قراءة في رواية أساور مأرب للروائي محمد الغربي عمران
د. نجيب عسكر
رواية أساور مأرب هي الإنتاج الثالث عشر لأديبنا بعد سلسلة الأعمال القصصية والروائية التي وصلت إلى العالمية من خلال ترجمة عدد منها إلى الإنجليزية والإيطالية وبعض اللغات الأخرى، كما أن بعضَ تلك الروايات قد حصدت العديد من الجوائز، ومنها رواية (ظلمة يائيل) التي حصلت على جائزة الطيب صالح عام 2012م.
وبالتالي فالرواية التي بين أيدينا هي تتويج للخبرة والنضج والعطاء المتواصل الذي يمتد لثلاثين عاماً ويزيد، إضافة إلى معايشة الكاتب للواقع من خلال عمله البرلماني والإداري والمجتمعي.
القارئ لهذه الرواية ينطلق من دوي الانفجارات التي أيقظت بطلة القصة (كنز)عام 2021م، وهي في غرفتها الضيقة بمبنى منظمة إغاثة أوروبية، وهي بداية جديرة أن تشد القارئ إلى ما ورائها.
تبدأ سلسلة الأحداث المتشابكة التي يكتنفها الغموض في الليالي الأولى من ليالي الرواية التي بلغت ثماني عشرة ليلةً مجزأة..مما يزيد من شوق القارئ لمعرفة الكثير من تفاصيل الرواية التي أجاد الكاتب حبكتها، واستطاع أن يجذب القارئ ويشدّه وراء سلسلة الأحداث التي تتوالى في السرد ولكن في أزمنة لم تكن متوالية.
فالعقدة تزداد مع مرور الليالي، وهكذا يظل القارئ يفتش بشغف عن الخيوط التي توصله إلى اكتشاف ما يستطيع من خلاله فك بعض الشفرات التي بدأت بها الرواية؛ فإذا به يقع مرّة أخرى بشرك الكاتب، إذ تشده خيوط أخرى تلزمه بضرورة مواصلة القراءة والغوص في أعماق الأحداث.
وبعد أن تبدأ تتكشف بعض التفاصيل ، ينتقل الكاتب بالقارئ إلى طرق أخرى بعضها ممهد وبعضها شديد الوعورة، ليتركه يواصل مشواره، متنقلاً بين خيام الصحراء والمدينة والجبال والكهوف، بين الأٌنس والوحشة، بين الإنسانية والقهر والذل والتشرد، وهو ما يزال معلقاً بين كمٍ كثيفٍ من الأحداث التي تثير في نفسه الألم، وهو يشاهد أبطال الرواية وهم يسردون مغامراتهم ومعاناتهم.
وهكذا يستمر الحال، وبحنكة كبيرة، يستطيع الكاتب أن يشد القارئ حتى آخر سطر في الرواية.
الرواية اتخذت من مأرب مكاناً لأحداثها، لأن مأرب هي إحدى أهم بؤر الصراع التي يعشيها الوطن، كما أنها تجمع بين المدنية والبداوة، وقد استطاع الكاتب أن يرسم من خلال هذه الرواية صوراً عديدةً للمآسي التي أنتجتها الحرب، ومن أهمها:
التشرد: ويتضح ذلك من خلال مأساة بطلة القصة (كنز) وعائلتها، فالحرب رمت بها في متاهات عديدة، وعرضتها للذئاب البشرية، وفرقت بينها وبين أخيها الذي خاطبها ذات يوم عبر الهاتف قائلاً: من الصعب أن نلتقي، رغم أننا نرى المدينة من موقعنا على قمم الجبال، فلا يستطيع أحدٌ أن يهبط أو يصعد.. وهي صورة مؤلمة لفراق الأحبة رغم قربهم من بعض.. كما ولدت الحرب تشرد الملايين خارج وطنهم، وجعلت الكثيرين يتغربون داخل وطنهم..
