
فرانشيسكا جانونيه توثق بواكير النسوية في إيطاليا
تتوزع الرواية التي جاءت نسختها العربية في 520 صفحة، بعد "التمهيد"، على ثلاثة أجزاء، يبدأ أولها بوصول "أنا" إلى البلدة الجنوبية آتية من الشمال في صيف عام 1934 مع زوجها "كارلو غريكو". ومن ثم يمضي السرد الذي يتولاه راوٍ عليم، طولياً لمدة 27 عاماً، مازجاً بين الخاص المتعلق بأسرة "غريكو" بتتبع أحوالها، من الترابط إلى التشرذم، والعام المتعلق بإيطاليا منذ صعود نجم موسوليني وحزبه الفاشي وتحالفه مع ألمانيا النازية، وحلم "إيطاليا الأفريقية"، والهزيمة في الحرب العالمية الثانية، والسماح للمرة الأولى للنساء بالتصويت في الانتخابات، ثم التجاذب بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين الكنيسة والأفكار التقدمية، وخصوصاً ما يتعلق منها بحقوق النساء.
الشمال والجنوب
تختلف البداية في هذه الرواية التي ترجمت إلى أكثر من 35 لغة، عن النهاية جذرياً، فعندما وصلت "أنا" إلى "ليتسانيلو"، بلدة زوجها، القريبة من مدينة ليتشي، عوملت على أنها "أجنبية"، بما أنها نشأت في شمال إيطاليا، وتحديداً في مدينة "بينيا"، التابعة لإقليم ليغوريا والقريبة من الحدود مع فرنسا، في وسط يختلف عن نظيره في الجنوب في العادات والتقاليد، وحتى في نطق بعض مفردات اللغة الإيطالية. كانت تتحدث بين الحين والآخر بالفرنسية، فضلاً عن تمتعها بشخصية قيادية، مما جعلها تبدو وكأنها أجنبية فعلاً عن الوسط الجديد الذي وجدت نفسها في قلبه، ضمن واحدة من عائلاته المميزة بما تملكه: بستان يزخر بأشجار التين والخوخ والرمان والبرتقال والمشمش واللوز، ومعصرة زيتون، قبل أن يضاف إليها كرم ومصنع نبيذ، نجح الشقيق الأصغر في إنشائهما وإدارتهما مما أهله للفوز بمنصب عمدة "ليتسانيلو".
الرواية المترجمة (دار العربي)
في مسقط رأسها كانت "أنا" تعمل معلمة في مدرسة ابتدائية، ومن اللحظة الأولى لوصولها إلى بلدة زوجها ليستقر فيها بعد غياب عنها دام 10 أعوام، استشعرت انجذاب شقيقه الأكبر "أنطونيو" نحوها، فقد اعتبرها - في قرارة نفسه - "أجمل امرأة رآها في حياته"، ومن ثم انطوت سريرته على حسد لشقيقه، ونقمة على زوجته الخاملة التي ليس لديها ما تتباهى به سوى إجادتها الأعمال المنزلية. هي أيضاً انجذبت إليه، فقد كان الوحيد الذي شاركها شغف القراءة، كما كانت تراه أكثر جدية واتزاناً من زوجها، لكنها عمدت إلى كبت مشاعر الانجذاب تلك، كي لا تفسد العلاقة بين الشقيقين، وواصلت ذلك حتى بعدما ترملت.
"التجاذب الاختياري"
في هذا السياق حرصت "أنا" على أن تكتب لـ"أنطونيو" قبل ساعات من وفاتها، رسالة تبدي فيها تفهمها مشاعر الجفاء التي تبادلاها أعواماً أعقبت وفاة "كارلو"، وزادت حدتها بعدما اتهمها بأنها شجعت ابنته على ترك زوجها وطفلتهما، للحاق بحبيبها الذي هاجر إلى نيويورك، واتهامها إياه بأنه كاد يدفعها ذات يوم إلى خيانة شقيقه الأصغر، عندما احتضنها في مكتبه وقبلها من شفتيها، لولا أنها صدته وصدت نفسها أيضاً بحسم. في الرسالة ذكرته برواية "التجاذب الاختياري" لغوته، وخصوصاً السؤال الوارد في متنها عما يمكن أن يحدث لعلاقة بين عنصرين إذا تداخل بينهما عنصر ثالث: "الحقيقة يا عزيزي أنطونيو هي أننا طوال هذا الوقت كنا في حاجة إلى أن يكره بعضنا بعضاً.
