logo
الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني

الديمقراطية العربية التي يجب أن نبني

الجزيرة٠٤-٠٣-٢٠٢٥

عندما نتساءل أي مستقبل للعرب، لنقل من هنا لمنتصف القرن، يتبادر للذهن ثلاثة سيناريوهات كبرى:
الأول: تواصل الاستبداد – أكان علمانيًا أم دينيًا- بتشبِيبه وتأقلمه واستعماله المحكم تقنيات التضليل والمراقبة، مما يعني تواصل الوضع الكارثيّ للشعوب والدول.
الثاني: صراع مُتزايد الحدّة والوتيرة بين الثورات والثورات المضادّة، مما ستنتج عنه حالة من الفوضى قد تصل لمصافّ الانتحار الجماعي للمجتمع والدولة (السودان والصومال إنذارًا).
الثالث: نجاح المشروع الديمقراطي في التمكن والبقاء والتطور.
لقائل أن يقول أين الإسلام السياسي في هذه السيناريوهات التي تلغي وجوده، والحال أنه اليوم المنتصر في سوريا، المقاوم في غزة، والمستعدّ للعودة في أكثر من بلد بعد الفشل المخزي للثّورات المضادّة؟
قناعتي أن تيارًا منه سيعود لجولة استبدادية عبثية جديدة؛ لأنه سيواجه بمقاومة المكوّن الثابت الآخر للمجتمع؛ أي المكون العلماني، وأن تيارًا آخرَ سينخرط في المشروع الديمقراطي ليثريه وينعشه بالقيم المتجذرّة في ثقافة المجتمع. مما يعني أننا لن نخرج، حتى بإقحام الإسلام السياسي، من السيناريوهات الثلاثة.
أي من هذه السيناريوهات سيتحقق؟
رغم استحالة التنبّؤ، هناك احتمالات محدودة قد تكون هي مصيرنا. يمكن أن تتجاور داخل الفضاء العربي – بغض النظر عن الحدود- مناطقُ يحكمها الاستبداد، ومناطق سيدتها الفوضى المدمرة، أو مناطق فوضى، ومناطق تحكمها ديمقراطية متفاوتة النجاح، أو واحات ديمقراطية بجانب قلاع استبدادية، أو مناطق فوضى فظيعة بجانب مناطق فوضى أفظع.
ما علّمنا التاريخ، هو أن المستقبل قلّما يتمخّض عما نأمل، أو عما نخشى، والعادة أنه يتمخّض عما يفاجئنا ولم نتوقعه لحظة.
لكن الثابت أنه لا شيءَ مقدرًا أو مكتوبًا، فانتصار الديمقراطية -ونهاية التاريخ حسب فوكو ياما- ليس أكثر حتمية من انتصار الشيوعية، كما كانت قناعة الماركسيين في القرن العشرين. وفي نفس الوقت لا شيء يمنع من هذا الانتصار.
السؤال هو: لماذا يجب أن نتشبّث بهذا الخيار رغم ما يعاني في عالَمنا المعاصر من أزمات، وما شروط ثباته ثبات البذرة الطيبة في أرض قاحلة وجفاف مخيف؟
لنبدأ بالتأكد من وجود تصوّر جامع للديمقراطيين العرب، إذ كيف نناضل من أجل شيء مبهم أو غير متّفق على أبجدياته.
للبتّ في فهم مشترك للديمقراطية، عقد المجلس العربي مؤتمرًا في سراييفو في أكتوبر/ تشرين الأوَّل 2024، ناقشَ فيه أكثر من مئة من السياسيين والمثقّفين والإعلاميين من مختلف الأجيال، ورقةً تحضيريةً أعدتها قيادة المجلس، وانتهوا بعد ثلاثة أيام بالاتفاق على تصوُّر ضُمّن في وثيقة سُمّيت العهد الديمقراطي العربي (موجودة على موقع المجلس).
إنها الوثيقة التأسيسية لشبكة الديمقراطيين العرب، وخارطة الطريق لنضالات الأجيال المقبلة، وتبدأ بالعودة إلى أهمّ سؤال: لماذا الإصرار على الديمقراطية وهي اليوم كاليتيم على مأدبة اللئام؟
تُختزل الديمقراطية عند أغلب الناس في الحريات الفردية والحريات العامة والقضاء المستقل والانتخابات الحرة والنزيهة. لكن هذه وسائل وآليات الديمقراطية وليست لبّها وهدفها.
أحسن مدخل لفهم هدفها هو تصوّر غيابها المطلق، كما هو الحال في أقسى الدكتاتوريات: النظام السوري الأسدي نموذجًا.
الظاهرة الأساسية في كل مجتمع منكوب بمثل هذا النظام: خوف المجتمع من الدولة، وخوف الدولة من المجتمع.
إنه خوف المحكومين من الحيطان التي لها آذان، من زوّار الفجر، من مراكز الشرطة، من غرف التعذيب، من السجون والمنافي.
إعلان
إنه خوف الحكام من المؤامرات الصامتة، من الثورات الصاخبة، من اكتشاف فضائحهم وجرائمهم ربما الخوف الأكبر اكتشاف أنهم ليسوا أشخاصًا استثنائيين كما يدعون، وإنما أشخاص عاديون وأحيانًا حتى أقل من العاديين.
هذا الخوف العام هو أبرز مظاهر الحرب الصامتة والمتفجرة دوريًا بين الدولة والمجتمع في شكل انقلابات وثورات.
أما السبب الأول، فمصادرة شخص أو عصابة، مدنية أو عسكرية، طائفية أو أيديولوجية، الثروةَ والسلطة والاعتبار، بالعنف والإذلال والحكم على الأغلبية بالعيش على فتات هذه الثلاثية في ظلّ الخوف والمذلّة.
لهذا يقول العهد الديمقراطي:
"الديمقراطية ليست فقط نظام حكم، بل هي عملية تحرير شاملة من الخوف والإذلال الجماعي".
إن عبقرية الديمقراطية في قدرتها على تحرير الحاكم من ضرورة التخويف والإذلال للبقاء في الحكم وحتى على قيد الحياة.
هي أيضًا في تحرير المحكوم من ضرورة الخنوع للخوف والمذلة لمواصلة العيش التعيس.
لا يحدث هذا بإلغاء سبب الحرب الأهلية الصامتة، حيث لا قدرة لأحد بين عشية وضحاها على توزيع عادل للثروة والسلطة والاعتبار، وإنما بقدرة الديمقراطية على نقل الصراع من العنف الجسدي إلى العنف الرمزي.
هكذا تنظم آلياتُها الأربع المعروفة الصراع السلمي بين جيوش رمزية هي الأحزاب السياسية والسلاح هو الكلمات لا اللكمات. تأتي الانتخابات الحرة والنزيهة للتداول السلمي على السلطة كمعركة تفصل مرحليًا بين المتنازعين فيعلَن منتصرًا من صفف أكبر عدد ممكن من الجنود على ساحة المعركة.
بعد إعلان الفوز يُتوج الفائز الجديد وينصرف القديم إلى بيته محافظًا على رأسه. لا يبقى على المهزومين إلا قبول وضع يعرفونه مؤقتًا؛ لأن اللعب مفتوح، وثمة دومًا أمل بالانتصار في المعركة السلمية المقبلة.
من أحوج منا -نحن العرب- لمثل هذا النظام لكي ننتهي من الصراع الدموي على السلطة الذي نعاني منه منذ معركة الجمل، حتى يعيش الحكام بلا خوف من المحكومين، والمحكومون بلا خوف من الحكام، حتى ننهي حربًا أزلية بين دولة قامعة ومجتمع مقموع، لا انتصار فيها إلا وكان عابرًا باهظ الثمن للجميع؟
إعلان
لقائل أن يقول: بهذا المفهوم كل المجتمعات بحاجة لنَفَس الديمقراطية كما هي بحاجة لنفس الهواء النقي والغذاء الكافي، فما الداعي لإضافة "العربي" لتوصيف العهد؟ هل للتعريف الجغرافي أم لإفراغ المصطلح من فحواه، كما حدث من قبل بتسميات من نوع: ديمقراطية اشتراكية، وديمقراطية مسؤولة، وديمقراطية شعبية؟
لا هذا ولا ذاك. نحن – العرب- بحاجة ككل الشعوب للديمقراطية، لكن لنا فيها بحكم وضعنا الكارثي أربعة مآرب أخرى، هي أيضًا الشروط الأساسية لنجاحها وبقائها.
لماذا ديمقراطية اجتماعية؟
كان ولا يزال مدخل الانقلابيين والشعبويين للإطاحة بكل الأنظمة الديمقراطية الجنينية، هو السخرية من الحريات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والوعد بتحقيق الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. النتيجة – كما جرّبنا على امتداد سبعين سنة في أكثر من بلد- هي مصادرة الحرية دون تحقيق العدالة، أكانت سياسية أم اجتماعية.
هكذا تعلمنا من تجربة المعارضة والحكم، أن ديمقراطية لا تحمل في طياتها التقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، هي مجرد فاصل بين جولتين استبداديتين.
لذلك يقول العهد الديمقراطي: "نحن ندرك من خلال التجربة في أكثر من بلد عربي أن الديمقراطية التي تركز فقط على شكل النظام السياسي، والمهووسة بفكرة الحرية، كما تروّج لها الأنظمة الليبرالية الغربية، لا حظوظ لها في ربح معركة العقول والقلوب في منطقتنا.
أولوية الأولويات بالنسبة لنا، هي الخروج من الفقر، والتصدي للفساد، وبناء التنمية المستدامة، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الجماعية".
لماذا ديمقراطية اتحادية؟
إن الأزمة السياسية الخانقة في بلداننا، ليست فقط أزمة النظام السياسي وإنما أزمة الدولة القُطرية، فباستثناء أربع دول بترولية، لا قدرة لثماني عشرة دولة عربية أخرى على تلبية الحاجيات الاقتصادية لأغلبية سكانها، حتى ولو حكمتها أحسن الأنظمة وأقلها فسادًا.
هذا ما فهمه باكرًا الوحدويون والقوميون العرب، لكن ما لم يفهموه أن النظم الاستبدادية التي يقدّسون لا تتّحد، والدليل صراع البعثيين الذين حكموا سوريا، والعراق في سبعينيات القرن الماضي.
النموذج المعاكس هو قدرة الأوروبيين على بناء الاتحاد الأوروبي بعد انهيار الدكتاتوريات الشيوعية والنازية والفاشية، وحكم فرانكو في إسبانيا. لهذا يقول العهد :"نحن أمة عظيمة، فخورة بتاريخها وهويتها وحضارتها العريقة ومساهمتها في تاريخ البشرية.
لكننا اليوم نشهد في عجز تام التنكيل بالشعب الفلسطيني، أشجع شعوبنا، نتيجة تفرّق الأمة إلى اثنتين وعشرين دولة ضعيفة، تابعة، ومتناحرة، عاجزة عن التعاون حتى في أبسط المجالات، فما بالك بتشكيل وحدة صلبة تستطيع حماية الأمن القومي للأمة أو لشعب من شعوبها.
هذا العجز سببه طبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تتحد فيما بينها أبدًا، بل تتنازع على النفوذ. لذا نرى أن الديمقراطية، كما أثبتت تجربة الاتحاد الأوروبي، هي السبيل الوحيد لبناء اتحاد الشعوب العربية الحرة والدول المستقلة، القادر وحدَه على الدفاع عن مصالحنا وحقوقنا المشروعة".
لماذا ديمقراطية سيادية؟
المستبدون في العالم العربي تبّع، يدينون ببقائهم في السلطة لتبعيتهم لهذه الدولة الخارجية، أو تلك، ومنها دول غير غربية مثل إيران، أو روسيا، وإسرائيل.
الديمقراطية، إذن، ليست الضمان الأكبر لتمتُّعنا بالحريات الفردية والجماعية فقط، وإنما أيضًا بالاستقلال الوطني الذي أصبح في ظل تبعية الاستبداد مجرد شعار أفرغ من كل مضمون.
لهذا يقول العهد الديمقراطي: "نرى في الديمقراطية، ليس فقط وسيلة للتحرّر من الاستعمار الداخلي الذي هو الاستبداد، بل امتدادًا لمعارك الاستقلال الأول التي خاضها آباؤنا وأجدادنا. هدفنا هو تحقيق السيادة الحقيقية، وقطع كل أشكال التبعية المهينة، حيث إن الاستبداد ليس إلا وكيلًا ووريثًا للاستعمار".
لماذا ديمقراطية مواطنية؟
لأنها الشرط الضروري للعيش المشترك في مجتمع سليم وفعّال. هذه المواطنية التي يجب أن تفرضها الدولة الديمقراطية وتتعهدها عادات وتقاليد وثقافة المجتمع، هي في نفس الوقت حق وواجب.
أما الحق فهو مساواة كل أفراد المجتمع أمام القانون فلا فضل لرجل على امرأة، لغني على فقير، لطائفة على طائفة… إلخ، في التمتُّع بكل الحقوق التي ضمنها الإعلان العالمي، وأساسًا الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. أما الواجب فضرورة اضطلاع تلقائي حرّ لكل الأفراد بمسؤولياتهم تجاه الآخرين.
هكذا يمكن أن نعرّف المواطنية بأنها المواقف والتصرفات لأشخاص أحرار يتمتعون بكل حقوقهم، لا يتخلون عن أي منها مهما سُلط عليهم من قمع، ويضطلعون بمسؤولياتهم تلقائيًا دون أدنى إكراه.
مجمل القول:
أن تكون اليوم مواطنيًا أي وريثًا عنيدًا لحُلم الحقوقيين بمجتمع كل أفراده يتمتعون بنفس الحقوق ويضطلعون بنفس الواجبات، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
أن تكون تقدميًا اشتراكيًا، وريثًا عنيدًا لحُلم العدالة الاجتماعية، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
أن تكون سياديًا استقلاليًا، وريثًا عنيدًا لحُلم الآباء والأجداد بدولة غير مستعمرة غير تابعة، غير "محمية"، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
أن تكون عروبيًا وحدويًا وريثًا عنيدًا لحُلم أمة عربية واحدة ذات رسالة إنسانية خالدة، لا مدخل اليوم غير الديمقراطية، كما عرّفها العهد الديمقراطي العربي.
خلاصة الخلاصة: لا أمل لهذه الأمة في مستقبل واعد إلا إن استطاعت بناء ثلاثية العهد الديمقراطي العربي: دول قانون ومؤسسات، شعوب من المواطنين، اتحاد شعوب حرة ودول مستقلة، والأداة الوحيدة القادرة على تحقيق المشروع العظيم: (ديمقراطية اجتماعية، اتحادية، سيادية، مواطنية).
هذا ما يحملنا للتحول من مستوى التنظير إلى المستوى العملي.
لكي ينجح أي مشروع سياسي عظيم، لا بدّ من قوى اجتماعية وازنة تجد فيه ضالتها ومن مناضلين صادقين يجاهدون طوال حياتهم لفرضه وسياسيين حكيمين يفعلون كل ما في وسعهم لتعهده وحمايته.
أين نحن من هذه الشروط الموضوعية التي قد تعطي للديمقراطية العربية -كما حددها العهد- بعضَ حظوظ الفوز في سباقها مع الاستبداد المخيف والفوضى المرعبة؟

