، والخيار للسوريين: إما دولة تنهض من تحت الركام، أو دويلات متناحرة تبتلعها مشاريع الهيمنة الخارجية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جريدة الرؤية
٠٧-٠٥-٢٠٢٥
- جريدة الرؤية
اليمن يُغيِّر المعادلة السياسية من البوابة العسكرية
جمال بن ماجد الكندي ثمَّة صورة نمطية للشخصية اليمنية لدى الغرب؛ بل وحتى لدى بعض العرب، وهي صورة مستمدة من الهيئة الخارجية للإنسان اليمني، ويُقاس بها مدى تقدم اليمن وتطوره! هذه الصورة النمطية تتحكم في عقول الغرب، فلا يستطيعون تصور تقدّم اليمن في ظل هيئته وطريقة عيشه وثقافته، وتبعيته- قبل ثورة 21 سبتمبر- للخارج. اليمن يُثبت اليوم أنَّه قائد من قادة العرب، من خلال ما يقوم به في البحر الأحمر، وما يقدمه من نصرة للشعب الفلسطيني. لقد غيّر اليمن المُعادلة السياسية والعسكرية والإعلامية في المنطقة، عبر حادثتين بارزتين: الأولى، سقوط طائرة F-18 من على متن حاملة الطائرات الأمريكية "ترومان" بفعل الضربات الصاروخية والمسيرات اليمنية، والثانية الصاروخ الفرط صوتي الذي ضرب مطار بن غوريون الإسرائيلي. اليمن اليوم يفعل ما لم تفعله جيوش عربية بأن يقاتل في جبهتين، جبهة البحر الأحمر ضد حاملات الطائرات الأمريكية بمُسمياتها المختلفة، وضد العدو الإسرائيلي بضربه في عمقه الاستراتيجي، نصرة لغزة العزة فماذا يعني ذلك سياسيًا وعسكريًا. المعادلة السياسية تتحقق غالباً من البوابة العسكرية فعن طريق القوة والتأثير العسكري تتغير المعادلة السياسية، بل تتعدى الجغرافيا المُعينة ونقصد هنا اليمن إلى دائرة أوسع لتشمل ملفات أخرى، كون اليمن من محور بات يُعرف في المنطقة بأنَّه محور المقاومة المساند لغزة، والمناهض للهيمنة الأمريكية والبلطجة الإسرائيلية. برز هذا العنوان بعد معركة "طوفان الأقصى" من خلال جبهات المساندة لغزة في معركتها ضد العدو الصهيوني فعرف بمصطلح "وحدة الساحات" فكانت جبهات المساندة من اليمن ولبنان والعراق، والكل يعلم اليوم بأنَّ جبهة لبنان والعراق لأسباب داخلية وسياسية أغلقت، أو وقفت وبقيت جبهة اليمن تصارع وحدها مساندة الشعب الفلسطيني. إسرائيل بعد وقف إطلاق النار في لبنان والمشاركة في تغيير النظام السياسي في سوريا وتمركزها في 3 محافظات سورية، أرادت بعد هذه الأحداث أن ترسم معادلة سياسية جديدة في المنطقة مزهوة بانتصارات حققتها ضد محور المقاومة في المنطقة. ربما تكون إسرائيل حققت انتصارات نوعية في استهداف قادة كبار سياسيين وعسكريين من أمثال السيد حسن نصر الله، ولكنها لم ولن تستطيع القضاء على فكرة المقاومة؛ لأنها ببساطة فكرة لا تموت بموت قادتها . ما أصاب الأمريكان والإسرائيليين من قبل حكومة صنعاء غير المعادلة السياسية، من نشوة فرحة هزيمة هذا المحور، إلى التفكير بمهادنته، خاصة بعد استهداف حاملة الطائرات الأمريكية "هاري ترومان" وإصابتها إصابات مباشرة وقبلها "آيزنهاور" والصاروخ الفرط صوتي الذي أصاب العمق الإسرائيلي. المعادلة السياسية تتغير تجاه اليمن من قبل الأمريكان بفضل ضربات البحر الأحمر، فمجرد القبول بوقف التصعيد العسكري بين أمريكا واليمن يعتبر فشلًا أمريكيا كبيرًا في تحييد حكومة صنعاء، فقد أعلن وزير الخارجية العُماني معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي، التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار بين الولايات المتحدة وأنصار الله اليمنية بعد اتصالات أجرتها سلطنة عُمان مع الطرفين. وهذا يعني استعداد الطرف الأقوى هنا وهو الأمريكي بقبول الواسطة العُمانية، لأن الحل العسكري لم ينفع في منع حكومة صنعاء من استهداف القطع العسكرية الأمريكية في البحر الأحمر، فجاء هذه الاتفاق اعترافًا من الأمريكي بعجزه عسكريًا عن تغيير المشهد العسكري في المنطقة لصالح إسرائيل. هذا الاتفاق هو نصر سياسي يمني استطاع اليمنيون انتزاعه من الأمريكان بفضل الصواريخ اليمنية التي غيرت المعادلة العسكرية في المنطقة، خاصة بعد سقوط طائرة إف-18 الأمريكية، ولا