
دوافع تاريخية وعقائدية... لماذا تدعم بلدان أوروبا الوسطى إسرائيل؟
في ظل تنامي الضغط الدولي على إسرائيل، على خلفية تصعيدها المستمر في الحرب بقطاع غزة، يمكنها الاعتماد على الدعم المتواصل من أصدقائها المخلصين في أوروبا الوسطى، لأسباب تاريخية وعقائدية، وفق ما ذكرته «وكالة الصحافة الفرنسية».
وفي إشارة واضحة إلى هذا التضامن، دافع كل من النمسا وألمانيا، الأربعاء، عن اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، في حين صوَّتت غالبية الدول الأعضاء بالاتحاد لصالح مراجعة هذا النص الذي دخل حيز التنفيذ منذ عام 2000.
وتدافع برلين وفيينا بشراسة عن حق إسرائيل في الوجود، لدرجة أنهما أدرجتا ذلك ضمن قضايا «مصلحة الدولة»، وتَعدّان أن «الدَّين» المترتب عليهما للدولة العبرية التي نشأت بعد المجازر التي ارتكبها النازيون بحق اليهود، خلال الحرب العالمية الثانية، يتطلب «دعماً كبيراً»، وفق الباحثة يوانا ديدوش.
وبالنسبة لهذه المسؤولة في معهد الشرق الأدنى والأوسط بجامعة ياجيلونيان في مدينة كراكوف البولندية، فإن الألمان والنمساويين ينضمون إلى موقف جيرانهم في الشرق الأوروبي الذين خرجوا من هيمنة موسكو قبل أكثر من ثلاثة عقود.
من تشيكيا إلى بلغاريا، تتقاسم هذه الدول «الرؤية نفسها بشأن الحق في الأمن» لإسرائيل التي تواجه تهديدات وجودية، مع «مخاوف متطابقة من التخلي أو الخيانة».
ولكي تنضم هذه الديمقراطيات اليافعة إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، ابتداء من عام 2004، كان عليها عموماً أن تنتقل من موقف مؤيد للعرب إلى حد ما، ومنسجم مع موقف الاتحاد السوفياتي، إلى رؤية مطابقة لمواقف واشنطن.
ووفق خبراء، بدت إعادة التموضع هذه طبيعية بفعل الشعور لدى هذه البلدان الأوروبية بالقرب الثقافي من أرضٍ استقر فيها كثير من اليهود الذين أسهموا في ثقافتهم، وغالباً ما يتشاركون معهم لغاتهم وجنسياتهم.
ورغم أن أهمية هذا العنصر قد تتلاشى مع مرور الوقت، فإنّ عنصراً آخر أسهم في ترسيخ العلاقات الثنائية بين إسرائيل وكثير من هذه البلدان: معاداة الليبرالية.
يتشارك المجريّ فيكتور أوربان، والنمساوي سيباستيان كورتس، والسلوفاكي روبرت فيكو، والتشيكي ميلوش زيمان، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التيار السياسي عينه الحاضر بقوة في هذا الجزء من أوروبا منذ نحو خمسة عشر عاماً.
ويقول أزريل بيرمانت، من معهد العلاقات الدولية في براغ، إن «بناء علاقات قوية» مع هذه الشخصيات يسمح لنتنياهو «باستغلال الانقسامات» داخل أوروبا.
وتبدو هذه الاستراتيجية مفيدة، بشكل خاص، في ظل القدرة لدى زعيم مثل فيكتور أوربان على عرقلة قرارات، رغم الاستياء الذي يثيره ذلك لدى المفوضية الأوروبية.
ومضت المجر إلى حد ضرب قرارات المحكمة الجنائية الدولية عرض الحائط، ودعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي صدرت بحقّه مذكرة اعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزة، إلى أراضيها.
يشير الخبير إلى صراع مشترك آخر يساعد في التغلب على التوترات المحيطة بمعاداة السامية، وهو «الخطاب القائل إن إسرائيل تُشكل رأس حربة في الحرب ضد الإسلام».
ويقول إن «الأحزاب اليمينية المتطرفة يمكنها أن تستخدم هذه الرواية ودعمها لإسرائيل لتزيل عنها أي شبهات».
وتختلط المصالح التجارية بالعلاقات السياسية في هذا المجال، رغم أن التعاون الاستراتيجي لا يزال متواضعاً. ففي العام الماضي، اشترت سلوفاكيا نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي «باراك إم إكس» مقابل 560 مليون يورو، في سابقةٍ من نوعها لبلدٍ في حلف شمال الأطلسي.
وقد أدى غزو روسيا لأوكرانيا إلى إحياء سباق التسلح، وفي عام 2023 أبرمت ألمانيا اتفاقية مع إسرائيل لشراء الدرع الصاروخية «حيتس 3» (Arrow-3) مقابل مبلغ يُقدر بنحو 3.5 مليار دولار.
لكن هناك استثناء يتمثل في بولندا التي أصبح صوتها مسموعاً بشكل متزايد داخل الاتحاد الأوروبي، إذ يعتمد هذا البلد سياسات خارجية أكثر انسجاماً مع النهج الأوروبي العام، وفق يوانا ديدوش.
وتوضح ديدوش أن «موقفها تغيّر، مقارنة بدول أخرى في وسط أوروبا وشرقها»، حتى بعد الهجوم غير المسبوق الذي شنته حركة «حماس» الفلسطينية على الأراضي الإسرائيلية، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وأسفر عن مقتل 1218 شخصاً.
وتلفت الخبيرة إلى أن بولندا، حيث خرج القوميون من الحكم، «نأت بنفسها تدريجياً» من دعم الحرب التي تشنها إسرائيل في قطاع غزة، والتي خلفت ما لا يقل عن 53 ألفاً و655 قتيلاً، وفق بياناتٍ نشرتها وزارة الصحة، التابعة لـ«حماس»، وتَعدُّها الأمم المتحدة موثوقة.
وتختم ديدوش بأن «إحجام إسرائيل عن إدانة الكرملين» بشأن غزو أوكرانيا تحوَّل إلى «مأخذ بولنديّ ضدها»، و«أثّر بلا شك على تصور الجمهور للحرب في غزة».
وبعد أن كانت بولندا تميل نحو إسرائيل، دعّمت بشكلٍ لا لبس فيه قبول عضوية دولة فلسطين، عند التصويت، في الجمعية العامة للأمم المتحدة في مايو (أيار) 2024.