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

استضافة 1000 حاج وحاجة من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى في فلسطين
استضافة 1000 حاج وحاجة من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى في فلسطين

أخبار قطر

timeمنذ 2 أيام

  • أخبار قطر

استضافة 1000 حاج وحاجة من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى في فلسطين

بداية الحديث عن قرار الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود بضيافة 1000 حاج وحاجة من ذوي الشهداء والأسرى والجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني الشقيق لأداء مناسك الحج لهذا العام 1446هـ، يأتي هذا القرار ضمن برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للحج والعمرة والزيارة الذي تنفذه وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد. وقد رفع معالي وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ شكره وتقديره للملك سلمان وولي العهد على هذه البادرة الكريمة التي تعكس اهتمام المملكة وقيادتها بأهمية دعم أبناء الشعب الفلسطيني وتعزيز الأخوة الإسلامية. في سياق متصل، أكد الشيخ آل الشيخ على أهمية البرنامج الذي استضاف منذ بدايته أكثر من 64 ألف حاج وحاجة من مختلف دول العالم، مؤكدًا على جهود قيادة المملكة في خدمة الإسلام والمسلمين وتعزيز مكانتها كقلب للعالم الإسلامي. كما بدأت الوزارة بوضع خطة تنفيذية لتقديم التسهيلات والخدمات للحجاج الفلسطينيين بدءًا من مغادرتهم بلادهم وحتى عودتهم بعد أداء المناسك، وهذا يعكس الحرص المستمر على تيسير أداء مناسك الحج لهؤلاء الحجاج في مكة المكرمة والمدينة المنورة. في الختام، ندعو الله أن يجزي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده على دعمهما السخي للأشقاء في فلسطين، ونسأل الله أن يديم على المملكة نعمة الأمن والنماء والاستقرار، وهذا يعكس الاهتمام الكبير بقضايا الأمة الإسلامية.