يعني هذا الاتفاق بأن اليمنيون سوف يوقفون أسنادهم لغزة عبر استهداف العمق الإسرائيلي، فقد ذكر عبر منصة إكس محمد البخيتي عضو اللجنة السياسية في حركة أنصار الله، أن "العمليات العسكرية لدعم غزة لن تتوقف حتى يتوقف العدوان عليها، ويرفع الحصار عنها لدخول الغذاء والدواء والوقود إليها". وذكر كذلك "أما بالنسبة لهجماتنا على الولايات المتحدة فهي تندرج في سياق حق الدفاع عن النفس، إذا أوقفت هجماتها علينا، فستتوقف هجماتنا عليهم وينطبق هذه الموقف على بريطانيا". النصر العسكري اليمني في البحر الأحمر نتج بقبول أمريكا وقف التصعيد مع اليمن، وهذا الأمر سوف يترجم سياسيا في الملف الفلسطيني، وملف المفاوضات الإيرانية الأمريكية لعقد اتفاق نووي جديد بينهما كيف ذلك، هنا نقول إن المدخلات العسكرية لها مخرجات سياسية. ففي الملف النووي، ما حصل في اليمن انعكس إيجابًا على مسار التفاوض الإيراني-الأمريكي، إذ ينقل الوسيط العُماني رسائل مطمئنة تعكس رغبة الطرفين في عقد هذا الاتفاق. ويعود التفاؤل إلى فشل تجربة اليمن- إن صح التعبير- والتي كانت تُستخدم كعصا لترهيب الإيرانيين ودفعهم إلى التفاوض من منطلق الضعف وتحت تهديد الحرب. غير أن إيران رفضت هذا الأسلوب وفرضت قواعدها التفاوضية. فقد فشلت الحرب الأمريكية ضد حكومة صنعاء فشلًا ذريعًا، ومن دلائل هذا الفشل قبول الأمريكيين بوقف التصعيد عبر الوسيط العُماني. في غزة، غيَّر الصاروخ الفرط صوتي المعادلة، وأجبر الإسرائيليين على وقف العدوان والدخول في مرحلة تفاوض جديدة، خاصة بعد تخلّي أمريكا عن المواجهة العسكرية في اليمن، وفقًا للاتفاق الأمريكي-اليمني الأخير. وتشير وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن الجانب الأمريكي يضغط على إسرائيل للتوصل إلى صفقة في غزة، إذ إن التصعيد هناك لا يصب في مصلحة بيئة التفاوض لإنهاء الملفات العالقة في المنطقة. إذن الاتفاق مع إيران واليمن سينعكس على جبهة غزة، والعكس صحيح. كما أن الولايات المتحدة بحاجة إلى اتفاق جديد مع إيران لتحصيل منافع اقتصادية لم تُحقق في اتفاق عام 2015، ويُرجّح بعض المراقبين أن هذا هو أحد أسباب انسحاب أمريكا من الاتفاق خلال الولاية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وفي ضوء المتغيرات العسكرية والسياسية المتسارعة، يبرز اليمن اليوم كفاعل إقليمي مؤثر يعيد رسم التوازنات في المنطقة. لقد فرض حضورَه من بوابة الصراع العسكري، فانتقل إلى طاولة السياسة بقوة الإنجاز الميداني. وإن كانت الصواريخ قد غيّرت المعادلات، فإن نتائجها ستنعكس حتمًا على الملفات الكبرى، من غزة إلى الاتفاق النووي. إنها لحظة إعادة تموضع لقوى المقاومة، ورسالة واضحة: لا استقرار دون حساب لليمن ودوره الجديد.


وهج الخليج
٠٩-٠٣-٢٠٢٥
- وهج الخليج
تقسيم سوريا بين الحلم والواقع
بقلم : جمال بن ماجد الكندي مسألة تقسيم سوريا حلم راود ويُراود القوى الاستعمارية الإمبريالية في المنطقة، ومعها الكيان الصهيوني، وله واقع على الأرض إما أن ينسجم معه أو يخالفه، وهذه المخالفة تنبع من المجتمع السوري نفسه الذي يصنع هذا الواقع لأنه يدرك تبعات تقسيم سوريا إلى دويلات صغيرة يكون قرارها السياسي والعسكري ليس بيدها، بل بيد من قسمها واحتمت بظله. بدأت مقالتي بهذه المقدمة لسرد سرديتين؛ إحداهما حصلت في الماضي، والأخرى تحصل اليوم، وكلا السرديتين يُراد منهما تقسيم سوريا، فوقعت بين حلم التقسيم من قبل المستعمر، والواقع السوري الذي إما أن يثبت الحلم أو يقضي عليه. وللقضاء على هذا الحلم، لا بد أن تكون هناك مقومات لدى السلطة السياسية، والزعامات الطائفية في سوريا، وهي مبدأ سوريا الموحدة تحت علم واحد، حاضنة لكل الأقليات والإثنيات المتنوعة فيها، والتي تُقدر بأكثر من 30% من سكان سوريا. فمن خلال هذه الأقليات، يشتغل الإسرائيلي وغيره على تفتيت المجتمع السوري وإيجاد دويلات الطوائف. من هنا، سنذكر السردية الأولى أو الحلم الذي كان يراود الاستعمار الفرنسي لتقسيم سوريا. ففي عام 1920م، بعد معركة ميسلون الشهيرة التي انتهت باحتلال فرنسا لسوريا، أرادت فرنسا تقسيم سوريا إلى عدة كيانات طائفية بهدف السيطرة عليها ومنع تكوين دولة سورية موحدة وقوية. فكان المشروع يهدف إلى تقسيم سوريا إلى: دولة حلب، دولة دمشق، دولة الدروز، دولة العلويين، على أن يكون أساس هذا التقسيم طائفياً في هذه الدويلات الأربع. فماذا واجه هذا المشروع الاستعماري؟ واجه على الأرض الواقعَ السوري في ذلك الوقت، وهو الرفض. فالتاريخ النضالي السوري يذكر لنا أن مقاومة هذا المشروع بدأت من مناطق الأقليات السورية، وهي المناطق التي من خلالها يدخل المحتل لهدم بنيان الوحدة السورية. بدأت الثورة السورية الكبرى ضد المستعمر الفرنسي، وعندما يكون هناك مستعمر، تتوحد كل القوى الوطنية في الوطن، وهذا ما حدث في سوريا. بدأت الثورة السورية الكبرى عام 1925، وقادها سلطان باشا الأطرش، وهو درزي من جبل العرب (محافظة السويداء)، وهي من المحافظات التي يحاول الإسرائيلي اليوم استغلالها لتكوين دويلة درزية تحت ذريعة الحماية. فشل الفرنسيون في الماضي في تكوين هذه الدويلة، لأن هناك قيادات وطنية، مثل سلطان باشا الأطرش، حاربت هذا المشروع، فتبعها وطنيون سوريون في دمشق وحماة وحلب واللاذقية، وستبقى أسماؤهم خالدة لأنها أفشلت مشروع التقسيم. ومن أبرزهم: صالح العلي، إبراهيم هنانو، وقبلهم وزير الدفاع السوري وقائد معركة ميسلون يوسف العظمة، وغيرهم من القادة السياسيين والعسكريين الذين أفشلوا المخطط الفرنسي لتقسيم سوريا. وبهذه اللحمة الوطنية، تحقق لسوريا الاستقلال الكامل تحت علم واحد في 17 أبريل 1946، وأصبح هذا اليوم عيداً للسوريين يسمى عيد الجلاء. ما ذكرته في السردية التاريخية هو ما كان يُراد تحقيقه من قبل المحتل الفرنسي، فكان حلمهم، لكن أفشله الواقع، فالسوريون في ذلك الوقت لم يرضوا بدولة الطوائف. وسوريا اليوم أمام السيناريو نفسه، بل هو أشد وأقسى وأعقد، ويتطلب رجالًا وطنيين من طينة من واجهوا الاستعمار الفرنسي، لأنه في الماضي كانت فرنسا وحدها من تقود هذه الجبهة، أما اليوم فمن يقود هذه الجبهة كُثُر، ليس أولهم ولا آخرهم العدو الصهيوني. فماذا حصل ويحصل في سوريا اليوم؟ لسرد هذا الأمر لا بد أن نرجع إلى ما قبل عام 2011م، أي قبل الربيع العربي، حيث كانت سوريا تحت قيادة واحدة، وإن كانت سلطوية، ولكن على الأرض، مقارنة بالوضع الحالي، كانت تنعم بدرجة كبيرة من الأمان والاستقرار والوحدة الوطنية، والمواطنون يعيشون حياتهم اليومية بشكل طبيعي من دون خوف من القتل بالهوية كما يحصل اليوم. قبل 2011م لم تكن هناك جماعات مسلحة تسيطر على أجزاء من البلد، ولم يكن هناك تهجير جماعي أو أزمة لاجئين ومهجرين كما حدث بعد هذا العام، كان الوضع الاقتصادي جيدًا، ولم يكن هناك انهيار للعملة السورية، والأسعار لم تكن تتضاعف بشكل جنوني كل يوم، كل هذا وأكثر لم يكن قبل 2011م، والأهم من ذلك، كان هناك تعايش سلمي بين مختلف الطوائف السورية دون انقسامات عميقة ينتج عنها إهدار الدم ونزاعات طائفية مسلحة كما هو الحال في سوريا الجديدة. ذكرتُ هذه السردية للواقع السوري قبل الربيع العربي لأصل إلى نتيجة ما بعد ربيع سوريا، إن صح تسميته بذلك، فالجميع يعلم بعشرية النار، وهي الحرب السورية بين الحكومة السورية السابقة والجماعات المسلحة في الجغرافيا السورية بكل صنوفها وأجنداتها السياسية، ومن يقف معها، إلى أن توقفت الاشتباكات بين الجيش السوري السابق وهذه الجماعات، وتكوَّن واقع سياسي وعسكري ظلَّ تقريبًا لسبع سنوات باتفاقات مبرمة وأمر واقع. فكانت في الجغرافيا السورية ثلاثة أعلام تقف وراءها دول تساند هذه الأعلام، وقد ذكرتها سابقًا في مقال مفصل بعنوان 'ثلاثة أعلام في دولة': دولة المسلحين أو حكومة إدلب، وهم تحت المضلة التركية، وسميتها دولة المسلحين ليس عبثًا، ولكن بسبب الاتفاقيات مع الحكومة السورية السابقة، التي بموجبها تم إرسال هؤلاء المسلحين إلى محافظة إدلب السورية، ولها علمها