الحرمان من التعليم: وهو ما حل بالمزرر(أخو كنز) الذي ترك التعليم ليلتحق بصفوف المقاتلين رغم صغر سنه، ليصبح بعد ذلك أحد ضحايا الحرب، حيث قتل وترك حسرةً في قلب أخته التي لم تره منذ فراقهما. وهو حال آلاف الأطفال والشباب الذين أصبحوا وقوداً للحرب، دون أن يكون لهم فيها يد.
الاستغلال: وفي هذا الجانب، تتكشف الكثير من أساليب الاستغلال خاصةً للمرأة، حيث تعرضت للاستغلال من قِبل المسؤول المرفّه، والشيخ القبلي، والشيخ المتلبس بعباءة الدين وسائق السيارة، وكان جسدها عرضةً لكل هؤلاء الذئاب.
الانحراف الفكري والأخلاقي: حيث تعرضت الرواية لكارثة الانحراف الفكري من خلال إقناع الكثيرين ومنهم (المزرر) الذي تم إقناعه بأنّه يقاتل أعداء الله، رغم أنه يقاتل مسلمين وأخوة له، فهو يقول في آخر مكالمة له مع أخته: إن وجدتي هاتفي مغلقاً، فاعلمي أننا في جهاد أعداء الله ورسوله..
أما من حيث الانحراف الأخلاقي، فقد تطرّقت الرواية إلى شبكات الدعارة التي تنتشر نتيجة الحروب برعاية من بعض المسؤولين والمشائخ وتجار الجنس المحليين وغير المحليين، وحتى ممن يثق الناس بهم ويظهرون بأنهم ملائكة رحمة، كطبيبة النساء التي أوقعت بطلة القصة في شراكها، وغيرها، كما نجد صديقتها (التي لم تعد سمينة) تبعث لها رسالة تقول: كم سعادتي لا توصف وقد أمسيت في مأمن ، بعيداً عن مخالب شبكة الدعارة.
القتل والدمار: وهو العنوان العريض لمأساة الوطن، فالحرب أنتجت الكثير من المآسي، وقتلت الشباب والنساء والأطفال والشيوخ وخيرة أبناء البلد، ودمّرت الاقتصاد، وجلبت الفقر والعار للكثير من الأسر التي كانت مستورة الحال، كما خلفت الحرب الآلاف من الضحايا والمعاقين، وشبكات الألغام التي ستستمر آثارها لعشرات السنين القادمة.
الثأر: وهو أحد الأدواء المنشرة في اليمن ، ومن الطبيعي أن يزداد الثأر اشتعالاً بسبب الحرب، فهذه الجدة ترسم لنا إحدى صورة المأساة التي لا حقتهم نتيجة الثأر بقولها: تزوجت صغيرة بمن أحببت، زوجي ظلت تلاحقه لعنة الثأر، ولذلك كلما حللنا في ديار لا نلبث أن نهرب منها إلى غيرها، وهكذا قضينا حياتنا نهرب من أقدارنا .. نهرب من الموت، قطعنا قفاراً بعيدةً حتى ظننا بأننا أصبحنا في أمان، تحملنا عوز وخوف غربتنا…فقد كانت حياتنا رحيلاً دائماً..وفي أحد الأيام رحل زوجي إلى سوق لجلب ما نحتاجه ولم يحمل بندقه، ولكنه خرج ولم يعد…
إذلال الناس: ومن أسوأ ما أنتجته الحرب الإهانات والذل الذي لحق بالكثير من أبناء الوطن، بطريقة همجية ولا أخلاقية، خاصة من قبل بعض أدعياء المشيخ ، وقد عبرت عن ذلك جدة كنز بقولها: هكذا هم قبائل الجبال، يستخدمون الأراذل لأذية الناس، وهو أسلوب قذر بالتأكيد، يتم استخدامه مع كثير من الناس.
دور المنظمات الأجنبية: نعلم أن الحرب تولّد الحاجة، وتفتح الأبواب للمنظمات الأجنبية للتدخل كي تساعد ضحايا الحرب، ونحن نعرف ما أثير من ضجة حول تلك المنظمات والشبهات التي دارت حولها، وإن كان الكاتب لم يتطرق إلى تلك الشبهات بشكل واضح، بل تناول الجانب الإنساني الذي كانت هيلين رمزاً له.