نبوءة هنتنغتون الخاطئة حول الصراع مع الإسلام
نبوءة هنتنغتون الخاطئة حول الصراع مع الإسلام

الجزيرة

time١٢-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

نبوءة هنتنغتون الخاطئة حول الصراع مع الإسلام

يتيه هنتنغتون بعيدًا في التواريخ القديمة فيتّبع خط سير الشعوب والحضارات والإمبراطوريات في كرّها وفرّها. ثم يرتد كموجة في بحر هائج إلى الأزمنة المعاصرة المثقلة بالصراعات والمعبّأة بتناقضات لا تلتئم. ومن خلال كل ذلك تراه يلهث وراء البحث عن القوانين الحاكمة لصدام الحضارات. وحين يرسو على "جُودي" التناقضات الثقافية، يؤسس قواعد صارمة لحالة الاشتباك الدائم، خاصة في عمق دوائر الصدع التي ترشح بأسباب الحروب والتوترات الشديدة والعلاقات المعقدة. واليوم بعد أكثر من ثلاثة عقود تفصلنا عن أول ظهور للكتاب (1993)، ها هو "صدام الحضارات" يستعيد راهنيته من خلال إطلاق المقاومة الفلسطينية جولة جديدة من الصراع سمّتها "طوفان الأقصى". وهي تطورات تطرح السؤال حول القدرة التفسيرية لتلك النظرية لمجريات الصراع الدولي، انطلاقًا من مفاهيمها الأساسية في الصدام الحضاري. والحقيقة أننا لم نشأ التوسع في تفكيك الصورة المجملة للصدام مثلما حواها الكتاب. فالمجال لا يتسع لذلك. فآثرنا الاقتصار على الصراع في فلسطين باعتبارها المنطقة الأنموذج لذلك الصدام. لقد جاء مؤتمر مالطا 1989 ليعلن عن نهاية الحرب الباردة. نهاية سيلد من خاصرتها نظام عالمي جديد من أهمّ ملامحه انتصار الليبرالية على الاقتصاد الموجّه، والديمقراطية على الشمولية. تمامًا مثلما انتصر الرهان الهيغلي على وعود الماركسية. وهو ما جرّأ فوكوياما سنة 1992 على التبشير "بنهاية التاريخ". ولم يشذّ هنتنغتون عن تلك القاعدة في تتبّع وقائع الصراع الدولي. فقد رأى أنّ العالم قد تحوّل لأول مرة من "صراع أيديولوجي" بين معسكرين، إلى صراع حضاري "بين جماعات من حضارات مختلفة". ومن ثم فقد أصبحت الحضارة هي المحور الجديد للسياسة الدولية. فخلف الصراعات والمواجهات وكل مظاهر التنافي الحدّي بين القوى تكمن قوة ثاوية: اسمها الهوية الثقافية للشعوب. فلم يعد الاقتصاد هو المحرك الأساسي للعلاقات الدولية مثلما ادعت الماركسية، ولا هي الأيديولوجيات مثلما عبرت عنها الحرب الباردة، بل هي الحضارة التي لا تفتأ تسلط أضواءها الكاشفة على التناقضات العميقة بين الأنساق. وقد وجدت تلك القاعدة ترجمتها في التوازنات الدولية الناشئة. إن إعادة ترتيب النظام العالمي على أساس حضاري تعني انقلابًا تامًا في التراتبية الدولية. فتكون دول المركز في الحضارات هي مرجعية ذلك النظام من خلال الثقافة التي تشترك فيها مع الدول الأعضاء في نفس الحضارة. فـ "العوامل الثقافية المشتركة تعطي شرعية للقيادة ولدور دولة المركز في فرض النظام، بالنسبة لكل من الدول الأعضاء والقوى والمؤسسات الخارجية". ومن ثمّ فإن المقومات الأساسية للنظام العالمي الجديد القائم على الحضارات تختزل في تصوّرات دولة المركز وعمقها الثقافي. وعلى قاعدة ذلك العامل الثقافي تبنى التراتبية الجديدة في العلاقات الدولية. فنخرج من توازنات الحرب الباردة التي قامت على وجود قوتين عظميين زائد كتلتهما الدولية، زائد مناطق نفوذهما في العالم الثالث، إلى توازنات جديدة نقطة ارتكازها الدولة المركز في القطب الحضاري زائد الدولة الإقليمية التي تشترك معها في الأساس الثقافي، زائد منطقة النفوذ. وهو ما يعكس أهمية دولة المركز في الفرز الإستراتيجي الجديد الذي أفضى إلى مجموعة من الكتل الحضارية تتزعم كل كتلة فيها دولة مركز. فالولايات المتحدة دولة مركز في الغرب الحضاري، وروسيا دولة مركز في الكتلة الأرثوذكسية، والصين دولة مركز في القطب الكنوفيشيوسي. في حين أنّ "حضارات الإسلام وأميركا اللاتينية وأفريقيا، ليس لها دول مركز". وهو غياب يعود بالأساس إلى مفاعيل الاستعمار الغربي في تفتيت تلك الكيانات الحضارية. وهو التفتيت الذي يحمل الكثير من نذر الصدام. صدام الحضارات إن الكتاب أشبه ما يكون بنبوءة استشرف هنتنغتون من خلالها محركات الصراع في الأزمنة القادمة. فلم يكن الصراع المقصود "الآن وهنا" ولكنه كان قراءة في "كفّ" المستقبل. وهو ينظر إلى ذلك المستقبل بعين "الحتمية التاريخية". فيكون "صدام الحضارات" بمثابة "الطور الأخير في عملية تطور النزاعات في العالم الحديث" مثلما يقول. فالحضارة في تعريف هنتنغتون "مزيج معقد من الأخلاق والدين والتعليم والفن والفلسفة والتكنولوجيا والرخاء المادي". وحين ربطها بالصدام فقد تحولت إلى "براديغم" يستهدي به في تفسير التناقضات بين شعوب تعرّف نفسها دائمًا انطلاقًا من هُويّتها الحضارية ومخزونها الثقافي. فـ"نحن الحضارية، وهم الذين خارج تلك الحضارية، من الثوابت في التاريخ الإنساني". فالحروب بين دول من حضارات مختلفة تكون أكثر ضراوة ودموية عند استشعار تهديد الهُوية. وفي هذا السياق، يؤكد هنتنغتون أن العلاقات بين الحضارات ستكون أكثر عدوانية، خاصة بين الإسلام وجيرانه. وأن أخطر الصراعات في المستقبل ستكون "نتيجة تفاعل الغطرسة الغربية والتعصب الإسلامي والتوكيد الصيني". ويتوقف كثيرًا عند تفاصيل الغطرسة الغربية فنراه يتتبع تفاصيل تشكلها بين الخط التاريخي والخط الثقافي. خط تارخي يفصل بين الشعوب الغربية المسيحية والشعوب الإسلامية والأرثوذكسية. وقد ارتبط تاريخيًا بالإمبراطورية الرومانية في القرن العاشر. وخط ثقافي يرتبط بالتقسيم التاريخي بين الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية، فهو الحد الثقافي لأوروبا، أي أنّ "أوروبا تنتهي حيث تنتهي المسيحية الغربية ويبدأ الإسلام والأرثوذكسية. وبعد زوال "الخطر الأحمر" أصبح ذلك الخط الفاصل هو الحد السياسي والاقتصادي لأوروبا والغرب. وقد كيّف سقوط الشيوعية نظرة الغرب إلى نفسه وإلى العالم. فرأى أن أيديولوجيته الليبرالية يمكن أن تحكم العالم. فكانت العولمة صدى لتلك الأطروحة الظافرة. وهو ما زاد من احتمالات الصدام. فما يراه الغرب قيمًا نبيلة يراه الآخرون محض استعمار. خطوط الصدع يجري الصدام حسب هنتنغتون عند خطوط التقسيم الحضاري، خطوط الصدع أو دول الصدع. وهي الدول التي "تركب الحدود على مناطق التماس بين الحضارات". فتندلع صراعات لا حد لها عند خطوط التقسيم بين الدول أو الجماعات المنتمية إلى حضارات مختلفة. وقد يجري الصراع داخل الدولة نفسها. وهو يرى أن المعنيّين أكثر بصراعات خطوط التقسيم هم أساسًا المسلمون. وأحيانًا أخرى "تكون القضية قضية صراع للسيطرة على أراضٍ. وقد يكون هدف أحد المشاركين فيها على