الخاص. أكراد سوريا، الذين هم تحت المضلة الأمريكية في شمال شرق سوريا، ولهم علمهم الخاص. النظام السوري السابق، الذي كان يستحوذ على ما يقارب 70% أو أكثر من الجغرافيا السورية، وكان حلفاؤه هم الروس والإيرانيون. ظلَّ هذا الوضع ما يقارب سبع سنوات في ظل مساكنة عسكرية بين الدويلات الثلاث -إن صح التعبير-مع وجود الموارد الطبيعية السورية تحت سيطرة دويلة الأكراد مع الحليف الأمريكي، وهذا بدوره خلق أزمة اقتصادية للحكومة السورية السابقة مع قانون قيصر الأمريكي. جاء يوم التغيير الكبير قبل ثلاثة أشهر أو أكثر بقليل، وفي غضون عشرة أيام، ورثت حكومة إدلب بقيادة هيئة تحرير الشام حكومة دمشق، وعندما أقول 'ورثت' أقصد أن الموضوع صار بأمر سياسي، وانتهى حكم بشار الأسد دون مواجهة عسكرية حقيقية. أسرار سقوط الحكومة السورية السابقة ربما ستكشف يومًا ما، فالأيام دول. يهمنا هنا أن هيئة تحرير الشام بدَّلت علم الدولة الرسمي الممثل في المحافل الدولية بعلمها الخاص، وتغير كل شيء؛ فهيئة تحرير الشامسيطرت على ما كانت تسيطر عليه حكومة بشار الأسد السابقة، ما عدا ما تسيطر عليه قسد وحكومتها في شمال شرق الفرات. هذه السيطرة الدراماتيكية لمسلحي إدلب، بتنوعاتهم الأصولية المختلفة، لم يستوعبها حتى الذين سيطروا على ما كانت تسيطر عليه حكومة بشار الأسد السابقة بهذه السرعة. ومن جانب آخر، الشعب السوري تعب من القتال، ومنهك من الحصار الاقتصادي، وأراد من هذا التغيير أن يُفك الحصار الاقتصادي على سوريا بعد الإطاحة بحكم بشار الأسد، لأن الغرب وأمريكا كانوا يحاصرون حكومة بشار الأسد بسبب البعد الإيراني والروسي. ولكن بعد سقوط الأسد بثلاثة أشهر، ما زال الحصار الاقتصادي قائمًا، لأن أمريكا تريد تنازلات أكثر من الحكومة الحالية، وعلى رأسها التنازل رسميًا عن الجولان. من هنا، سندخل في مسألة الأقليات في سوريا، والتي هي بوابة التقسيم المفضلة لدى القوى الاستعمارية في المنطقة ولدى إسرائيل. فحكومة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة ببشار الأسد، تقع تحت سيادتها مناطق الأقليات المذهبية والطائفية في سوريا، ما عدا الأكراد في شمال شرق الفرات، وأقصد الدروز في محافظة السويداء، والعلويين في محافظتي اللاذقية وطرطوس، وبعض مناطق تواجد العلويين في سوريا، بالإضافة إلى الطائفة الشيعية. قبل سقوط النظام السوري السابق، كان هناك تعايش سلمي بين هذه المكونات والحكومة، وبما أن رأس الحكومة السورية السابقة كان من هذه الأقليات، فقد كانت الحكومة السابقة متشكلة تقريبًا من جميع ألوان الطيف السوري، وتحكمها المظلة الوطنية، كما أن قوات الجيش والأمن كانت من هذا النسيج المتنوع في سوريا. مشكلة حكام سوريا الجدد أنهم من لون واحد، راديكالي التوجه، حتى مع إخوتهم السنة في دمشق وحلب وغيرها. كما أنهم يحملون عداءً دموياً تجاه الأقليات الإثنية والمذهبية في سوريا، وهذا كان واضحًا أبان المعارك مع الحكومة السورية السابقة خلال عشرية النار السورية. وعند استلامهم الحكم في سوريا، بدأ الصدام مع الدروز في السويداء، ورُفِعت رايات الجهاد التي تعودنا سماعها ضد إخوة الوطن من قبل هذه الجماعات المسلحة، بينما تُرك جهاد المحتل الإسرائيلي، الذي يحتل أجزاءً من ثلاث محافظات جنوبية في سوريا. مشروع التقسيم القديم بقيادة فرنسا ظهر اليوم لدروز السويداءمن البوابة الإسرائيلية، وأصبح التهديد بالتدخل لحماية الدروز معلنًا من قبل الإسرائيليين. ولكن وطنية رجال سلطان باشا الأطرش تُجهض كل مساعي الكيان الصهيوني لضم محافظة السويداء أو جعلها دويلة مستقلة تحت حمايته. الأحداث الأخيرة الدامية في اللاذقية وطرطوس، وهي مناطق الأقلية العلوية في سوريا، تعيد مشهد الحرب الطائفية في هذا البلد، والحكومة السورية الجديدة، ومسلحوها الذين أصبحوا من رجال الأمن والجيش السوري الرسمي، للأسف، يرفعون ذات الشعارات الطائفية، لأنمكون هذا الجيش مبني على هذه الأيديولوجية المذهبية المقيتة. ولا عجب في ذلك، لأن هذا