
الفلسفة المادية وجذور الدمار البيئي
وفي العصر الحديث- منذ النهضة الأوروبية- حتى اليوم، تعتبر الحضارة الغربية بحكم أنها الحضارة الغالبة على سائر الحضارات، هي صاحبة الرؤية الأكثر وضوحا في السلوك البشري- بفعل العولمة- والأكثر تأثيرا في محيطنا الطبيعي.
وتعد الفلسفة المادية كرؤية عن الوجود والحياة والبشر وعلاقاتهم بالطبيعة وفيما بينهم، بمثابة المرجعية والبنية الفكرية للعديد من الفلسفات الغربية الحديثة.
الاتجاه المادي للفلسفة
رغم أن الفلسفة المادية تمتد في تاريخها القديم إلى الفلسفة الهندية قبل الميلاد، فإن حضورها الأبرز في السياق الغربي يرجع إلى فلاسفة اليونان القدماء، وعلى رأسهم ديمقريطس، وأبيقور، ولوكريتيوس، وتتلخص في أن الوجود كله في نظرهم يرجع إلى المادة، وأن ظواهر الحياة ترجع إلى تفاعلات المادة وحركتها، وأن الحياة خاضعة في ظواهرها للمادة وقوانينها وما تقرره فحسب.
ثم تراجعت المادية بعد ذلك قرونا عدة إلى أن صعدت إلى الواجهة مرة أخرى مع الثورة العلمية في أعقاب عصر النهضة، خاصة مع ظهور نظريات نيوتن عن الحركة ورؤيته الميكانيكية للكون والعالم.
وكان الحضور الأبرز للاتجاه المادي في الفلسفة الغربية مع مطلع القرن التاسع عشر إبان صعود داروين ونظريته عن النشوء والارتقاء في عالم الأحياء.
والمادية هنا تبرز كونها وصفا يفسر كل أنشطة الطبيعة والبشر بعوامل مادية تتسم بالصراع بين الأحياء في معركة البقاء، أو الصراع بين الطبقات الاجتماعية في عالم البشر، وكونها تفسيرا ماديا للتاريخ يحكمه تطور وسائل وأدوات الإنتاج. فكيف تنظر المادية إلى الإنسان والطبيعة؟
إعلان
من "الإيكو" إلى "الإيجو"
لطالما كان الإنسان منذ العصور البدائية في تفاعل مع البيئة المحيطة به، خائفا من ظواهرها أحيانا، ومستكشفا ومتأملا أحيانا أخرى. ومع اكتسابه الخبرات، وتراكم وتناقل المعرفة بالعالم المحيط به تطورت تلك العلاقة من الخوف إلى الاستئناس ببيئته، فهو منها وهي منه، يستمد منها مقومات حياته، ويحترم قواها ويترفق بمواردها.
كانت تلك العلاقة بين الإنسان وبيئته علاقة تكاملية تكافلية يعطي فيها ويأخذ، ويعتبر نفسه جزءا منها، صديقا لحيوانها ونباتها، ومنتميا إلى أرضها ومائها وسمائها، فيما يشير إليه علماء الأحياء والبيئة بحالة الإنسان "الإيكو"؛ أي الإنسان الموجود في علاقة متكاملة مع باقي المكونات، ولا ينفصل عنها، حتى حين يطغى عليها مختارا أو مضطرا، تستطيع البيئة تجاوز ذلك الخلل، وتعويض ما نقص منها.
وقد برز إنسان "الإيكو" في الحضارات القديمة بعقله واتزانه في التعامل مع الطبيعة وثرواتها.
وتاريخ الحضارات المتعاقبة وتطورها يشهد بمظاهر عدة من احترام الطبيعة ورعايتها وحمايتها؛ حفظا للموارد من الهدر وإبقاء عليها للأجيال القادمة، وعلى رأس تلك الحضارات نرى الحضارة الإسلامية في وصاياها الكبرى ونظرتها تجاه سائر الأحياء ووصفها لهم بـ "أمم أمثالكم"، ووصاياها بحرمة الهدر، ولو كان المصدر لا ينفد ولا ينتهي من قبيل "لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جارٍ".