العودة إلى زمن الخرافة والجهل: مما لا شك فيه أن الحرب التي دمّرت التعليم قد جعلت الناس يعودون إلى عهود مضت، كانت الخرافة منتشرةً فيها، وهنا يسرد الكاتب كيف أصبحت البدوية المباركة (جدة كنز) وكهفها قِبلة للنساء الراغابات بالإنجاب، وكل من يبحث عن دعوة مستجابة ينتقم بها من خصمه، أو يتداوى من علة عجز عنها الطب.. وكيف أصبحت تتلقى الهدايا والدجاج والسمن والبيض، وحتى التيوس والكباش أصبحت تسال دماؤها أمام الكهف وفاء للنذور من قبل الزوّار، وهكذا أصبح الناس يتباركون بها .
قهر المرأة ومصادرة حقوقها والمتاجرة بها، ومن ذلك عدم مشاورتها في اختيار شريك حياتها، فها هو المزرر يأتي إلى أخته ذات يوم ليقول لها: مبروك، فسألته على ماذا؟ قال وهو يبتسم: قرأنا الفاتحة وبعد أيام ستزفين إلى دارك! وكان ذلك دون علمها أو موافقتها..فهي تقول: لا أريد أن أظهر له رفضي بعد أن أمسى يرى بأنه رجل وأنا مجرد امرأة تابعة، ولست أخته الكبيرة، ولم يعرف بأن صمتي رفض..كما أنّ المرأة تصبح عرضةً للقهر والإذلال خاصة عندما تفقد السند الذي يحميها.
الطبقية الاجتماعية: وهي إحدى المشكلات المستعصية في بلادنا، والتي تقف وراء الكثير من المآسي، فالطبقية المقيتة داء عضال، وهنا تتدخل المرأة التي كانت سمينة، لتحكي بألم وحسرة قائلةً: أفكر وأستغفر الله في تفكيري!
لماذا خلقنا الله نحن النساء، وخلق ما يشقينا؟ لم أذق يوماً حلو الحياة، غير أيامٍ قليلة، منذ وعيت أسمع الناس حولي يتهامسون حين رؤيتي:حلوة لكنها (مجحمية)، حياة أمي ومن أعرف من أقربائنا مسخّرة لإرضاء الرجال، نكنس ونخبز وننظف ونرضع الصغار، فقط مقابل فتات بواقيهم، أو ليرضوا ويقبلوا أن نعيش جوارهم.
هكذا كانت رحلة القراءة مع رواية (أساور مأرب) التي أوجزت تاريخاً من حياة اليمنيين خلال السنوات العجاف التي مضت، وهي رواية ذات حبكة محكمة ولغة رصينة وأسلوب سردي مدهش وعرض جرئ.
وهناك الكثير من القضايا التي تناولتها الرواية، سنترك للقارئ الكريم الغوص فيها، والتنقل بين ثناياها، واستنتاج المزيد القضايا التي تناولها الكاتب، وسعى لكشفها.
ونهنئ الكاتب على هذا الإنتاج المتميز، ونتمنى له التوفيق، ونتمنى للقارئ الكريم أن يستمتع بقراءة هذه الرواية.