المكون ليس سوريًا خالصًا، ففي بنيةالجيش والأمن للحكومة السورية الجديدة يوجد الشيشاني، والتركماني، والقوقازي، وحتى العربي، ومقاطع الفيديو منتشرة لجرائمهم ضد المدنيين وموثقة حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. ومن المفارقات أن ذات المرصد كان نفسه يوثق تجاوزات الحكومة السورية السابقة. حلم تقسيم سوريا من قبل الفرنسيين في بداية القرن الماضي، كان حجر عثرة أمام الوحدة الوطنية السورية، فتمت محاربة فرنسا بهذه الوحدة من قبل جميع السوريين، بكافة طوائفهم المختلفة، فكان حلمًا استعماريًا بدده الواقع السوري في ذلك الوقت. اليوم، حلم التقسيم يدخل سوريا من بوابات مختلفة: أمريكية، تركية، إسرائيلية، والوضع أخطر بكثير من السابق. ولكن يوجد بصيص من الأمل باتخاذ عدو مشترك، وهو الإسرائيلي، وانطلاق الوحدة الوطنية من هذه البوابة. والحكومة السورية الجديدة، إذا أرادت البقاء، فلا بد أن تغير من عقيدتها القتالية ونظرتها الراديكالية الأصولية تجاه المكون المختلف عنها، وتجعل الجامع هو الوطن والمواطنة. ويجب أن تكون هناك مشاركة واسعة وحقيقية في الحكومة والجيش والقوى الأمنية لكل مكونات الشعب السوري دون إقصاء أو تهميش، لكي تقضي على كل دعوات التقسيم، خاصة تلك التي تصدر عن الكيان الصهيوني. إن وحدة سوريا ليست مجرد شعار، بل هي الضمان الحقيقي لاستقلالها وسيادتها، وهي السد المنيع أمام مشاريع التفتيت التي فشلت سابقًا وستفشل اليوم إذا وعى السوريون خطورة المرحلة.فلا يمكن بناء مستقبل آمن ومستقر إلا بتجاوز رواسب الحرب، والانطلاق نحو مصالحة وطنية شاملة تضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبارات أخرى. فالتاريخ يكتب اليوم، والخيار للسوريين: إما دولة تنهض من تحت الركام، أو دويلات متناحرة تبتلعها مشاريع الهيمنة الخارجية.


وهج الخليج
٢٣-١٢-٢٠٢٤
- وهج الخليج
ثلاثة أعلام في دولة
بقلم: جمال بن ماجد الكندي أحدث الربيع العربي عام 2011م بيئة اجتماعية وسياسية وعسكرية مختلفة تمامًا في مكونات الشارع العربي لم تكن معهودة قبل هذا التاريخ، فهي لأول مرة أوجدت كيانات سياسية وعسكرية خارج نطاق الدولة المركزية المتعارف عليها بالدولة المسيطرة على كامل ترابها الوطني. كان هذا الربيع في شكله العام مطلبًا شعبيا لمحاربة الفساد وإقامة الحرية والمساواة، وهذا كان أجمل ما فيه وتحقق في بعض بلدان الربيع العربي ولو بشكل نسبي. ولكن كان هناك الجانب الآخر، وهو ظهور الأجندات السياسية من قبل المشغل الخارجي، التي قسمت مجتمعات بعض بلدان الربيع العربي وجعلته متقاتلا، مثل ما حصل في سوريا واليمن وليبيا. هذه الكيانات السياسية والعسكرية الجديدة التي ظهرت خلال ثورات الربيع العربي أوجدت شرخا في بيئة الدولة المركزية التقليدية. هذا الشرخ كان عبر الأجندات المختلفة التي كانت تسير هذه الكيانات عبر دول باتت معروفة. فقد رأينا بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي في ليبيا انقسام هذا المكون الذي كان يعادي الدولة في ليبيا وهدفه إسقاطها إلى شقين في الشرق والغرب وكل منهما له جيش يحميه ودول تقف معه لتحقيق مصالحها في المنطقة، وهذا كان حال اليمن وسوريا كذلك. ونستثني الدول التي أصابها التغيير، والتغيير المضاد سلميا عبر التظاهرات الشعبية المحقة المطالبة بالتغيير السلمي مثل مصر وتونس. سوريا من بين دول الربيع العربي التي شهدت تحولا كبيرًا على المستويين السياسي والعسكري، مما أحدث تغييرًا عميقا في بنية الدولة. ففي بداية أحداث ثورتها كان الطابع السلمي هو السائد فيها، وعبّر عن مطالب مشروعة لمن خرجوا ينادون بالتغيير. ونحن هنا لسنا جهة حكم على هذه الأحداث، فالكل كان له روايته الخاصة، سواء من الحكومة أو المعارضة وتدعم هذه الروايات آلة إعلامية تقليدية حكومية، وآلة إعلامية أخرى ضخمة ومنظمة تخص المعارضة. المهم أن هذه التظاهرات الشعبية كانت بالفعل سلمية ومشروعة في بدايتها، وحظيت بتأييد واسع، إلا أن التحول العسكري المسلح