logo
إعادة إنتاج الهيمنة: من باريس إلى نيويورك!خالد صالح عطية

إعادة إنتاج الهيمنة: من باريس إلى نيويورك!خالد صالح عطية

ساحة التحريرمنذ 4 أيام
إعادة إنتاج الهيمنة: من باريس إلى نيويورك!
بقلم : خالد صالح عطية
لم يكن مؤتمر باريس في 7 تموز 2025، الذي جاء بدعوة فرنسية–أوروبية لمناقشة 'آفاق السلام في الشرق الأوسط'، مجرد جهد دبلوماسي روتيني، بل كان افتتاحاً علنياً لمرحلة إعادة هندسة القضية الفلسطينية تحت لافتة 'حل الدولتين'. وبعده بأسابيع، جاء إعلان نيويورك في 31 تموز، ليكرّس هذه المقاربة سياسياً عبر وثيقة دولية تتضمن ما سُمّي بـ'المرتكزات الجديدة للتسوية'، وهي في جوهرها، ليست سوى إعادة إنتاج لمسار أوسلو، ولكن بشروط أكثر فظاظة، وخطاب أقل حياداً.
ما جرى في هذين الحدثين ليس مبادرة للسلام، بل لحظة فارقة في تثبيت سردية بديلة تُجمّل الاحتلال وتُدين المقاومة. لم تكن هذه المرة الأولى؛ فلقد سبقتها نسخ متعددة: مؤتمر مدريد (1991) الذي افتتح مسار الترويض، وأوسلو (1993) الذي فخّخ الجغرافيا بالوظيفة الأمنية، وأنابوليس (2007) الذي حاول ترميم مشروع مهترئ. لكن الفارق اليوم أن هذه المحاولات تجري في ظل حرب إبادة شاملة مستمرة منذ 7 تشرين الأول 2023، تخطت يومها ال663، فيما لا تزال المجازر تُبث مباشرة، وسط صمت دولي وتواطؤ عربي فاضح.
وفي تلك المؤتمرات، لم تُذكر جريمة الإبادة إلا لتُعاد تأويلها على شكل 'قلق' أو 'دعوة لضبط النفس'، فيما تُدان قوى المقاومة، ويُشترط نزعها كمدخل لإعادة الإعمار أو 'الانتقال السياسي'. لم يُذكر المشروع الاستيطاني ولا محو القرى ولا سياسات الحصار والتجويع والابادة ، بل جرى تقديم حلفاء الاحتلال المحليين باعتبارهم 'شركاء سلام' و'ممثلي الشعب'.
هذه السردية الاستعمارية الناعمة، التي تُحاكم الضحية وتُجمّل الجلاد، ليست انحرافاً عن القانون الدولي بل تعبيراً صريحاً عن منطقه الفعلي: منطق القوة والهيمنة، لا العدالة. لكنها لم تأتِ من فراغ. لقد تحرك الفلسطيني، رغم التشظي والانقسام العميق، من موقع الضحية، كما صوّره القانون الدولي لعقود، إلى موقع الفاعل. لا بمعنى التفوق العسكري، بل بتغيير قواعد الاشتباك، وتفكيك ثنائية الضعف الأخلاقي والقوة العسكرية التي طالما حكمت علاقته بالعالم.
هذا التحول أربك البنية الدولية. فلم يعد من الممكن احتواء الفلسطيني داخل سردية 'الشعب المقهور الذي يطلب تعاطفاً'، بل ظهر كقوة تفكّك منطق الاحتلال نفسه. من غزة خرجت اللحظة، ومن الضفة اشتعلت التمردات، ومن القدس تجدد الاشتباك، وداخل أراضي 48 تمزّق الخط الأخضر مرة أخرى، فيما حمل الشتات الفلسطيني صوته إلى الجامعات والشوارع العالمية. لقد تغيّرت السردية، وانكشفت الصورة الحقيقية: إبادة منسقة، واحتلال صريح، وشراكة غربية كاملة.
في أوروبا، ولأول مرة منذ عقود، خرجت مئات آلاف الأصوات تندد بإسرائيل لا باعتبارها 'منحرفة' عن القانون، بل باعتبارها كياناً استعمارياً يخرق القانون عن تصميم. ومع ذلك، فإن الخطاب الرسمي الغربي لم يتزحزح. لأن ما انكشف لم يكن فقط سلوك إسرائيل، بل بنية الهيمنة الدولية كلها: من أمريكا إلى ألمانيا، ومن الناتو إلى الاتحاد الأوروبي، مرّ مشروع 'الشرعية الدولية' باختبار أخلاقي فشل فيه تماماً.
وفي الجهة الأخرى من المشهد، تتسابق بعض النخب والأنظمة العربية، فاقدة السيادة والمشروعية، لحجز مكان في 'مرحلة ما بعد غزة'. إعلان نيات، تعهدات بإقصاء المقاومة، وهرولة نحو التطبيع، تحت شعار 'إنقاذ الشعب الفلسطيني'. لكن أي إنقاذ هذا الذي يُبنى على شرط إلغاء نضاله؟ وأي 'حل دولتين' هذا الذي يُعرض، فيما لا دولة باقية أصلاً؟ هل نتحدث عن دولة بلا أرض؟ بلا سيادة؟ بلا حق العودة؟ بلا أدوات دفاع؟ أم نتحدث عن كيان وظيفي أمني يعيد تدوير أوسلو بثوب جديد؟
هذه ليست تسوية، بل عملية إلغاء ناعمة. إلغاء للمقاومة، وللمعنى، وللتاريخ، وللقدرة على الفعل. باسم 'الحل السياسي' يُعاد إنتاج المشروع الاستعماري نفسه، ولكن بأدوات محلّية، واستعارات قانونية، وشراكات رسمية تُستخدم لتغطية الجريمة.
الانقسام الفلسطيني، وإن كان نتيجة لشروط موضوعية وقهرية في كثير من مراحله، إلا أنه بات اليوم إحدى أدوات الاستعمار لإعادة فرز التمثيل الفلسطيني. لا يُطلب فقط إنهاء الانقسام، بل إعادة تعريف 'من هو الفلسطيني الشرعي' وفق ميزان القوى، لا وفق إرادة الناس. وهذا ما يجعل أي مشروع تحرري حقيقي مطالباً أولاً بإعادة بناء وحدة المعنى السياسي، لا مجرد 'الوحدة التنظيمية'، وإعادة تعريف المشروع الوطني خارج شروط الممول والداعم والمستعمر.
نحن اليوم أمام لحظة فرز حقيقية: من يقف في خندق الشعب؟ ومن يفاوض على مستقبله ليحجز دوراً وظيفياً في نظام إقليمي–دولي لا أخلاقي؟ لم تعد المسألة حدوداً أو مستوطنات، بل المعنى نفسه: من يعرّف فلسطين؟ من يمثلها؟ من يملك حق صياغة مشروعها القادم؟
في هذه اللحظة، وقد انكشفت هندسة السيطرة، وتشظّت الأقنعة، يصبح الموقف أكثر وضوحاً. لا يكفي التنديد، ولا يكفي الحنين. المطلوب مشروع تحرري بديل، ينبع من الواقع لا من مؤتمرات الخارج. مشروع لا يستعير لغته من الأمم المتحدة، ولا من المانحين، بل من صلابة التجربة الشعبية، ومن إرث الكفاح، ومن نبض الشارع والمخيم والمعتقل والساحة.
ان المعركة اليوم لم تعد فقط على الجغرافيا، بل على الذاكرة، والتمثيل، والمصير.
وأمام هذه اللحظة، لا حياد.
إما أن نكون مع بناء مشروع تحرري متكامل، أو أن نُستخدم – شاء البعض أم أبى – في شرعنة مشروع نقيض.
1 آب 2025،
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هولندا تشتري أسلحة أمريكية بقيمة 500 مليون يورو لأوكرانيا
هولندا تشتري أسلحة أمريكية بقيمة 500 مليون يورو لأوكرانيا

