
الوشم في حياة نساء عربيات: من طقوس قديمة إلى لغة حديثة للحرية
وبعد عام واحد، كانت رنا قد بدأت حياتها الجديدة في العاصمة، واستقلت مادياً ومعنوياً. لم تخبر أحداً حين توجهت إلى أحد استوديوهات الوشم في وسط البلد. اختارت كلمة واحدة فقط، نُقشت بخط عربي دقيق على معصمها الأيسر: "حرية".
جذور تاريخية عميقة
لكن رنا لم تكن الوحيدة التي خطّت على جسدها كلمات تؤكد هويتها وما يمثل ذاتها، فللوشم جذور عميقة في الهوية العربية.
مأثور الشعر والكلام منقوش على الأجساد
"كلما نظرتُ إلى المرآة، أتذكر جدتي"، بهذه الكلمات تصف فاطمة، وهي سيدة أمازيغية من جبال الأطلس، العلاقة العاطفية التي تربطها بالوشم الذي يزيّن ذقنها منذ طفولتها.
قالت لنا "هذا الوشم نقشته لي قريبة لنا، وكانت جدتي هي من اختارته. كانت تقول لي إنه يحميني من العين، ويزين وجهي كما تفعل الأقراط."
لطالما شكّل الوشم في مجتمعات الأمازيغ والبدو وسيلة للتعبير عن الهوية والانتماء، وطقس عبور اجتماعياً وجسدياَ.
وتشير الباحثة خديجة زيني في دراسة نشرتها في دورية دراسات شمال أفريقيا إلى أن "الوشم لم يكن مجرد زينة، بل جزءاً من نظام رمزي يُظهر موقع المرأة داخل الجماعة... كما كانت العلامات والرموز المستخدمة في الوشم أداة لحفظ الذاكرة، والتعبير عن المعتقدات، والدفاع عن الجسد من قوى الشر."
وفي المجتمعات البدوية في سيناء، مثلاً كانت النساء يشمن الشفة والخدود وأطراف الأيدي، في ممارسات تتجاوز الزينة إلى ما يُشبه العلامات الطقسية.
ووفقاً لما دوّنه عدد من الرحالة والباحثين الأوروبيين في أواخر القرن التاسع عشر، من بينهم جورج شتايندورف، فإن "نساء سيناء كن مغرمات بالوشم، يشمن الشفة والخدود وظهر اليدين حتى المرفق، في ممارسات تجمع بين الزينة والرمز الطقسي."
لكن هذه التقاليد لم تسلم من التحول. إذ ساهمت النظرة الدينية الرافضة للوشم، المستندة إلى تفسيرات فقهية تعتمد تفسيرات لحديث "لعن الله الواشمة والمستوشمة"، في تراجعه داخل هذه المجتمعات. وبمرور الوقت، خفتت مظاهره، خاصةً مع التوسع الحضري وتصاعد الخطاب الديني المحافظ.
عودة بصيغة جديدة
واليوم، تعود الممارسات المرتبطة بالوشم في شكل جديد، لا كتعبير جماعي قبلي، بل كفعل فردي خاص. وشمٌ لا يختار له المجتمع مكانه ولا رمزه، بل تختاره المرأة لتعلن عبره عن حريتها، ذاكرتها، أو حتى جرحها الذي اختارت أن يُرى.
تقول علياء فضالي، وهي فنانة وشم مصرية، لبي بي سي: "الناس بحاجة إلى أن تفهم أن الوشم ليس مجرد رسمة على الجسم... لكنه طاقة تشجع وتداوي".
بدأت علياء رحلتها مع الوشم وهي في سن المراهقة، برسم تجريبي على يديها وعلى جلد ثمار الموز. ومع الوقت، تحوّلت هوايتها إلى استوديو محترف.
أما نانسي قمح، وهي فنانة وشم لبنانية، فتقول لبي بي سي إنها وجدت نفسها في هذا الفن: "كنت أحب الرسم، وأحب التصميم والإبداع... شعرت إن الوشم هو أكثر شيء يعبر عني."