الذي طرأ على هذه المظاهرات غير واقعها السلمي بظهور أجندات سياسية وعسكرية، ارتبطت للأسف بجهات خارجية أثرت عليها وغيرت من سلميتها. وهذا ما ذكره تقرير الفريق 'الدابي'، مبعوث الجامعة العربية لتقصي الحقائق في سوريا، الذي أشار إلى وجود جسم عسكري منظم وممول يقاتل الدولة، وهو ما كانت الحكومة السورية السابقة تؤكد عليه ذلك الوقت، فقوبل تقرير 'الدابي' باستهجان كبير من أولئك الذين في أرادوا رواية تتماشى مع خطابهم حول سلمية الأحداث في سوريا. هذه الوقائع أردت أن أسردها لنصل إلى مغزى عنوان المقال 'ثلاثة أعلا م في دولة، وهو الأمر الذي حصل في سوريا قبل الإطاحة بنظام 'الرئيس السوري السابق بشار الأسد فبعد بسط الجيش السوري السيطرة على أجزاء كبيرة من الأراضي السورية، بمساعدة الحلفاء، بقيت منطقتان خارج نطاق سيطرة الحكومة السورية، وهما 1 شمال شرق الفرات تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية' (قسد) التي هي تحت الحماية والرعاية الأمريكية، ولها أجنداتها ا لانفصالية عن الدولة المركزية وتسيطر على منابع الطاقة في سوريا. 2 شمال غرب الفرات تحت سيطرة الجماعات المسلحة، وهي تنظیمات مختلفة قاعدية وإخوانية عاصمتها محافظة إدلب وتحت رعاية تركية وبينها وبين الحكومة السورية السابقة اتفاقات تهدئة عبر الثلاثي الروسي والإيراني والتركي، والمعروفة سياسيًا باتفاقات 'أستانة وسوتشي'. هذا الواقع السياسي والعسكري كان قائمًا في سوريا حتى قبل الحديث عن الإطاحة بحكومة بشار الأسد فقد باتت الجغرافيا السورية تشهد رفع علمين غير العلم الرسمي للدولة، وكلاهما يمثل أجندات مختلفة تقف وراءها قوى إقليمية وعالمية. ومن أبرز هذه الأجندات السعي للتخلي عن دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية وتجريد سوريا من دورها كدولة حاضنة وممر استراتيجي لهذه الحركات. الحكومة السورية السابقة كانت ترفض هذا العرض، ولو قبلته عندما زارها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق 'كولن باول' عقب احتلال العراق ، لكان المشهد السياسي والعسكري في سوريا مختلقا تماما عما آل إليه لاحقا. قد يتفق معي البعض ويخالفني ،آخرون وهذا حق مشروع؛ إذ إن قراءة الأحداث في سوريا تختلف باختلاف الرؤية السياسية والخلفيات الفكرية. لكن ما يجمعنا جميعًا هو الإيمان بمطالب الشارع السوري في ا لإصلاح وتحقيق الرفاه الاقتصادي، فهذا الشعب يستحق أن ينعم بالا ستقرار بعيدًا عن صراعات الأجندات السياسية المختلفة. غير أن لعنة الموقع الجغرافي كما يصفها علم الجغرافيا – تنطبق على سوريا بوضوح إذ إنها تواجه عدوّا محتلا في الجولان، وآخر يسعى لتحقيق أطماعه في الشمال. لذلك تحول ربيع سوريا إلى أداة عسكرية موجهة من الخارج لتحقيق أجندات سياسية وعسكرية باتت معروفة للجميع. قد تبدو هذه مقدمة مطوّلة للأحداث التي شهدتها سوريا، لكنها تضيء على التحول الكبير الذي أعقب سقوط نظام الحكم الذي استمر لأكثر من خمسين عامًا. فقد أدى هذا التغيير إلى سقوط أحد الأعلام الثلاثة، الذي حمل أجندة سياسية خاضت لعقد من الزمن حربا سياسية وعسكرية واقتصادية انتهت في نهاية المطاف إلى انهيار هذا النظام. في هذا السياق، يقول المفكر والفقيه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: 'إن سقوط الدول والحضارات يكمن في عدة أسباب، منها السياسية وا لاجتماعية والاقتصادية. ويركز على ضعف العصبية، وهذا ما تجلى بوضوح في الحالة السورية، حيث اجتمعت هذه الأسباب داخل سوريا. فعلى الصعيد السياسي، لعب الصراع الداخلي دورًا محوريًا، خاصة مع الرايتين اللتين ارتفعتا ضد الدولة المركزية. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد أسهم الحصار الاقتصادي وتدهور الليرة السورية، خصوصا بفعل 'قانون' قيصر' الأمريكي في تعميق الأزمة وتسريع الانهيار، أما ضعف العصبية فيقصد بها إبن خلدون القوة التي تحيط بالحاكم وتحميه من السقوط، ولو أسقطنا هذا الأمر يكون الجيش والجيش سلم وكانت صفقة سياسية أو سميه اختراق لكبار جنرالات الجيش السوري السابق فضعفت العصبية التي كانت تحمي النظام وكان هذه السقوط السريع ربما يكون النظام السابق غير مثالي في الداخل السوري، وله أسبابه في ذلك، ولكنه كان مثاليًا في السياسة الخارجية وخاصة فيما يتعلق ب القضية الفلسطينية واللبنانية فهو ينطلق من منطلقات قومية عروبية، وما قدمه النظام السابق من دعم مادي ومعنوي لكل من يحارب إسرائيل واضح ولا أحد ينكره وربما كان هذا من أسباب سقوطه وإيجاد نظام بديل يجعل القضية الفلسطينية ثانوية، وما تفعله إسرائيل في المنطقة لا يتعدى دائرة 'نشجب ونستنكر' فقط. سقط النظام السوري السابق، وكما قلنا، فإن سقوطه له أسباب ظاهرة لنا ذكرناها حسب توصیف ابن خلدون في سقوط الحضارات والدول. وطبعا هناك روايات عدة ستخرج، وبعضها أصبح معلنا في كيفية سقوط النظام. هل كان اتفاقاً سياسياً بين حلفاء سوريا وخصومها؟ والأ كيد أن هناك من يدعم ما حصل للنظام السابق من داخل سوريا، بصرف النظر عمّن استلم الحكم وما نتائج هذا الأمر المهم سقوط الأسد، لأنه – في منظوره الخاص – يريد الإصلاح وإقامة الحريات. وهذا الأمر نتمناه لسوريا ما بعد النظام ولكن السؤال الجوهري والمهم هل يتحقق هذا ا لأمر على أرض الواقع وسط هذه الأجندات السياسية المختلفة لمن استلم الحكم في سوريا، ومن يدعمهم من الخارج؟ فهل ستبقى قاعدة وحدة وسيادة الأراضي السورية العنوان البارز لحكام سوريا الجدد؟ وفي المقابل، هناك من تأثر ويعتقد بأننا خسرنا دولة محورية في المنطقة كانت على مدار سنوات حكمها شوكة في حلق إسرائيل، بدعمها واحتضانها لقوى المقاومة بكافة تنوعاتها ضد الكيان الصهيوني. الخاسر والرابح من سقوط النظام السوري السابق الكيان الصهيوني يعتقد الكثير من المتابعين لما حصل في سوريا مؤخرا أن إسرائيل هي أكبر الرابحين من سقوط نظام 'بشار الأسد'. فهل ربح الإسرائيلي بسقوط النظام ؟! هنالك قاعدة نعمل بها ما يفرح ا لإسرائيلي يحزننا وما يحزنه يفرحنا ما حصل في سوريا أفرح الصهاينة؛ فبعد السقوط مباشرة، تمت السيطرة على جبل الشيخ الموقع الاستراتيجي للدولة السورية من قبل الجيش الإسرائيلي. وبحسب المصادر الإخبارية، قام سلاح الجو الإسرائيلي خلال يومين فقط بأكثر من 1000 طلعة جوية دمّر فيها مقدرات الأسلحة السورية الا ستراتيجية الموجهة لحرب مفتوحة مع العدو الإسرائيلي، فدمرت المطارات والأسلحة الثقيلة، وما زال التدمير واحتلال المناطق السورية مستمرا. هذا الأمر يجعله رابحاً كبيرا من سقوط النظام السوري السابق ولكننا ما زلنا ننتظر قرارات الحكومة الجديدة، ربما تأخذ الحد المقبول والمنطقي في مقارعة إسرائيل، خاصة بعد احتلالها أراضي جديدة في سوريا الشعب السوري يمكن أن يكون الرابح الأكبر من سقوط النظام السابق إذا تمكنت الحكومة الجديدة من طي صفحة الماضي وتلبية تطلعات الشعب التي كانت مغيبة عن السلطة السابقة، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي على الحكومة أن تسعى لمعاملة جميع شرائح الشعب السوري على قدم المساواة، بعيدا عن أي انتماءات مذهبية أو طائفية أو عرقية، تحت مظلة الوطن الواحد بهذا النهج، يمكن للشعب السوري أن يصبح المستفيد الأكبر من التغيير. ومن المهم أن تمنح الفرصة للشعب السوري لتتبلور لديه رؤية واضحة ووعي بما يجري، ليقرر بنفسه ما إذا كان سقوط النظام قد أتى بفائدة حقيقية أم أنه فتح الباب أمام الفوضى وانعدام الاستقرار الأمني. القضية الفلسطينية: معروف أن النظام السابق كان حاضنا لقوى المقاومة الفلسطينية بكافة شرائحها، وكان الاحتضان سياسياً وعسكريا. واليوم نرى الحكام الجدد يطالبون هذه القوى بتسليم الأسلحة الثقيلة والمقرات التدريبية للدولة الجديدة والرحيل من سوريا، وهذا كان مطلباً أمريكيا وصهيونيا، وكانت السلطة السابقة ترفضه. ربما الحكم الآن على الربح والخسارة بالنسبة للقضية الفلسطينية من قبل السلطة الجديدة يحتاج إلى وقت حتى تتبلور الحكومة القادمة في سوريا. ننتظر ونحكم بعدها؟! الروسي