وكالة الصحافة المستقلة

timeمنذ يوم واحد

  • وكالة الصحافة المستقلة

هولندا تشتري أسلحة أمريكية بقيمة 500 مليون يورو لأوكرانيا

المستقلة/- أعلنت هولندا أنها ستساهم بمبلغ 500 مليون يورو (578 مليون دولار أمريكي) لشراء معدات عسكرية أمريكية لأوكرانيا، لتصبح بذلك أول دولة عضو في حلف الناتو تساهم في آلية جديدة لتزويد كييف بالأسلحة الأمريكية. وصرح وزير الدفاع الهولندي، روبن بريكلمانز، على X يوم الاثنين أن الحزمة ستشمل قطع غيار وصواريخ باتريوت. ورحب مارك روته، رئيس حلف الناتو، بهذا الإعلان، وقال إنه شجع أعضاء التحالف الآخرين على المشاركة في الآلية الجديدة، المسماة مبادرة قائمة متطلبات الناتو ذات الأولوية لأوكرانيا (Purl). وقال روته، رئيس الوزراء الهولندي السابق، في بيان: 'يتعلق الأمر بتزويد أوكرانيا بالمعدات التي تحتاجها بشكل عاجل للدفاع عن نفسها ضد العدوان الروسي'، مضيفًا أنه يتوقع 'إعلانات مهمة أخرى من حلفاء آخرين قريبًا'. وصرح الرئيس دونالد ترامب الشهر الماضي بأن الولايات المتحدة ستزود أوكرانيا بأسلحة، يدفع ثمنها حلفاء أوروبيون، دون تقديم تفاصيل حول كيفية عمل ذلك. قال السفير الأمريكي لدى حلف الناتو إنه يتوقع أن تعلن دول أخرى كثيرة خلال الأسابيع المقبلة عن مشاركتها. وصرح ماثيو ويتاكر لرويترز يوم الاثنين: 'نتحرك بأسرع ما يمكن'. وردًا على سؤال حول الجدول الزمني لتوصيل الإمدادات الأمريكية إلى أوكرانيا بموجب الآلية الجديدة، قال: 'أعتقد أننا سنرى ذلك يتحرك بسرعة كبيرة، بالتأكيد في الأسابيع المقبلة، ولكن بعضها سيتحرك قبل ذلك. هولندا ليست سوى باكورة من بين العديد'. رحّب أولوديمير زيلينسكي بقرار هولندا. وقال الرئيس الأوكراني على X: 'ستتمتع أوكرانيا، وبالتالي أوروبا بأكملها، بحماية أفضل من الإرهاب الروسي. أنا ممتنٌّ للغاية لهولندا لمساهمتها الكبيرة في تعزيز الدرع الجوي لأوكرانيا'.