بدأت نانسي مسيرتها داخل صالون نسائي صغير تتعدد فيه الأنشطة التجميلية للنساء. بدأت عملها في الخارج، ثم عادت إلى بلدها لبنان، حيث قررت أن يكون الوشم هو عملها الوحيد، وأصرت على أن تكرس وقتها وجهدها للتميز فيه
وتقول نانسي إنها واجهت في البداية تشكيكاً في قدراتها لمجرد كونها امرأة. وقالت "الناس يعتقدون أن الرجل لمجرد أنه رجل سيكون أكثر دقة عند العمل في تنفيذ وشم يبقى على الجسم طوال العمر".
غير أن ذلك لم يحبطها أو يثنيها عن عزمها، بل أنها الآن أصبحت ترسم الرشوم على أجساد الرجال والنساء على حد سواء.
الحبر والندبة: الوشم بوصفه فعلاً علاجياً
تتعدد دوافع النساء للحصول على وشم، لكن دوافع التشافي تتكرر بكثافة. تقول دينا، وهي فنانة وشم لبنانية، تخصص جهودها لوشم النساء فقط، لبي بي سي: "أنا لا أشعر أنني أرسم لهن وشماً فقط. أثناء جلسة الوشم أسعر أنني في جلسة علاج لمن أدق لها الوشم."
وتضيف أن ألم الوشم الخفيف غالباً ما يكون دافعًا للبوح: "تشعر المرأة أنها ترتاح مع وخزات الوشم الخفيفة، تشعر أن الشيء السلبي المؤلم يخرج من جسمها ويحل محله شيء جميل."
وتقول علياء: "الكثير من الناس تدق الوشم لتغطية آثار عمليات جراحية أو حوادث. الوشم يجعلهم يستعيدوا الثقة في أجسامهم ويرتدوا ما يرتاحون له من الثياب".
وتروي علياء عن سيدة كانت تخفي ذراعها بسبب آثار حريق، لكنها بعد الوشم استطاعت أن تكشف عن ذراعيها دون خجل.
دينا أيضاً تؤكد هذا البعد العلاجي، وتستحضر حالات نساء متعافيات من السرطان، قمن بوشم مناطق في الجسد غيّرتها الجراحة أو المرض.
ومن أبرز القصص التي تمثل هذه الحالة، قصة عفاف، وهي امرأة اختارت أن تضع على جسدها عبارة واحدة: "أنا بطلة حياتي".
قالت عفاف لبي بي سي عن وشمها الذي رسمته نانسي قمح: "هل تعلمين عند مشاهدة فيلم، كثيرا ما نشاهد بطلاً ينقذ الموقف والآخرين. أنا أشعر أنني هذه البطلة، أنا أنقذت نفسي. أنا تصالحت مع ذاتي وأنقذتها، وأحقق لها أحلامها".
رموز القوة: من الفينيق إلى اللوتس
بين السر والعلن
تختلف علاقة النساء بوشومهن؛ فبعضهن يحتفظ بها سراً، والبعض الآخر يفخر بها علناً. تقول نانسي إن النساء المحجبات كنّ من أوائل زبوناتها، لأنهن يبحثن عن فنانة وشم تفهم خصوصيتهن. تقول "أحياناً لا ترغب الفتاة المحجبة خاصة أن تعرف أسرتها أنها رسمت وشماً. أنا أحترم رغبتها ونختار موضعاً للوشم بعيد عن الأنظار".
أما علياء، فتقول إن النساء أصبحن اليوم أكثر رغبة في إظهار وشومهن، لا إخفائها. وتضيف: "الآن أصبحت أرى الناس، سواء كانوا رجالاً أو نساء، خاصة النساء، يفخرون بإبداء الوشم ويتباهون به."
قصص تترك أثراً
ما بعد الحبر
تقول علياء: "الوشوم هدية مني لنفسي... كل وشم على جسمي يقويني ويذكرني برسالة مني لنفسي."
وتضيف أن الوشم" ليس مجرد رسم على الجسد للزينة. الوشم طاقة تمنحك القوة، طاقة تقول لك إنك قادر على النهوض والمواصلة. الوشم رسالة لا تعرف كيف توصلها للناس، وتستخدم ما خُط ورُسم على جسدك لإيصالها."
وفي المجمل، يبدو أن الوشم أصبح لدى قطاع من النساء العربيات أداة لبناء علاقة جديدة مع الجسد، علاقة فيها تصالح مع الألم والندوب، وفيها تأكيد على الحضور والاختيار.
