logo
ليست رأس الهرم الديني، ماذا نعرف عن "مشيخة العقل" لدى الدروز؟

ليست رأس الهرم الديني، ماذا نعرف عن "مشيخة العقل" لدى الدروز؟

شفق نيوز٢٦-٠٧-٢٠٢٥
بعد الاشتباكات الدامية الأخيرة في السويداء بسوريا، حيث الكثافة السكانية الدرزية، برز اسما الزعيمين الدرزيين الشيخ يوسف جربوع، والشيخ حكمت الهجري، وكلاهما يحمل اللقب الديني شيخ العقل، إضافة إلى الشيخ سامي أبو المنى.
فماذا تعني "مشيخة العقل"؟ ومتى نشأت؟ ولماذا؟
العقل لدى الدروز
جاء في كتاب "مناقب الدروز في العقيدة والتاريخ" للدكتور سامي أبو شقرا نقلاً عن الشيخ عبد الغفار تقي الدين قوله: "لقد جعل الله للوجود علة وسبباً يتنزه به عن المباشَرة لإبداع الكائنات بذاته، هذه العلة هي العقل".
ويقول شيخ العقل السابق في لبنان، نعيم حسن، إن العقل بالنسبة للموحدين "هو في المحل الأرفع، يقترن بالشرع الحق ويقود الإنسان بنوره".
وأضاف في كتابه (الدليل إلى التوحيد) أن الدروز يُطلقون لقب "العقّال" على من وَعَوا عن الله أمره ونهيه وعملوا بمراده، وآمنوا أن العقل يجب أن يتوافق مع الشرع.
ويقول سعيد أبو زكي، أستاذ التاريخ والأخلاق بالجامعة اللبنانية الأمريكية، إنه كان يطلق على المتدينين "العُقّال" ومفردها عاقل، على عكس "الجُهّال".
ولا يقتصر لقب العُقال على الرجال، حيث يُطلق أيضاً على المرأة الدرزية المتدينة "العاقلة". وهناك "نساء عاقلات يبرزن بالتقوى والفضيلة الدينية، فيُكرّمن ويُقصدن أحياناً للمشورة، ويطلق عليهن لقب الست"، بحسب أبو زكي الباحث في تاريخ الدروز.
وذكر أبو زكي في حديث خاص لبي بي سي أنه عند وفاة إحدى هؤلاء العاقلات، يُدفنّ بمدفن خاص، وتُنصَب عليه شواهد تذكر بعض فضائلهن، فيصبح مزاراً دينياً، ضارباً مثالاً بالست فاخرة البعيني من قرية مزرعة الشوف في القرن التاسع عشر؛ ومع ذلك فالدرزيات لا يتقلدن مناصب لا روحية ولا قانونية.
ويؤكد أبو زكي، مؤلف كتاب "مشيخة عقل الدروز في لبنان: بحث في أصولها ومعناها وتطورها"، على أن المنصب الديني يرجع إلى "مسلك العقل"، وهو المسلك الديني الروحي لدى الدروز، الذي يُعنى بـ"تنمية وتهذيب الطبيعة العاقلة لدى الإنسان وإيصالها إلى كمالها".
ما الحاجة إلى مشيخة العقل؟
ظهرت فكرة "مشيخة العقل" خلال الحقبة العثمانية في لبنان، في القرن الثامن عشر، وكان يطلق على كل مرجعية دينية في قرية أو منطقة؛ حيث كان جبل لبنان مقسماً إلى مقاطعات بها مجموعة من القرى، وكان في كل قرية مرجعية أو أكثر.
ويقول أبو زكي، وهو أيضاً باحث في تاريخ الدروز، إن لقب "شيخ العُقّال" بدأ يظهر في المصادر اللبنانية للدلالة على المرجعيات الدينية لدى دروز جبل لبنان. وفي القرن التاسع عشر صار يمسى "الرئيس الروحي".
وبعدها حدث تطور سياسي؛ حيث بدأ الدروز يفقدون الحكم في جبل لبنان بعد عام 1825، وحاول الأمير بشير الثاني الشهابي، الذي حكمت سلالته لبنان ما بين (1247-1697)، إدخال نفوذه على الرئاسة الروحية.