وجاء ذلك رغم تصويت المجر وتشيكيا ضد القرار، في حين امتنعت ألمانيا والنمسا وبلغاريا ورومانيا عن التصويت.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
جيورجيا ميلوني... من التطرف إلى البراغماتية
أواخر عام 2012، وبعدما كان نجم سيلفيو برلوسكوني قد بدأ يأفل في المشهدين السياسيين الإيطالي والأوروبي، أقدمت مجموعة من قيادات حزبه، تتزعمها رئيسة الوزراء الحالية جيورجيا ميلوني ورئيس مجلس الشيوخ إيغناسيو لا روسّا، على الانشقاق عن الحزب الذي كان أسسه برلوسكوني وحمله أربع مرات إلى رئاسة الحكومة، وقرّرت تأسيس حزب جديد تحت مسمّى «إخوان إيطاليا»؛ تيمناً بعنوان النشيد الوطني الإيطالي. الدافع المعلن لهذه الخطوة كان رغبة المجموعة المنشقّة في إبراز الهوية اليمينية للتيار الذي كانت تمثله، والذي كان في معظمه من ركام الحزب الفاشي الإيطالي المحظور بموجب الدستور تحت مسمّى «التحالف الوطني» الذي تدرّجت ميلوني في صفوفه صبيّة في التاسعة عشرة رئيسةً لتيّار الشباب. غير أن السبب الحقيقي غير المعلن للانشقاق كان التموضع في المشهد السياسي تحسباً للانهيار الذي كانت بدأت تظهر تباشيره في صفوف اليمين الإيطالي، والذي كان حزب «الرابطة»، الانفصالي سابقاً، يتربّص لوراثة قيادته. في تلك المرحلة كان رصيد «إخوان إيطاليا» يقتصر على عشرة مقاعد في مجلس الشيوخ وستة في مجلس النواب. ولم يتمكن خلال الانتخابات العامة والإقليمية التي أجريت حتى عام 2020 من تجاوز حاجز الـ6 في المائة من أصوات الناخبين، أي ما يقارب نصف التأييد الذي كان يحظى به حزب «الرابطة» («رابطة الشمال» أساساً) الذي كان زعيمه ماتّيو سالفيني قد بدأ يحلم بقيادة اليمين الإيطالي على وقع تدهور صحة برلوسكوني. ولكن في عام 2022 انهارت الحكومة الائتلافية التي كان يقودها حزب «النجوم الخمس» بالتحالف مع «الرابطة»، فقرّر رئيس الجمهورية حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة عن موعدها أواسط صيف ذلك العام، خاضها اليمين ضمن تحالف ضمّ برلوسكوني وسالفيني وميلوني، بشرط أن يتولّى تشكيل الحكومة الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات في حال فوز التحالف. وفي المقابل، وكعادته، خاض اليسار الانتخابات منقسماً على نفسه وسط تناحر تياراته. وكانت المفاجأة نيل حزب «إخوان إيطاليا» أكبر عدد من الأصوات بين قوى اليمين. وهكذا أصبحت رئاسة الحكومة من نصيب ميلوني، التي كان يهزأ برلوسكوني من احتمال وصولها إلى ذلك المنصب. عندما أقسمت جورجيا ميلوني يمين الولاء لمنصبها كأول امرأة تتولّى رئاسة الحكومة في إيطاليا، كانت قد سبقتها صورة اليمين المتطرف الصاعد من كهوف الفاشية، الذي تتسع شعبيته باطراد ويوقظ أشباح الماضي المخيف في المشهد الأوروبي. وفي العواصم الأوروبية الكبرى، كما في بروكسل «عاصمة» الاتحاد الأوروبي، سادت أجواء الترقّب من تداعيات وقوع السلطة، للمرة الأولى في تاريخ الاتحاد، بيد حزب مناهض للمشروع الأوروبي، على الأقل في صيغته الراهنة. ومعلومٌ أن «إخوان إيطاليا» يرفض أن تصدر عن زعيمته إدانة صريحة للنظام الفاشي، وأن يُزال رمزه التاريخي «الشعلة» عن شعار الحزب، بينما يفاخر رئيس مجلس الشيوخ – وساعد ميلوني الأيمن – بتمثال نصفي للزعيم الفاشي بنيتو موسوليني في دارته. الزعيم المجري فيكتور أوربان (رويترز) إلا أن الخطوات الأولى التي أقدمت عليها ميلوني، خاصةً نحو الخارج، أظهرت استعدادها للبقاء ضمن «السرب» الأوروبي، والتنسيق مع الشركاء في جميع الملفات الكبرى، مع الحفاظ على تمايز في ملف الهجرة الذي كان الرافعة الأساسية في صعودها السريع حتى وصولها إلى رئاسة الحكومة. إذ سارعت ميلوني إلى تأكيد الاصطفاف الإيطالي بجانب التحالف الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، وبنت علاقات وثيقة مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين، وفتحت قنوات الحوار التي كانت متعثرة مع فرنسا، مُبحرة بذلك عكس التيار السائد داخل الائتلاف الحاكم الذي تقوده. لقد أدركت ميلوني بسرعة أن الخروج عن خط الحليف الأميركي في السياسة الخارجية ليس وارداً، وأن المواجهة الصدامية مع الشركاء الأوروبيين مكلفة جداً بالنسبة للبلد الذي يرزح تحت عبء أعلى نسبة من الدين الخارجي والعجز العام داخل الاتحاد، وأن العداء مع فرنسا يجرّ متاعب كثيرة لا قدرة لإيطاليا على تحملها في المدى الطويل. في غضون ذلك، كانت ميلوني ترسّخ شعبيتها في الداخل وتدفع بأجندتها اليمينية من دون عقبات تذكر، مطمئنة إلى رصيدها الشعبي، والغالبية الساحقة التي تدعمها في البرلمان قبالة معارضة ضعيفة مشتتة. إلا أنه مع ظهور البوادر الأولى لانهيار الديمقراطيين في الولايات المتحدة، وما يستتبعه ذلك الانهيار من تداعيات خارجية - بخاصة على الجبهة الأوروبية - ومع اتساع دائرة الصعود اليميني المتطرف في أوروبا، بدأ كثيرون يرون في ميلوني «المرأة الحديدية» الجديدة في أوروبا. صارت ميلوني، بالفعل، الشخصية السياسية التي تنظر إلى قيادتها القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة الطامحة إلى السلطة في الاتحاد، الذي يعاني منذ سنوات تراجع الأحزاب التقليدية التي قام عليها مشروعه. من جهتها، حرصت ميلوني في التحالفات التي نسجتها على الجبهة اليمينية في أوروبا، على تجنّب الذهاب بعيداً نحو القوى المتطرفة في أقصى هذه الجبهة، مثل حزب «البديل من أجل ألمانيا» أو «التجمع الوطني» الذي تقوده مارين لوبان في فرنسا، بل حافظت دائماً على «شعرة معاوية» مع المؤسسات والأحزاب التقليدية، خاصةً بالنسبة للدعم الذي يقدمه الاتحاد لأوكرانيا منذ بداية الاجتياح الروس. رغم هذا، لم يمنع الحرص على تجنب الشطط أوروبياً الزعيمة الإيطالية من الانفتاح على جهات يمينية متطرفة خارج الإطار الأوروبي، مثل خابيير ميلي في الأرجنتين، أو الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي تفاخر بصداقتها معه... وتطرح نفسها «وسيطاً» بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لاحتواء أزمة الرسوم الجمركية التي ما زالت تراوح مكانها. كذلك حافظت ميلوني، من موقعها رئيسةً للحكومة الإيطالية، أكثر من زعامتها لحزب يميني متطرف قام على أنقاض الفاشية، على علاقات جيدة مع البابا الراحل فرنسيس الذي كان طوال حبريته في