
"بلاك ميرور 7".. كوابيس رقمية وأصابع بشرية
يقدم المبدع البريطاني تشارلي بروكر في الموسم السابع من مسلسله "بلاك ميرور" (Black Mirror) 6 حلقات ترقى لأن تسمى أفلاما؛ لا لأن زمن كل منها يناهز ساعة ونصف الساعة فحسب، بل لأنه يوظف خصائص اللغة السينمائية من اختزال وبلاغة بصرية تتجاوز السرد التلفزيوني التقليدي.
الأهم أن الدراما المتفردة في كل حلقة، وفي الموسم إجمالا، تطرح أسئلة حول تصنيفها ضمن المواضيع المعروفة، إذ تحمل من الابتكار والتجديد ما يؤهلها لاستحداث مواضيع جديدة.
منذ انطلاقه عام 2011، أعاد "بلاك ميرور" تعريف التأمل البصري على الشاشة، كاشفا بمرآته السوداء المتشائمة ذلك التقاطع القاتم -وأحيانا البائس- بين التكنولوجيا والطبيعة البشرية. تدفع كل حلقة مستقلة المشاهد إلى مستقبل قريب، أو إلى حاضرٍ يقلق لشبهه بذلك المستقبل، إذ لم تعد أجهزتنا ورغباتنا وبياناتنا أدوات وحسب، بل مرايا تعكس أعمق مخاوفنا.
ولا يكتفي صناع العمل بإدانة التكنولوجيا الرقمية بوصفها الفاعل الرئيس، بل يصدمون المتلقي بحقيقة أن مصدر العتمة والظلم ليس التقنية ذاتها، بل شخص يرتدي ثيابا أنيقة ويقبع في زاوية عمياء قريبة.
مآسٍ إنسانية وبطولة رقمية
تنساب حبكة حلقة "أناس عاديون" إلى المُشاهد برفق ودون مؤشرات تنذر بما سيأتي، حتى يتبين له في لحظة حاسمة أنه انجرف عاطفيا إلى قلب مأزق عنيف يشكل ذروة الحدث، وذلك منذ الحلقة الأولى. تبدأ الحكاية في سكون مع زوجين لا يعكر صفو سعادتهما سوى محاولاتهما العقيمة للإنجاب. لكن الهدوء يتبدد حين تتعرض الزوجة (أماندا) لحادث خطير. يسارع الزوج (مايك) إلى التعاقد مع شركة "ريفرمايند" التي تروّج لنظام تقني متقدم يبقي زوجته حية مقابل رسوم شهرية لا تختلف، ظاهريا، عن اشتراكات الإنترنت، غير أن الكلفة تتصاعد باطراد بعد بدء التجربة.
لا يدين صناع العمل التكنولوجيا الرقمية في حد ذاتها، بل يضعون المجتمع أمام مرآة تكشف وجوه الاستغلال والجشع، والرغبة في الربح ولو على حساب أقدس حقوق الإنسان؛ حق الحياة. ويعزز الأداء الآلي لموظفي "ريفرمايند" الإحساس بالطبيعة التجارية للشركة التكنولوجية، البعيدة تماما عن الاعتبارات الإنسانية.
وفي الحلقة الثانية "البطة السوداء" تحتفل ماريا بنجاحاتها المتواصلة كمديرة تنفيذية في شركة شوكولاتة، لكن ظهور زميلة الدراسة التي كانت محل تنمر الجميع يفسد عليها هذا النجاح، والغريب أن الزميلة "فيريتي" تستطيع تحويل الحقائق الصلبة نفسها إلى أكاذيب لا يمكن تصديقها، وتلعب بحواس كل العاملين في الشركة. تقرر ماريا الدفاع عن نفسها، لتكتشف أن فيريتي المعروفة بتميزها في التكنولوجيا الرقمية تستطيع باستخدام تلك التكنولوجيا أن تقلب الحقائق، وأنها جاءت خصيصا للانتقام.
صنع تشارلي بروكر كاتب العمل حالة تواز بين الصديقة التي استخدمت الديجيتال في تغيير إدراك المحيطين بها وقلب أكثر الحقائق وضوحا في لحظات، وبين ماريا التي ينبع نجاحها من مزج بعض العناصر لصنع مذاق مختلف لنوع جديد من الشيكولاتة. وظهرت المفارقة بين النموذجين (ماريا وفيريتي) حين ظهر الصدام بينهما، فكان لا بد أن تدمر كل منهما الأخرى.
وحرص المخرج على استعراض مشاهد من الماضي، ليتمكن المشاهد من المقارنة بين حيوية الماضي وإنسانيته، وآلية الحاضر وانعدام الروح فيه.