لا تزال بعض المجتمعات تنظر للوشم بريبة أو رفض، لكن الأصوات التي تسعى لإعادة تعريفه كفعل فردي، جمالي، وعلاجي، باتت أعلى وأكثر تأثيراً.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ ساعة واحدة
- العربي الجديد
نانسي عجرم... ملامح غنائية لا تُشبه أحداً
تُراهن المغنية اللبنانية نانسي عجرم على أسلوبها الغنائي المتفرّد، الذي يمزج بين الشقاوة والدلال والرومانسية، مع لمسات درامية أنثوية مشبعة ببراءة طفولية. هذا المزيج، الذي بات سمة متأصلة في شخصيتها الفنية، يتكرّس بوضوح في ألبومها الجديد "نانسي 11". ورغم أن الألبوم لا يحمل كثيراً من المفاجآت، إلا أنه يستند إلى مقومات شكّلت ملامح عجرم الغنائية، وأسّست لحضورها الخاص. وكما اعتاد جمهورها، تواصل صاحبة "آه ونص" الرهان على البساطة، سواء في اختياراتها الموسيقية والغنائية، أو حتى في إطلالاتها. وتُشكّل التباينات بين الوداعة والمرح، أو الرقة والجرأة، خطوطاً عامة في تحديد هوية أغانيها، ما يجعلها تختار ما يتماشى مع طريقتها الخاصة، من دون أن تركض خلف موجات الموضة الغنائية. في هذا الألبوم، تتعاون نانسي عجرم مع عدد من الملحنين الجدد، من أبرزهم عزيز الشافعي وعطار، وقدّم كل منهما لحناً مميزاً. وفي هذا الإطار، تخوض المغنية تجربة جديدة في اللون الشعبي المصري، لكن بنمط مختلف، يمتاز بإيقاعه السريع وطابعه العصري، الذي يمزج بين الموسيقى الشرقية والبديلة، ويُقارِب أسلوب الراب، مع نكهة سلطنة واضحة في نهاية اللازمة "آه يا سيدي". اللافت هنا هو توظيف الإيقاعات الإلكترونية والمؤثرات الصوتية، مع دخول طبلة المقسوم في الجزء الأخير، ما يخلق تقاطعاً متناغماً بين التقليدي والتقني. هذا المزاج يتجلّى بوضوح في الأغنية التي كتبها مصطفى حدوتة ولحّنها عطار، وقد تكون من أكثر أغنيات الألبوم رواجاً، رغم صدورها المتأخر. يستمر هذا التوجه الشعبي، لكن بدرجة أقل تطرفاً، في أغنية "يا قلبو"، إذ تبرز طبلة المقسوم مجدداً، وتتداخل الأصوات المبرمجة مع الأكورديون، في نمط يذكّر بأغاني نانسي الأولى مثل "أخاصمك آه"، وإن اتخذت الأغنية هنا منحى أحدّ في التعبير، كأنها شكوى مفعمة بالعاطفة، وليس دلالاً. جانب آخر من الألبوم يتناول الحب من منظور درامي، كما في أغنية "لغة الحب" من ألحان وليد سعد وكلمات محمد رفاعي. تبدأ الأغنية بصيغة صادمة: "بكرهك دي يعني بحبك"، لتعبّر عن التناقضات التي تعيشها بعض النساء في الحب، وتكشف من خلالها نانسي عن مفاتيح لفهم انفعالات المرأة، وربما تطرح الصورة التي يفضّلها الرجل الشرقي، إذ الحيرة جزء من اللعبة العاطفية. لحن الأغنية يمضي في خط الرومانسية الحالم الذي ميّز نانسي عجرم، ويعيد التذكير بأعمال وليد سعد في ذروة نجاحه مطلع الألفية. ويُضفي مقام النهاوند شيئاً من الشجى، بينما تمزج الموسيقى بين الروك والبوب، وتلعب الوتريات دوراً تعبيرياً، خاصة مع تصاعد الغيتار الكهربائي. أما الأغنية الثانية لسعد، "أنا تبعني؟"