مرمى سهام القوى اليمينية المتطرفة، خاصةً في موضوع الهجرة. ثم سارعت إلى تجديد هذه العلاقة مع خلفه لاوون الرابع عشر، مستفيدة من «الرافعة الفاتيكانية» لتعزيز حضورها على الصعيد الدولي. وحقاً، خلال أقل من سنتين تمكّنت ميلوني من تغيير صورة اليمين المتطرف في أوروبا، وأقامت علاقات مؤسسية سلسة مع كتلة الحزب الشعبي الأوروبي (يمين متطرف)، من غير أن تنضوي تحت لوائه، وأصبحت بمثابة «جسر» بين أقصى اليمين والمحافظين التقليديين، كما نجحت حتى الآن في احتواء الجناح المتطرف داخل حزبها. في هذه الأثناء، شكّلت القوى اليمينية المتطرفة التي حرصت ميلوني على النأي عنها في التحالفات التي نسجتها، بدورها «جبهتها» المستقلة. وبايعت هذه «الجبهة» رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، بمباركة مزدوجة من واشنطن وموسكو، ريثما تتضح الصورة التي سيرسو عليها اليمين الأوروبي بعد الانتخابات المقررة حتى أواخر العام المقبل لمعرفة الحصان الفائز بين ميلوني وأوربان. الخطوات الأولى التي أقدمت عليها ميلوني خاصةً نحو الخارج أظهرت استعدادها للبقاء ضمن «السرب» الأوروبي والتنسيق مع الشركاء في جميع الملفات الكبرى في الواقع، كثيرة هي الأمور التي تجمع بين ميلوني وأوربان، لكنهما يختلفان كثيراً من حيث أسلوب الزعامة وممارستها، وذلك بسبب التباين في المسار السياسي، وتاريخ البلدين، والعلاقة مع المؤسسات الأوروبية. أولاً، لا بد من التمييز بين الواقع السياسي في كل من المجر وإيطاليا. فالمجر خارجة من نظام خضع طيلة عقود للنير السوفياتي، غير أنها تحمل إرثاً غنيّاً بالنضال من أجل الاستقلال، أولاً عن الإمبراطورية النمساوية، ثم عن هيمنة موسكو. ويجمع كثيرون على أن الصفات اللغوية والثقافية والتاريخية التي تميّز المجريين عن جيرانهم السلاف والجرمان، تجعل منهم شعباً مندفعاً بقوة نحو التمرّد والإصلاح. أما الواقع السياسي الإيطالي، فهو وليد مخاض سياسي مديد يبدأ مع أول تجربة فاشية قبل الحرب العالمية الثانية، ويرسو عند نظام ضبابي سيطرت عليه الديمقراطية المسيحية طوال عقود، وقام لهدف أساسي هو كبح صعود الحزب الشيوعي، إلى أن تهشّم بفعل الفضائح والفساد، وانهار معه الحزبان الكبيران الاشتراكي والديمقراطي المسيحي اللذان تناوبا على السلطة في إيطاليا منذ سقوط موسوليني. من هنا يجد اليمين الأوروبي، التقليدي والجديد والناشئ، نفسه اليوم أمام زعامتين مختلفتين من حيث المسار والواقع السياسي. فيكتور أوربان، الذي ظهر في المشهد السياسي المجري عام 1989 زعيماً شاباً مناهضاً للشيوعية، تنقّل بين تجمّعات وأحزاب ليبرالية حتى انتخابه رئيساً للوزراء عام 2010. يومذاك قاد حكومة يمينية معتدلة إلى أن بدأت المفوضية الأوروبية تضغط عليه لإجراء تغييرات اقتصادية كان يرفض معظمها، أو يعجز عن تنفيذها، إلى أن راح يجنح نحو المواجهة الصدامية مع المؤسسات الأوروبية، بل ويطالب بالعودة إلى «جذور» المشروع الأوروبي وإعادة الصلاحيات إلى الدول الأعضاء، حتى أصبح القدوة التي ألهمت بعده العديد من قادة اليمين الأوروبي المتطرف. جورجيا ميلوني، من جهتها، هي وليدة التحول الذي شهده اليمين الإيطالي المتطرف في تسعينات القرن الفائت، إلى أن أصبح مقبولاً على الصعيد الأوروبي بفضل الذكاء الاستراتيجي الذي كان يتمتع به زعيمه (يومذاك) ورئيس مجلس النواب جيانفرنكو فيني، وتعاون سيلفيو برلوسكوني الذي كان يسعى إلى استقطاب أصوات اليمين من كل الاتجاهات. إلا أن ميلوني، التي تولّت إحدى الحقائب الوزارية في إحدى حكومات برلوسكوني، كانت لها الرؤية والشجاعة لتأسيس حزبها الخاص «إخوان إيطاليا» بالرصيد الضئيل الذي كان يملكه فيني مع حزب «التحالف الوطني». وعندما تولّى ماريو دراغي تشكيل «حكومة الإنقاذ الوطني» التكنوقراطية، انفردت ميلوني وحدها بمعارضة حكومته... لتغدو الملاذ الأول للناخبين اليمينيين بعد الفشل الذريع الذي أصاب حزب برلوسكوني المترهّل. > إيطاليا، كما يرى كثيرون، هي أقرب ما يكون إلى المختبر السياسي الأوروبي. والسياسة الإيطالية دائماً «مشفّرة» ليس من السهل قراءتها واستبيان مندرجاتها. والحقيقة أن الإيطاليين ليسوا في اليمين ولا في اليسار... ليسوا جمهوريين ولا ملكيين... بل إنهم يرفضون دائماً التموضع في مواقف متطرفة، أو الذهاب إلى المواجهة الصدامية لحسم الخلافات العقائدية. ومن هذا المنطلق يسهل فهم التقلبات التي طرأت على المشهد اليميني الإيطالي، والتي لم يرصدها المراقبون الأوروبيون قبل حدوثها أو حتى بعده. في البداية، تعرضت ميلوني لهجوم لاذع في وسائل الإعلام الأوروبية وكواليس العواصم الكبرى في الاتحاد. ولكن مع مرور الوقت اكتشف الأوروبيون زعيمة جديدة لليمين الأوروبي تحظى بنفوذ دولي غير مسبوق منذ أيام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ويوم الأربعاء الماضي، وبعد المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، وإطلاعه الأوروبيين على ما دار فيها، سارعت ميلوني إلى الاتصال بالبابا لاوون الرابع عشر للتنسيق معه حول العرض الذي قدمه الفاتيكان الأسبوع الماضي لاستضافة مفاوضات سلام بين موسكو وكييف. ويذكر أن رئيسة الوزراء الإيطالية جمعت نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين على مائدتها بُعيد تنصيب الحبر الأعظم؛ بهدف «فتح قناة» حوار بين واشنطن وبروكسل حول حرب الرسوم الجمركية. وثمة كلام أيضاً عن احتمال استضافة إيطاليا مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بمباركة أميركية وفاتيكانية. في أي حال، أسهُم ميلوني في الداخل الإيطالي مرشحة للصعود، أو الاستقرار في أسوأ الأحوال؛ نظراً للانقسامات الحادة في صفوف المعارضة. وهي إلى صعود أيضاً على الجبهة الأوروبية، شريطة ألاّ تسير في ركاب الرئيس ترمب وسعيه إلى التفرقة بين الشركاء الأوروبيين خلال الأشهر المقبلة. وللعلم، لعل ميلوني الوحيدة بين الزعامات اليمينية المتطرفة في أوروبا، التي صعدت إلى السلطة على متن الانتقاد المباشر للمؤسسات الأوروبية والعديد من سياساتها، لكنها منذ وصولها إلى الحكم تتصرف بحرص شديد على هذه المؤسسات وتسعى إلى تغييرها من الداخل. وتساعدها في ذلك التقلبات الجيوسياسية الأخيرة وانعطاف أقصى اليمين الأوروبي نحو الواقعية السياسية التي تفرضها ممارسة السلطة.