الأقل هو انتزاع أرض وتحريرها من آخرين بطردهم أو قتلهم أو القيام بالعملين معًا، وغالبًا ما تكون الأرض المتنازع عليها رمزًا لهوية وتاريخ طرف من طرفي الصراع أو لهما معًا، قد تكون أرضًا مقدسة لهما فيها حق لا يجوز المساس به". وهذا الكلام فيه بعض وجاهة. فقد كان المسلمون غالبًا موضوعًا للإخضاع والاحتلال عند خطوط التماس، أو في عمق الدول التي لا تدين بالإسلام مثل الصين، أو الهند، أو ميانمار.. ولعل فلسطين هي خلاصة ذلك الصراع. الصراع الحضاري في فلسطين مع نهاية الدولة العثمانية أصبح الإسلام -عكس الحضارات الغربية والأرثوذكسية والصينية- "يفتقر إلى دولة مركز". وقد أجّج ذلك الفراغ مطامع الاستعمار والصهيونية. ولكن ما لم يدركه هنتنغتون أن الفراغ السياسي الناتج عن غياب دولة الأمة، قد عبّأه العمق الحضاري الذي تمتاز به القضية الفلسطينية. لذلك لا عجب أن تتبوأ القضية الفلسطينية منذ منتصف القرن العشرين موقع القضية المركزية للأمة. والمشكلة الأساسية في أطروحة هنتنغتون أنه لم ينظر إلى الصراع في فلسطين على أنه صراع مركزي ذو طبيعة استثنائية، بل تعامل معه بوصفه أحد الصراعات الإثنية أو العرقية التي تشق العالم المعاصر. فهو ينتمي لحروب خطوط الصدع، مثله مثل حرب الهند، وباكستان أو بين المسلمين والمسيحيين في السودان وغيرها، لذلك فقد حضر في كتابه كمثال للاستدلال به كلما اقتضت حاجته النظرية. يرى هنتنغتون أن "رعاية الغرب في قمة قوته في مواجهة الإسلام، لوطن يهودي في الشرق الأوسط، وضعت الأساس لعداء عربي إسرائيلي مستمر". وفي الخلفية الحضارية للصراع ينظر هنتنغتون إلى فلسطين من خلال انتمائها للإسلام، في حين يضع إسرائيل ضمن الدائرة المسيحية اليهودية. ملاحظًا أن الغرب قد أضفى على ذلك المشروع طابعًا دينيًا، وجعله "ضمن مكونات البُعد الديني في الحضارة الغربية". وقد دلت صفحات التاريخ على صراع عميق ومستمر بين الإسلام والمسيحية. فـ"كلاهما كان الآخر بالنسبة للآخر". والاحتكاك بين الجانبين كان يثير دائمًا قضايا الهوية والانتماء. وخلال معظم جولات الصراع كان "الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك". وعلى الرغم من محاولة هنتنغتون البحث في حقيقة الإسلام، فإن تصوره لم يستطع النفاذ إلى العمق الفلسفي والوجودي لذلك الدين. فتردّت قراءته في مفاهيم مختزلة عن العنف والدم ونبذ الآخر. فسار على تخوم "العمق الحضاري" للصراع دون أن يلجه. فجاء صورة باهتة، بالكاد تنطق بأحكام الجغرافيا الخرائطية منزوعة السلاح الحضاري. ليصبح الصراع في فلسطين صراعًا محكومًا بنظرية "خطوط الصدع"، أو خطوط "التقسيم الحضاري". وهي مقاربة متهافتة إذا نظرنا إليها من زاوية الجغرافيا الفلسطينية بحد ذاتها. ففلسطين لا تقع ضمن خطوط الصدع مثلما يسميها هنتنغتون، أي الدول الواقعة على التماس بين حضارتَين، بل إنها – بمنطق التاريخ والجغرافيا- جزء من أرض الشام. وتقع في عمق الخريطة العربية. فهي الخط الفاصل بين الجناح الشرقي والجناح الغربي للأمة. ولم يكن استقدام يهود الشتات من أصقاع الأرض إلا لضرورة السيطرة على "سُرّة" العالم. ومن ثم تأبيد واقعة التجزئة والتخلف والإلحاق الحضاري. فتقاطع الاستعمار مع الصهيونية لإنتاج تلك الحالة الطارئة. لقد رأى هنتنعتون وهو يبحث عن منطقة التناقض بين الإسلام والغرب أن الصراع في عمقه هو صراع بين القيم الدينية والقيم العلمانية. وهو الاستنتاج الذي حرم الرجل النفاذ إلى عمق الصراع فظل معلقًا في سطحه. فتلك المعايير النسبية لا تصلح لأن تكون حاملًا موضوعيًا لصراع من أعقد الصراعات في التاريخ. إضافة إلى ما يكتنفها من صعوبة حين الفرز بين القوى. ففي سنة 1968 مثلًا، أعلنت حركة فتح وهي التي قادت النضال الفلسطيني في ستينيات القرن الماضي أن مشروعها السياسي يهدف إلى بناء "الدولة الفلسطينية العلمانية الديمقراطية". فأين تتمايز القوى المتقابلة؟ إضافة إلى أنه قد جرى مع دولة الاستقلال التبني الواسع للأنموذج الغربي في السياسة في العالم العربي، والعالم الثالث. لذلك ينتقل هنتنغتون إلى التركيز على أهمية الأرض والمقدسات وقيمة القدس في المواجهة الفلسطينية الإسرائيلية. فيقر بأنّ "المكان له مغزى تاريخي وثقافي وعاطفي عميق لدى كل طرف"، ولكنه يعجز عن استنطاق النصوص المؤسسة لعظمة المكان كي ينفذ إلى عمق الصراع. صحيح أنه أدرك أن الصراع صراع جذري لا يقبل الحلول الوسطى. ولكنه لم يدرك أنه صراع بين وجهتي نظر تجاه الكون والحياة والإنسان، تصدران عن قاعدتين فلسفيتين متمايزتين. وحين يهرب من كل ذلك إلى تحديد طبيعة العدو، فإنه يرى في مفرد الصهيونية جمْع الغرب الحضاري. يرى هنتنغتون أن الكيان المحتل ليس إلا جزءًا من الغرب الحضاري. فإسرائيل ليست قوة قائمة بذاتها بل هي قوة قائمة بغيرها. زرعها الغرب في قلب الأمة لأسباب حضارية وإستراتيجية. وقد ارتبطت بذلك الغرب برابط "القربى الثقافية". وهي الصلة التي تجعل من الدول الأعضاء في الحضارة الواحدة أسرة واحدة. وتأخذ الدولة المركز دائمًا على عاتقها "توفير الدعم والنظام للأقارب"، فهي علاقة تبادلية. إذ كثيرًا ما قدم الإسرائيليون أنفسهم على أنهم خط الدفاع الأساسي عن الغرب، بالأمس ضد خطر الشيوعية والاتحاد السوفياتي، واليوم ضد "خطر الأصولية الإسلامية على نطاق منطقة الشرق الأوسط كلها". ومن ثم يمكن أن نفهم كيف تداعت الدول الغربية إلى إسناد دولة الاحتلال بعد إطلاق عملية طوفان الأقصى. وكيف فتحت خطوط الإمداد لتوفير احتياجاتها من العتاد والسلاح بل والمشاركة الميدانية في العدوان على غزة. وهي صلة القربى التي بررت لألمانيا المتورطة في "المحرقة النازية"، أن تتورط في محرقة غزة؛ فتصرّح وزيرة خارجيتها أنالينا بيربوك "كلنا صهاينة على نحو ما". لقد دافع هنتنغتون عن فكرة "صدام الحضارات". ورغم فقدان النظرية للاتساق العلمي، فإنها تمثل إسهامًا في عقل الصراع الحضاري في فلسطين. فهذه المنازلة التاريخية في غزة تعكس تصادمًا بين مشروعين حضاريين: واحد قام على مركزية الله في الوجود، وآخر نهض على مركزية الإنسان في الوجود. فخلف الرؤية الحضارية يكمن جوهر الصراع. ومما لا شك فيه أنّ الصراع مع الصهيونية هو استمرار للصراع مع الغرب نفسه، فقد ورثت الحركة الصهيونية عن الغرب إمبرياليته وقاعدته الفلسفية التي كان يجري في ضوئها الفرز النشيط بين فسطاط المتمدّنين وفسطاط البرابرة، وتسويغ نهج العنف والعسف من منطلق تحضير وتمدين أولئك الذين لا حضارة لهم. الإسطوانة المشروخة نفسها يرددها نتنياهو ببلاهة لتبرير حرب التطهير العرقي على غزة.