الإنسان "الإيجو"
بيد أن إنسان القرن التاسع عشر؛ صنع المحرك وفجر طاقة البخار وامتص وقود الأرض نفطا وفحما، وضرب بمعوله باطنها ليحفر مناجم لا حصر لها، وأسرف في استخدام معادنها ومواردها بصورة تفوق قدرة البيئة ونظمها على احتمال الخلل أو قدرتها على تعويضه في وقت قصير.
كانت الأرض في تلك الفترة أسيرة إمبراطوريات غربية كبرى تتقاسم ثرواتها وتتنافس على مواردها وتتسابق في استعمارها وتتجه بنموها الجشع نحو الإنتاج والاستهلاك المفرطين من أجل الربح، والتوسع بأي ثمن.
رأى إنسان ذلك العصر- ولا يزال- نفسه مالكا بلا حساب وصاحبا للكوكب بلا مسؤولية، فنظر إلى الطبيعة باعتباره في حالة صراع معها ولا بد له أن ينتصر ويفرض عليها سلطانه ويُخضعها، فكان إنسان "الإيجو" ذلك المتغطرس الذي رأى نفسه فوق البيئة وأحيائها، فمارس كل درجات الغلو والإفراط في الإنتاج والاستهلاك، حتى خرجت العلاقة البيئية الطبيعية -التي كانت متوازنة قديما- عن السيطرة، فكانت الصدمات التي هزت الأنظمة البيئية في الكوكب واحدا تلو الآخر، برا وبحرا وجوا، في السلم والحرب على السواء.
المادية الغربية وروح العنصرية
كانت تلك الحداثة المادية التي أتى بها الغرب تحمل روحا عدائية تجاه كل من سواهم من البشر أو الأحياء، وتتسم بمركزية ذاتية تختزل التفوق والتطور البشري في الرجل الأبيض الذي من حقه أن يحكم ويسيطر طالما أن مبرر القوة العلمية والتكنولوجية في صالحه، ومن هنا كانت النزعة الاستعلائية تجاه الآخر البشري والطبيعة على السواء، فعلى الجميع أن يخضع للرجل الأبيض، ويوفر له احتياجات تطوره، ويمد له سلطانه.
وهي رؤية شديدة العنصرية تجلت في صور خطيرة من التنافس والصراع الاستعماري، أخضع الغرب خلالها أغلب شعوب الأرض، وأباد الملايين من السكان الأصليين باعتبار أنه الأقوى والأجدر بالبقاء، وأوغل في استنزافه الطبيعة من أجل الحصول على مواردها ليتمكن من إغراق العالم في حالة استهلاكية مفرطة وغير مسبوقة جعلت الإنسان عبدا للسوق، وتحت رحمة الرأسمالية التي تحكمه.
وبتعبير سيرج لاتوش في كتابه "تغريب العالم": "إن الغرب لم يعد بقعة جغرافية ولا حتى لحظة تاريخية وإنما أصبح كالآلة التي تدور وتدوس الجميع بمن في ذلك صاحبها".
غزو للطبيعة وإبادة للبشر
صنعت الفلسفة المادية من الغرب ماردا يرى العالم كله خاضعا لسطوته، يصفها عبدالوهاب المسيري بقوله : " فبدلا من أن يضع الإنسان الغربي الجنس البشري في مركز الكون وضع الجنس الأبيض في هذا المركز، ووضع بقية البشر مع الطبيعة في الهامش؛ وبدلا من أن يكون الهدف من الوجود في الكون هو تحقيق مصلحة الإنسان، أصبح الهدف هو تحقيق مصلحة الإنسان الأبيض".
وهو أمر جعل من الغرب قوة مهيمنة تسعى للسيطرة على سائر البشر والأحياء وتعمل على إخضاع الطبيعة للرجل الأبيض المتفوق بلا اعتبار قيمي أو أخلاقي، وبصورة عنصرية فجة يصفها المسيري: "انقسم البشر إلى بشر سوبر super men إمبرياليين يتحكمون في كل البشر والطبيعة وإلى submen أي دون البشر يذعنون لإرادة super men".