وبحسب أبو زكي، كان رد فعل الدروز أنهم أنشأوا "مشيخة عقل" كمنصب له وظائف إدارية محدّدة تختص بالأوقاف والأحوال الشخصية، وحيّدوا الرئاسة الروحية، التي هي الولاية الدينية، عن اللقب.
ويقول المؤرخ اللبناني الدكتور صالح زهر الدين في كتابه (تاريخ المسلمين الموحدين الدروز)، إن "مشيخة العقل من المناصب الكبرى الحساسة والمسؤولة في البلاد؛ حيث كان يهابها الحكام، خاصة الشهابيون؛ لأهميتها وتأثيرها ووزنها الفاعل على كل الصُعد".
ومع ذلك، يقول أبو زكي إن لقب "شيخ العقل" لم يشع استعماله داخلياً لدى الدروز إلا بعد عام 1861، خلال الحكم "المُتصرّفي"، وهو نظام حكم أقرته الدولة العثمانية بعد ما يعرف بالفتنة الطائفية الكبرى بين الدروز والموارنة.
هل هو رأس الهرم الديني؟
يقول الشيخ يوسف جربوع، شيخ عقل الدروز في سوريا، في حديث خاص لبي بي سي إن مشيخة العقل هي رأس الهرم الرّوحي لطائفة الموحدين الدروز، وشيوخها هم أئمة هذه الطائفة، أو بمعنى آخر هم "المرجعية الدينية العليا" لديهم.
في المقابل، يؤكد سعيد أبو زكي، الأكاديمي والباحث المتخصص في تاريخ الدروز، أن مشيخة العقل تأتي حالياً في المرتبة الثالثة في الهرم الديني لدى الدروز؛ فهو "شيخ يُنتدب من قبل رجال الدين".
وتأتي في المرتبة الثانية طبقة من الشيوخ تلبس عباءة خاصة مقلمة باللونين الأبيض والأسود، تميزها عن بقية رجال الدين، ولا يُطلق عليهم لقب بعينه، لأنه بحسب أبو زكي فإن رجال الدين الدروز لديهم "نفور من الألقاب" بشكل عام.
أما رأس الهرم الديني لدى دروز لبنان، ولدى الكثير من الدروز في المنطقة حالياً، فهو الشيخ أمين الصايغ، وليس له لقب رسمي، لكنه يعد فعلياً المرجع الروحي الأعلى.
ويختار الرئيس الروحي الأعلى أو رأس الهرم الروحي هؤلاء الشيوخ من المرتبة الثانية؛ "حيث يقدم في نواحي بلاده بعض الأعيان بآلية بسيطة غير محددة تنسجم مع تعلقهم بالزهد".
وضرب الباحث اللبناني مثالاً كأن يدعو المرجع الأعلى إلى عقد حلقة ذكر في إحدى خلوات البلاد، وعند اكتمال الوفود، يتوجه إليهم بخطاب ديني قصير يبرز فيه فضل واحد أو أكثر من المشايخ الحاضرين، بالاستناد إلى فضيلتهم الدينية.
ويطلب هذا الإمام الأعلى من هؤلاء المُختارين لبس العباءة المقلمة، فتتحقق بذلك فكرة "الإشهار"؛ لكن أبو زكي يقول إن إقناع هؤلاء الشيوخ بقبول العباءة غالباً ما تكون مسألة صعبة؛ لتخوفهم من الجاه الاجتماعي المرافق.
ويعد هؤلاء الشيوخ "مرجعيات عرفية" كما يقول الباحث اللبناني، حيث يثق الناس في تجردهم الديني وحكمتهم، كما يرجع إليهم القادة السياسيون. وتتمحور وظيفتهم حول رعاية النشأة الروحية في مسلك العقل، كل في حيزه الجغرافي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود.
وفي الوقت الذي يُتوارث فيه لقب "شيخ العقل" في عائلات محددة، إلا أن الرئاسة الروحية العليا لا تعرِف الوراثة، كما يقول أبو زكي، كما تغيب عنها الأضواء الإعلامية.
شيوخ العقل في بلاد الشام
موقع جامعة القديس يوسف في بيروت