من حائط الكاتب على الفيسبوك
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا
للاشتراك في قناة موقع يمنات على الواتساب انقر هنا

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

مصرس
١١-٠٥-٢٠٢٥
- مصرس
حين رفض صنع الله إبراهيم جائزة ملتقى الرواية.. جدل لا ينتهى حول موقف المثقف من جوائز الدولة
تظل واحدة من أكثر مواقف الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم إثارة للجدل، وهو عندما رفض تسلم جائزة ملتقى القاهرة الدولى للإبداع الروائى العربى، عام 2003، في دورتها الثانية، والممنوحة من قبل المجلس الأعلى للثقافة بمصر، مبررا ذلك بسبب سياسات القمع والتطبيع وغياب العدالة الاجتماعية. وكان موقف صنع الله إبراهيم بمثابة بيان سياسي أكثر من كونه موقفا أدبيا، حيث وقف صنع الله على المنصة ليقول إن السلطة لا تمنح الشرعية للمثقفين، بل إن المثقف هو من يحاكم السلطة، وكان ذلك في أعقاب غزو العراق، وكان يريد الربط بين الداخل والخارج، وبين المثقف والضمير القومي.وقال حينها صنع الله إبراهيم في كلمة وزعها على المجتمعين "في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا، تجتاح القوات الإسرائيلية ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وتقتل النساء الحوامل والأطفال وتشرد الآلاف وتنفذ بدقة منهجية واضحة إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه، لكن العواصم العربية تستقبل زعماء إسرائيل بالأحضان، وعلى بعد خطوات من هنا يقيم السفير الإسرائيلي في طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأميركي حيا بأكمله بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربيا".وتذكر عدد من التقارير الصحفية فى ذلك التوقيت، أنه فور انسحاب صنع الله إبراهيم، توجه الفنان فاروق حسنى، وزير الثقافة آنذاك، إلى المنصة ليلقى كلمة قصيرة، واعتذر لأعضاء لجنة التحكيم، مشيدا بجهدهم كى ينتهوا إلى هذا "الاختيار الجيد"، ونقلت الصحف عن الوزير السابق: "هذه الجائزة لم تمنحها له الوزارة ولا الحكومة، وإنما منحتها لجنة من الأدباء العرب ترأسها الأديب السوداني الكبير الطيب صالح، وهى جائزة استحدثناها فى المجلس الأعلى للثقافة للرواية والشعر العربى".فيما روت بعد ذلك بسنوات الدكتورة سيزا قاسم على صفحتها قصة التصويت على الجائزة وكيف ذهبت فى النهاية إلى صنع الله إبراهيم قبل أن يرفضها: "منذ سنة 2003 وهناك موضوع يؤرقني وهو موضوع جائزة الرواية التي منحت لصنع الله ابراهيم في الواقع لم اعط صوتي لصنع الله ولكن اعطيته لإدور الخراط الذي اراه أعظم الروائيين المصريين، حاول الطيب صالح أن يحيدني عن تصويتي لكي تعطى الجائزة بالاجماع ولكنني لم اتفق معه في الرأي وأصررت على موقفي عند إعلان النتيجة، كذب الطيب واعلن ان التصويت كان بالاجماع، أهذا التصرف يدل على الاعتراف بالديمقراطية؟".وأضافت "قاسم": "تركت الموضوع بعد ذلك وعرف إدور وشكرني على مساندتي، أشعر بالندم أنني لم أعلن موقفي على الملأ و شعرت في هذا الوقت أن الاعلان لن يغير شيئا ولكن الآن اشعر أنني أخطأت، لأن الأعلان كان سيفضح الطيب ويضعه في موقف حرج" بهذه الكلمات فجرت الدكتورة والناقدة الادبية سيزا قاسم بعد 19 عاما قضية تناستها الذاكرة الثقافية المصرية والعربية؛ ألا وهى تدخل الطيب صالح رئيس لجنة تحكيم الدورة الثانية من ملتقى القاهرة الدولى للإبداع الروائى العربى عام 2003 لإعطاء الجائزة الى الروائى اليسارى صنع الله إبراهيم بدلاً من إدوارد الخراط، وخيرى شلبى الذى صوت له فيصل دراج عضور اللجنة، وجمال الغيطانى الذى أنقسمت أصوات أعضاء لجنة تحكيم الجائزة نحوه".بعد ما أثارته الدكتورة سيزا قاسم على حسابها بموقع "فيس بوك"، علق الدكتور أحمد مجاهد على ما كشفته الدكتورة سيزا قاسم؛ قائلاً:" أشهد بأن هذا قد حدث وبأن حضرتك لم تغيرى رأيك، بل أشهد ولدي المستندات، بأن الدفة كانت تميل بالكامل ناحية إدوار، لولا تغيير الآراء لأسباب أعرفها ولن أتحدث عنها ..وكان فيصل دراج يرشح ويدافع عن خيرى شلبى، لكنه وافق فى النهاية على ما انتهت إليه الجماعة".