كان هذا هو سبيلنا الوحيد كي لا نخون كارلو. كدت أحبك أكثر مما أحببت كارلو، ولم أكن لأسمح بهذا قط، فكارلو لم يكن يستحق مني ذلك"، ص 515 و516. لم تقبل "أنا" بأن تبقى مجرد ظل لزوجها الطموح، أو أن تستسلم لنظرة أهل البلدة لها على أنها أجنبية. ولذلك قررت أن تصدم الجميع بأن سعت إلى أن تحل محل "ساعي البريد"، في البلدة بمجرد موته. ولم يجد مدير مكتب البريد أنسب منها لشغل الوظيفة بما أنها كانت متعلمة بصورة فضلى، مقارنة بمن تقدم إلى الوظيفة نفسها من الذكور.
بيت للنساء
وهكذا باتت "أنا" أول امرأة تشغل وظيفة ساعية بريد في هذه البلدة الواقعة في الجنوب الإيطالي المنغمس آنذاك في ثقافة ذكورية متأصلة وتصعب خلخلتها. ثم كانت الصدمة التالية، عندما نشطت "أنا" في تحفيز نساء البلدة على المشاركة في المطالبة بإقرار حق النساء في التصويت في الانتخابات، للمرة الأولى أيضاً على مستوى إيطاليا، الخارجة للتو من أتون الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها الآلاف من الشباب الإيطالي. وفوق ذلك، فإنها رفضت أن تعطي صوتها لزوجها في الانتخابات البلدية التي رشحه الحزب الديمقراطي المسيحي لخوضها في بلدة "ليتسانيلو"، حتى لا تخالف مبادئها الاشتراكية. وأخيراً كان عليها أن تتحدى المجلس البلدي، والكنيسة، وتصر على تأسيس بيت للنساء المعنفات، مما نجحت في تحقيقه بفضل المال الذي ورثته عن زوجها بعد وفاته في ذروة نجاحه المهني متأثراً بسرطان الرئة.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عقب عودته إلى مسقط رأسه، بعدما تخطى الـ30 من عمره، يلجأ "كارلو" إلى "تشيتشو"، صانع النبيذ المتقاعد، ليساعده في أن يزرع أرضاً ورثها عن خاله، عنباً، يصلح لإنتاج نبيذ من نوع جيد. سيطلق على المشروع "كرم غريكو"، وسيسمي إنتاجه من النبيذ "دونا أنا"، مستلهماً اسم زوجته. في البداية سيتردد "تشيتشو" في مساعدة "كارلو"، لأن الأخير أخلف وعده لابنته "كارميلا" بالزواج منها، وتزوج من "أجنبية". عرف "كارلو" لاحقاً أن "دانييليه" الذي يحمل لقب عائلة "نيكولا" الذي تزوجته "كارميلا"، على رغم أنه يكبرها بـ20 عاماً، هو في الحقيقة ابنه هو وجاء ثمرة لقاء حميم جمعه بأمه خلال زيارة سريعة قام بها للبلدة ليحضر حفل زفاف شقيقه "أنطونيو". في البداية لم تخبره "كارميلا" بأمر حملها منه. ورأت أنه "لا يستحق أن يكون أباً لهذا الطفل"، ص 85. لكنها أخبرت أباها "تشيتشو"، الذي قرر أن يزوجها من "نيكولا كارلا"، لدرء الفضيحة، ومن ثم حمل المولود لقب الزوج الذي لم يشك للحظة أنه من صلبه.