حافة الهاوية.. تصدُّعات المكان والوجدان في صراع الهند وباكستان
حافة الهاوية.. تصدُّعات المكان والوجدان في صراع الهند وباكستان

الجزيرة

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

حافة الهاوية.. تصدُّعات المكان والوجدان في صراع الهند وباكستان

من الملاحظات الثمينة التي أتحفنا بها عالم الجغرافيا السياسية جمال حمدان (1928-1993) في كتابه "العالم الإسلامي المعاصر" قولُه: "إذا كان الإسلام قد فقَدَ البحر المتوسط كبحيرة إسلامية -أو شبه إسلامية- تقليدية، فقد كسب المحيط الهنديَّ الذي أصبح البحر المتوسط الجديد في العالم الإسلامي." ويشير حمدان هنا إلى ظاهرة عميقة في الجغرافيا السياسية الإسلامية، وهي انتقال ثِقل الإسلام شرقًا، بعد خسارة المسلمين غربًا. كما أشار حمدان في الكتاب ذاته إلى كسب الإسلام في جزر جنوب شرق آسيا التي جاءها الإسلام "راكبا البحر" حسب تعبيره. وذلك بفضل حركية وحيوية سكان الساحل الجنوبي من الجزيرة العربية، أهل اليمن وعُمان، الذين نقلوا الإسلام بحرًا إلى الطرف الجنوبي الغربي من الهند، وإلى جزر جنوب شرق آسيا، ومنها ماليزيا، وإندونيسيا كُبرى دول العالم الإسلامي اليوم من حيث عدد السكان. بيد أن هذا الكسب الإسلامي الذي أشاد به حمدان لم يمرَّ دون منغِّصات في العصر الحديث، خصوصا مع بداية الاستعمار الغربي (البرتغالي والهولندي والبريطاني) لضفاف المحيط الهندي، ثم الصراع المزمن بين باكستان والهند. وهو صراع قديم متجدد، نعيش هذه الأيام ملامح خطيرة منه، بسبب الخلاف القديم الجديد حول إقليم كشمير ومياه نهر السند. إعلان وفي هذا المقال لمحة عن سطوة الجغرافيا وأعباء التاريخ المتحكمة في معادلات هذا الصراع الذي يلقي بظلاله على العالم الإسلامي، وعلى مجمل التحولات الإستراتيجية في المنظومة الدولية. وتبدو لي خريطة باكستان دائما في شكل أسَد متحفِّز، منتصبِ الجسد على الضفة الشرقية لبحر العرب، يحمل أفغانستان على ظهره، ويُطلُّ برأسه الشامخ من قمم جبال الهيمالايا، وهو يتَّجه عبر سفوحها بغضب إلى الهند. وقد كان الفيلسوف الشاعر محمد إقبال (1877-1938) سبَّاقا إلى النداء بإنشاء دولة مستقلة للمسلمين في الأقاليم ذات الكثافة السكانية الإسلامية من شبه القارة الهندية، حفاظا على ذاتهم وهويتهم، وضمانا لاستمرار إسهامهم في الحضارة الإسلامية، وارتباطهم بالأمة الإسلامية التي آمن إقبال بوحدتها إيمانا عميقا. وجاء هذا النداء -الذي سرعان ما تحول برنامجا سياسيا للملايين من المسلمين- في خطاب ألقاه إقبال بمدينة "الله آباد" في ديسمبر/كانون الأول 1930م أمام المؤتمر السنوي لـ"رابطة عموم مسلمي الهند"، ثم تحول الخطاب -الذي اشتهر لاحقًا باسم "خطاب الله آباد"- إلى ما يشبه شهادة الميلاد الرسمية لجمهورية باكستان الإسلامية. ويجد زائر باكستان اليوم مقتطفات من ذلك الخطاب التاريخي مرسومة على لوحات جدارية، تتزين بها بعض المؤسسات العامة. باكستان والميلاد القيصري على الرغم مما اكتسبه المهاتما غاندي (1869-1948) من سمعة تاريخية مستحقَّة حول انتزاع الهند من براثن الاستعمار البريطاني بنضاله السلمي في خواتيم الحقبة الاستعمارية، فإن المسلمين الهنود كانوا رأس الحربة العسكرية في مقاومة ذلك الاستعمار الطويل قبل ذلك بكثير. فقد قاوم المسلمون البريطانيين بشراسة، خصوصا في انتفاضة 1857، المعروفة باسم "حرب الاستقلال الهندية الأولى". وهي لحظة تاريخية فاصلة، هزَّت أركان المشروع الاستعماري البريطاني، وكادت تجتثّه من جذوره. وقد جعلت تلك الانتفاضة البريطانيين والهندوس يتقاربون على حساب المسلمين، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، إلى حين استقلال الهند وباكستان عن التاج البريطاني عام 1947. وقد أدرك الفيلسوف محمد إقبال الخطر الداهم الذي بدأ يهدد وجود مسلمي القارة الهندية في نهاية الحقبة الاستعمارية البريطانية، من خلال احتكاكه المباشر مع النخبة السياسية الهندوسية، ولقاءاته ومراسلاته مع المهاتما غاندي (1869-1948م) وجواهر لال نهرو (1889-1964م) وغيرهما من الساسة الهندوس، ففهِم سعيهم إلى تفتيت الكتلة البشرية الإسلامية في الهند، وحرمانها من التحول قوة سياسية ذات شأن. إعلان وقد أصرَّ غاندي وصحبه على جعل الهوية القومية الهندية أساس الاجتماع السياسي في الهند، بينما آمن إقبال بأن العقيدة والثقافة أهم للاجتماع السياسي السليم من الرابطة القومية، وتوصَّل إلى أن الفجوة الثقافية بين المسلمين والهندوس تجعل من الأسلم للطرفين أن يعيشا بسلام في كيانين سياسيين منفصلين تماما. كما أدرك العلامة أبو الأعلى المودودي (1903-1979) ذلك الخطر الداهم والمصاب القادم خلال أسفاره داخل الهند، وملاحظاته اليومية الذكية في تلك الأسفار. ففي حديث له عام 1970م يتذكر المودودي أنه فهِم في زيارة له لدلهي عام 1937 أخطار "الإحساس بالهزيمة" لدى بعض المسلمين. ويذكر أنه في أحد أسفاره بالقطار آنذاك لاحظ التعامل الاستعلائي الفظَّ من طرف أحد القادة الهندوس مع المسلمين، فأحسَّ بجرح في الكرامة، ولم يستطع النوم لعدة أيام، حزنا على حال المسلمين في الهند، وقلَقا عل مستقبلهم. وتوصل كل من إقبال والمودودي إلى أن مصير المسلمين في الهند سيكون في أقاليمها الشمالية الغربية، حيث تتركز الكثافة السكانية الإسلامية. ولاحظ كلاهما بقلق بالغ إحساس الهندوس الواضح -مع اقتراب رحيل البريطانيين- بأن مستقبل الهند أصبح بأيديهم، دون اعتبار للمسلمين، الذين كانوا صفوة المجتمع وحكام معظم البلاد لقرون. كما لاحظ كلاهما أن العلاقة بين الهندوس والمسلمين بدأت تتحول تدريجيا -عشية رحيل المستعمرين البريطانيين- علاقة محكوم بحاكم، وتابع بمتبوع، أكثر مما هي علاقة شركاء في الوطن والتاريخ. لكن ميلاد جمهورية باكستان الإسلامية التي نظَّر لها إقبال لم يكن سهلا، بل جاء أقرب ما يكون إلى الولادة القيصرية الأليمة، بسبب تعصُّب النخب الهندوسية وروح الثأر التاريخي التي تحملها اتجاه المسلمين، وبسبب العبث البريطاني الاستعماري بمصائر الشعبين، وزرع الشقاق بينهما، وعدم تسوية الأمور بينهما تسوية عادلة قبل الرحيل. إعلان فاشتملت عملية التقسيم على حيف كبير ضد المسلمين في شبه القارة الهندية، خصوصا في إقليم كشمير، الذي كانت كل الاعتبارات التاريخية والبشرية تدفع إلى اعتباره جزءا من باكستان، لا من الهند. وهكذا تحولت الهند إلى عدوٍّ لدودٍ وجارٍ مزعج للدولة الباكستانية منذ ميلادها إلى اليوم. إقبال وجناح.. الثنائي الذهبي لقد وُلدت جمهورية باكستان الإسلامية من تركيب أفكار محمد إقبال الإسلامية والوطنية مع الروح العملية والمهارة السياسية التي اتسم بها الزعيم محمد علي جناح. وقد شكَّل إقبال وجناح ثنائيًّا ذهبيًّا وضَع بصمته على تلك المرحلة التكوينية الأولى لفكرة الدولة الباكستانية. فعِناق