بوابة الأهرام
٠٦-٠٥-٢٠٢٥
- بوابة الأهرام
صدور العدد الجديد من مجلة «مصر المحروسة» الإلكترونية
مصطفى طاهر أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة، برئاسة اللواء خالد اللبان، اليوم الثلاثاء، العدد الإلكتروني الجديد (378) من المجلة الثقافية "مصر المحروسة" المعنية بالآداب والفنون. موضوعات مقترحة في مقال رئيس التحرير تكتب د. هويدا صالح "ملاحظات نقدية على كتاب قلق الجندر" الذي يشكل نقطة تحول في التفكير حول النوع الاجتماعي، وتدعو من خلاله المؤلفة جوديث بتلر إلى إعادة النظر في المفاهيم التقليدية للهوية. وترى "صالح" أن الكتاب على الرغم من أنه شكل نقطة تحول في الفكر النسوي، إلا أن أسلوبه اللغوي بحاجة إلى المراجعة من أجل وصول الأفكار إلى أكبر عدد من القراء. الحرف اليدوية والصناعات التقليدية وتتنوع أبواب وموضوعات المجلة الثقافية المقدمة بإشراف الكاتب محمد ناصف، نائب رئيس الهيئة، ففي باب "آثار" يكتب علي سرحان "الحرف اليدوية والصناعات التقليدية في مصر القديمة"، مشيرا إلى أن الدولة المصرية تمتلك إرثا تاريخيا من المنتجات الحرفية والإبداعية، فتعتبر الحرف اليدوية في مصر عنصر أساسي في الصناعات الوطنية، وتعد الورشة المكون الأساسي لهذه الحرف التي تضم أطياف مختلفة من فريق العمل: المعلم والصبية والصنايعية، والحرفيين، الذين ينفذون أعمالا وزخارف تعبر عن الروح المصرية الأصيلة. الصراع الفلسطيني والإسرائيلي وفي باب "ملفات وقضايا" يستكمل الدكتور حسن العاصي دراسته عن "الأيديولوجية الدينية في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي"، ويطرح هذا الأسبوع مفهوم القومية للنقاش، باعتبارها مرجعا قويا للهوية وعنصرا فاعلا في تطور وتصاعد الصراع، خاصة القومية الدينية التي تتمثل في دمج الدين في السرد القومي، ما يمنحه شرعية أخلاقية، ويكرس فكرة قداسة الدولة القومية. ويضم عدد المجلة التابعة للإدارة المركزية للوسائط التكنولوجية، برئاسة د. إسلام زكي، عدة أبواب أخرى، منها باب "حوارات ومواجهات"، ويشمل هذا الأسبوع حوارا خاصا يجريه مصطفى عمار، مع المفكر والروائي الدكتور عمار علي حسن، الذي قدم سيرته الذاتية في كتاب "مكان وسط الزحام"، ويتطرق الحوار إلى أهم أعماله الأدبية التي تتنوع ما بين الروايات، المجموعات القصصية، والدواوين الشعرية وغيرها، علاوة على كتبه المقدمة في مجالات النقد الثقافي، والاجتماع السياسي، والتصوف، وترجمت إلى عدة لغات ونال عنها جوائز أبرزها: جائزة الدولة للتفوق، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، جائزة اتحاد كتاب مصر في الرواية، وجائزة الطيب صالح في القصة القصيرة، وجائزة مؤسسة ساويرس عن كتاب "بصيرة حاضرة طه حسين من ست زوايا". وفي باب "مسرح" يقدم الناقد جمال الفيشاوي قراءة نقدية للعرض المسرحي "صديق العمر"، الذي قدمته فرقة الجيزة القومية على مسرح قصر ثقافة روض الفرج ضمن عروض فرق الأقاليم، العرض من إنتاج الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابة وإخراج محمد فاضل القباني، وقصته مستوحاة من نص مسرحية "الرجل الأحزن" للكاتب بيرج زيتونتسيان، وفيلم "الخلاص من شوشانك"، وتدور فكرته حول مفهوم الصداقة الحقيقية والعلاقات الإنسانية. وفي باب "كتب ومجلات" يستعرض عاطف عبد المجيد، كتاب "الخروج من الظل.. قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر" للمؤلف د. محمد السيد إسماعيل، ويتناول خلاله ما شهدته القصة القصيرة من تطور على مستوى تقنياتها الفنية، وخاصة القصة القصيرة النسائية التي شهدت طفرة واضحة في العقود الأخيرة، تمثلت في وفرة المادة وتنوع الاتجاهات الفنية والطرائق التقنية. أما في باب "خواطر وآراء" تواصل الكاتبة أمل زيادة رحلتها إلى "الكوكب التاني"، بطرح قضايا اجتماعية يومية تناقش فيها القارئ، كمحاولة لوضع حلول تساعد على الهروب من مأساوية الواقع.