، فهي امتداد لأغاني عجرم ذات الطابع الدرامي العاطفي، كـ"إنت إيه"، وتُجسّد دور الأنثى في الحب بجمالياته وتقلّباته. توزعت أغاني الألبوم بين اللهجتين اللبنانية والمصرية، وكان للأخيرة النصيب الأكبر بسبع أغان. تظهر نانسي عجرم في الأغاني اللبنانية بصيغتين: رومانسية، كما في "بدي قول بحبك"، التي لا تشبه "لون عيونك" في لحنها، لكنها تتقاطع معها في المزاج، إذ تعتمد على إيقاع الـ"آر أند بي" ولمسة من الـ"سوفت روك"، ما يوحي بحالة رومانسية ثنائية، تعززها إطلالتها في الكليب بفستان أبيض وتلميحات لخاتم الارتباط. يُعبّر هذا النمط عن تطلّع الفتيات لعلاقات تُتوّج بالزواج، ويتناسب مع الأداء الصوتي الرقيق والحالم لنانسي. وفي "انسى" (كلمات وألحان سليم عساف)، تلامس الأغنية مرحلة النضج العاطفي، فـ"كل شي بيهون وإنت حدي"، ويُجسّد اللحن هذا القرب بأسلوب الروك بالاد مع لمسة "آر أند بي"، ما يكرّس صورة نانسي الأنثوية المرهفة، والمتطورة غنائياً. أما "غيرانين"، فتتناول الحب المحاط بالغيرة، على مقام النهاوند، مع توزيع بسيط يُحاكيه ظهور نانسي العفوي في الفيديو، وتُعزز الطبلة الإيقاع الراقص، في عمل يخلو من المؤثرات التقنية، ما يمنحه نقاءً صوتياً، ويُبرز صوت الدربكة والأكورديون أدواتٍ للتعبير الطبيعي. لكن سرعان ما يعود وجه الدلال والشقاوة في "على علمي"، رابع الأغاني باللهجة اللبنانية، فتسخر من غيرة حبيبها المفاجئة، بخطاب فتاة مرحة متحرّرة، وبموسيقى خفيفة تمزج بين الغيتار والأكورديون. بقية أغاني الألبوم تعزز صورة نانسي عجرم المرحة، المُغرية بالشقاوة، وأبرزها "طراوة" (ألحان محمد يحيى)، بتوزيع طارق مدكور، الذي عملت نانسي عجرم معه في بداياتها. الأغنية تستعيد روح بدايات الألفية، بإيقاع المقسوم ووتريات بسيطة وأكورديون، مع لمسات غيتار خفيفة توزّع الأجواء كضربات فرشاة على لوحة فنية، فتُذكّرنا بـ"آه ونص" لكن بحركة أقل. أما أغنيتا عزيز الشافعي، فهما من أبرز مفاجآت الألبوم كونهما أول تعاون معه. "جاني بالليل" تمضي في مسار راقص شرقي على مقام الكرد، بمذاق سبعيني وألفيني في آن، وتوزيع مدكور يُعيدنا إلى أواخر التسعينيات، بإيقاع شعبي لافت. أما "أنا هفضل أغني"، فهي تجسيد واضح لشخصية نانسي عجرم الفنية، تمزج بين العصرية وتراث نجمات الزمن الجميل مثل شادية وسعاد حسني، وكأن نانسي، في هذه الأغنية، تستحق لقب "سندريلا البوب العربي". منذ بدايتها في أواخر التسعينيات، وخصوصاً في ألبومها الأول "محتجالك"، الذي لحّن معظمه شاكر الموجي، بدا أن نانسي عجرم تعرف تماماً ما تريد؛ فقدّمت بصوتها أغنية "يا واد يا تقيل" لسعاد حسني، وكأنها منذ ذلك الوقت كانت تؤسس لشخصية غنائية واضحة المعالم. والآن، مع "نانسي 11"، تؤكد أنها نجحت في رسم ملامح لا تُشبه أحداً، وتُواصل مشوارها بثقة، ضمن حدود إمكانياتها، ووفق رؤيتها الخاصة.