ويتجسد ذلك في تجاربهم الاستعمارية وإبادة السكان الأصليين، كما تجسدت حديثا في النازية إبان الحرب العالمية الثانية ودعاوى تفوّق العرق الآري ورغبة هتلر في إثبات تفوقهم وإخضاع من سواهم من الأعراق والأجناس والشعوب، مثلما تفعل الصهيونية اليوم من إبادة -باعتبار تفوق السامية- وحقهم في استئصال الإنسان الفلسطيني العربي بل وأرضه وأشجار زيتونه وبيئته التي أبادوها كما أبادوا البشر والحجر.
حصاد الغرور
ونتيجة تلك النظرة كان الحصاد مرا بتدهور كارثي للبيئة ندفع اليوم ثمنه، فموارد البيئة تنضب وعدد هائل من الكائنات أصبح مهددا بالانقراض، والتربة إما دمرتها الحروب والمواد الخطرة المدفونة في عمقها أو المبيدات التي تشبعت بها بملايين الأطنان، ولن نستطيع التخلص منها، حتى الهواء والماء لم يسلما من التلوث والمخاطر التي تهدد صحتنا جميعا بلا استثناء؛ أبيضنا وأسودنا وأحمرنا، فمن يدفع فاتورة تلك الكلفة الكارثية التي قاد غزوتها ذلك الأبيض المغرور؟
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 9 ساعات
- الجزيرة
انتقادات لرئيس وزراء السويد لاعتماده على "شات جي بي تي"
يواجه رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون انتقادات شديدة بعد اعترافه باستشارة " شات جي بي تي" باستمرار ضمن مهام عمله اليومية، وذلك وفق ما جاء في تقرير نشرته غارديان. ويؤكد كريسترسون أن استخدامه لأدوات الذكاء الاصطناعي لم يقتصر على "شات جي بي تي" فقط، بل امتد ليشمل أداة الذكاء الاصطناعي الفرنسية "ليشات" (LeChat)، مضيفا أن زملاءه يستخدمون هذه الأدوات أيضا. وأضاف في حديثه مع الصحيفة السويدية للأعمال "داغنز إنداستري" واصفا استخدامه للأداة: "أستخدمه كثيرا، وإن لم يكن ذلك إلا لرأي ثان: ماذا فعل الآخرون؟ وهل يجب أن نفكر في عكس ذلك تمامًا؟.. هذا هو نوع الأسئلة التي أطرحها عليه". وتسببت هذه التعليقات بموجة من الانتقادات الواسعة التي طالت كريسترسون وحزبه اليميني من خبراء التكنولوجيا حول العالم، وذلك بسبب المخاوف المتنوعة التي يمكن أن تنجم عن نماذج الذكاء الاصطناعي. كما اتهمته صحيفة "أفتونبلاديت" السويدية بالسقوط في فخ هوس الذكاء الاصطناعي لأثرياء العالم الغربي، وذلك في الافتتاحية التي قدمتها لأحدث أعدادها. وحذرت سيمون فيشر هوبنر الباحثة بعلوم الحاسب في جامعة كارلستاد ضمن حديثها مع صحيفة "أفتونبلاديت" من استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي مع المعلومات الحساسة المتعلقة بالعمل. ومن جانبه أكد المتحدث الرسمي باسم كريسترسون أن رئيس الوزراء السويدي لم يخاطر باستخدامه تقنيات الذكاء الاصطناعي، مؤكدا أنه لم يشارك أي معلومات حساسة أو سرية مع الأداة بل اعتمد عليها للحصول على تخمينات عامة. وبدورها اعتبرت فرجينيا ديغنوم أستاذة الذكاء الاصطناعي المسؤولة بجامعة أوميا أن الذكاء الاصطناعي ليس قادرا على تقديم رأي خاص به أو محايد فيما يتعلق بالقضايا والأفكار السياسية، ولكنه يعكس ببساطة آراء أولئك الذين بنوه فضلا عن المعلومات التي تدرب عليها. وأضافت في حديث لها مع صحيفة "داغنز نيهيتر" السويدية أنه "يجب أن نطالب بضمان الموثوقية والاعتمادية، إذ إننا لم نصوت لروبوت شات جي بي تي".