بالنسبة للبنان، يتولى منصب مشيخة العقل في الوقت الحالي الدكتور سامي أبو المنى، الذي اختِير للمنصب عام 2012، بعد إعلان من الشيخ نعيم حسن لانتخاب شيخ عقل جديد لطائفة الموحدين الدروز، خلفاً له.‏
وتضم مشيخة العقل في لبنان حالياً شيخ عقل واحد يتمتّع بالحقوق والامتيازات ذاتها التي يتمتّع بها رؤساء الطّوائف اللّبنانيّة الأُخرى، من غير استثناء أو تمييز، بحسب نص القانون الصادر عام 2006.
أما في السابق، فكان هناك شيخا عقل: شيخ للفئة الجنبلاطية، وشيخ للفئة اليزبكية من الدروز، لرعاية الأوقاف الدينية لعُقّال الدروز، وكهيئة إشراف على تطبيق الأحوال الشخصية عند قضاة المذهب، أي كهيئة استئناف، بحسب أبو زكي.
ويُعدّ القبول بمنصب شيخ العقل تنازلاً نهائياً من صاحب المنصب عن أي وظيفة أو مهنة أو حرفة؛ فلا يجوز قانونياً الجمع بين منصب شيخ العقل وأيّ منصب آخر من أيّ نوع كان، باستثناء المناصب الفخرية.
ويتولّى شيخ العقل رعاية شؤون طائفة الموحّدين الدّروز الرّوحيّة، وإدارة مصالحها الدينية والاجتماعية، كما يمثّلها رسمياً لدى السلطات العامة وبقية الطوائف.
وتساعده في تنفيذ مسؤوليّاته هيئة دينية استشارية تتكون من ستة شيوخ، يعينهم شيخ العقل خلال الشهر الأول من تاريخ تسلمه مهام منصبه، على ألا تربطه بأي منهم علاقة ما أو صِلة قربى حتى الدّرجة الرابعة.
ومع ذلك، يقول سعيد أبو زكي إن هذا القانون "يعبر عن الواقع التنظيمي لمنصب شيخ العقل، لكن التنظيم الديني الحقيقي، يقع خارج مجال هذا القانون، فهو تنظيم عرفي روحي. ولا يُسمح لشيخ العقل بالتدخل بالقرارات الدينية التي هي من اختصاص مشايخ البلاد".
أما في سوريا، فيقول الشيخ يوسف جربوع، في حديث خاص لبي بي سي إن الحاجة إلى مشيخة عقل في سوريا ظهرت بعد هجرة بعض الدروز إليها، وتحديداً إلى جبل العرب أو جبل حوران قبل نحو 300 عام.
ومع ذلك، فإن بداية وجود الدروز هناك لم تكن تستدعي وجود مرجعية أو مشيخة، نظراً لقلة عددهم، بحسب شيخ العقل الذي تحدث لبي بي سي.
ويقول الكاتب تيسير أبو حمدان في كتابه "الدروز مسلكاً ومعتقداً" إن الحاجة إلى المرجع الروحي في جبل العرب، ظهرت عندما وجد حاكم الجبل حمدان الحمدان أنه لا بد من وجود من يتولى أمور الطائفة دينياً ويرعى شؤونها الشخصية.
وقد وقع الاختيار على الشيخ ابراهيم الهجري، "لنبوغه وصلاحه وتقواه"، بحسب أبو حمدان، ليصبح مؤسس الرئاسة الروحية في الجبل، وتصبح بلدته (قنوات) المركز الديني للطائفة في الجبل وكان ذلك عام 1803.
وقد ظل الشيخ إبراهيم الهجري الشيخ الروحي الأوحد طيلة حياته؛ لكن بعد وفاته، اختار الدروز عائلتين أخريين هما عائلة جربوع من مدينة السويداء، وعائلة الحناوي من بلدة (سهوة بلاطة)، إلى جانب عائلة الهجري.
وقد توارثت العائلات الثلاثة المشيخة، باختيار الزعماء والحاضرين من هو أصلح من أسرة المتوفي، بإلباسه عمامة وعباءة المشيخة في يوم الوفاة أو بعدها بقليل.
وبحسب أبو زكي، فقد تمركزت مشيخة آل الهجري في قنوات والريف الشمالي والغربي للسويداء، في حين استقرت مشيخة آل حناوي في سهوة البلاط والريف الجنوبي، أما مشيخة آل جربوع فهي في مدينة السويداء والقرى المجاورة.