وودي آلان والحنين
على طريقة المخرج الأميركي وودي آلان في فيلمه "وردة القاهرة القرمزية" 1985 (The Purple Rose of Cairo)، إذ أحبت بطلة العمل بطل فيلم سينمائي أثناء مشاهدتها له، ومن ثم غادر الفيلم من خلال الشاشة وخرج إليها، فإن الحلقة الثالثة من "بلاك ميرور" تصنع مفارقة شبيهة، وهي المعنونة "فندق ريفيري".
تبدأ أحداث "فندق ريفيري" حين تقع نجمة هوليود براندي فرايدي في فخ إعادة إنتاج فيلم رومانسي كلاسيكي، ولكن بطريقة رقمية مدهشة، إذ يتم إدخالها إلى الأحداث لاستبدالها بالبطل وذلك من خلال وضعها في حالة غياب عن الوعي، ووضع ذلك الوعي داخل الفيلم، وهي طريقة في صناعة الأفلام قد تظهر في الغد القريب. أثناء تنفيذ المشاهد الخاصة بالنجمة الهوليودية تنحرف عن النص، فتنحرف الأحداث في اتجاه آخر، وهكذا تبدأ متاهة رقمية لانهائية ضحيتها نجمة من هوليود وشركة إنتاج أرادت استعادة أمجادها القديمة.
وحرص صناع العمل على وجود تصاميم ديكور فخمة وأساليب تصوير سينمائي عتيقة تعيد إحياء العصر الذهبي لهوليود، مع الانتقالات السلسة بين المشاهد التي تطمس الخط الفاصل بين الأداء والواقع.
المتاهة الأبدية
وكما انتهت بطلة الحلقة الثالثة إلى متاهة أبدية، فإن الحلقتين الرابعة والساسة تنتهيان إلى متاهتين، الأولى يضيع فيها العالم كله في "لعبة فيديو"، والثانية يضيع فيها فريق داخل لعبة أخرى، لا تنتهي. في الحلقة الرابعة يفاجأ المشاهد بشخص انطوائي يدعى "كاميرون" مهووس بلعبة فيديو من التسعينيات، ومشتبه به في جريمة قتل.
يقبض على "كاميرون" بالمصادفة، ليتم استجوابه، وبينما يجيب عن أسئلة المحققين عمليا باستخدام الكمبيوتر ليشرح ما حدث، فإنه ينفذ جميع متطلبات الوصول إلى النهاية، ليتحول العالم بأكمله إلى حالة أخرى بعد أن تخرج كائنات اللعبة إلى الواقع وتسيطر على العقول.
لعب مخرج العمل منذ البداية على فكرة التداخل بين تفاصيل الواقع الحقيقي والواقع الافتراضي، ولم يكن الإيقاع متسقا تماما، وهو أمر مقصود ليرى المشاهد أنه لا يستطيع التنبؤ بنهاية غريبة مثل تلك التي انتهت بها الحلقة، إذ تبتلع اللعبة العالم.
وفي الحلقة السادسة "نحو اللانهاية"، يستحضر صناع العمل عالم أفلام "حرب النجوم"، ولكن على طريقتهم، إذ يموت قائد السفينة الفضائية يو إس إس كالستر، فيخوض طاقمها بقيادة الكابتن نانيت كول معركة من أجل البقاء في عالم ألعاب لانهائي يعجّ باللاعبين العدائيين، ولكنهم يكتشفون أن الخيانة قديمة، إذ استنسخ القائد الراحل نسخة رقمية من كل واحد منهم، وأدخلهم اللعبة بشكل غير قانوني دفع كل اللاعبين إلى استهداف الفريق.