لاحقاً سيرى "تشيتشو"، وستوافقه ابنته الرأي، أن أفضل طريقة لجعل "كارلو" يستشعر أبوته تجاه "دانييليه" هو أن يدفع بالأخير، وكان في نحو الـ12 من عمره، إلى العمل في "كرم غريكو". وكانت "كارميلا" قد أبلغت "كارلو"، عقب شروعه في إنشاء ذلك الكرم بأن "دانييليه" هو ابنه البيولوجي، ثأراً لكرامتها بعد فتور حماسه لاستئناف علاقتهما الحميمية القديمة. ينجح "دانييليه" في عمله في الكرم، ويواصل العمل سراً في مجال الخياطة الذي سبق أن نهته أمه الخياطة عن ممارسته، "لأنه ليس عملاً مناسباً للرجال"، لكنها لاحقاً ستستغل سفره للعمل في فرع لـ"كرم غريكو"، أنشئ حديثاً في نيويورك، وتستولي على تصميماته لأزياء نسائية كان يحتفظ بها في بيت جدته لأمه وتنسبها إلى نفسها.
ميتا سرد
"دانييليه"، هو نفسه الحبيب الذي تآمر "كارلو" و"أنطونيو" ليمنعا زواجه من "لورينسيا"، ابنة الأخير، بما أنه كان ثمرة علاقة غير شرعية، كان الأول أحد طرفيها. لن تعرف "أنا" مطلقاً بأمر تلك العلاقة، ولن يساورها أي شك إزاء إخلاص "كارلو"، وستصر على تشجيع "لورينسيا" على التواصل مع "دانييليه" بعدما تأكد لها أنها لا تريد سواه شريكاً لحياتها.
يمكن القول إن الرواية جاءت في حجم مبالغ فيه، بما أنها زخرت بكثير من التفاصيل التي أثقلت السرد ومن ثم كان ينبغي التخفف منها. وقد عابها في الوقت نفسه قطع الصلة تماماً بين "أنا" ومسقط رأسها وأسرتها الأصلية، مع أنها أصلاً لم تكن مرتاحة للانتقال إلى بلدة زوجها، وكانت تردد: "أشعر كأني سمكة خرجت من الماء".
وعلى طريقة الميتا سرد، تورد الكاتبة تحت عنوان "شكر"، ما يفسر دقة المعلومات التي أوردتها عن مراحل زراعة العنب، وطرق حصاده المثلى، ثم عملية إنتاج النبيذ، وتكشف كذلك أن "ليتسانيلو" هي في الحقيقة مجموعة من قرى منطقة "سالينتو"، "كنت أستعير منظراً من كل قرية لأنقل للقارئ الأجواء المميزة لتلك المنطقة الجنوبية بأفضل ما أستطيع، أما سكان البلدة فهم جميعاً من وحي خيالي، ولا يمتون إلى الواقع بصلة"، ص 519، مع استثناء "أنا"، فهي جدة أم الكاتبة، في الحقيقة: "أشكر أمي كلاوديا لاحتفاظها – بكل حب ووفاء – بذكريات جدتها ساعية البريد الحقيقية، كونها كانت حفيدتها المفضلة".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 14 ساعات
- Independent عربية
قنبلة هيروشيما بلغت الثمانين: البشر في اول مختبر نووي
تبدو هذه الذكرى الأليمة لإلقاء القنبلة على هيروشيما في اليابان أشبه باحتفال شعبي وديني ملؤه السلام والأمل. وكالعادة في كل ذكرى، تقرع الأجراس وتطلق أسراب الحمام وتضاء القناديل في الليل... ولا يرفع خلال الاحتفال شعار ولو واحد، يستنكر هذه الجريمة الوحشية التي ارتكبتها الدولة الأميركية، ويدين أبطالها الذين سجلوا أول قصف نووي في التاريخ. لعل السؤال المطروح في كل ذكرى، هو كيف يمكن لشعب هو الشعب الياباني أن يتناسى هذه المأساة الرهيبة ويتخطاها فيسترجعها في ذكراها وكأنها صفحة، مجرد صفحة من