رؤية إقبال وكلماتِه الملهِمة مع حركية جناح وبراعته التكتيكية، هو الدعامة التي أثمرت استقلال الكتلة الإسلامية الكبرى في شبه القارة الهندية. وقد لاحظتُ عبارة معبِّرة عن هذا في أحد منشورات "بستان إقبال" -وهو مركز ثقافي في لاهور- تقول: "فكِّر مثل إقبال، وتصرَّف مثل جناح". فلإقبال وجناح مكانة خاصة في الهوية التكوينية لباكستان، ولا عجب أن تفرَّد جناح في باكستان بلقب "القائد الأعظم"، وتفرَّد إقبال فيها بلقب "العلاَّمة". ومن المهم التذكير في هذا السياق بأن إقبالا ينتمي لأسرة سنية، وهو إسلامي حتى النخاع، أما محمد علي جناح فهو ينتمي لأسرة شيعية، وكان علمانيَّ التوجُّه في حياته السياسية المبكِّرة، وكل من أسرة إقبال وجناح متحدِّرة -قبل إسلامها- من طبقة البراهمة، أي من عِلْيَة القوم طبقا لنظام الطبقات في المجتمع الهندوسي التقليدي. لكن كلا الرجلين كان يفكر بأفق رحب، وينظر إلى مصائر أجيال المسلمين اللاحقة، ومكانة الأمة الإسلامية بين الأمم، ورسالتها الخالدة، بعيدا عن الاعتبارات الطائفية أو الاجتماعية الضيقة. فقد حرص إقبال على كسب محمد علي جناح لفكرته، بعد أن أدرك كفاءته السياسية، وأهليته لقيادة معركة استقلال المسلمين في الهند. أما جناح فقد خرج من ضِيق العَلمانية والطائفية إلى سَعة الإسلام الجامع، بعد تقاربه مع إقبال، وتماهِيهِ مع وجدان شعبه، وهكذا "تحوَّل العلماني جناح إلى داعية متحمِّس للإسلام باعتباره القاعدة التأسيسية لدولة باكستان"، كما لاحظ المفكر السياسي الأميركي صمويل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات". إعلان وهذا درس تاريخي مهم للذين تمزقهم اليوم النزعات الطائفية في العالم العربي، فيسقطون في أحابيل القوى الدولية الباغية، التي تضرب بعضهم ببعض، وتسعى إلى تدميرهم جميعا. وقد أورد الباحث الباكستاني حفيظ مالك في كتابه "إقبال والسياسة" قصة معبِّرة عن شخصية إقبال السياسية الذكية، وعمق الثقة بينه وبين جناح. فقد زار الزعيم الهندي جواهر لال نهرو إقبالًا في بيته في يناير 1938م، وهو مريض في خواتيم حياته، وأصرَّ نهرو على الجلوس على الأرض توقيرًا لإقبال. وكان نهرو ثعلبا سياسيا، ومن غايات زيارته التفريق بين إقبال وجناح، من أجل إضعاف جبهة المسلمين السياسية. وفي ختام لقائهما تحدث ممثل حزب "المؤتمر" المرافق لنهرو إلى إقبال، قائلا: "يا دكتور.. لماذا لا تصبح قائد المسلمين؟ فالمسلمون يحترمونك أكثر بكثير مما يحترمون (محمد علي) جناح، ولو أنك تفاوضت مع حزب المؤتمر باسم المسلمين فستكون النتائج أفضل". أدرك إقبال لعبة القوم ومراميها فورًا، وكان متَّكئا تحت وطأة المرض، فنهض غاضبا، ورد بحسم قائلا: "إن إستراتيجيتكم هي إطرائي أنا، ودفعي للتنافس مع جناح. لكني أخبركم أن جناح هو القائد الفعلي للمسلمين، وأنا مجرد جندي من جنوده"؛ فما كان من نهرو إلا أن نهض، وأنهى الزيارة فورًا. الهند من غاندي إلى مودي ومما عقَّد نشأة الدولة الباكستانية وعرقل نموَّها أن جارتها الجغرافية وخصمها التاريخي، الهند، ذات هوية تاريخية وجغرافية منشطرة ومشحونة بالتناقضات. فالهند فيها ثالث أكبر كتلة بشرية من المسلمين على وجه الأرض في بلد واحد (بعد إندونيسيا وباكستان)، إذ يتجاوز عدد مسلمي الهند 200 مليون نسمة، لكنهم مع ذلك أقلية في بحر عرمرم من الهندوس. ومن مفارقات الهند أيضا أنها دولة يتنازعها المكان والوجدان: فهي آسيوية الهوية لكنها غربية الهوى، وهي كانت فيما مضى موطن إمبراطورية إسلامية مزدهرة، أما في الزمن الحاضر فهي دولة قومية هندوسية، وهي تقع داخل جغرافية العالم الإسلامي -حيث تشطر شقَّيْه البري والبحري- لكنها ليست دولة إسلامية. ولذلك لا يمكن إدراج الهند بالكامل ضمن العالم الإسلامي، ولا يمكن فصلها عنه فصلا تاما، بحكم الثقل التاريخي والثقافي والبشري لمسلميها. إعلان ويمكن القول إجمالا إن البوصلة الإستراتيجية الهندية أصبحت تائهة ومضطربة، بعد أن تحكَّم في زمام أمرها اليمين الهندوسي المتعصب بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي منذ عام 2014. فلا عجب أن حمل العديد من قادة الرأي وصناع القرار الباكستانيين اليوم همًّا عميقا حول مستقبل التعايش بين باكستان والهند، ومصائر المسلمين في الهند، بعد تصاعد سطوة اليمين الهندوسي، المدفوع بذاكرة انتقامية قاتمة، والمتناغم بألاعيب القوى الغربية، الساعية إلى اتخاذ الهند مطيَّة لصراعها الإستراتيجي مع العالم الإسلامي، ومع جارتها الصاعدة الصين. ومن الملاحظ اليوم أن جزءا مهما من الصراع في شبه القارة الهندية يتجسَّد في صراع السرديات، وجدَل الذاكرة المتوازية، بين النخب الإسلامية والنخب الهندوسية، حول ميلاد دولتي باكستان والهند المعاصرتين. وقد قدَّم البحَّاثة الباكستاني خرَّام شفيق في كتابه: "كيف حرَّر جناح الهند" الصادر عام 2022م مرافعة تاريخية رصينة ضد المزاعم المتوارثة بين النخب الهندوسية التي تتَّهم المسلمين بتقسيم الهند، وبرهن على أن الهند لم تكن في تاريخها دولة واحدة أصلًا، بل كانت موطن دول عديدة، إسلامية وهندوسية، وأن النخب الإسلامية الهندية بقيادة جناح كانت أكثر جِدًّا واجتهادًا في سعيها لتحقيق استقلال الهند من نظيراتها الهندوسية التي استكانت للمستعمر، ووجدت فيه مصلحة لها، خصوصا أن المستعمِرين البريطانيين هم الذين هدُّوا أركان الإمبراطورية الإسلامية المغولية في الهند، وأعادوا هندسة المجتمع الهندي لصالح الهندوس على حساب المسلمين. وبينما يتمسك المسلمون بسردية أصالة الوجود الإسلامي في الهند، ويفتخرون بمآثرهم التاريخية هناك، وليس أقلها شأنا "تاج محل" الذي هو أحد العجائب المعمارية في تاريخ الحضارة البشرية، فضلا عن معالم تاريخية أخرى عظيمة، مثل "القلعة الحمراء"، و"مئذنة "قطب منار"، و"ضريح همايون" في دلهي؛ يسعى اليمين الهندوسي الذي يقوده مودي اليوم إلى تجريد المسلمين من شرعيتهم التاريخية، والتعامل معهم تعاملا شوفينيا، وكأنهم مستعمِرون دخلاء، بشكل لا يختلف كثيرا عن تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين. إعلان وبسبب هذه الشوفينية القومية والدينية، وتعامل حكومة مودي الفظِّ مع مسلمي الهند، تمزقت روابط تاريخية ثمينة بين الهند والعالم الإسلامي، وأصبح الطرفان اليوم على طرفي نقيض. فرغم أن مؤسسي الهند المعاصرة من غاندي ونهرو وجيلهما كانوا متحيزين ضد الهوية الإسلامية لصالح الهوية الهندوسية، ولم يمنحوا المسلمين فرصة عادلة تشجِّعهم على البقاء مع الهندوس في ظلال دولة جامعة تحترم الجميع، فإن ما نراه في عهد مودي تجاوز التحيزات القومية والثقافية المعتادة بين الشعوب إلى التطرف الفاقع، والاضطهاد الوحشي، بل والنفي المطلق للوجود الإسلامي، الذي ضرب بجذوره في تربة الهند قبل ميلاد مودي بأربعة عشر قرنا. الحيف التاريخي