العربي الجديد
منذ 10 ساعات
- العربي الجديد
"إنّا باقون": رسالة أوركسترا رام الله إلى العالم
" كيف كانت الطريق؟"، بهذا السؤال تحاول رزان ثيودوري، المشرفة الأكاديمية في جمعية الكمنجاتي، الاطمئنان على أحوال عازفي وعازفات أوركسترا رام الله القادمين من مدن الضفة الغربية المحتلة لحضور تدريبات الأوركسترا في بلدة بيرزيت ، شمال رام الله، تحضيراً لعرض "إنّا باقون". يبدو السؤال روتينياً للفلسطينيين أينما كانوا في ظل الانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة في الضفة الغربية واستمرار عزل المدن والقرى الفلسطينية بعضها عن بعض من خلال حواجز عسكرية وبوابات حديدية وتضييقات على الطرقات التي يفرض المستوطنون الإسرائيليون وجودهم فيها على مدار الساعة، فتضاف أحوال الطرق للعديد من التحديات الأخرى التي تواجهها المؤسسات الثقافية والفنانون الفلسطينيون. لكن رغم هذه المخاطر استطاع 70 فناناً فلسطينياً وخمسة متطوعين أجانب تقديم عرض مميز على خشبة مسرح قصر رام الله الثقافي أمس الثلاثاء. وأحيت أوركسترا رام الله الأمسية بقيادة المايسترو البريطاني-الأميركي بيتر سلسكي وقدّمت سيمفونية موزارت 38 في افتتاحية العرض، تبعتها أغنيات وقصائد وطنية، بعضها من كلمات الراحل محمود درويش وألحان مارسيل خليفة ، مثل "فكّر بغيرك" و"في البال أغنية" وقصيدة "تُنسى"، من ألحان سميح شقير. كما أدت الأوركسترا قصائد من كلمات وألحان لفنانين فلسطينيين معاصرين بهدف تقديم أعمالهم للجمهور، مثل قصائد من كلمات ثائر ثابت وعلاء عبد العزيز ورائد صلاح وألحان محمد كحلة وخالد صدوق. وفي حديثها مع "العربي الجديد"، أكدت رزان ثيودوري أن اختيار جمعية الكمنجاتي تقديم هذا العرض في مدينة رام الله يهدف إلى تقديم عمل موسيقي بطابع شرقي ليحاكي أذواق الفلسطينيين بشكل عام ويحاكي همومهم اليومية بشكل خاص. وخصصت الأوركسترا، التي تأسست عام 2008، ريع تذاكر العرض بسعرها الرمزي لدعم صندوق طلبة الموسيقى في جمعية الكمنجاتي التي تستهدف حالياً من خلال عملها غير الربحي مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية المحتلة. وتقدم "الكمنجاتي" برامج التعليم النظامي وورش العمل والمخيمات الصيفية الموسيقية والعروض وغيرها من الخدمات التي تهدف، كما يشير موقع الجمعية، إلى جعل الموسيقى في متناول المجتمع الفلسطيني بأكمله وتعزيز الثقافة والهوية الفلسطينية والعربية وللتعرف إلى الثقافات الدولية. سينما ودراما التحديثات الحية غزة حاضرة في مهرجان لوكارنو السينمائي السويسري وأشارت ثيودوري إلى أن اختيار "إنّا باقون" عنواناً عريضاً لعرض أوركسترا رام الله يأتي لتحقيق الأهداف المذكورة آنفاً، فيعتبر الفنانون أنفسهم مسؤولين عن البقاء في أرضهم ومقاومة انتهاكات الاحتلال التي تدفع الفلسطيني للرحيل في ظل التطهير العرقي والتجويع المستمر في قطاع غزة والظروف القاسية في الضفة الغربية والقدس المحتلة. كما تؤمن ثيودوري بأن الموسيقى ليست مجرد فن بالنسبة للفلسطينيين، بل تحولت لصوت مقاومة ووجود وثبات وجسر يجمع الناس، على حد تعبيرها. على مدار العامين المنصرمين تضاعفت التضييقات على الأفراد والمؤسسات العاملة في الحقل الثقافي في الضفة الغربية في ظل استمرار الأزمات السياسية والاقتصادية وشح الموارد، إذ يعاني الفنانون من ركود في الحراك الثقافي، ما يجعلهم متعطشين لهذا النوع من المبادرات التي تشق طرقاً وعرة لتتحقق وتصل إلى خشبة المسرح. فرغم عدد ساعات التدريب المحدودة التي قضتها الأوركسترا، استطاعت تقديم عرض نال إعجاب الجمهور وتفاعله رغم حالة الإحباط السياسي التي تلمسها من خلال الأحاديث الجانبية مع الحضور. إذ عبّر أحد الحاضرين في حديث لـ"العربي الجديد" عن إعجابه بالمواهب الجديدة التي تعرّف إليها لأول مرة من خلال هذا العرض، وخاصة المغنيين والمغنيات المنفردين، مضيفاً أنه يأسف لمدى محدودية الفرص المتاحة للفنانين للوصول إلى جماهير أكبر، ومعبراً عن الأسى والضعف الذي يشعر به الفلسطينيون مع استمرار الاحتلال بتجويع ومحاصرة قطاع غزة. يذكر أن جمعية الكمنجاتي التي تأسست عام 2002، استطاعت بناء شبكة عالمية للتعاون والدعم الذي يشمل العديد من التبادلات الفنية والتعليمية مع مؤسسات موسيقية هامّة وفنانين مستقلين، ما سهّل استقطاب متطوعين مناصرين للقضية الفلسطينية للمشاركة في الأوركسترا وغيرها من خدمات الجمعية.