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
الذكاء الاصطناعي التوليدي.. ضربة موجعة جديدة لقطاع الإعلام المأزوم
أدت برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي على غرار "تشات جي بي تي" إلى تقليص عمليات البحث التقليدية على الإنترنت وحرمان المواقع الإخبارية من بعض عائداتها من الزيارات والإعلانات، مما يشكل ضربة موجعة إضافية لقطاع مأزوم أصلا. وتوقع مات كاروليان، نائب رئيس قسم الأبحاث والتطوير في مجموعة "بوسطن غلوب ميديا" التي تُصدر الصحيفة اليومية المرموقة، أن "تكون السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة بالغة الصعوبة على ناشري الصحف في مختلف أنحاء العالم، بصرف النظر عن حجمها". ونبّه إلى أن "على الناشرين أن يهيئوا مؤسساتهم للتكيف، وإلا فإنها ستنهار". ولا تزال الأرقام الدقيقة في هذا الشأن قليلة، لكن دراسة حديثة أجراها مركز "بيو للأبحاث" (Pew Research Center) أظهرت أن الملخص الذي بات الذكاء الاصطناعي التوليدي يوفره عند إجراء بحث على "غوغل"، غالبا ما يثني مستخدمي الإنترنت عن السعي إلى مزيد من التعمق. وأصبح عدد المرات التي ينقر فيها المستخدمون على الروابط المقترحة نصف عدد مرات النقر أثناء بحث من دون ذكاء اصطناعي. وبالتالي، باتت نسبة مماثلة من المستخدمين تستغني عن زيارة مواقع وسائل الإعلام الإلكترونية التي تعتمد على عدد الزيارات في إيراداتها الإعلانية واشتراكاتها. ورأى الأستاذ في جامعة "نورث إيسترن"، جون وهبي، أن "هذا الاتجاه نحو تضاؤل عدد الزيارات" المتأتية من محركات البحث التقليدية "سيتسارع، وسيُصبح الإنترنت عالما مختلفا عما عرفناه". اشتراكات لا تكفي وسبق لسيطرة بعض الجهات كـ"غوغل" و"ميتا" أن أدت إلى خفض عائدات وسائل الإعلام الإلكترونية من الإعلانات، مما دفعها إلى التركيز في سعيها إلى تحقيق الإيرادات على المحتوى المدفوع والاشتراكات. لكن جون وهبي ذكر بأن الاشتراكات تعتمد أيضا على حركة الزيارات، وأنها "لا تكفي لجعل وسائل الإعلام الكبيرة قادرة على الاستمرار". وقال مات كاروليان: "بدأنا نرى اشتراكات عبر تشات جي بي تي" الذي يوفر نقطة وصول جديدة إلى الأخبار، "لكن هذا الاتجاه لا يزال محدودا جدا مقارنة بمنصات البحث الأخرى"، حتى الصغيرة منها. وأضاف: "أما بالنسبة لأدوات المساعدة الأخرى القائمة على الذكاء الاصطناعي، على غرار (بيربليكسيتي)، فإن الحركة أبطأ حتى". تحسين محركات البحث التوليدية وسعيا إلى الحفاظ على مكانتها في عالم الذكاء الاصطناعي، يستخدم عدد متزايد من الشركات تقنية "تحسين محركات البحث التوليدية" "جي إي أو" (GEO) التي تشكل بديلا من تقنية "تحسين محركات البحث" "سي إي أو" (SEO)، وهي طريقة لتحسين ترتيب موقع إلكتروني في نتائج البحث بواسطة محركات البحث التقليدية. ومن أهم مميزات التقنية الجديدة أنها توفر تصنيفا واضحا ومنظما بطريقة جيدة للمحتوى، يمكن أن تفهمه نماذج الذكاء الاصطناعي الرئيسية، وحضورا على منصات التواصل الاجتماعي وفي المنتديات. وقال توماس بيهام، الرئيس التنفيذي لشركة "أوترلاي إيه آي" الناشئة في مجال تحسين المحتوى، إن "السؤال الأهم، في حالة وسائل الإعلام، هو: هل يجب على أصحاب المواقع السماح لأدوات استخراج المحتوى