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
«الشرق الأوسط الجديد» كما يريده نتنياهو
بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إحدى قمم جبل الشيخ التي احتلها جيشه للتو، وأعلن عن بقاء إسرائيل في هذا المكان لفترة طويلة. وبعد ثلاثة شهور، في مارس (آذار) 2025، عاد إلى هناك ليقول: «لقد غيّرنا وجه الشرق الأوسط». أثار هذا التصريح ردوداً ساخرة من خصومه نتنياهو، الذين تساءلوا إن كان التغيير في صالح إسرائيل أم ضد مصالحها؟ لكن جوقة أنصاره النشيطين على الشبكات الاجتماعية احتفلوا بـ«الانتصار الكامل». أما أجهزة الأمن، ففتحت الجوارير وأخرجت الخرائط القديمة، التي أُعدت وفق خطط لتمديد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة. ولا غرابة؛ فإسرائيل تعِد خطط هيمنة واحتلال بعيدة المدى لكل دولة من «دول الجوار». وفي الحكومة الحالية أحزاب لا تكتفي بتلك الخطط، بل تريد أكثر. وهذه وإن بدت أحزاباً صغيرة ومتطرفة، فإنها ذات تأثير كبير على نتنياهو وعلى السياسة الإسرائيلية. وهي التي تمنع التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب وإلى صفقة تنهي ملف المحتجزين، وهي التي تمنع تنفيذ اتفاق وقف النار في لبنان، وتفرض «أمراً واقعاً» يمهد لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية. خطط التوسع الإسرائيلية، بالمناسبة، لا تقتصر على اليمين، بل تأتي أيضاً من الأجهزة الأمنية وأيضاً تحظى بدعم القيادة السياسية. بعضها خطط جديدة، لكنها مستنبطة من التاريخ، حين كانت الحركة الصهيونية تخطّط لبسط حدود الدولة «من النيل حتى الفرات»، والعَلم الإسرائيلي الذي يتألف من خطين أزرقين تتوسطهما «نجمة داوود» يرمز إلى هذه الحدود. إلا أنهم عندما «تواضعوا»، اكتفوا بضم مقاطع من الجنوب السوري والجنوب اللبناني والغور الأردني (شرقي النهر) وحتى غزة ومقاطع من سيناء المصرية. الفكرة معهد «مسغاف» للأبحاث وضع في مارس (آذار) الماضي، خطة لإسرائيل الجديدة، أطلق عليها اسم «إسرائيل 2.0». هذا ليس مجرد معهد دراسات، بل هو تابع لنتنياهو. وأُسس فقط عام 2023، ويترأسه مئير بن شبات، الذي عمل مستشار الأمن القومي في الحكومة وكان «رجل المهمات الخاصة» عند لنتنياهو ومبعوثه إلى الدول العربية والغربية. يقول المعهد في مقدمة المشروع «هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ليس أقلّ من جرس إنذار لدولة إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي. يدور الحديث عن حدث يغيّر قواعد اللعبة ويُلزم الدولة والمجتمع لإعادة التفكير السريع واستيعاب الضرورة في التكيّف والتغيير. على دولة إسرائيل أن تشهد عملية إعادة تنظيم شاملة، إلى جانب تغيير الأسطورة القومية وتكييفها مع الظروف المتغيرة. إسرائيل، التي كانت قائمة حتى السابع من أكتوبر، بروح التقاليد السيادية اليهودية على مرّ الأجيال، لنحو ثمانية عقود – عليها الآن أن تتجدّد، أن تُحدّث نفسها، وأن تعيد صياغة هويتها من جديد استعداداً للعقود المقبلة. من نواحٍ عديدة، يجب اعتبار هذه الحرب حربَ نهوض، حيث ينبثق من وسط الظلمة الشديدة نور كبير وتنبعث دولة جديدة، من بين الأنقاض». النهوض يعني أنه «لا بدّ من بلورة الأهداف الاستراتيجية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها ضمن إطار سياسي واسع النطاق قدر الإمكان، أي بمشاركة المعارضة في الكنيست، مع تنسيق منظومة تفاهمات استراتيجية شاملة قدر الإمكان مع الولايات المتحدة. ويجب أن تتضمن، بالضرورة، اتفاقات في القضايا الرئيسة التالية: القضاء على الخيار النووي الإيراني، والتوصل إلى تفاهمات مع تركيا بشأن البنية الجيوسياسية الجديدة في الشرق الأوسط وتقاسم المصالح في سوريا، ووضع حد لخرق مصر لاتفاقية السلام، واستغلال الفرصة التاريخية للعمل بمزيد من الاستقلالية، الحزم والمبادرة من أجل التأثير في رسم ملامح منطقة الشمال الإسرائيلية مستقبلياً. وبجانب العمليات العسكرية الناجحة لتدمير ما تبقّى من الجيش السوري، وتعزيز الوجود الإسرائيلي على الحدود مع سوريا، ينبغي التحرّك سياسيّاً لضمان ألّا يُشكّل النظام القادم في سوريا تهديداً لأمن إسرائيل». أيضاً، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل اليوم منصب وزير ثان في وزارة الدفاع، أيضاً نشر «خطة الحسم» (مجلة «هشيلواح») عام 2017، وأوضح أنه يرى في الأردن «دولة فلسطينية». وفي بداية الحرب تحدث نتنياهو نفسه عن ضرورة «إعادة هندسة الوعي العربي» ليتقبلوا إسرائيل، كما حصل مع اليابانيين في نهاية الحرب العالمية الثانية وكذلك مع الألمان. إذ كره اليابانيون جيشهم وكره الألمان النازيين، وراح الشعبان يشيدان بالولايات المتحدة «التي خلصتهم من أعباء هذا الإرث»، وإسرائيل القوية الممتدة على النطاق الواسع الحالي (أي أيضاً في سوريا ولبنان)، هي أقصر الطرق لتحقيق هذه القناعة». الجيش من جهته، تلقف أجواء الحكومة، وأعلن تعديل عقيدته الحربية في ضوء الإفادة من تجربة «7 أكتوبر»، فقرّر أن هجوماً على إسرائيل شبيهاً بهجوم «حماس» في ذلك اليوم، يمكن أن يُشَن من جميع «دول الجوار». ولذا؛ ثمة شكوك وقلق إزاء جميع الجبهات، وبناءً عليه ستكون حماية أمن إسرائيل بالاعتماد على الذات، وبتعزيز آلية الانتقال من الردع والدفاع، إلى الدفاع الهجومي، أي الهجمات الاستباقية. كذلك تقرّر إنشاء ثلاث «دوائر أمنية» مع «دول الجوار»: - الدائرة الأولى، «خط دفاع» قوي داخل الحدود الإسرائيلية مع حشود قوات وحفر خط دفاع على طول الحدود وتوفير شبكة