في كشمير وزاد الطين بلَّة أن أحد جراح استقلال باكستان والهند عن بريطانيا لا يزال طريًّا حتى اليوم، وهو جرح كشمير. فأخطر تهديد للعلاقات بين هاتين الدولتين النوويتين، وللسلم الدولي تبعا لذلك، هو خلاف السيادة بين الدولتين على إقليم جامو وكشمير، الذي تَدين الغالبية الساحقة من سكانه بدين الإسلام، وكان يجب أن يكون جزءا من دولة باكستان في لحظة ميلادها عام 1947، طبقا لتفاهمات الطرفين الإسلامي والهندوسي مع بريطانيا. حيث تتضمن تلك التفاهمات الاعتراف بأن تكون الأقاليم ذات الغالبية المسلمة جزءا من جهورية باكستان الإسلامية. لكن حكومة الهند آنذاك، وحاكم إقليم كشمير هاري سينغ (1895-1961) -وهو غير مسلم- أعاقا ذلك المسار المنطقي، بتواطؤ ضمني من البريطانيين. فالخلاف بين باكستان والهند على إقليم جامو وكشمير خلاف قديم، ترجع جذوره إلى الحرب التي نشبت بين الدولتين بعد تأسيسهما مباشرة، وانتهت بتقاسم السيطرة عليه بينهما، ثم لحقت الصين بهذا الخلاف فضمَّت جزءا من الإقليم بعد هزيمتها للهند في الحرب الحدودية بينهما عام 1962. فهو اليوم صراع ثلاثي، أطرافه دول نووية ثلاث، هي الهند وباكستان والصين، ويكفي ذلك دلالةً على أهميته وخطورته، لكن باكستان والصين متفقتان في منظورهما للموضوع، ضمن تفاهماتهما الإستراتيجية الكبرى في أكثر من قضية حيوية. إعلان ولا تزال باكستان تطالب بتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي، الداعية إلى إجراء استفتاء شعبي في كشمير، لتقرير مصير الإقليم طبقا لإرادة أهله، بما يضمن حقوقهم الإنسانية والسياسية. وهو استفتاء يؤمن القادة الباكستانيون بأنه سيقود سكان الإقليم -ذوي الغالبية المسلمة- إلى اختيار الانضمام لجمهورية باكستان الإسلامية. على أن موضوع كشمير يحمل لباكستان أخطارا إستراتيجية جمَّة، تتجاوز قضايا الهوية والانتماء. فكشمير تقع في موقع الرأس من خريطة الأسد الباكستاني المتحفِّز، وسيطرة الهند على كل الإقليم تعني تهشيم رأس الأسد الباكستاني، وفتح حدود مباشرة بين الهند وأفغانستان (ومن وراء أفغانستان دول آسيا الوسطى)، وإغلاق الحدود المباشرة بين باكستان والصين. ويترتب على كل ذلك تطويق باكستان جغرافيًّا، وخنْقها إستراتيجيًّا، ويستحيل أن تقبل باكستان بذلك. كما يترتب عليه أيضا تسلُّق الهند عبر جبال الهيمالايا إلى إقليم التِّبت داخل الأراضي الصينية، ومن المستحيل أن تتسامح الصين مع ذلك. والأهمّ من كل هذا بالنسبة لباكستان أن استمرار سيطرة الهند على القسم الأعظم من إقليم كشمير يعني استمرار تحكُّمها في مياه الأنهار التي تتغذَّى منها باكستان، وهي أنهار تتفرع من نهر السند، الذي ينبع من هضبة التبت في الصين، ويتدفق عبر الأراضي الهندية والباكستانية نحو 3000 كيلومتر، إلى أن يصبَّ في بحر العرب. ومعظم هذه الأنهار المتفرعة من نهر السند تمرُّ من إقليم كشمير. وقد بدأت حكومة مودي في الهند خلال الأعوام الأخيرة بناء السدود، وفرض القيود على تدفق مياه تلك الأنهار إلى باكستان، مخالفة بذلك اتفاقية تقاسم المياه الموقَّعة بين البلدين مطلع الستينيات من القرن العشرين. وذلك خطر إستراتيجي على دولة باكستان وشعبِها، يتفاقم يوما بعد يوم. فالصراع بين الهند وباكستان على إقليم جامو وكشمير -من المنظور الباكستاني- ليس مجرد صراع على قطعة من الأرض، أو دفاع عن حق أهل كشمير، بل هو قضية موت وحياة للأمة الباكستانية كلها، بسبب ارتباطه بشريان الحياة الباكستاني، أي نهر السند وفروعه التي تعبر ذلك الإقليم. ويمكن اعتبار تحكُّم الهند في مصادر المياه المتدفقة إلى باكستان شبيها بتحكم إثيوبيا في مصادر المياه المتدفقة إلى مصر، وتلك مقارنة يفهم القارئ العربي معناها ومغزاها. إعلان مكانة إستراتيجية فريدة كانت زيارتي الأولى لباكستان رحلة من الدوحة إلى مدينة كراتشي على الضفة الشرقية من بحر العرب. وقد حطَّت بي الطائرة في مطار مدينة كراتشي فجرًا، بعد رحلة من مطار حمَد بن خليفة في الدوحة استمرت ساعتين وبضع دقائق. وكان أول ما فاجأني -حين أعلن طاقم الطائرة قرب الهبوط- هو قِصَر زمان الرحلة. فقد كنت أدرك دائما أن باكستان قريبة من الجزيرة العربية في الوجدان، لكني لم أنتبه من قبلُ إلى أنها قريبة منها في المكان لهذا الحدّ. ولعل ما دعاه الأديب المصري جمال الغيطاني (1945-2015م) "الحَوَل الثقافي" الذي أصاب العرب المعاصرين، فجعلهم لا ينظرون إلا غربًا، هو الذي أنساني هذه الحقيقة الجغرافية الواضحة. فأنا الذي ضربتُ في الأرض مغرِّبًا، وعشتُ في أقصى بقعة من غربِ الغرب، على سواحل كاليفورنيا، لم أكن منتبها لقرب المسافة بين باكستان والجزيرة العربية. فالانجذاب إلى الأجنبي الغريب أنْسانَا الشقيق القريب! تقع كراتشي على الضفة الشرقية من بحر العرب، في الطرَف الجنوبي الغربي لباكستان، وهي أوفر مدن البلاد سكانًا، إذ يتجاوز عدد سكانها 16 مليون نسمة. وهذا الجزء الغربي من باكستان هو أوثق أقاليمها صلة تاريخية بالعالم العربي، خصوصا سواحل عمان واليمن والخليج. كما أن كراتشي هي عاصمة إقليم السّنْد المشهور في تاريخ صدر الإسلام، لأنه أول أقاليم القارة الهندية التي وصل إليها الفتح الإسلامي في نهاية القرن الأول الهجري. لقد آن الأوان ليدرك العرب قيمة الأسد الباكستاني المتحفِّز على الضفة الشرقية لبحر العرب. فباكستان دولة فتيَّة قوية، ذات موقع إستراتيجي بالنسبة للعالم العربي، بحكم إطلالتها على بحر العرب، وقربها من مدخل الخليج، فضلا عن الأرحام الدينية والإنسانية والتاريخية التي تربطها بالعالم العربي. ومهما يكن لديها من معضلات بنيوية، لا تخلو الدول العربية من مثلها، فإن لديها إمكانا كامنا عظيما، وإنما القوة الإمكان. إعلان ولا تقتصر أهمية باكستان الإستراتيجية على العالم العربي فقط، بل هي دولة ذات أهمية للعالم الإسلامي كله. وقد رشَّح صمويل هنتنغتون في كتابه "صدام الحضارات" جمهورية باكستان الإسلامية -من بين ست دول أخرى- لأن تكون دولة محورية قائدة في العالم الإسلامي. ولاحظ هنتنغتون أن باكستان تملك بعض المؤهلات الضرورية لهذه الريادة، ومنها: المساحة الجغرافية الفسيحة، والكتلة السكانية الكثيفة، والقوة العسكرية الضاربة. لكن هنتنغتون لم يَغفل عن العوائق التي تحْرِم باكستان من الاضطلاع بهذا الدور، وأهم هذه العوائق أن باكستان "تجاوزت الرقم القياسي في عدم الاستقرار السياسي" حسب تعبيره. وقد استجابت باكستان للتحدي الهندي الدائم المتربص بها، وبموقِعها في قلب "اللعبة الكبرى" الدولية في جنوب آسيا، فبنت قوة عسكرية ضاربة، تصونها وتحميها. وحققت باكستان اختراقا إستراتيجيا لا مثيل له في العالم الإسلامي كله، وهو تصنيعها سلاحا نوويا، بفضل العزائم الصلبة لقادتها السياسيين والعسكريين، وبفضل جهود علمائها، وعلى رأسهم "أبو القنبلة النووية