هولندا تعلن إرسال أول شحنة من الأسلحة إلى أوكرانيا
هولندا تعلن إرسال أول شحنة من الأسلحة إلى أوكرانيا

الرأي العام

timeمنذ يوم واحد

  • الرأي العام

هولندا تعلن إرسال أول شحنة من الأسلحة إلى أوكرانيا

أعلنت الحكومة الهولندية، نيتها إرسال شحنتين من الأسلحة الأمريكية إلى كييف هذا الشهر في إطار مبادرة الدعم الجديدة لأوكرانيا PURL. وجاء في البيان الذي نشره مجلس الوزراء: 'من المقرر تسليم أول حزمتين مساعدات ضمن آلية دعم أوكرانيا عبر مبادرة (Prioritized Ukraine Requirements List) هذا الشهر. ومن المتوقع أن تصل دفعات جديدة من الأسلحة كل أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع'. وفي يوم الاثنين الماضي، أعلن وزير الدفاع الهولندي روبن بريكلمانس أن هولندا هي أول حليف في حلف الناتو يتخذ قرارا بإرسال أنظمة أسلحة أمريكية إلى كييف بقيمة 500 مليون يورو، تشمل صواريخ 'باتريوت' وقطع غيار لها. كما ذكر وزير الدفاع الأوكراني دينيس شميغال سابقا أن الولايات المتحدة وحلف 'الناتو' أطلقا آلية دعم جديدة لأوكرانيا عبر مبادرة PURL، والتي تهدف إلى ضمان توفير أنظمة وأسلحة لأوكرانيا بسرعة، مع التركيز على تلك المتوفرة بكثرة في المخزونات الأمريكية.

موسكو: لم نعد ملزمين بقيود معاهدة الصواريخ النووية
موسكو: لم نعد ملزمين بقيود معاهدة الصواريخ النووية

وكالة أنباء براثا

timeمنذ 2 أيام

  • وكالة أنباء براثا

موسكو: لم نعد ملزمين بقيود معاهدة الصواريخ النووية

أعلنت وزارة الخارجية الروسية انتهاء ظروف استمرار وقف النشر الأحادي الجانب للصواريخ متوسطة وقصيرة المدى البرية، وموسكو لم تعد ملزمة بالقيود التي تبنتها سابقا بهذا الشأن. وجاء في بيان الوزارة المنشور على موقعها الرسمي: "نظرا لتجاهل تحذيراتنا المتكررة بهذا الخصوص، واستمرار التطورات باتجاه النشر الفعلي للصواريخ الأمريكية البرية متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ، تعلن وزارة الخارجية الروسية زوال الظروف الداعمة لوقف النشر الأحادي الجانب لأسلحة مماثلة، ومخولة بالإعلان أن الاتحاد الروسي لم يعد يعتبر نفسه مرتبطا بالقيود الذاتية السابقة ذات الصلة". وأضافت الوزارة أن القرارات المتعلقة بالمعايير المحددة للإجراءات المضادة ستتخذها قيادة الاتحاد الروسي بناء على تحليل مشترك بين الوكالات لنطاق نشر الصواريخ البرية الأمريكية والغربية الأخرى متوسطة وقصيرة المدى، بالإضافة إلى التطور العام للوضع في مجال الأمن الدولي والاستقرار الاستراتيجي. وأشارت الخارجية الروسية أن خطوات "الغرب الجماعي" تؤدي إلى تعزيز القدرات الصاروخية في المناطق المجاورة لروسيا، مما يشكل تهديدا مباشرا لأمنها الاستراتيجي. وجاء في بيان الوزارة: "الولايات المتحدة وحلفاؤها لم يحددوا علانيةً خطط نشر الصواريخ الأمريكية البرية متوسطة وقصيرة المدى في مناطق مختلفة فحسب، بل قطعوا أيضاً شوطاً كبيراً في التنفيذ العميق لهذه النوايا". وأشارت الخارجية الروسية إلى أنها سجلت منذ عام 2023 حالات نقل أنظمة أمريكية قادرة على إطلاق صواريخ برية متوسطة وقصيرة المدى إلى دول أوروبية في الناتو لـ"اختبار" هذه الأسلحة خلال مناورات ذات توجه واضح ضد روسيا. ومن بين هذه الحالات تدريبات في الدنمارك شملت استخدام منصة إطلاق متحركة من طراز Mk70.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store