يمرس
١٨-٠٣-٢٠٢٥
- يمرس
قراءة في رواية أساور مأرب للروائي محمد الغربي عمران
د. نجيب عسكر رواية أساور مأرب هي الإنتاج الثالث عشر لأديبنا بعد سلسلة الأعمال القصصية والروائية التي وصلت إلى العالمية من خلال ترجمة عدد منها إلى الإنجليزية والإيطالية وبعض اللغات الأخرى، كما أن بعضَ تلك الروايات قد حصدت العديد من الجوائز، ومنها رواية (ظلمة يائيل) التي حصلت على جائزة الطيب صالح عام 2012م. وبالتالي فالرواية التي بين أيدينا هي تتويج للخبرة والنضج والعطاء المتواصل الذي يمتد لثلاثين عاماً ويزيد، إضافة إلى معايشة الكاتب للواقع من خلال عمله البرلماني والإداري والمجتمعي. القارئ لهذه الرواية ينطلق من دوي الانفجارات التي أيقظت بطلة القصة (كنز)عام 2021م، وهي في غرفتها الضيقة بمبنى منظمة إغاثة أوروبية، وهي بداية جديرة أن تشد القارئ إلى ما ورائها. تبدأ سلسلة الأحداث المتشابكة التي يكتنفها الغموض في الليالي الأولى من ليالي الرواية التي بلغت ثماني عشرة ليلةً مجزأة..مما يزيد من شوق القارئ لمعرفة الكثير من تفاصيل الرواية التي أجاد الكاتب حبكتها، واستطاع أن يجذب القارئ ويشدّه وراء سلسلة الأحداث التي تتوالى في السرد ولكن في أزمنة لم تكن متوالية. فالعقدة تزداد مع مرور الليالي، وهكذا يظل القارئ يفتش بشغف عن الخيوط التي توصله إلى اكتشاف ما يستطيع من خلاله فك بعض الشفرات التي بدأت بها الرواية؛ فإذا به يقع مرّة أخرى بشرك الكاتب، إذ تشده خيوط أخرى تلزمه بضرورة مواصلة القراءة والغوص في أعماق الأحداث. وبعد أن تبدأ تتكشف بعض التفاصيل ، ينتقل الكاتب بالقارئ إلى طرق أخرى بعضها ممهد وبعضها شديد الوعورة، ليتركه يواصل مشواره، متنقلاً بين خيام الصحراء والمدينة والجبال والكهوف، بين الأٌنس والوحشة، بين الإنسانية والقهر والذل والتشرد، وهو ما يزال معلقاً بين كمٍ كثيفٍ من الأحداث التي تثير في نفسه الألم، وهو يشاهد أبطال الرواية وهم يسردون مغامراتهم ومعاناتهم. وهكذا يستمر الحال، وبحنكة كبيرة، يستطيع الكاتب أن يشد القارئ حتى آخر سطر في الرواية. الرواية اتخذت من مأرب مكاناً لأحداثها، لأن مأرب هي إحدى أهم بؤر الصراع التي يعشيها الوطن، كما أنها تجمع بين المدنية والبداوة، وقد استطاع الكاتب أن يرسم من خلال هذه الرواية صوراً عديدةً للمآسي التي أنتجتها الحرب، ومن أهمها: التشرد: ويتضح ذلك من خلال مأساة بطلة القصة (كنز) وعائلتها، فالحرب رمت بها في متاهات عديدة، وعرضتها للذئاب البشرية، وفرقت بينها وبين أخيها الذي خاطبها ذات يوم عبر الهاتف قائلاً: من الصعب أن نلتقي، رغم أننا نرى المدينة من موقعنا على قمم الجبال، فلا يستطيع أحدٌ أن يهبط أو يصعد.. وهي صورة مؤلمة لفراق الأحبة رغم قربهم من بعض.. كما ولدت الحرب