والإيراني كما هو معروف فقد كان الروسي والإيران حلفاء للنظام السابق، والجهد العسكري لهذين الحليفين كان واضحاً خاصة من الجانب الروسي، الذي له قواعد عسكرية بحرية وجوية في سوريا. اليوم ما مصير هذه القواعد وإذا تم إخلاءها ستخسر روسيا موطئ قدم مهم قبالة البحر الأبيض المتوسط وتخسر وجودها في المياه الدافئة وستكون خاسراً كبير بسقوط النظام السابق، يقال بأن هنالك اتفاق روسي أمريكي بتسليم سوريا مقابل أوكرانيا، وهذه كلها تكهنات لا دليل عليها والحسم في مسألة القواعد العسكرية الروسية سيكون عندما يتولى 'ترامب' الحكم. أما الإيراني فوجوده العسكري تقلص أو انعدم بعد سقوط النظام ويبقى الوجود السياسي والذي سيتحدد طبيعته وحجمه في قادم الأيام بعد تشكيل الحكومة السورية الجديدة المهم بأن الروسي والإيراني خسارتهما كبيرة بسقوط النظام السابق. التركي ربما يكون التركي أحد أبرز الرابحين من سقوط النظام السابق، حيث لعب دور الداعم الرئيسي للجماعات المسلحة التي ساهمت في إسقاط نظام بشار' 'الأسد' هذا الدعم يجعل حلم تركيا بالسيطرة على حلب والشمال السوري أقرب إلى التحقق مما يعزز مكاسبها حتى الآن. ومع ذلك، يبقى مصير' 'قوات 'قسد' المدعومة أمريكيا عاملا محسوم بالنسبة للتركي وينتظر الحسم من الإدارة الأمريكية المقبلة، المتمثلة بالرئيس 'ترامب'. إذا تم القضاء على تواجد 'قسد'، فإن تركيا ستكون الرابح الأكبر، لأن ذلك سيمنع تشكل أي كيان كردي مستقل يمكن أن يشكل تهديداً مباشراً لأمنها الداخلي، خاصة مع وجود قضية ا غير لأكراد في تركيا الذين يعانون من سياسات حكومة أردوغان. أما إذا استمرت قوات 'قسد' تحت الرعاية الأمريكية وسيطرت على شمال سوريا، وخصوصاً المناطق الحدودية مع تركيا، فقد تواجه أنقرة خسارة استراتيجية كبيرة. ذلك أن إنشاء دولة كردية على حدودها سيعزز المخاوف التركية من تحفيز تطلعات أكراد تركيا للاستقلال، مما يهدد استقرارها الداخلي بشكل كبير. هنالك سؤال جوهري كبير بعد سقوط النظام السوري السابق وفرحة إسرائيل الكبيرة لهذا السقوط هل شفيت جروح الكيان الصهيوني التي سببتها معركة 'طوفان' 'الأقصى' ومعارك الإسناد اليمنية واللبنانية و العراقية؟ الجواب بالتأكيد أن جراحه ما زالت تسيل ولم يتم ضمادها، فمحور المقاومة خسر دولة محورية، ولكنه في انتظار قرارات الحكومة الجديدة ضد إسرائيل، خاصة بعد ما قامت به من تدمير واحتلال بعد سقوط النظام السابق مباشرة. أما المحور الذي يقاتل إسرائيل فما زال قويا، والضربات ضد الكيان شاهد على ذلك، وليس آخرها الصاروخ الفرط صوتي اليمني الذي أصاب تل أبيب حزب الله يحتفظ بسلاحه وعلى أهبة الاستعداد، والمجاهدون في غزة صامدون يقاتلون من أجل قضيتهم منذ أكثر من 13 شهرا، والعدو الصهيوني لم يحقق ما كان يعلن عنه من أهداف، وأهمها تحرير الأسرى وتدمير القدرات الصاروخية لحزب الله فالمقاومة بخير والحمد لله. المسلحة سوريا كانت تحكم بثلاثة أعلام لها أجندات مختلفة، واليوم بعد سقوط العلم الأقدم بقي علمان، لكل منهما مشروع في سوريا. المشروعان نستطيع تسميتهما المشروع الأمريكي بعلم قوات 'قسد' الذي يسيطر على آبار النفط والغاز في شمال سوريا، والمشروع التركي الذي يحلم ب السيطرة على شمال شرق سوريا والقضاء على أكراد سوريا. والمتابع لا يستبعد المواجهة بين هذين العلمين اللذين كانا السبب المباشر في إضعاف العلم القديم فهل المواجهة قادمة بين قوات قسد والجماعات مع الجيش التركي؟ لأن التركي إذا قبل بالوجود الكردي على حدوده فسوف يثير الأكراد في الداخل التركي ويطلبون بدولة لهم. أعتقد أن هذا الأمر متروك لغاية وصول سيد البيت الأبيض الجديد. ختاما، أتمنى أن يكون الرابح الأكبر هو الشعب السوري بكافة مكوناته فهذا الشعب تعب من الحروب ويريد أن يستقر سياسيا واقتصاديا، ويحس بطعم الأمان والرفاه الاقتصادي. وهذا الأمر ستحدده الحكومة السورية القادمة، وسوريا حبلى بأحداث كبيرة مستقبلا ، ونرجو أن يكون الحدث الكبير هو ما يفرح المواطن السوري.