ويضيف أبو زكي أن دروز جبل حوران، اصطلحوا على تراتبية اجتماعية عرفية تضع مشيخة آل هجري في المقام الأول، ثم مشيخة آل جربوع في المقام الثاني، وبعدها مشيخة آل حنّاوي في المقام الثالث، وهي تراتبية معنوية لا دخل لها في الوظائف الدينية والاجتماعية والسياسية التي يتساوى فيها الثلاثة.
وتشير المصادر التاريخية في القرن التاسع عشر، إلى كون مشيخة آل هجري لها المكانة الأولى بين الثلاثة، وهو ما يفسر اللقب الرسمي الذي يستعمله الشيخ حكمت الهجري في وقتنا الحالي، باعتباره "الرئيس الروحي لطائفة المسلمين الموحدين الدروز" وهو لقب لا يستعمله شيخا العقل الآخران، بحسب الباحث اللبناني أبو زكي.
كما عرفت أرض فلسطين التاريخية ، الديانة الدرزية قبل نحو 1000 عام، بحسب أبو زكي.
وقد اعترفت إسرائيل بالطائفة الدرزية كطائفة مستقلة عام 1957، فأنشِئت رئاسة روحية بنفس مفهوم شيخ العقل، برئاسة الشيخ أمين طريف، الذي جمع بين هذا المفهوم وبين كونه المرجعية الدينية العليا للدروز هناك، كما يقول الباحث اللبناني أبو زكي، وهو جد الشيخ موفّق طريف، الرئيس الروحي الحالي للدروز في إسرائيل.
وأخيراً هناك الرئاسة الروحية لعدد قليل من الدروز في الأردن ، في مناطق مثل الأزرق ووادي السرحان، قبل أن ينتقل بعضهم إلى عمّان والمناطق الحضرية الأخرى مع تَشكُّل الدولة.
ويقول الكاتب اللبناني فاروق غانم خدّاج، في مقال له إن معظم دروز الأردن "جاءوا من جبل الدروز في سوريا ومن فلسطين، بحثاً عن الاستقرار في ظل ظروف سياسية متقلبة".
ويرأس دروز الأردن حالياً الشيخ أبو أشرف عجاج مهنّا عطا، الذي تعد مشيخته مشيخة دينية واجتماعية سياسية، بحسب أبو زكي، الذي أضاف لبي بي سي أنه بحسب الموروث الشفهي المحلي، فإن جده الكبير، كان أول من استوطن الزرقاء في شمال الأردن وأسس لتوطن الدروز هناك في أواخر القرن الثامن عشر.
وهناك تعاون بين مشيخة عقل الدروز في الدول المختلفة، وهو "تعاون ديني عقائدي واجتماعي" مع الحفاظ على استقلال كل منطقة بإدارة شؤونها بنفسها، على حد تعبير الشيخ يوسف جربوع، شيخ عقل سوريا.
وقال الشيخ جربوع لبي بي سي إن "ذلك يرجع إلى كون كل مرجعية تخضع لأنظمة سياسية مختلفة في البلدان الثلاثة"، مؤكداً أن كل مرجعية لم تتدخل في الشؤون السياسية الداخلية للمرجعيات الأخرى، رغم أن البرنامج العقائدي واحد.
ومن أوجه التواصل بين المؤسسات الدرزية في مختلف الدول، ما ذكره أبو زكي أنه في عام 1934، حدثت أزمة في فلسطين ضد الشيخ أمين طريف، جد الشيخ الحالي، فبادر أعيان مشايخ لبنان إلى الصلح وحل الأزمة.
وفي عام 1947، عندما حدث نزاع داخلي بين دروز جبل حوران فيما عُرف بالثورة الشعبية الثانية ضد بيت الأطرش، سافر الشيخ أمين طريف إلى دمشق لحل النزاع وحقن دماء الدروز.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مفاوضات مشروطة بين مجلس قبلي و"طالبان باكستان" وسط تصاعد العنف
مفاوضات مشروطة بين مجلس قبلي و"طالبان باكستان" وسط تصاعد العنف