تشرد الملايين خارج وطنهم، وجعلت الكثيرين يتغربون داخل وطنهم.. الحرمان من التعليم: وهو ما حل بالمزرر(أخو كنز) الذي ترك التعليم ليلتحق بصفوف المقاتلين رغم صغر سنه، ليصبح بعد ذلك أحد ضحايا الحرب، حيث قتل وترك حسرةً في قلب أخته التي لم تره منذ فراقهما. وهو حال آلاف الأطفال والشباب الذين أصبحوا وقوداً للحرب، دون أن يكون لهم فيها يد. الاستغلال: وفي هذا الجانب، تتكشف الكثير من أساليب الاستغلال خاصةً للمرأة، حيث تعرضت للاستغلال من قِبل المسؤول المرفّه، والشيخ القبلي، والشيخ المتلبس بعباءة الدين وسائق السيارة، وكان جسدها عرضةً لكل هؤلاء الذئاب. الانحراف الفكري والأخلاقي: حيث تعرضت الرواية لكارثة الانحراف الفكري من خلال إقناع الكثيرين ومنهم (المزرر) الذي تم إقناعه بأنّه يقاتل أعداء الله، رغم أنه يقاتل مسلمين وأخوة له، فهو يقول في آخر مكالمة له مع أخته: إن وجدتي هاتفي مغلقاً، فاعلمي أننا في جهاد أعداء الله ورسوله.. أما من حيث الانحراف الأخلاقي، فقد تطرّقت الرواية إلى شبكات الدعارة التي تنتشر نتيجة الحروب برعاية من بعض المسؤولين والمشائخ وتجار الجنس المحليين وغير المحليين، وحتى ممن يثق الناس بهم ويظهرون بأنهم ملائكة رحمة، كطبيبة النساء التي أوقعت بطلة القصة في شراكها، وغيرها، كما نجد صديقتها (التي لم تعد سمينة) تبعث لها رسالة تقول: كم سعادتي لا توصف وقد أمسيت في مأمن ، بعيداً عن مخالب شبكة الدعارة. القتل والدمار: وهو العنوان العريض لمأساة الوطن، فالحرب أنتجت الكثير من المآسي، وقتلت الشباب والنساء والأطفال والشيوخ وخيرة أبناء البلد، ودمّرت الاقتصاد، وجلبت الفقر والعار للكثير من الأسر التي كانت مستورة الحال، كما خلفت الحرب الآلاف من الضحايا والمعاقين، وشبكات الألغام التي ستستمر آثارها لعشرات السنين القادمة. الثأر: وهو أحد الأدواء المنشرة في اليمن ، ومن الطبيعي أن يزداد الثأر اشتعالاً بسبب الحرب، فهذه الجدة ترسم لنا إحدى صورة المأساة التي لا حقتهم نتيجة الثأر بقولها: تزوجت صغيرة بمن أحببت، زوجي ظلت تلاحقه لعنة الثأر، ولذلك كلما حللنا في ديار لا نلبث أن نهرب منها إلى غيرها، وهكذا قضينا حياتنا نهرب من أقدارنا .. نهرب من الموت، قطعنا قفاراً بعيدةً حتى ظننا بأننا أصبحنا في أمان، تحملنا عوز وخوف غربتنا…فقد كانت حياتنا رحيلاً دائماً..