وفي الحلقة الخامسة التي جاءت تحت عنوان "تأبين"، نجد رجلا وحيدا، وحزينا، تخطى منتصف العمر، يشارك في تأبين امرأة يزعم أن علاقته به سطحية، وأنه لا يجد ما يساعد على استدعاء الذكريات معها، لكن الدخول الرقمي إلى تفاصيل صور فوتوغرافية يكشف مفاجآت. حرص المخرج على تحويل الصور الفوتوغرافية إلى عالم واقعي تماما للمشاهد، وتميزت الانتقالات بين الذكريات والحاضر بتركيز خفيف واختفاء تدريجي للصورة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
'المرآة السوداء'.. مخاوفنا القديمة في مرايا مستقبل التكنولوجيا المظلم
لطالما كان هلاكنا في نظام تشغيلنا نحن سادة الكون، فنحن نصنع كل هذه الأدوات السحرية، لكن الهمجية لا تزال متأصلة في عقولنا، رؤوسنا مليئة بالبرمجيات المعيبة ذاتها، مثلما كانت قبل آلاف السنين، محرومة من أي تطور. في زمن إنسان الكهف، كان العنف ضروريا للعيش، أما الآن فقد صار السبيل الوحيد لنجاتنا -نحن جنس البشر- أن نتعاون معا، لكننا لا نستطيع ذلك لأننا ما زلنا محكومين بالخوف، ما زلنا متملكين وأنانيين، متعجرفين وعنيفين. يأتي هذا الحوار الذاتي الحكيم ضمن حلقة 'لعبة' من الموسم السابع من مسلسل 'المرآة السوداء' (Black Mirror 7)، على لسان عجوز مهوس بكائنات صفراء صغيرة، تسكن عالما رقميا للعبة اخترعها عبقري مجنون، وتحاول هذه الكائنات السيطرة على البشرية، لتخليصها من خوفها الأبدي، وهي تسمى الحشد، ولها حياة ووعي. ما تقترحه هذه الحكاية الغريبة أن العقل البشري أقرب لحاسوب، وأن الحشد رموز برمجية مكتوبة، تستطيع النفاذ إلى عقلك مباشرة، ثم إعادة برمجته. هل الوعي البشري برمجية يمكن اختراقها؟ تنتمي هذه الحلقة إلى دراما الإثارة النفسية والتحقيق، ومع ذلك تأتي نهايتها المفتوحة بفيض من الأسئلة ذات الجوهر الفلسفي، مثل التساؤل عن الطبيعة الحقيقية للوعي البشري، وعن ما إذا كنا نسير في الحياة بما يشبه البرمجيات الموروثة، أو التي دونتها في عمق الوعي نشأتنا وبيئتنا، وما الأخطار التي تواجهنا في المستقبل، وهل يمكن التأثير علينا واختراقنا بمثل هذه السهولة؟ وما معنى الإرادة الحرة في ظل هذه المعطيات؟ هذه الأسئلة بالتأكيد هي أفضل ما يمنحه لمشاهديه مسلسل 'المرآة السوداء'، الذي يرى البعض أنه مسلسل الخيال العلمي الأفضل والأعمق تأثيرا خلال الـ15 عاما الماضية. واقع اليوم هو مستقبل الأمس سئل مبدع المسلسل 'تشارلي بروكر' في حوار حول الموسم السابع، هل ستستمر حلقاته إلى الأبد؟ فقال إن التطور التقني السريع يمنحه إلهاما أكثر مما حلم به ذات يوم. يستطيع 'بروكر' الآن أن يبتكر حكايات لم يكن يتخيل كتابتها حين بدأ العمل على مسلسله قبل 14 عاما، فلا تبدو حكاياته اليوم كأنها تدور في مستقبل قريب، بل في واقع آني، ولم يبد المسلسل حقيقيا من قبل مثلما يتجلى اليوم، وذلك ما يجعله أكثر إثارة للقلق. اشتهر 'المرآة السوداء' برؤاه المظلمة والقلقة حول مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا، وتدور بعض الحلقات في فلك هذه الرؤى، لكن المسلسل أساسا عن الطبيعة الإنسانية، عن نقاط ضعفنا البشرية، التي تتضخم بسبب التكنولوجيا حتى تبلغ أفقا مرعبا. تظل التكنولوجيا مجرد أداة بين أيدينا، يمكن استخدامها على أي نحو شئنا، وهذه ليست قصة آلات تنقلب على الإنسان، بل قصة ذوات جريحة، معطوبة على نحو جذري، تصير التكنولوجيا سلاحها. قدرات التكنولوجيا.. أدوات جبارة في أيادٍ مختلة أفضل ما يقدمه 'بروكر' في عمله هو تأطير رؤيتنا لأنفسنا في مسارات مستقبلية محتملة، مستبدلا المرايا التقليدية بشاشة التلفاز الباردة اللامعة، أو الهاتف الذكي، فنشاهد انعكاسا مظلما لذواتنا الفردية وللمجتمع