الماضي، طُويت إلى الأبد. أما قبة "جينباكو" التي سقطت عليها القنبلة، فجعلتها الدولة اليابانية '"مزاراً" يقصده المواطنون والسياح، لا ليتذكروا فقط الجريمة الشنعاء وإنما ليضيئوا شموع السلام الذي ما برح فكرة لن تتحقق بسهولة، في هذه الحقبة التي تشهد حروباً وحشية مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والحرب التي تشنها إسرائيل على غزة وفلسطين وعمدت خلالها إلى سلاح تجويع الأطفال وكل أهل القطاع. ولا ننسى خصوصاً الحرب الرهيبة، الأهلية وغير الأهلية، التي تدور في السودان وشهدت أقصى أحوال العنف والتدمير والتجويع. اللافت في هيروشيما أن كل ما في المدينة بات يدعو إلى السلام وإلى رفض الحروب والمحارق والمجازر... وكم أحسنت منظمة اليونيسكو في إدراج قبة "جينباكو" ضمن لائحة مواقع التراث العالمي عام 1996، بُغية صون ذاكرة المقتلة النووية الأولى وجعلها رمزاً من رموز العالم الجديد. خراب وحشي في هيروشما (غيتي) كم يصعب اليوم أن نتصور أن جريمة هيروشيما أمست من الماضي، مهما سعت اليابان نفسها إلى دفنها في مقبرة التاريخ، بل مهما حاولت الدولة الأميركية أن تتخلص من عقدة الذنب وعاقبة هذه اللعنة، تاريخياً وإنسانياً وأخلاقياً. مأساة هيروشيما هي مأساة البشرية كلها، إنها أحد الآثام التي شغلت القرن الـ20، قرن الحروب والثورات العلمية والتحولات الكبيرة. إنها شبيهة المحرقة النازية وجريمة الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين وسواهما. ولئن غدا الضمير الأوروبي يعيش دوماً هاجس محرقة أوشفيتزالتي، عرف اللوبي اليهودي والإسرائيلي كيف يستغلها ليحقق مآربه التاريخية، فالضمير الأميركي يبدو غير عابئ بجريمة هيروشيما، بل لعله تخلص من عواقبها، جاعلاً إياها من أخطاء التاريخ وليس من معاصيه الرهيبة. هذه جريمة حصلت في التاريخ، وهي لم ترتكب إلا لإنهاء الحرب العالمية الثانية، كما تعترف كتب التاريخ الأميركي. لكنهم يعترفون أيضاً أنهم بعد إسقاط القنبلة (سموها بوقاحة "الصبي الصغير"، ليتل بوي) أنجزوا التجربة النووية الأولى خير إنجاز، وأنهم نجحوا في مهمتهم العلمية. كانت قنبلة هيروشيما مادة اختبار، وضحاياها الذين تخطوا الـ150 ألف قتيل لم يكونوا سوى فئران مختبر، كما يُقال. ماذا رأيتم من هيروشميا؟ يردد المهندس الياباني في نص الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس "هيروشيما، حبي" جملته الشهيرة موجهاً إياها إلى الممرضة "أنت لم تريْ شيئاً في هيروشيما". هذا النص البديع الذي أنجز المخرج الفرنسي الطليعي ألان رينيه انطلاقاً منه فيلماً سينمائياً رائعاً عام 1959، هو من أجمل النصوص الإبداعية التي تشهد على هول جريمة هيروشيما. وهو ما زال يقرأ بشغف نظراً إلى قوته وبعده التعبيري المشبع بجماليات العنف النووي. هذا النص ما برح أيضاً يجذب المخرجين المسرحيين على رغم مضي أعوام طويلة على كتابته، فهو يفضح بشدة الجرائم الرهيبة التي ارتكبت في الماضي وترتكب اليوم. والجملة