العربي الجديد
منذ 3 أيام
- العربي الجديد
الموسيقار السوفييتي آرام خاتشادوريان في دمشق
في الأول من مايو/أيار عام 1978، رحل الموسيقار الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، وفي ذلك الصيف كنتُ مصادفةً في مدينة دمشق ، قادماً من إدلب لحضور معرض دمشق الدولي، وقد حللتُ ضيفاً عند أخي الكبير الذي كان يدرس الصيدلة في جامعة دمشق. كانت دمشق آنذاك شامة على خد الزمان. سبحان الله الذي جعل فيها زرعاً أجناساً يُسقى بماء واحد، فجعل قطوف عنبها دانيةً لأحبّائه، والعنب في غوطة دمشق صنوف كثيرة. وذكر المصري الدمشقي من علماء القرن التاسع محمد البدري في كتابه المؤلَّف قبل خمسة قرون نزهة الأنام في محاسن الشام، أن في غوطة دمشق أكثر من خمسين صنفاً من العنب. رحم الله جدّي عثمان بن محمد دحنون، حين زار الشام في منتصف سبعينيات القرن العشرين، وكنتُ معه. لا يزال صدى "سلامٌ من صَبا بردى أرقُّ/ ودمعٌ لا يكفكفُ يا دمشقُ"، ونسمات الغوطة، وخيراتها تعبق في الذاكرة. في تلك الزيارة القصيرة، أصرّ جدي أن نشتري له يومياً صنفاً من عنب الشام، وكان أوان العنب يومها. كم أسعده عنب الشام! فأثنى عليه، وهو الفلاح المجتهد الذي ظل مرابعاً بلا أرض، لأنه رفض أخذ حصته أيام التأميم والإصلاح الزراعي في ستينيات القرن العشرين، مدّعياً أن الأرض مَكْس (أي مغتصبة)، وقال: في الحديث "لا يدخل صاحب مَكْسٍ الجنة". أعجبه عنب الشام إعجاباً كبيراً، رغم أن براري إدلب أيضاً غنية بأصناف الأعناب. كانت الشام، ولا تزال، شاماً لكل زمان. وقد حباها الله بمحاسن كثيرة لا تُعدّ. نهر بردى ينساب متدفّقاً، والماء يرقص مع الضوء في نوافير بديعة عند مدخل معرض دمشق الدولي. وفيروز تصدح بصوتها الملائكي: "يا شام عاد الصيف متّئداً وعاد بيَ الجناحُ صرخ الحنين إليك بيْ أقلعْ ونادتني الرياحُ فأنا هنا جُرح الهوى وهناك في وطني جراح وعليك عيني يا دمشق، فمنك ينهمر الصباح أهلي وأهلك والحضارة وحّدتنا والسماح يا شام يا بوابة التاريخ تحرسكِ الرماحُ". في ذلك المساء، والنسيم العليل يعبق برائحة الياسمين الدمشقي، رافقتُ أخي الصيدلاني إلى صالة المسرح في المركز الثقافي السوفييتي، حيث كانت تُقام محاضرة عن الموسيقي الأرميني السوفييتي آرام خاتشادوريان، تليها مقاطع حيّة على البيانو لعازف سوفييتي من باليه " سبارتاكوس "، التي ألّف موسيقاها عام 1954. دخل المحاضر إلى الصالة، فصفّق له الحضور بحرارة. جلس على كرسي من الخيزران في وسط خشبة المسرح، ثم راح يتأمل هذا الجمع الغفير، فيهم الكبير والصغير، بل وحتى المقمّط في السرير. لاقط الصوت أمامه، لكن لا صوت. تنحنح، فسمعنا نحنحته. مدّ يده اليمنى إلى جيب سترته ناحية القلب، أخرجها على مهل، لكنها كانت فارغة. تنحنح مرة أخرى، ثم اقترب من لاقط الصوت وقال: "الظاهر من عجقتي نسيت أوراق المحاضرة في حمص" – طلع الأخ "حمصي"! – ثم استدرك مبتسماً: "ماذا نفعل الآن؟ على كل حال، سأحكي لكم ما تجود به القريحة. مساء الخير أولاً". كان آرام خاتشادوريان في الرابعة عشرة من عمره عند قيام العهد السوفييتي. درس الموسيقى في روسيا السوفييتية، وكان مُخلصاً للثورة البلشفية، يُنتج موسيقى تشرف على صياغتها المؤسسة الحزبية الرسمية. وبالنسبة لكثير من هواة الموسيقى غير المتعمقين، لم يكن خاتشادوريان سوى مؤلف لقطعة واحدة شهيرة هي "رقصة السيف"، لكن الحقيقة أوسع من ذلك بكثير. فقد ألّف طيلة حياته عدداً كبيراً من الأعمال الموسيقية المتنوعة، من سيمفونيات، وكونشرتوهات، وأعمال للباليه. "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه" واللافت أن "رقصة السيف" لا تنتمي لباليه "سبارتاكوس"، كما يظن البعض، بل هي جزء من باليه آخر شهير له بعنوان "غايانه"، وتروي قصة فلاحة تعمل في تعاونية زراعية (كولخوز)، تعاني مأساة خيانة زوجها للوطن السوفييتي أثناء الحرب العالمية الثانية بتعاونه مع المحتل النازي. درس خاتشادوريان في البداية البيولوجيا في جامعة موسكو، قبل أن ينتقل إلى المعهد التربوي، وهناك سطع نجم شغفه الحقيقي بالموسيقى. وكان اللقاء المفصلي في حياته عندما التقى نيكولاي مياسكوفسكي في كونسرفاتوار موسكو، الذي اكتشف موهبته ودفعه نحو التخصص الجدي. من مجرد عازف على آلة التشيلو، أصبح خاتشادوريان لاحقاً مؤلف كونشرتو للتشيلو يُعد من أروع إنتاجاته، وتحوّل تدريجياً إلى واحد من أكثر المواهب الموسيقية وعداً في الاتحاد السوفييتي. ولعلّ النجاح الهائل الذي حققته باليه "سبارتاكوس" يعود في جوهره إلى تميّزها الفني، وقوة تعبيرها الموسيقي، حيث استطاع خاتشادوريان أن يدمج في هذا العمل كل ما اختزنته ذاكرته من موسيقى شعبية، وخصوصاً من الفولكلور الأرميني الثري والملون. لكن لا يمكن إنكار أن البُعد الأيديولوجي والبطولي للعمل، وهو تمرد العبيد بقيادة سبارتاكوس ضد الاستعباد والطغيان، شكّل عنصر جذب إضافي للجمهور، وأضفى على العمل مسحة ثورية تتماشى مع روح العصر السوفييتي. آرام خاتشادوريان لم يكن مجرد مؤلف "رقصة السيف"، بل موسيقياً شاملاً، ابن مرحلة، عايش تحولات القرن العشرين، وعبّر عنها بأدوات الفن. ومساء دمشق ذاك، تحت ياسمينها، كان تحية صادقة لهذا الفنان، وتذكيراً بأن الموسيقى، مثل دمشق، لا تنسى من مرّ بها وأحبها.