الحركات الإسلامية

timeمنذ 3 ساعات

  • الحركات الإسلامية

مفاوضات مشروطة بين مجلس قبلي و"طالبان باكستان" وسط تصاعد العنف

في تطور جديد يعكس تعقيد المشهد الأمني في المناطق القبلية الباكستانية، دعا أعضاء مجلس السلام في منطقة باجور حركة طالبان باكستان إلى مغادرة المناطق السكنية والعودة إلى أفغانستان، أو على الأقل التوجه إلى الجبال في حال أصرّت على استمرار القتال. الدعوة، التي صدرت في العاشر من أغسطس الجاري، جاءت خلال الجولة الأولى من المحادثات بين المجلس وممثلي الحركة، بحسب ما نقلته قناة جيو نيوز الباكستانية، في وقت تتصاعد فيه الاشتباكات والهجمات المسلحة في هذه المناطق. ووفقًا لما أكده عضو المجلس خليل الرحمن، فقد طلب ممثلو طالبان باكستان مهلة للتشاور مع قادتهم قبل تقديم رد نهائي، مع الإشارة إلى أن جولة ثانية من المحادثات جرت لاحقًا، دون أن تُفضي إلى نتائج حاسمة. تعكس هذه المحادثات غير المباشرة، التي يقودها زعماء محليون بدافع من الحاجة إلى الأمن والاستقرار، حجم الأزمة المتنامية التي تواجهها باكستان في المناطق الحدودية مع أفغانستان، خاصة في ظل الاتهامات الرسمية المتكررة التي توجهها إسلام آباد إلى كابول، بكونها توفر ملاذًا آمنًا لقيادات طالبان باكستان. في المقابل، تنفي حركة طالبان الأفغانية هذه الاتهامات، وتصر على أن الحركة الباكستانية تنشط داخل الأراضي الباكستانية فقط، رغم ما ورد في تقارير أممية حديثة تُشير إلى أن طالبان الأفغانية تقدم دعمًا لوجستيًا وعملياتيًا لنظيرتها الباكستانية، التي يُقدر عدد مقاتليها بنحو 6000 عنصر. حركة تحت الضغط: من النفوذ إلى التشرذ م تشكلت حركة طالبان باكستان في أواخر عام 2007 كتحالف فضفاض يضم مجموعات جهادية وطائفية تنشط في المناطق القبلية، تحت قيادة بيت الله محسود، الذي كان آنذاك يُعد من أبرز المحاربين المخضرمين في جنوب وزيرستان. وخلال سنوات قليلة، تمكنت الحركة من بسط نفوذها على معظم الإقليم، ووصلت بعملياتها المسلحة إلى مدن كبرى مثل بيشاور وكراتشي ولاهور، ما جعلها تمثل تهديدًا وجوديًا حقيقيًا للدولة الباكستانية، إلى أن جاءت عملية "ضربة عضب" العسكرية الواسعة في يونيو 2014، التي قلبت المعادلة وأجبرت قادة الحركة على الفرار إلى المناطق الشرقية من أفغانستان. منذ تلك الضربة العسكرية، تراجع حضور الحركة إلى مجرد مجموعات صغيرة منفية تنفذ عمليات متفرقة في المناطق القبلية، مع تآكل تدريجي في قدراتها التنظيمية والقيادية. وقد تزامن هذا التراجع مع مقتل قيادات بارزة مثل حكيم الله محسود والملا فضل الله في غارات أميركية بالطائرات المسيّرة، وهو ما ولّد أزمة حادة في القيادة، دفعت بعض الفصائل للانفصال، احتجاجًا على اختيار شخصيات غير قبلية على رأس التنظيم، في إشارة إلى تولي فضل الله قيادة الحركة رغم كونه من خارج قبيلة محسود التي كانت تُهيمن تقليديًا على القرار داخل طالبان باكستان. لكن هذا الانهيار لم يكن نهاية القصة، إذ سرعان ما بدأت الحركة، تحت قيادة مفتي نوروالي محسود منذ يونيو 2018، في إعادة تنظيم صفوفها. فبفضل خلفيته القبلية والعلمية كعالم دين ومحارب قديم، استطاع المفتي استعادة جزء من التماسك الداخلي، وجذب فصائل منشقة مثل جناح حكيم الله محسود وجماعة الأحرار وطالبان البنجاب، بل وحتى عناصر من تنظيم القاعدة، إلى صفوف الحركة مجددًا. ومع كل بيان ولاء جديد، كانت الحركة تُعلن عودتها كقوة موحدة تسعى إلى تثبيت حضورها في المناطق الحدودية مجددًا. علاقات معقدة بين طالبان كابول وإسلام آباد في قلب هذا المشهد الأمني المعقّد تقف علاقة طالبان باكستان مع كل من الحكومة الباكستانية وحكومة طالبان الأفغانية. فمن جهة، ترى إسلام آباد أن طالبان باكستان تمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها الداخلي، وتتهم كابول بالتقاعس عن اتخاذ إجراءات حازمة ضد قادتها الذين تقول إنهم يتحركون بحرية في الأراضي الأفغانية. ومن جهة أخرى، تظهر حكومة