التي يرددها فيه البطل الياباني "أنتم لم تروا شيئاً في هيروشيما". ويمكننا أن نعدلها لتصبح "أنتم لم تروا شيئاً في غزة". كتاب آخر قد يكون أشد رهبة من نص مارغريت دوراس هو "يوميات هيروشيما" للطبيب الياباني ميشيهيكو هاشيا، ونُقل بعد صدوره عام 1955 إلى لغات كثيرة وعرف رواجاً هائلاً وطبع مراراً في سلاسل "كتب الجيب". ويروي الطبيب الذي عاش التجربة من كثب لحظة الانفجار النووي وما أعقبها من مآس وآلام وأمراض ومفاجآت سوداوية. مدينة تضم 250 ألف شخص، كما يقول لم تبق القنبلة منهم سوى 100 ألف. ويضيف إليهم ضحايا قنبلة ناغازاكي التي ألقيت بعد ثلاثة أيام وحصدت 74 ألف شخص. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) في ذلك الصباح المشؤوم كان الطبيب يتمدد على الأرض، كما يروي، مرتدياً سروال الصيف، ثم أبصر "بريقاً هائلاً من نور" انبثق في لحظة ثم "لم يبق شيء". وكانت هناك مدينة، وكانت هناك بيوت وسقوف وحدائق و"لم يبق شيء". ويضيف "غريزياً، نهضت هارباً، لكن الأنقاض والحجارة المتناثرة على الأرض أعاقت طريقي". أما أغرب ما واجهه فهو سقوط سرواله عنه "لوهلة أولى اكتشفت أنني كنت عارياً تماماً. أمر غريب. كيف سقط عني سروالي الصيفي؟". ويصف الطبيب ما حدث وكأنه مشهد "أبوكاليبسي"، خرائب وحرائق وهواء حار، عطش وتقيؤ وإسهال، روائح لحم مشوي... و"الزمن لم يبق له معنى" في وسط الخواء الذي لا حدود له. تحل الذكرى الـ80 لإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما بينما يعيش العالم هاجس السلاح النووي بخوف وريبة، لا سيما أن هذا السلاح بات في متناول القوى الأولى والثانية، وفي قبضة "زعماء" متناحرين، لا يخشون عواقب الخراب الكبير. أما هيروشيما المدينة التي كانت أول مختبر نووي فستظل محفورة في ذاكرة التاريخ وفي وجدان البشرية، والأهم في مخيلة الأجيال المقبلة.


صدى الالكترونية
منذ 3 أيام
- صدى الالكترونية
القاهرة 1942:مشاهد توثق زمنًا من الرقي والهدوء .. فيديو
تُظهر صور نادرة تعود لعام 1942 ملامح مختلفة للعاصمة المصرية، حيث بدت القاهرة مدينة هادئة ومنظمة، تتزين بمعمار أوروبي الطابع، وشوارع فسيحة تخلو من الازدحام المعتاد. ففي تلك الفترة، شهدت المدينة طفرة عمرانية، خاصة في منطقة 'وسط البلد'، التي تأثرت بالطراز الباريسي من حيث التصميم العمراني والنمط المعماري. وبرزت مبانٍ شهيرة مثل 'عمارة الإيموبيليا'، التي مثّلت حينها نموذجًا للحياة الحضرية الحديثة، واحتضنت كبار الفنانين والمثقفين. كما تميز حي الزمالك بأبنيته ذات الطابع الفني المميز، ما بين 'الآرت ديكو' والنيوكلاسيكي، واحتوى على معالم بارزة مثل قصر الأمير عمرو إبراهيم، الذي يعكس تنوع الطرز المعمارية في المدينة آنذاك. وفي الشوارع، بدت الحركة بطيئة وهادئة، حيث كانت عربات الخيل تسير إلى جانب سيارات نادرة، في مشهد يعكس تأثير الحرب العالمية الثانية على نمط الحياة اليومية، خاصة مع محدودية الوقود ووسائل النقل الحديثة.