الباكستانية"، المهندس العبقري عبد القدير خان (1936-2021م). سطوة الجغرافيا السياسية ويمكن القول إن باكستان -شأنها شأن كل دول العالم الإسلامي- تواجه تحديات ثلاثة: هي الهوية والحرية والتنمية. أما صراع الهوية فهو محسوم في باكستان، بحكم ظروف نشأتها التكوينية التي جعلت الهوية الإسلامية مبرر وجودها، وعلامة تميزها عن المحيط الهندوسي، فلا يوجد تنازع سياسي جدِّيٌّ في هوية باكستان الإسلامية. بَيْدَ أن تحدِّي الحرية وتحدِّي التنمية لا يزالان معضلتين مزمنتين في باكستان. وبدون تجاوزهما بنجاح سيظل إقلاعها بعيد المنال. وبمنطق الجغرافيا السياسية، تواجه باكستان تحدِّياتٍ جسيمةً، تستلزم تعاونًا بين نخبها المدنية والعسكرية، وتعاليًا على الأنانية السياسية والحزازات الصغيرة التي تستنزف هذا البلد الكبير. إعلان ومن هذه التحديات الخلافُ الحدودي المزمن مع أفغانستان، وحالة الفوضى السياسية والغموض الإداري في المناطق القبَلية الرابطة بين البلدين. فليس من مصلحة باكستان ولا أفغانستان استمرار هذا الخلاف المزمن، بل تقتضي مصلحة البلدين تجاوزه بسرعة، وتحويل تلك المنطقة الحدودية الملتهبة إلى مساحة الْتِحام، ومصدرِ وئامٍ، بين الشعبين الشقيقين، اللذين تجمع بينهما أرحام الدين والتاريخ والجغرافيا. كان الشاعر محمد إقبال -وهو الأب الروحي لباكستان- يحمل تقديرا خاصا للشعب الأفغاني، وقد طفح شعره بالثناء على شجاعة الأفغان وشهامتهم، فهم الشعب الذي "تسري دماء الأُسُود في عروقه" حسب تعبيره. وأفغانستان هي الجار الشقيق والوطن الثاني من منظور إقبال. فمن الوفاء لرسالة إقبال أن تكون العلاقات بين باكستان وأفغانستان علاقاتٍ أخويةً وإستراتيجيةً، خصوصا أن باكستان وأفغانستان تقعان في قلب "اللعبة الكبرى" للسيطرة على آسيا والعالم. وقد أشرنا في صدر هذا المقال إلى أن الأسد الباكستاني المتحفِّز يحمل أفغانستان على ظهره، ويجب أن لا تظل هذه الصورة مجرد تعبير مجازي. ليس أمام باكستان إلا أن تَحْمل وتتحَمَّل الأوضاع الأليمة التي مرَّ بها الشعب الأفغاني منذ عام 1979، وتوثِّق علاقاتها الإستراتيجية بأفغانستان. فدعم باكستان لأفغانستان الجديدة المتحررة من أعباء الاستعمار الروسي والاستعمار الأميركي يسدّ الباب أمام عبث الهند بالواقع الأفغاني، وسعيها لتطويق باكستان من الشمال الشرقي. ونهوض أفغانستان من كبوتها الطويلة، ودخول باكستان معها في حلف إستراتيجي -بالتعاون مع العملاق الصيني الصاعد- مفتاح لنجاح البلدين في التعاطي مع المعضلات الداخلية والأخطار الخارجية، خصوصا مع ما يشهده النظام الدولي اليوم من انزياح القوة ورحيلها من الغرب الأطلسي إلى الشرق الأوراسي، تلك الظاهرة التي دعوناها "شروق الشرق وغروب الغرب" في دراسة خاصة نُشرت في مركز الجزيرة للدراسات بهذا العنوان. إعلان رسائل الزمن الآتي إن أخطار الحرب الحالية يجب أن تكون نذيرا للنخب الباكستانية، ودافعا لها إلى التعاطي الجاد مع المعضلات البنيوية المزمنة في الداخل، وأخطار الجغرافيا السياسية المحدقة من الخارج. ويمكن تحقيق ذلك عبر مسارات أربعة: أولا: تعضيد الجبهة الداخلية، من خلال تحويل العلاقة المدنية العسكرية في باكستان إلى علاقات سويَّة، بحيث يتوقَّف الجيش الباكستاني عن أي تدخل في السياسة، سرًّا أو علنًا، وينصرف إلى مهمته المقدسة في صيانة البلاد، وصد الصائل عليها. وتتحرَّر النخبة السياسية الباكستانية من الأنانية السياسية، لكي تُحسن احتواء الجيش، والاعتراف له بمكانته الحيوية، في ظل التهديد الوجودي الهندي، مع تجنب الاصطدام بالجيش، والسعي لتحييده سياسيا بهدوء وذكاء، على شاكلة "الثورة الصامتة" في تركيا. وبذلك يتمكن الأسد الباكستاني المتحفِّز من النهوض من عثراته المتكررة، ويستجيب للتحديات الجسيمة المحيطة به. ثانيا: تأمين الطوق الإقليمي المحيط بباكستان، باحتواء الشقيق الأفغاني ضمن منظور إستراتيجي يخدم الطرفين، وتوثيق العلاقة مع الدول الإسلامية عموما، وخصوصا دول الخليج والمشرق العربي، وإيران، ودول جنوب شرق آسيا ووسطها. فالفضاء الحضاري الإسلامي المشترك يجب ترجمته إلى تعاون سياسي واستثمار اقتصادي، وتنسيق إستراتيجي، وأحلاف عسكرية، على نحو ما عليه الأمر اليوم في الفضاء الحضاري الغربي. فلدى باكستان الكثير مما تقدمه للدول الإسلامية الأخرى، خصوصا في مجال التقنية العسكرية، ولدى بعض تلك الدول الكثير مما تقدمه لباكستان، خصوصا في مجال التعاون الاقتصادي والسياسي. وقد تطورت العلاقة بين باكستان وبعض الدول الإسلامية تطورا حسنا، خصوصا تركيا والسعودية. ثالثا: إدارة العلاقة مع الهند بحكمة وقوة وحزم. فليس من ريب في أن من حق باكستان ردع عدوان مودي وفاشيته، وأن من واجبها دعم أهل كشمير في مسعاهم لتقرير مصيرهم السياسي، طبقا لقرارات الأمم المتحدة. إعلان لكن الحرب المباشرة بين الهند وباكستان لا تخدم مصلحة الإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية. لأن المسلمين على طرفي الحدود بين الهند وباكستان بمئات الملايين، وهم من سيكونون وقود المعركة وأكبر خاسر فيها، وهم قد عانوا أصلا ما يكفي من تمزقات المكان والوجدان في تاريخهم المعاصر. ففي كل مواجهة لباكستان مع الهند يتعين على القيادة الباكستانية الانتباه إلى مصلحة أشقائهم من مسلمي الهند، فهم ليسوا أمرا ثانويا يمكن اعتباره ضررا جانبيا للحرب. رابعا: ترسيخ باكستان لتحالفاتها الدولية، وخصوصا علاقاتها التاريخية الوثيقة مع الصين. فالصين هي القوة الدولية الصاعدة في عالم اليوم، بخلاف القوة الغربية السائدة التي بدأت تعيش مرحلة الأفول والانحسار. ومن حسن حظ باكستان أن الصين عدو تاريخي للهند، بحكم خلافهما الحدودي القديم على هضبة التبت وجبال الهيملايا، واختلافات المنظور الإستراتيجي والهوى الثقافي بينهما. فالصين اليوم هي أهم حليف دولي لباكستان، بل لعدد من دول آسيا المسلمة، فتوثيق العرى معها مهم للوقوف في وجه الحلف الهندي الغربي المعادي للمسلمين وقضاياهم العادلة، مثل قضية كشمير وقضية فلسطين. وحاصل الأمر أن باكستان من أهم دول العالم الإسلامي مكانا ومكانة، وهي قوة فتيَّة ولبنة صلبة من لبنات الفضاء الحضاري الإسلامي، فيتعين على جميع الدول الإسلامية دعمها والتعاون معها لتحقيق الخير المشترك. ويجب أن تكون الحرب الحالية دافعا للجميع للوقوف مع باكستان في هذه الأزمة الخطيرة، مع السعي إلى احتواء الصراع على المدى البعيد، وحلِّ معضلة كشمير بالعدل، طبقا لقرارات الأمم المتحدة التي تنص على حق أهل كشمير في تقرير المصير. فالسلم والتعايش والتواصل بين الهند وباكستان هو الذي يخدم مصالح الجميع على المدى البعيد، وهو الذي سيعيد للحضارة الإسلامية ألَقَها التاريخي في شبه القارة الهندية بأسرها.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store