وفي أحد الأيام رحل زوجي إلى سوق لجلب ما نحتاجه ولم يحمل بندقه، ولكنه خرج ولم يعد… إذلال الناس: ومن أسوأ ما أنتجته الحرب الإهانات والذل الذي لحق بالكثير من أبناء الوطن، بطريقة همجية ولا أخلاقية، خاصة من قبل بعض أدعياء المشيخ ، وقد عبرت عن ذلك جدة كنز بقولها: هكذا هم قبائل الجبال، يستخدمون الأراذل لأذية الناس، وهو أسلوب قذر بالتأكيد، يتم استخدامه مع كثير من الناس. دور المنظمات الأجنبية: نعلم أن الحرب تولّد الحاجة، وتفتح الأبواب للمنظمات الأجنبية للتدخل كي تساعد ضحايا الحرب، ونحن نعرف ما أثير من ضجة حول تلك المنظمات والشبهات التي دارت حولها، وإن كان الكاتب لم يتطرق إلى تلك الشبهات بشكل واضح، بل تناول الجانب الإنساني الذي كانت هيلين رمزاً له. العودة إلى زمن الخرافة والجهل: مما لا شك فيه أن الحرب التي دمّرت التعليم قد جعلت الناس يعودون إلى عهود مضت، كانت الخرافة منتشرةً فيها، وهنا يسرد الكاتب كيف أصبحت البدوية المباركة (جدة كنز) وكهفها قِبلة للنساء الراغابات بالإنجاب، وكل من يبحث عن دعوة مستجابة ينتقم بها من خصمه، أو يتداوى من علة عجز عنها الطب.. وكيف أصبحت تتلقى الهدايا والدجاج والسمن والبيض، وحتى التيوس والكباش أصبحت تسال دماؤها أمام الكهف وفاء للنذور من قبل الزوّار، وهكذا أصبح الناس يتباركون بها . قهر المرأة ومصادرة حقوقها والمتاجرة بها، ومن ذلك عدم مشاورتها في اختيار شريك حياتها، فها هو المزرر يأتي إلى أخته ذات يوم ليقول لها: مبروك، فسألته على ماذا؟ قال وهو يبتسم: قرأنا الفاتحة وبعد أيام ستزفين إلى دارك! وكان ذلك دون علمها أو موافقتها..فهي تقول: لا أريد أن أظهر له رفضي بعد أن أمسى يرى بأنه رجل وأنا مجرد امرأة تابعة، ولست أخته الكبيرة، ولم يعرف بأن صمتي رفض..كما أنّ المرأة تصبح عرضةً للقهر والإذلال خاصة عندما تفقد السند الذي يحميها. الطبقية الاجتماعية: وهي إحدى المشكلات المستعصية في بلادنا، والتي تقف وراء الكثير من المآسي، فالطبقية المقيتة داء عضال، وهنا تتدخل المرأة التي كانت سمينة، لتحكي بألم وحسرة قائلةً: أفكر وأستغفر الله في تفكيري! لماذا خلقنا الله نحن النساء، وخلق ما يشقينا؟ لم أذق يوماً حلو الحياة، غير أيامٍ قليلة، منذ وعيت أسمع الناس حولي يتهامسون حين رؤيتي:حلوة لكنها (مجحمية)، حياة أمي ومن أعرف من أقربائنا مسخّرة لإرضاء الرجال، نكنس ونخبز وننظف ونرضع الصغار، فقط مقابل فتات بواقيهم، أو ليرضوا ويقبلوا أن نعيش جوارهم. هكذا كانت رحلة القراءة مع رواية (أساور مأرب) التي أوجزت تاريخاً من حياة اليمنيين خلال السنوات العجاف التي مضت، وهي رواية ذات حبكة محكمة ولغة رصينة وأسلوب سردي مدهش وعرض جرئ. وهناك الكثير من القضايا التي تناولتها الرواية، سنترك للقارئ الكريم الغوص فيها، والتنقل بين ثناياها، واستنتاج المزيد القضايا التي تناولها الكاتب، وسعى لكشفها. ونهنئ الكاتب على هذا الإنتاج المتميز، ونتمنى له التوفيق، ونتمنى للقارئ الكريم أن يستمتع بقراءة هذه الرواية. من حائط الكاتب على الفيسبوك للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا للاشتراك في قناة موقع يمنات على الواتساب انقر هنا