Independent عربية
منذ 4 أيام
- Independent عربية
فرانشيسكا جانونيه توثق بواكير النسوية في إيطاليا
تبدأ رواية "ساعية البريد" La Portalettere، للكاتبة الإيطالية فرانشيسكا جانونيه، بـ"تمهيد" يتضمن إعلان خبر وفاة "أنا آلافين" عن عمر ناهز 44 سنة، في الـ13 من أغسطس (آب) 1961، وصداه الحزين خصوصاً عند نساء البلدة. وتنتهي بخاتمة تسرد مشهد جنازتها المهيب، حيث حمل زملاء عملها ومعهم ابنها الوحيد النعش تتوجه قبعة الراحلة المنقوشة بـ"شعار النبالة" الخاص بهيئات البريد الإيطالية، وسط حشد من المشيعين من الرجال والنساء المكللين بملابس سوداء. من هذه النقطة ينطلق السرد في الرواية التي صدرت عام 2023 وترجمتها علا محمود من الإيطالية إلى العربية وصدرت عن "دار العربي" القاهرية، بمساهمة من "مركز الكتب والقراءة" التابع لوزارة الثقافة الإيطالية. تتوزع الرواية التي جاءت نسختها العربية في 520 صفحة، بعد "التمهيد"، على ثلاثة أجزاء، يبدأ أولها بوصول "أنا" إلى البلدة الجنوبية آتية من الشمال في صيف عام 1934 مع زوجها "كارلو غريكو". ومن ثم يمضي السرد الذي يتولاه راوٍ عليم، طولياً لمدة 27 عاماً، مازجاً بين الخاص المتعلق بأسرة "غريكو" بتتبع أحوالها، من الترابط إلى التشرذم، والعام المتعلق بإيطاليا منذ صعود نجم موسوليني وحزبه الفاشي وتحالفه مع ألمانيا النازية، وحلم "إيطاليا الأفريقية"، والهزيمة في الحرب العالمية الثانية، والسماح للمرة الأولى للنساء بالتصويت في الانتخابات، ثم التجاذب بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين الكنيسة والأفكار التقدمية، وخصوصاً ما يتعلق منها بحقوق النساء. الشمال والجنوب تختلف البداية في هذه الرواية التي ترجمت إلى أكثر من 35 لغة، عن النهاية جذرياً، فعندما وصلت "أنا" إلى "ليتسانيلو"، بلدة زوجها، القريبة من مدينة ليتشي، عوملت على أنها "أجنبية"، بما أنها نشأت في شمال إيطاليا، وتحديداً في مدينة "بينيا"، التابعة لإقليم ليغوريا والقريبة من الحدود مع فرنسا، في وسط يختلف عن نظيره في الجنوب في العادات والتقاليد، وحتى في نطق بعض مفردات اللغة الإيطالية. كانت تتحدث بين الحين والآخر بالفرنسية، فضلاً عن تمتعها بشخصية قيادية، مما جعلها تبدو وكأنها أجنبية فعلاً عن الوسط الجديد الذي وجدت نفسها في قلبه، ضمن واحدة من عائلاته المميزة بما تملكه: بستان يزخر بأشجار التين والخوخ والرمان والبرتقال والمشمش واللوز، ومعصرة زيتون، قبل أن يضاف إليها كرم ومصنع نبيذ، نجح الشقيق الأصغر في إنشائهما وإدارتهما مما أهله للفوز بمنصب عمدة "ليتسانيلو". الرواية المترجمة (دار العربي) في مسقط رأسها كانت "أنا" تعمل معلمة في مدرسة ابتدائية، ومن اللحظة الأولى لوصولها إلى بلدة زوجها ليستقر فيها بعد غياب عنها دام 10 أعوام، استشعرت انجذاب شقيقه الأكبر "أنطونيو" نحوها، فقد اعتبرها - في قرارة نفسه - "أجمل امرأة رآها في حياته"، ومن ثم انطوت سريرته على حسد