طالبان الأفغانية ترددًا واضحًا في التعاطي مع هذا الملف، حيث ترفض تنفيذ عمليات ضد طالبان باكستان، وتتحدث عن كونها حركة تنشط داخل باكستان وليست على الأراضي الأفغانية. ويرى مراقبون أن حركة طالبان الأفغانية تواجه مأزقًا مزدوجًا؛ فهي من جهة لا تريد أن تخسر حليفًا أيديولوجيًا وتاريخيًا كطالبان باكستان، الذي لطالما أعلن ولاءه لها ولم يصدر عنه أي موقف عدائي ضدها، ومن جهة أخرى تسعى طالبان كابول إلى تحسين علاقاتها الإقليمية، وتجنب مزيد من الضغوط الدولية، خصوصًا في ظل التقارير التي تُشير إلى أن ترددها في كبح جماح الجماعات المتطرفة قد يُهدد أمن المنطقة بأكملها. أما على الجانب الباكستاني، فإن السلطات تحاول التوفيق بين نهج أمني صارم تجاه طالبان باكستان، وبين محاولات الحوار مع زعماء قبليين أو فاعلين محليين يمكنهم التوسط لتخفيف التصعيد. هذا النهج، وإن كان يُظهر مرونة تكتيكية، إلا أنه يعكس عجزًا استراتيجيًا في التعامل مع جذور المشكلة، خاصة في ظل الإهمال المزمن للمناطق القبلية وعدم دمجها فعليًا في النظام الإداري والسياسي الباكستاني، رغم دمجها نظريًا في إقليم خيبر بختونخوا منذ عام 2018. طالبان باكستان وداعش وخراسان.. تحالفات مستبعدة رغم ما ورد في بعض التقارير الأممية عن إمكانية نشوء تحالف بين حركة طالبان باكستان وتنظيم الدولة الإسلامية في ولاية خراسان، فإن الوقائع الميدانية والدوافع الأيديولوجية تُشير إلى أن هذا السيناريو لا يزال مستبعدًا. فالحركتان، رغم اشتراك بعض عناصرهما في تجارب قتالية سابقة تحت مظلة طالبان باكستان، تسلكان اليوم طريقين مختلفين: طالبان باكستان لا تزال ملتزمة بالنهج الديوبندي والهيكلية القبلية، فيما تتبنى داعش خراسان أيديولوجية سلفية جهادية ترفض الانتماءات القبلية وتُكفّر الجماعات الأخرى، بمن فيهم طالبان كابول. وقد ساهم هذا التباين في نشوء صراعات دموية بين الطرفين، خاصة في شرق أفغانستان. وتنظر داعش إلى طالبان كابول على أنها وكيلة للمخابرات الباكستانية، فيما تعتبر طالبان باكستان تنظيم داعش مجرد أداة استخباراتية غربية. كما أن أنشطة طالبان باكستان تتركز داخل الأراضي الباكستانية، ولا تملك سجلًا من العمليات المستقلة داخل أفغانستان، بخلاف تنظيم الدولة الذي يسعى للتمدد العابر للحدود. ورغم ذلك، لا يمكن استبعاد وجود تواصل أو تنسيق تكتيكي بين عناصر من الرتب الوسطى في التنظيمين، خصوصًا في المناطق المتداخلة جغرافيًا على الحدود. لكن التحالف التنظيمي الرسمي لا يزال مستبعدًا بسبب الخلافات الجوهرية في العقيدة والتنظيم والتكتيك. عودة حذرة إلى الحزام القبلي تشير الوقائع الميدانية إلى أن طالبان باكستان بدأت في العودة التدريجية إلى بعض المناطق القبلية الحدودية، خاصة شمال وجنوب وزيرستان، ومهمند، وباجور، وهي مناطق محاذية للمقاطعات الشرقية من أفغانستان. وقد تحدث سكان محليون وصحفيون ميدانيون عن تزايد عمليات القتل المستهدف، وفرض الإتاوات على السكان، وعودة مظاهر التهديد والابتزاز، لا سيما من قبل جماعة الأحرار المرتبطة بطالبان باكستان. وأكدت شهادات متعددة أن المسلحين باتوا يفرضون ما يُعرف بـ"ضرائب الحماية"، ويستهدفون المعارضين والمتخلفين عن الدفع. ورغم أن نشاط هذه الجماعات لا يُقارن بسيطرتها السابقة قبل عام 2014، فإنها تُراكم تأثيرًا تدريجيًا في ظل غياب السلطة الحكومية الفعلية، واستمرار الفراغ الأمني، وتراجع الاستثمار في البنية التحتية والخدمات. ويُحذّر مراقبون من أن فشل الدولة في توفير التنمية والعدالة في هذه المناطق، قد يُمهّد الطريق أمام عودة طالبان باكستان كقوة أمر واقع. تاريخيًا، لم تُظهر الحكومة الباكستانية قدرة حقيقية على تثبيت النظام في هذه المناطق إلا من خلال العمليات العسكرية الواسعة، دون أن تُتبع بخطط تنمية مستدامة أو إصلاح سياسي عميق. ومن هنا، فإن الرهان على الحل الأمني فقط، دون معالجة الأسباب الجذرية، قد يُفضي إلى إعادة تدوير الأزمة بدلاً من حلها.