إلكترونية محبوكة. - الدائرة الثانية، «حزام أمني» داخل «أرض العدو» على طول الحدود يحظر دخول أي إنسان إليه من دون ترخيص إسرائيلي («حزام أمني» كهذا موجود في الجنوب اللبناني وفي سوريا وفي غزة). - الدائرة الثالثة، إعلان «منطقة منزوعة السلاح» في عمق الدولة المجاورة (في سوريا حُددت من دمشق وحتى الجنوب والغرب، وفي لبنان من نهر الليطاني وجنوباً، وفي غزة كل القطاع). وبدأ بشكل عملي تطبيق الخطة. هكذا مهّد الجيش الطريق للقيادة السياسية اليمينية كي تتخذ القرارات السياسية التي تبين أن إسرائيل غيّرت نهجها، وتريد لنفسها مكانة مؤثرة في دول الجوار. وهي تفعل هذا على النحو التالي: آثار غارة إسرائيلية استهدفت موقعاً في محافظة حماه السورية (آ ف ب) بالنسبة لسوريا، عادوا لفتح الجوارير القديمة ليستلوا المشروع الصهيوني العتيق للسيطرة على أرض الجولان السوري ومنابع المياه فيها. ذلك المشروع طرحته القيادة الصهيونية عام 1919، إبان «مؤتمر فرساي»؛ في محاولة لتعديل «اتفاقيات سايكس بيكو». وعام 1925، طرحت الصهيونية فكرة تقسيم سوريا (ولبنان) إلى دويلات، بحيث تكون «جارة» إسرائيل العتيدة من الشرق دولة درزية. واشترت الحركة الصهيونية 450 ألف دونم من أراضي الجولان؛ تمهيداً لتطبيق الفكرة. ويوم 9 يناير (كانون الثاني) من 2025، قال مسؤول إسرائيلي كبير لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، إن «العالم يعمي أبصاره عن رؤية الخطر الكامن في النظام السوري الجديد؛ فقيادته، رغم ما تبديه من رغبة للتقرّب إلى الغرب، تعدّ جزءاً أصلياً من الجهاد الإسلامي العالمي. والرسائل الإيجابية في التعامل مع مصالح الغرب وحتى إسرائيل جزء من مخطط بعيد المدى (تتمسكن لتتمكّن)، وعندما تتمكّن ستظهر حقيقتها المعادية لإسرائيل وللغرب. قد يستغرق الأمر سنة أو سنتين أو 10 – 20 سنة، لكنها لن تحيد عن أهدافها الاستراتيجية». ويوم 8 مارس (آذار)، أعلن نتنياهو، وفق صحيفة «معاريف»، أن الجيش الإسرائيلي «لن يسمح لقوات الهيئة بالتمركز في أي منطقة جنوب دمشق، وسيحافظ على نفوذه هناك حتى توقيع اتفاق إسرائيل - سوري دولي ينهي حالة العداء ويؤسس السلام التام معنا، بكل ما يتطلب هذا من ضمانات لأمننا». وهنا بيت القصيد. إذ يكشف نتنياهو عن أن الضغط على سوريا اليوم يرمي إلى الوصول إلى «اتفاق سلام» ينهي حالة الحرب، وحالة الـ«لا حرب ولا سلم». وحتى ذلك الحين، يدير نتنياهو مفاوضات مع تركيا لتقاسم النفوذ بينهما على سوريا. إنه يريد سحب اعتراف من إدارة الحكم الجديدة في سوريا ومن تركيا بأنها - أي تل أبيب - كانت صاحبة التأثير الأكبر لسقوط نظام بشار الأسد، وبالتالي تطلب مكافأتها على ذلك. وعندما اكتفى أحمد الشرع بالإعلان أنه غير معني بالحرب ويلتزم باتفاق فصل القوات من عام 1974، قرّرت إسرائيل مخاطبته بلغتها المألوفة: الحديد والنار. فشنّت أكثر من 500 غارة حربية على مواقع الجيش السوري ودمرت «نحو 85 في المائة من قدراته الدفاعية»، كما زعمت. وواصلت شن الغارات من مطار حمص حتى قلب دمشق واحتلت كل قمم جبل الشيخ و400 كلم مربع من الأراضي الواقعة شرقي الجولان المحتل من سنة 1967. البروفسور آفي برئيلي، المؤرّخ في جامعة بن غوريون بالنقب، يقول: «إن أقل ما يمكن أن تقبله حكومة بنيامين نتنياهو من سوريا اليوم هو تقاسم النفوذ مع تركيا». ويتابع في صحيفة «يسرائيل هيوم» (عدد الثلاثاء) إن «المصلحة الواضحة لإسرائيل هي تجنب الصراع المباشر مع تركيا، الآن طبعاً، ما دام لا يزال التهديد الإيراني قائماً، ولكن أيضاً في المستقبل. لا نريد أن نواجه دولة قوية وعضواً في (ناتو). كما أن للولايات المتحدة مصلحة في منع صراع بين حليفين رئيسين لها، تأمل من خلالهما تحقيق الاستقرار في المنطقة. ومن أجل تجنب الصراع، يتطلب الأمر تقسيماً واضحاً: تركيا والنظام الذي أنشأته في دمشق سيتفهمون وجودنا وتأثيرنا في الشام وجبل الدروز، ولن يثيروا ضدنا السُّنة في محافظة درعا كما حدث أخيراً؛ بينما ستتجنب إسرائيل دعم الأكراد السوريين، أعداء تركيا، في الشمال والشرق. هذا التقسيم الواضح بين تركيا وإسرائيل في سوريا هو مفتاح استقرار المنطقة». ولكن بنيامين نتنياهو، كان قد ألمح لأمر آخر هو «جلب» سوريا بقيادتها الجديدة الى «اتفاقيات إبراهيم». والهدف ليس التوصل إلى السلام القائم على احترام حدود وموارد كل دولة للأخرى، بل انتهاز الفرصة التي تبدو فيها سوريا في أضعف أحوالها كي يضم أكبر قدر من الأراضي السورية لإسرائيل بدءاً بالجولان الغربي وحتى الجنوب. حكومة تل أبيب مقتنعة بأن «العرب لا يتألمون ولا يشعرون بنتائج هجماتهم البدائية إلا إذا أخذت منهم أرضاً». وبالإضافة للأراضي التي يسيطرون عليها اليوم يتكلم الإسرائيليون عن «محور داوود»، من جنوب الجولان وحتى التنف، ومن هناك إلى دير الزور والحدود مع كردستان العراق، وتريد إسرائيل السيطرة عليه في حال غادر الأميركيون المنطقة. الجيش الإسرائيلي أعلن تعديل عقيدته الحربية بعد «7 أكتوبر» خوفاً من هجوم واسع لا يختلف الموقف من لبنان كثيراً عن الموقف من سوريا. فبحسب الرسالة المذكورة إلى فرساي طلبت الصهيونية قبل أكثر من 100 عام ضم الجنوب اللبناني من الليطاني إلى تخوم الدولة العبرية العتيدة. وعندما طرحت فكرة «الدولة الدرزية» عام 1925، قصدت تفتيت الطائفة العربية عملياً، وهي التي كانت موحّدة مع عرب الشام تحت قيادة زعيم الثورة السورية سلطان باشا الأطرش، وهو الدرزي الذي سارت وراءه وتحت قيادته جميع الطوائف. وعام 1946 اقترحت مجدداً إنشاء