لشقيقه، ونقمة على زوجته الخاملة التي ليس لديها ما تتباهى به سوى إجادتها الأعمال المنزلية. هي أيضاً انجذبت إليه، فقد كان الوحيد الذي شاركها شغف القراءة، كما كانت تراه أكثر جدية واتزاناً من زوجها، لكنها عمدت إلى كبت مشاعر الانجذاب تلك، كي لا تفسد العلاقة بين الشقيقين، وواصلت ذلك حتى بعدما ترملت. "التجاذب الاختياري" في هذا السياق حرصت "أنا" على أن تكتب لـ"أنطونيو" قبل ساعات من وفاتها، رسالة تبدي فيها تفهمها مشاعر الجفاء التي تبادلاها أعواماً أعقبت وفاة "كارلو"، وزادت حدتها بعدما اتهمها بأنها شجعت ابنته على ترك زوجها وطفلتهما، للحاق بحبيبها الذي هاجر إلى نيويورك، واتهامها إياه بأنه كاد يدفعها ذات يوم إلى خيانة شقيقه الأصغر، عندما احتضنها في مكتبه وقبلها من شفتيها، لولا أنها صدته وصدت نفسها أيضاً بحسم. في الرسالة ذكرته برواية "التجاذب الاختياري" لغوته، وخصوصاً السؤال الوارد في متنها عما يمكن أن يحدث لعلاقة بين عنصرين إذا تداخل بينهما عنصر ثالث: "الحقيقة يا عزيزي أنطونيو هي أننا طوال هذا الوقت كنا في حاجة إلى أن يكره بعضنا بعضاً. كان هذا هو سبيلنا الوحيد كي لا نخون كارلو. كدت أحبك أكثر مما أحببت كارلو، ولم أكن لأسمح بهذا قط، فكارلو لم يكن يستحق مني ذلك"، ص 515 و516. لم تقبل "أنا" بأن تبقى مجرد ظل لزوجها الطموح، أو أن تستسلم لنظرة أهل البلدة لها على أنها أجنبية. ولذلك قررت أن تصدم الجميع بأن سعت إلى أن تحل محل "ساعي البريد"، في البلدة بمجرد موته. ولم يجد مدير مكتب البريد أنسب منها لشغل الوظيفة بما أنها كانت متعلمة بصورة فضلى، مقارنة بمن تقدم إلى الوظيفة نفسها من الذكور. بيت للنساء وهكذا باتت "أنا" أول امرأة تشغل وظيفة ساعية بريد في هذه البلدة الواقعة في الجنوب الإيطالي المنغمس آنذاك في ثقافة ذكورية متأصلة وتصعب خلخلتها. ثم كانت الصدمة التالية، عندما نشطت "أنا" في تحفيز نساء البلدة على المشاركة في المطالبة بإقرار حق النساء في التصويت في الانتخابات، للمرة الأولى أيضاً على مستوى إيطاليا، الخارجة للتو من أتون الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها الآلاف من الشباب الإيطالي. وفوق ذلك، فإنها رفضت أن تعطي صوتها لزوجها في الانتخابات البلدية التي رشحه الحزب الديمقراطي المسيحي لخوضها في بلدة "ليتسانيلو"، حتى لا تخالف مبادئها الاشتراكية. وأخيراً كان عليها أن تتحدى المجلس البلدي، والكنيسة، وتصر على تأسيس بيت للنساء المعنفات، مما نجحت في تحقيقه بفضل المال الذي ورثته عن زوجها بعد وفاته في ذروة نجاحه المهني متأثراً بسرطان الرئة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) عقب عودته إلى مسقط رأسه، بعدما تخطى الـ30 من عمره، يلجأ "كارلو" إلى "تشيتشو"، صانع النبيذ المتقاعد، ليساعده في أن يزرع أرضاً ورثها عن خاله، عنباً، يصلح لإنتاج نبيذ من نوع جيد. سيطلق على المشروع "كرم غريكو"، وسيسمي إنتاجه من النبيذ "دونا