الهادفة إلى تغذية برامج الذكاء الاصطناعي باستخدام هذه المواقع للحصول على ما تحتاج إليه؟". فالكثير من ناشري الصحف الذين أحبطهم استخراج برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي الرئيسية لبياناتها من مواقعهم بطريقة غير منظمة، اختاروا الرد من خلال منع الذكاء الاصطناعي من ولوج محتواهم. وقالت دانييل كوفي مديرة منظمة "نيوز/ميديا ألاينس" المهنية لوسائل الإعلام إن "علينا ضمان الحصول على تعويض عادل من الشركات التي تستخدم محتوانا". وعُقدت على هذا الأساس بعض الاتفاقات، منها مثلا بين صحيفة "نيويورك تايمز" و"أمازون"، وبين وكالة "أسوشيتد برس" و"غوغل"، وبين وكالة فرانس برس و"ميسترال إيه آي". لكن دعاوى عدة لا تزال جارية، من بينها تلك التي رفعتها "نيويورك تايمز" ضد "أوبن إيه آي" و" مايكروسوفت". ومع ذلك، فإن اعتماد أسلوب منع استخراج البيانات من المواقع يقلل في الواقع من وجودها في إجابات مساعدي الذكاء الاصطناعي. ولاحظ توماس بيهام أن مسؤولي وسائل الإعلام، في ظل هذه المعضلة، "يختارون على نحو متزايد تمكين أدوات الذكاء الاصطناعي مجددا من ولوج مواقعهم". ولكن حتى مع فتح الأبواب على مصراعيها، لا يمكن ضمان النجاح. من يُنتج المحتوى؟ وأوضحت شركة "أوترلاي إيه آي" أن وسائل الإعلام تمثّل 29% من الاقتباسات التي يوفرها "تشات جي بي تي"، وتأتي في المرتبة الثانية بعد مواقع الشركات (36%). لكن الشركة الناشئة رأت أن البحث بواسطة "غوغل" يعطي الأولوية للمصادر الموثوقة، في حين "لا يوجد مثل هذا الارتباط في البحث بواسطة تشات جي بي تي". وأفاد تقرير "معهد رويترز" لعام 2025 عن الأخبار الرقمية بأن نحو 15% من الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما يستخدمون الذكاء الاصطناعي التوليدي للاطلاع على الأخبار. ومن شأن متابعة الأخبار عبر هذه القناة، كما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تشويش فهم القراء للمصدر الحقيقي للأخبار وقيمتها. وشدد مات كاروليان على أن "ثمة من يجب أن يقوم بالمهمة الصحفية في مرحلة ما.. فمن دون صحافة حقيقية، لن تجد منصات الذكاء الاصطناعي هذه ما تلخصه". وتعمل "غوغل" على إقامة شراكات مع وسائل إعلام لتعزيز وظائف الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي توفره. ورأى جون وهبي أن "المنصات ستُدرك أنها تحتاج إلى الصحافة".


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
الفلسفة المادية وجذور الدمار البيئي
يحكم سلوك أي مجتمع تجاه ذاته أو تجاه غيره من المجتمعات تصور وفلسفة تفسره، وتحدد معالمه، وكذلك يحكم سلوكنا تجاه العالم الطبيعي والبيئة -التي تحيط بنا ونستمد منها مقومات وجودنا- فلسفة تحدد رؤيتنا لها وطريقتنا في التعامل معها. وفي العصر الحديث- منذ النهضة الأوروبية- حتى اليوم، تعتبر الحضارة الغربية بحكم أنها الحضارة الغالبة على سائر الحضارات، هي صاحبة الرؤية الأكثر وضوحا في السلوك البشري- بفعل العولمة- والأكثر تأثيرا في محيطنا الطبيعي. وتعد الفلسفة المادية كرؤية عن الوجود والحياة والبشر وعلاقاتهم بالطبيعة وفيما بينهم، بمثابة المرجعية والبنية الفكرية للعديد من الفلسفات الغربية الحديثة. الاتجاه المادي للفلسفة رغم أن الفلسفة المادية