دولة درزية، وأوضحت أنها تقصد ضم العرب الدروز من لبنان ومن سوريا معاً. ولما أفشلت القيادة الدرزية ذلك المخطط، راحت تخطط للبنان أن يكون «دولة مسيحية» منسلخة عن بقية الطوائف. وتدخّلت بعمق في السياسة اللبنانية، حتى قبل حراك الثورة الفلسطينية في لبنان. وإبّان الحرب الأهلية تحوّلت إسرائيل لاعباً فاعلاً ونشطاً. وحتى عندما انسحبت إسرائيل من لبنان، بشكل أحادي الجانب، عام 2000، لم تترك لبنان لحاله، بل واصلت التدخل والعبث بشؤونه الداخلية. ولعل أكبر مثل لعمق هذا التدخل، هو جمع المعلومات الاستخبارية وتنفيذ عمليات اختراق من «الموساد» لأدق المواقع والأطر، وعلى رأسها «حزب الله»، والتي مكَّنتها من القيام بعملية الاغتيال الجماعي لنشطائه بواسطة أجهزة الاتصال المفخخة وتصفية قياداته العليا والوسطى، من حسن نصر الله ونازلاً. وهي تحتل راهناً تسع مناطق في الجنوب اللبناني «لفترة طويلة»، إلى حين تقتنع بأن الجيش يسيطر على المنطقة. على الرغم من اتفاقيات السلام والتنسيق الأمني مع الأردن منذ عام 1994، لم يتنازل اليمين الإسرائيلي عن حلمه تحويل الأردن دولة فلسطينية بدلاً من أن يكون المملكة الهاشمية. وطموحه هو أن تطرد إسرائيل أكبر عدد من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة إليه. وهو لا ينفي ذلك، بل يتحدث عنه علناً ويجعله جزءاً من مشروعه السياسي الرسمي. إن مصيبة إسرائيل أنها تؤمن بأن قوتها العسكرية تجعلها قادرة على تحقيق هذه الطموحات. ولقد انتقد هذا التوجه، حتى البروفسور أفرايم عنبار، مدير المعهد الأورشليمي للاستراتيجية والأمن، الذي يعتبر معقلاً للعقائديين اليمينيين، وقال في دراسة نُشرت مطلع الشهر الحالي: «قدرة إسرائيل أو جهات فاعلة من خارج المنطقة، وحتّى قوى عظمى، على هندسة دول في الشرق الأوسط سياسيّاً قدرة محدودة جدّاً. لقد فشلت إسرائيل عند دخولها إلى بلاد الأرز في عام 1982 في محاولة لتغيير الحكومة في لبنان. ولم تنجح الولايات المُتّحدة، التي تملك جيشاً ضخماً وموارد هائلة، على فرض نظام ديمقراطيّ موالٍ للغرب في أفغانستان والعراق. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الاتّحاد السوفياتيّ، الذي عمل في أفغانستان عسكريّاً». وأخيراً، يقول اللواء احتياط يسرائيل زيف، المعلّق في «القناة 12» في التلفزيون الإسرائيلي، إن «العجلة تدور. بينما يصرّ نتنياهو على الحرب، يعيد العالم ترتيب الشرق الأوسط من دوننا... لقد فاتنا القطار».


الشرق الأوسط
منذ ساعة واحدة
- الشرق الأوسط
المفاوضات الروسية ــ الأوكرانية تواجه مأزق اختلاف الأولويات
لم يتوقع أي طرف من الفاعلين الرئيسيين في الصراع الروسي الغربي، في أوكرانيا وحولها، اختراقات كبرى في جولة المفاوضات المباشرة الأولى من نوعها منذ ثلاث سنوات. إذ ذهبت الوفود إلى إسطنبول، تسبقها سجالات حادة حول مستوى التمثيل، وأجندة الحوار المنتظرة، وسقف التقدم الذي قد يسمح للبعض بالحديث عن نجاح محدود. ومع أن الضغط المباشر الذي مارسته إدارة الرئيس دونالد ترمب على الطرفين الروسي والأوكراني لعب دوراً حاسماً في انعقاد الجولة الخاطفة، لكنها لم تستمر سوى ساعتين. وأثمرت اتفاقاً محدوداً على تبادل الأسرى، وتفاهماً على العودة إلى طاولة المفاوضات بـ«ورقتي عمل»، يحدد كل طرف فيها رؤيته لآفاق السلام. بيد أن هذه النتيجة ليست كافية لإعلان انطلاق مسار السلام في أسوأ أزمة سياسية وعسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، زلزت أوروبا ورمت بثقلها على العالم كله. لقد اتضح أن وعود الرئيس دونالد ترمب الانتخابية بوقف الحرب الأوكرانية في 24 ساعة، لم تكن خيالية فقط، بل عكست تجاهلاً مريعاً لأبعاد الصراع وتعقيداته الكثيرة. كذلك أظهر اللقاء المحدود مستوى التباعد، الذي خلقته الحرب خلال السنوات الثلاث الماضية بين الروس والأوكرانيين، ليس على المستوى السياسي فحسب، بل على صعيدي البُعدين النفسي والإنساني أيضاً، لدرجة أن الوفدين اللذين يتقن كلاهما جيداً اللغة الروسية تكلما بالإنجليزية عبر مترجمين. ثم إن الأهم من ذلك برز مع اتضاح مستوى التباين في أولويات الطرفين، إذ مقابل «شروط بوتين» للوصول إلى تسوية شاملة ونهائية، التي وصفها الأوكرانيون بأنها «تعجيزية»، هدفها إحباط أي تقدم محتمل، أصرّ الجانب الأوكراني على التمسك بورقة الهدنة المؤقتة التي تحظى بدعم أوروبي كامل. بوتين كان قد أعلن قبل أسبوع أنه مستعد لمفاوضات «من دون شروط» رداً على طلب مُلِحّ من جانب قادة أوروبيين، وبدعم أميركي، بإعلان هدنة مؤقتة لمدة شهر، ولكن في الواقع جرت جولة المفاوضات بشروط وضعها بوتين بنفسه. فهو حدّد «الخطوط الحمراء» التي لا يمكن تجاوزها عند التطرق إلى أي حوار مباشر مع الأوكرانيين، أولها أنه لا كلام مسبقاً عن هدنة، وأي وقف لإطلاق النار يجب أن يكون نتيجة الحوار، وليس مقدمة له. أيضاً، بوتين اختار مكان وزمان عقد المفاوضات. وبالذات، في إسطنبول في القصر الرئاسي الذي استضاف المفاوضات قبل 3 سنوات، ليقول للأوكرانيين: رفضتم عروضاً سابقة هنا، والآن تعودون للمكان ذاته وأنتم أضعف ونحن أقوى. لكن شروط بوتين، التي يمكن وصفها بأنها تشكل «استراتيجية التفاوض» الروسية لا تقتصر على ذلك. إذ إن المفاوضات الحالية تنطلق من المكان نفسه الذي توقفت فيه المفاوضات في مارس (آذار) 2022، ولكن مع مراعاة التغيرات الميدانية التي وقعت خلال السنوات الثلاث الماضية. المغزى الواضح أنه لا مكان للكلام عن تراجع روسيا عن ضم 4 مقاطعات أوكرانية، فضلاً عن ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، والاحتمال التفاوضي قد يتعلق بالحدود الإدارية لهذه المقاطعات فقط، التي لا تسيطر عليها روسيا بشكل كامل عسكرياً. والمقصود أن هامش المناورة يراوح عند خطوط التماس الحالية، وتستحيل تماماً العودة إلى حدود عام 1991 عندما أعلنت أوكرانيا استقلالها بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي. الشرط الثاني الرئيسي لبوتين اتضح مع رفض أي وجود لأوروبا على طاولة الحوار. وتمسك وزير الخارجية برفض التكلم مع الأوروبيين الذين يواصلون «السعي إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بموسكو». وهذه العبارات أوضحتها لاحقاً الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، عندما قالت إن موسكو ترفض بحزم مشاركة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا في المفاوضات، انطلاقاً من مواقف هذه العواصم في الدعم العسكري لكييف. هنا يقول مقرّبون من الكرملين إن بوتين يرفض أي مشاركة لأوروبا في جولات التفاوض، وإن عرضه للمفاوضات اقتصر على قبول رعاية تركية أميركية. طبعاً، يدرك الكرملين أن الحضور الأوروبي سيكون مطلوباً في مرحلة لاحقة عند التطرق إلى ملفات الأمن في أوروبا وقضايا التسلح في إطار اتفاقية سلام شاملة، لكن رفض المشاركة الأوروبية حالياً هدفه الضغط لتقليص الدعم العسكري لأوكرانيا، ورفض أفكار أوروبية حول هدنات مؤقتة يمكن استخدامها لتسريع عمليات التسليح وإعادة تأهيل الجيش الأوكراني. وأيضاً، رفض الحضور الأوروبي مرتبط بأهمية إفشال أي افكار قد تؤسس لاحقاً لطرح فكرة وجود قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا، وهو أمر ترفضه موسكو بشكل قاطع. الشرط الثالث المهم لبوتين هو ضمان موضوع حياد أوكرانيا المستقبلي، ورفض إعادة تسليح جيشها. وهنا يقول الرئيس الروسي إنه يريد وثيقة مكتوبة وموقعة بهذا الشأن. وهذا يتعارض مع المطالب الأوروبية بضمانات أمنية مستقبلية، ومع تعهدات أميركية بمواصلة حماية مصالح أوكرانيا. الخطاب التفاوضي الصارم للروس، الذي تجسد في الجلسة الخاطفة، بمطلب انسحاب القوات الأوكرانية من المناطق التي ضمّتها روسيا ولم تنجح لتاريخه في السيطرة عليها عسكرياً بالكامل، تعاملت معه أوكرانيا وأوروبا بأنه مطلب للاستسلام. وأصرّت على أولوية الهدنة المؤقتة لتمهيد الطريق لأي جولات تفاوضية حقيقية في المستقبل. الرئيس الروسي فاديمير بوتين (آ ب) لكن تباين الأولويات لم يظهر في الشقّ المتعلق بالعلاقة الروسية الأوكرانية، والرؤية المطروحة لشكل التسوية المحتملة فقط. بل ظهر أيضاً في آلية تعامل كل من موسكو وواشنطن مع ملف التسوية ومع أولويات الحوار الروسي الأميركي كله. واتضح هذا مع انطلاق جولة المفاوضات. ففي حين ركّز ترمب على أهمية عقد لقاء سريع «يدفع عملية السلام في أوكرانيا»، فضّل الكرملين التأكيد على ضرورة «إطلاق تحضيرات وإعداد دقيق لقمة شاملة تبحث كل الملفات المطروحة على الطاولة، وبينها الوضع في أوكرانيا». وجاء ردّ الكرملين سريعاً على دعوة ترمب لعقد لقاء عاجل مع بوتين. فأعرب الرئيس الأميركي عن قناعته بأن «العالم سيصبح أكثر أماناً خلال أسبوعين إلى 3 أسابيع» بمجرد ترتيب اللقاء المنتظر مع بوتين. لكن الكرملين رأى أن «مثل هذه اللقاءات يتطلب تحضيراً واسعاً وإعداداً دقيقاً»، وبدا أن التباين بين الطرفين ينحصر برؤية كل طرف للأهداف المتوخاة من القمة المنتظرة طويلاً. وفي حين ركّز ترمب على ملف أوكرانيا وقضايا الأمن، رأى الكرملين وجوب أن تكون القمة شاملة، وتناقش كل الملفات المطروحة على أجندة الطرفين. أكثر من ذلك، وجّهت موسكو رسالة مباشرة لترمب بأن حضوره الشخصي عملية التفاوض «ليس ضرورياً، بل قد يأتي بنتائج عكسية». وقلّل روديون ميروشنيك، سفير المهام الخاصة في الخارجية الروسية، من أهمية تدخل ترمب بشكل مباشر في ملف التسوية في أوكرانيا. وأوضح السفير المكلف بإدارة ملف «الانتهاكات وجرائم نظام كييف» أن موسكو «تثمن عالياً رغبة إدارة الرئيس الأميركي بحلّ الصراع في أوكرانيا سلمياً، لكننا نحتاج إلى تفاصيل ومناهج عملية وعمل دؤوب وجادّ، ونحن مستعدون لهذا العمل». كذلك علق على قول إنه «من دونه لن ينجح شيء»، بالتأكيد على أنه «يمكن إجراء المفاوضات ببساطة من دون مشاركة ترمب. ولم تكن مشاركة ترمب الشخصية متوقعة، طبعاً، لأن هذه مبادرة روسية. إنها مفاوضات عمل يجب أن تُشكّل موقفاً موحداً، وأن تجد خيارات تسوية، وتصنفها، وتضعها على الورق، وتبلوِر مشاريع. مثلما حدث مع جولة المفاوضات السابقة في 2022، عندما ظهرت وثيقة معيّنة وقّع عليها الطرفان بالأحرف الأولى. ولذا، فإن فريقي التفاوض حالياً مدعوان لإنجاز هذه المهمة». خلف هذا السجال، تظهر فكرة أميركية رفضها الروس بشدة. فواشنطن عملت لدفع «تسوية إلزامية» بطريقة ترمب، أي عبر ترتيب لقاء رئاسي أولاً، يجمع بوتين وترمب، ثم بوتين وترمب وزيلينسكي، ربما بحضور الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، ما يضع إطاراً تفاوضياً إلزامياً يسبق شروط الطرفين. لقاء من هذا النوع كان ليمنح دفعة جدية للجهود المبذولة، ويضع العملية التفاوضية على مسار لا رجعة فيه. لكن الكرملين فضّل التريث لحين اتضاح الملامح الأولية للعملية التفاوضية، بعد أن يقدم الجانبان الروسي والأوكراني رؤيتيهما لشكل الحوار وأولويات كل طرف فيه. أمر مهم هنا، أن بوتين لو ذهب فعلاً إلى إسطنبول، فسيذهب للقاء ترمب وإردوغان، وليس للجلوس على طاولة مفاوضات مع زيلينسكي. ولقد عكس تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف، الذي وصف كلام زيلينسكي عن ضرورة حضور بوتين اللقاء، أن مستوى الفهم الروسي للعلاقة مع الرئيس الأوكراني حالياً «مثير للشفقة». لذا، حرص ترمب بعد الجولة التفاوضية مباشرة على إجراء اتصال هاتفي حاسم مع بوتين. وسبق الاتصال تلميحات أميركية لتدابير محددة، بينها الموافقة على رزمة عقوبات قاسية اقترحها أعضاء في الكونغرس، من شأنها وضع قيود صارمة على الأطراف والبلدان التي ما زالت تنتهك العقوبات الحالية وتتعامل مع روسيا. وأيضاً لوّحت واشنطن بانسحاب أميركي من العملية التفاوضية إذا فشلت جهودها الحالية. هذا التطور دفع بوتين للموافقة على فكرة «الهدنة المؤقتة» بشروط محددة. على رأسها؛ إعداد مذكرة تفاهم توضح آليات الهدنة المقترحة، وطريقة التعامل مع الرقابة عليها. هذه المناورة وُصفت في كييف بأنها محاولة لكسب الوقت والمماطلة. لكن ترمب تمسك بها، ودعا الطرفين الروسي والأوكراني إلى بدء المفاوضات فوراً، ومن دون وسطاء، للتوصل إلى تفاهم في هذا الشأن. ولاحقاً، أعلن وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، أنّه يتوقع أن تعرض روسيا «خلال أيام» شروطها لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع أوكرانيا، معتبراً أنّ هذه الخطوة ستسمح لواشنطن بتقييم مدى جدّية موسكو في سعيها للسلام. في المقابل، بدا الموقف الأوروبي أكثر تحفّظاً وتشكيكاً بنيّات موسكو. وأقرّ الاتحاد الأوروبي رسمياً الحزمة السابعة عشرة من العقوبات على موسكو، مستهدفاً 200 سفينة من أسطول «الشبح». وأيضاً هاجم كيريل دميترييف، رئيس صندوق الاستثمار المباشر الروسي، والمفاوض الاقتصادي الرئيس مع واشنطن، هذا القرار بالقول: «يبذل السياسيون ووسائل الإعلام الغربية جهوداً جبارة لتعطيل الحوار البنّاء بين روسيا والولايات المتحدة». روبيو قال إن ترمب يعارض حالياً فرض عقوبات جديدة خشية امتناع روسيا عن المجيء إلى طاولة المفاوضات. وأبلغ مصدر مطلع «رويترز» أن ترمب اتصل بزعماء أوكرانيا وأوروبا إثر مكالمته مع بوتين وأخبرهم بأنه لا يريد فرض عقوبات الآن، بل إتاحة الوقت للمباحثات. تزامناً، أعلنت أوكرانيا أنها ستطلب من الاتحاد الأوروبي الأسبوع المقبل بحث خطوات جديدة كبيرة لعزل موسكو، تشمل مصادرة أصول روسية وفرض عقوبات على بعض مشتري النفط الروسي. وستُقدم وثيقة أوكرانية إلى التكتل الذي يضم 27 دولة لاتخاذ موقف مستقل أكثر صرامةً بشأن فرض العقوبات في ظل الضبابية التي تكتنف دور واشنطن مستقبلاً. وستشمل الوثيقة المتضمنة 40 صفحة من التوصيات، دعوات لتبني تشريع «يسرِّع» مصادرة الاتحاد الأوروبي أصول الأفراد الخاضعين للعقوبات وإرسالها إلى أوكرانيا. ويمكن حينئذٍ للخاضعين للعقوبات المطالبة بتعويضات من روسيا. عموماً، تظهر تحركات اللاعبين الأساسيين مستوى التباين في الأهداف والآليات المقترحة لتسوية الصراع، وتؤكد صعوبة التوصل إلى تدابير سريعة لوقف الحرب وإطلاق عملية سياسية جادة. في غضون ذلك، بدا أن الاستعدادات الجارية لتسريع وتيرة المفاوضات وتقريب احتمال إعلان «هدنة مؤقتة» تمهد الطريق لمفاوضات السلام النهائية، تجري بالتزامن مع تصعيد الطرفين الروسي والأوكراني استعداداتهما لتصعيد ميداني في حال فشلت جهود التهدئة الحالية. كييف تزعم أن موسكو تواصل حشد آلاف الجنود على طول الحدود بالقرب من منطقتي سومي وخاركيف، مع توقع محاولة توغل واسعة في المنطقة. ووفق خبراء عسكريين، وضعت موسكو خططاً لإنشاء «منطقة عازلة» على طول الحدود مع المنطقتين اللتين شكَّلتا نقطة انطلاق مهمة للقوات الأوكرانية التي هاجمت كورسك ومناطق مجاورة ونجحت الصيف الماضي في السيطرة على أجزاء واسعة من المقاطعة الروسية، قبل نجاح الروس في طرد القوات الأوكرانية منها قبل أسابيع بعد معارك ضارية استمرت لأشهر. وتشير مصادر أوكرانية إلى أن بوتين قد يضع بين أهدافه، في حال انهارت جهود الهدنة، محاولة فرض سيطرة مطلقة على مدينة خاركيف، التي تقول السردية الروسية إنها بين أبرز «المدن الروسية» في أوكرانيا الحالية. وكان بوتين قد زار قبل يومين منطقة كورسك للمرة الأولى منذ إعادة فرض سيطرة الجيش الروسي عليها الشهر الماضي. والتقى حاكمها بالإنابة ألكسندر خينشتين، وممثلي منظمات تطوعية. ونقل بيان الكرملين عن خينشتين قوله إن «عملية لإزالة الألغام» تجري حالياً في منطقة كورسك، حيث «تُزال عشرات العبوات الناسفة يومياً». هذا، وبثّ الكرملين صوراً للقاء بين بوتين ومتطوعين، حول طاولة كبيرة وهم يتناولون الشاي والسكاكر. واقترح إنشاء متحف مخصص «للأحداث التي وقعت في منطقة كورسك خلال 2024 و2025 من أجل الحفاظ على ذكرى ما جرى هنا، وذكرى بطولة المدافعين عنا»، وهي فكرة حظيت بدعم بوتين. أيضاً، أعلن الرئيس الروسي خلال الزيارة خططاً لإعادة الإعمار في المنطقة. وتجول في محطة الطاقة النووية «كورسك 2» قرب المدينة، مذكّراً بـ«ذراع روسيا النووية الطويلة» إذا تعرض أمنها ووجودها لخطر أو تهديد. في المقابل، تقول مصادر روسية إن أوكرانيا تؤدي دورها بتحضيرات لتصعيد عسكري في حال فشل جهود التهدئة. ووفق تقارير، فإن كييف تواصل تجهيز أفواج من طائرات مسيَّرة حديثة لمهاجمة المدن الروسية. ويبدو أن الضغط العسكري من الجانبين يواكب مسار التحضير للمفاوضات، إذ تبادلت موسكو وكييف ضربات جوية خلال اليومين الماضيين، وشنّت مسيَّرات أوكرانية هجمات قوية على موسكو ومدن أخرى خلال الأيام الأخيرة، بينما تعرضت مدن أوكرانية لهجمات صاروخية ومدفعية مكثفة في الفترة نفسها.