أنا"، مستلهماً اسم زوجته. في البداية سيتردد "تشيتشو" في مساعدة "كارلو"، لأن الأخير أخلف وعده لابنته "كارميلا" بالزواج منها، وتزوج من "أجنبية". عرف "كارلو" لاحقاً أن "دانييليه" الذي يحمل لقب عائلة "نيكولا" الذي تزوجته "كارميلا"، على رغم أنه يكبرها بـ20 عاماً، هو في الحقيقة ابنه هو وجاء ثمرة لقاء حميم جمعه بأمه خلال زيارة سريعة قام بها للبلدة ليحضر حفل زفاف شقيقه "أنطونيو". في البداية لم تخبره "كارميلا" بأمر حملها منه. ورأت أنه "لا يستحق أن يكون أباً لهذا الطفل"، ص 85. لكنها أخبرت أباها "تشيتشو"، الذي قرر أن يزوجها من "نيكولا كارلا"، لدرء الفضيحة، ومن ثم حمل المولود لقب الزوج الذي لم يشك للحظة أنه من صلبه. لاحقاً سيرى "تشيتشو"، وستوافقه ابنته الرأي، أن أفضل طريقة لجعل "كارلو" يستشعر أبوته تجاه "دانييليه" هو أن يدفع بالأخير، وكان في نحو الـ12 من عمره، إلى العمل في "كرم غريكو". وكانت "كارميلا" قد أبلغت "كارلو"، عقب شروعه في إنشاء ذلك الكرم بأن "دانييليه" هو ابنه البيولوجي، ثأراً لكرامتها بعد فتور حماسه لاستئناف علاقتهما الحميمية القديمة. ينجح "دانييليه" في عمله في الكرم، ويواصل العمل سراً في مجال الخياطة الذي سبق أن نهته أمه الخياطة عن ممارسته، "لأنه ليس عملاً مناسباً للرجال"، لكنها لاحقاً ستستغل سفره للعمل في فرع لـ"كرم غريكو"، أنشئ حديثاً في نيويورك، وتستولي على تصميماته لأزياء نسائية كان يحتفظ بها في بيت جدته لأمه وتنسبها إلى نفسها. ميتا سرد "دانييليه"، هو نفسه الحبيب الذي تآمر "كارلو" و"أنطونيو" ليمنعا زواجه من "لورينسيا"، ابنة الأخير، بما أنه كان ثمرة علاقة غير شرعية، كان الأول أحد طرفيها. لن تعرف "أنا" مطلقاً بأمر تلك العلاقة، ولن يساورها أي شك إزاء إخلاص "كارلو"، وستصر على تشجيع "لورينسيا" على التواصل مع "دانييليه" بعدما تأكد لها أنها لا تريد سواه شريكاً لحياتها. يمكن القول إن الرواية جاءت في حجم مبالغ فيه، بما أنها زخرت بكثير من التفاصيل التي أثقلت السرد ومن ثم كان ينبغي التخفف منها. وقد عابها في الوقت نفسه قطع الصلة تماماً بين "أنا" ومسقط رأسها وأسرتها الأصلية، مع أنها أصلاً لم تكن مرتاحة للانتقال إلى بلدة زوجها، وكانت تردد: "أشعر كأني سمكة خرجت من الماء". وعلى طريقة الميتا سرد، تورد الكاتبة تحت عنوان "شكر"، ما يفسر دقة المعلومات التي أوردتها عن مراحل زراعة العنب، وطرق حصاده المثلى، ثم عملية إنتاج النبيذ، وتكشف كذلك أن "ليتسانيلو" هي في الحقيقة مجموعة من قرى منطقة "سالينتو"، "كنت أستعير منظراً من كل قرية لأنقل للقارئ الأجواء المميزة لتلك المنطقة الجنوبية بأفضل ما أستطيع، أما سكان البلدة فهم جميعاً من وحي خيالي، ولا يمتون إلى الواقع بصلة"، ص 519، مع استثناء "أنا"، فهي جدة أم الكاتبة، في الحقيقة: "أشكر أمي كلاوديا لاحتفاظها – بكل حب ووفاء – بذكريات جدتها ساعية البريد الحقيقية، كونها كانت حفيدتها المفضلة".