تمتد في تاريخها القديم إلى الفلسفة الهندية قبل الميلاد، فإن حضورها الأبرز في السياق الغربي يرجع إلى فلاسفة اليونان القدماء، وعلى رأسهم ديمقريطس، وأبيقور، ولوكريتيوس، وتتلخص في أن الوجود كله في نظرهم يرجع إلى المادة، وأن ظواهر الحياة ترجع إلى تفاعلات المادة وحركتها، وأن الحياة خاضعة في ظواهرها للمادة وقوانينها وما تقرره فحسب. ثم تراجعت المادية بعد ذلك قرونا عدة إلى أن صعدت إلى الواجهة مرة أخرى مع الثورة العلمية في أعقاب عصر النهضة، خاصة مع ظهور نظريات نيوتن عن الحركة ورؤيته الميكانيكية للكون والعالم. وكان الحضور الأبرز للاتجاه المادي في الفلسفة الغربية مع مطلع القرن التاسع عشر إبان صعود داروين ونظريته عن النشوء والارتقاء في عالم الأحياء. والمادية هنا تبرز كونها وصفا يفسر كل أنشطة الطبيعة والبشر بعوامل مادية تتسم بالصراع بين الأحياء في معركة البقاء، أو الصراع بين الطبقات الاجتماعية في عالم البشر، وكونها تفسيرا ماديا للتاريخ يحكمه تطور وسائل وأدوات الإنتاج. فكيف تنظر المادية إلى الإنسان والطبيعة؟ إعلان من "الإيكو" إلى "الإيجو" لطالما كان الإنسان منذ العصور البدائية في تفاعل مع البيئة المحيطة به، خائفا من ظواهرها أحيانا، ومستكشفا ومتأملا أحيانا أخرى. ومع اكتسابه الخبرات، وتراكم وتناقل المعرفة بالعالم المحيط به تطورت تلك العلاقة من الخوف إلى الاستئناس ببيئته، فهو منها وهي منه، يستمد منها مقومات حياته، ويحترم قواها ويترفق بمواردها. كانت تلك العلاقة بين الإنسان وبيئته علاقة تكاملية تكافلية يعطي فيها ويأخذ، ويعتبر نفسه جزءا منها، صديقا لحيوانها ونباتها، ومنتميا إلى أرضها ومائها وسمائها، فيما يشير إليه علماء الأحياء والبيئة بحالة الإنسان "الإيكو"؛ أي الإنسان الموجود في علاقة متكاملة مع باقي المكونات، ولا ينفصل عنها، حتى حين يطغى عليها مختارا أو مضطرا، تستطيع البيئة تجاوز ذلك الخلل، وتعويض ما نقص منها. وقد برز إنسان "الإيكو" في الحضارات القديمة بعقله واتزانه في التعامل مع الطبيعة وثرواتها. وتاريخ الحضارات المتعاقبة وتطورها يشهد بمظاهر عدة من احترام الطبيعة ورعايتها وحمايتها؛ حفظا للموارد من الهدر وإبقاء عليها للأجيال القادمة، وعلى رأس تلك الحضارات نرى الحضارة الإسلامية في وصاياها الكبرى ونظرتها تجاه سائر الأحياء ووصفها لهم بـ "أمم أمثالكم"، ووصاياها بحرمة الهدر، ولو كان المصدر لا ينفد ولا ينتهي من قبيل "لا تسرف في الماء ولو كنت على نهر جارٍ". الإنسان "الإيجو" بيد أن إنسان القرن التاسع عشر؛ صنع المحرك وفجر طاقة البخار وامتص وقود الأرض نفطا وفحما، وضرب بمعوله باطنها ليحفر مناجم لا حصر لها، وأسرف في استخدام معادنها ومواردها بصورة تفوق قدرة البيئة ونظمها على احتمال الخلل أو قدرتها على تعويضه في وقت قصير. كانت الأرض في تلك الفترة أسيرة إمبراطوريات غربية كبرى تتقاسم ثرواتها وتتنافس على مواردها وتتسابق في استعمارها وتتجه بنموها الجشع نحو الإنتاج والاستهلاك المفرطين من أجل الربح، والتوسع بأي ثمن. رأى إنسان ذلك العصر- ولا يزال- نفسه مالكا بلا حساب وصاحبا للكوكب بلا مسؤولية، فنظر إلى الطبيعة باعتباره في حالة صراع معها ولا بد له أن ينتصر ويفرض عليها سلطانه ويُخضعها، فكان إنسان "الإيجو" ذلك المتغطرس الذي رأى نفسه فوق البيئة وأحيائها، فمارس كل درجات الغلو والإفراط في الإنتاج والاستهلاك، حتى خرجت العلاقة البيئية الطبيعية -التي كانت متوازنة قديما- عن السيطرة، فكانت الصدمات التي هزت الأنظمة البيئية في الكوكب واحدا تلو الآخر، برا وبحرا وجوا، في السلم والحرب على السواء. المادية الغربية وروح العنصرية كانت تلك الحداثة المادية التي أتى بها الغرب تحمل روحا عدائية تجاه كل من سواهم من البشر أو الأحياء، وتتسم بمركزية ذاتية تختزل التفوق والتطور البشري في الرجل الأبيض الذي من حقه أن يحكم ويسيطر طالما أن مبرر القوة العلمية والتكنولوجية في صالحه، ومن هنا كانت النزعة الاستعلائية تجاه الآخر البشري والطبيعة على السواء، فعلى الجميع أن يخضع للرجل الأبيض، ويوفر له احتياجات تطوره، ويمد له سلطانه. وهي رؤية شديدة العنصرية تجلت في صور خطيرة من التنافس والصراع الاستعماري، أخضع الغرب خلالها أغلب شعوب الأرض، وأباد الملايين من السكان الأصليين باعتبار أنه الأقوى والأجدر بالبقاء، وأوغل في استنزافه الطبيعة من أجل الحصول على مواردها ليتمكن من إغراق العالم في حالة استهلاكية مفرطة وغير مسبوقة جعلت الإنسان عبدا للسوق، وتحت رحمة الرأسمالية التي تحكمه. وبتعبير سيرج لاتوش في كتابه "تغريب العالم": "إن الغرب لم يعد بقعة جغرافية ولا حتى لحظة تاريخية وإنما أصبح كالآلة التي تدور وتدوس الجميع بمن في ذلك صاحبها". غزو للطبيعة وإبادة للبشر صنعت الفلسفة المادية من الغرب ماردا يرى العالم كله خاضعا لسطوته، يصفها عبدالوهاب المسيري بقوله : " فبدلا من أن يضع الإنسان الغربي الجنس البشري في مركز الكون وضع الجنس الأبيض في هذا المركز، ووضع بقية البشر مع الطبيعة في الهامش؛ وبدلا من أن يكون الهدف من الوجود في الكون هو تحقيق مصلحة الإنسان، أصبح الهدف هو تحقيق مصلحة الإنسان الأبيض". وهو أمر جعل من الغرب قوة مهيمنة تسعى للسيطرة على سائر البشر والأحياء وتعمل على إخضاع الطبيعة للرجل الأبيض المتفوق بلا اعتبار قيمي أو أخلاقي، وبصورة عنصرية فجة يصفها المسيري: "انقسم البشر إلى بشر سوبر super men إمبرياليين يتحكمون في كل البشر والطبيعة وإلى submen أي دون البشر يذعنون لإرادة super men". ويتجسد ذلك في تجاربهم الاستعمارية وإبادة السكان الأصليين، كما تجسدت حديثا في النازية إبان الحرب العالمية الثانية ودعاوى تفوّق العرق الآري ورغبة هتلر في إثبات تفوقهم وإخضاع من سواهم من الأعراق والأجناس والشعوب، مثلما تفعل الصهيونية اليوم من إبادة -باعتبار تفوق السامية- وحقهم في استئصال الإنسان الفلسطيني العربي بل وأرضه وأشجار زيتونه وبيئته التي أبادوها كما أبادوا البشر والحجر. حصاد الغرور ونتيجة تلك النظرة كان الحصاد مرا بتدهور كارثي للبيئة ندفع اليوم ثمنه، فموارد البيئة تنضب وعدد هائل من الكائنات أصبح مهددا بالانقراض، والتربة إما دمرتها الحروب والمواد الخطرة المدفونة في عمقها أو المبيدات التي تشبعت بها بملايين الأطنان، ولن نستطيع التخلص منها، حتى الهواء والماء لم يسلما من التلوث والمخاطر التي تهدد صحتنا جميعا بلا استثناء؛ أبيضنا وأسودنا وأحمرنا، فمن يدفع فاتورة تلك الكلفة الكارثية التي قاد غزوتها ذلك الأبيض المغرور؟