جدول اعمال البرلمان ليوم غد
جدول اعمال البرلمان ليوم غد

وكالة أنباء براثا

timeمنذ 4 ساعات

  • وكالة أنباء براثا

جدول اعمال البرلمان ليوم غد

التعليقات طاهر باقر : انا استغرب لماذا لابد ان يقدم شاب عراقي على الانتحار من اجل مسألة تافهة مثل هذه القضية ... الموضوع : انتحار طالب بعد عودته من الامتحان في واسط باقر : والنعم من النواصب الدواعش والجولاني ..... والنعم من اتباع الصحابة ... الموضوع : الاردن يطرد عدد من اطفال غزة المصابين وعوائلهم بحجة ان الاردن مفلس علي : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نتمنى من أدارة المطار أن تسمح بدخول السيارات لأستقبال المسافر لأن نحن ... الموضوع : وزارة النقل تعلن قرب افتتاح ساحة النقل الخاص بمطار بغداد الدولي الحسين بن علي : الحفيد للجد السعيد ياجد عُد فكلنا اشتقنا لرؤياك وضحكة محياك ياعذب الماء ... الموضوع : صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل باقر : انت غلطان وتسوق الاوهام.... حثالات الأرض هم أهالي تكريت والانبار وديالى والموصل.... ... الموضوع : حماقة البعث والوجه الآخر لتكريت. ضياء عبد الرضا طاهر : حبيبي ھذا الارھابي محمد الجولاني ھو مثل جورج دبليوا بوش الصغير وترامب صعد وصار رئيس واستقبال حافل ... الموضوع : صورة للارهابي ابو محمد الجولاني عندما كان معتقلا في سجن بوكا عام 2005 ----خلف ناصر عبد الله : اتمنى لكم التوفيق والسداد بحوث روعه غيتها اعلاء اعلام دين الله سبحانه:؟ ... الموضوع : تفسير "هذا صراطُ عليٍّ مستقيم" (الحجر: 41) منير حجازي : العلاقات التي تربط البرزانيين بالكيان الصهيونية علاقات قديمة يطمح الاكراد من خلالها أن يساعدهم اليهود على إنشاء ... الموضوع : النائب مصطفى سند يُحرك شكوى ضد ممثل حكومة كردستان في المانيا دلشاد بارزاني بعد مشاركته احتفال في سفارة الكيان الصهيوني منير حجازي : الاخت الفاضلة حياكم الله نقلتي قول (أنطوان بارا) في كتابه الحسين في الفكر المسيحي وهو يعقد مقارنة ... الموضوع : الحسين في قلب المسيح

'يطلقون اسم باليستي على كل شيء' .. أباظري يرصد حضور 'حرب الـ 12 يومًا' بين العراقيين في الأربعينية
'يطلقون اسم باليستي على كل شيء' .. أباظري يرصد حضور 'حرب الـ 12 يومًا' بين العراقيين في الأربعينية

موقع كتابات

timeمنذ 6 ساعات

  • موقع كتابات

'يطلقون اسم باليستي على كل شيء' .. أباظري يرصد حضور 'حرب الـ 12 يومًا' بين العراقيين في الأربعينية

وكالات- كتابات: أكد المستشار الثقافي لـ'إيران' في العراق؛ 'غلام رضا أباظري'، أن صدى حرب الـ (12) يومًا حاضرًا في 'الزيارة الأربعينية' هذا العام، حتى أن العراقيين أصبحوا يستخدمون مصطلح: (باليستي) بكثرة ويُطلقونه حتى على الطعام الجيد. وقال 'أباظري'؛ في تصريحات لوسائل إعلام إيرانية، إن: 'هذه الأربعينية ذكرى خاصة، فكما شهدنا دعمًا من العراقيين بعد حرب الأيام الإثني عشر، وموجةً من التقارب والدعم لإيران في الاجتماعات والمنابر والقصائد والمآتم، فإن هذا الدعم لإيران مستمرٌّ خلال الأربعينية'. وأوضح اأنه: 'شهدنا خلال هذه الأيام؛ رفع العلم الإيراني وصورة المرشد الأعلى؛ علي خامنئي، في مواكب العزاء العراقية، بينما ليس من المعتاد رفع علم دولة أخرى في المواكب الدينية، وهذا دليل على محبة الشعب العراقي للشعب الإيراني، ويُعبّر أيضًا عن تقديره وامتنانه وتشجيعه ودعمه لمحاربة إسرائيل'. وأشار إلى أنه: 'إن شاء الله؛ سننّقل هذه الموجة من المقاومة والإلتقاء للشعب العراقي والنخب والمتميزين وعامة الناس إلى أجواء الأربعين، والحمد لله كما نرى اليوم في المواكب العراقية صور القائد مرفوعة إلى جانب السلطات العراقية'. وأكد أنه: 'لقد كان للحرب التي استمرت (12) يومًا رد فعل بطولي في العراق، وترسخت صورة إيران باعتبارها المنتصر الوحيد في ساحة المعركة ضد كل القوى الغربية، بما في ذلك أميركا، التي دعمت إسرائيل، في أذهان الشعب العراقي لأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تمكنت من إجبار إسرائيل على الاستسلام'. وبيّن أنه: 'اليوم، أصبح مصطلح (باليستي) شائعًا في العراق، ويُطلقه العراقيون على كل شيء، ويُعتبر رمزًا للقوة والعظمة، حتى أنهم يُطلقون على بعض الأطعمة اسم: (باليستي)، أي أنها مُغذية'، مؤكدًا أنه: 'كان للصواريخ الباليستية الإيرانية القوية والفعالة صدى إيجابي في تقارب الشعبين والدولتين، وفي قطاع المقاومة، إن شاء الله، ببركة أيام الأربعين، ورحمة الإمام الحسين (عليه السلام)؛ في جميع المراحل، ستتمكن إيران من الخروج منتصرةً من المشاكل التي وضعها الأعداء في طريقها'.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store