كافة، هنا تصبح التكنولوجيا عدسة تمكننا من تفكيك المخاوف البشرية، وهذا أفضل ما تقدمه سرديات الخيال العلمي، فهي تجعلنا نرى أنفسنا على نحو أفضل. يفتتح الموسم الجديد بحلقة 'أناس عاديون'، وتدور حول زوجين محبين من الطبقة العاملة، تنقلب حياتهما حين تشخص الزوجة بورم في المخ، ويكون الحل المنقذ هو تقنية تحول عقلها إلى خوادم سحابية، لكن باشتراك شهري مكلف، والشركة التي تديره تغير الشروط باستمرار. يضطر الزوج للعمل ساعات إضافية، لإبقاء زوجته حية، وتلك استعارة حزينة ساخرة من الرأسمالية في صورتها الأقسى، إذ تعد السلطة الساحقة للشركات موضوعا رئيسيا في المسلسل. يلجأ الزوج يائسا إلى موقع يسمى 'أغبياء أغبياء' (Dum Dummies)، وهو موقع يدفع المشتركون فيه مالا لليائسين، لفعل أشياء قاسية ومهينة بأنفسهم. إنه مشهد كئيب للغاية، لكن لا علاقة له بالتكنولوجيا، بل بالمرض البشري الذي يجد لذة في عذاب الآخرين. وأما حلقة 'الوحش الأسود'، فتثير فيها زميلة دراسة قديمة تدعى 'فيريتي' ارتياب 'ماريا'، التي تعمل عالمة أغذية، بعد أن تلتحق بوظيفة جديدة، وهي قصة انتقام قاتمة، تلعب على فكرة الأكوان المتوازية. تخيل أن بإمكان 'فيريتي' أن تكون كل ما تحلم به في أي كون تشاء، ومع ذلك نجدها عالقة في حكاية جرحها الحزينة، الذي لم تستطع علاجه، وهو يملؤها بالغضب وبرغبة سوداء في الانتقام من كل تسبب في جرحها. قد تخلق الجراح وحوشا سوداء، والتكنولوجيا تمكّن تلك الوحوش من ابتكار عذابات مبتكرة. مرة أخرى لا علاقة للتكنولوجيا بهذه الرغبات، وإنما هي أداة في يد هذا الانتقام. وسيط للانتقام والتشوه النفسي ربما تكون حلقة 'يولوجي' أكثر الحلقات إيلاما في الموسم، وقد أدى فيها الممثل 'بول جياماتي' أداء استثنائيا يكسر القلب، وهو يجسد دور رجل يستكشف ذكريات حبيبته القديمة برفقة 'مرشد رقمي'، فيجمع المعلومات لذكراها. ما من مفاجآت كبيرة، مجرد رجل يدرك الهوة بين الذكرى والواقع، ثم يقع من جديد في حب المرأة التي اتخذها عدوا، عبر تشوهات ذاكرته غير الواعية. ومن بين جميع حلقات 'المرآة السوداء'، كانت هذه الحلقة الأكثر دفئا وعاطفية، إنها قصة حب نوعا ما. وفي حلقة 'فندق ريفيري' أيضا، نواجه تكنولوجيا حديثة قيد التجريب، فتصبح العوالم الافتراضية مساحة لاكتشاف حقيقة الذات والرغبات. إنها قصة رومانسية تأخذك إلى فضاءات وجودية غريبة. تتكسر مرآة في مقدمة كل حلقة من المسلسل منذ بدايته، وإنما تنكسر حين تفلت الظلال المقموعة -ظلالنا الداخلية- من مكمنها، وهي اللحظة التي تؤطرها كل حلقة من هذا المسلسل. الواقع المزيف وقلق الحقيقة 'لقد فقدنا صلتنا بالواقع، فقدنا الأرض الصلبة التي كنا نقف عليها'. هكذا يرى الفيلسوف الفرنسي 'جان بودريار'، ويرى أننا نعيش في 'محاكاة'، وأننا محاصرون ومعزولون دائما عن الواقع. إن فكرة 'بودريار' عن المحاكاة من أكثر الأفكار الفلسفية إثارة للخوف، فالمحاكاة هي ديستوبيا (المدينة الفاسدة) حاضرنا، وهي عالم الواقع الافتراضي التقني الذي نتصل به جميعا. إن محاكاة 'بودريار' هي أكثر رعبا مما نظن، فلا وجود لواقع فيها، بل لنسخ منه فقط، ومن ثم ينهار الفاصل بين الافتراضي والواقع، فما من مخرج من المحاكاة؛ إنها سجن لا ينفك يعيد اختراع نفسه، ولهذا السبب فهي مرعبة للغاية. من أين يبدأ الواقع وأين ينتهي إذن؟ ما تعريف الحقيقي وغير الحقيقي؟ تلك أسئلة تتكرر دائما بتنويعات شتى في المسلسل، وتتجلى واحدة من أكثر اللحظات المرعبة داخل هذا الموسم من المسلسل، عندما تحاول شخصية 'ماري' في حلقة 'الوحش الأسود' التحقق من صحة شيء ما، عبر البحث على الإنترنت، فتكتشف أن الإنترنت قد محا الحقيقة وبدلها، ومن ثم تصبح الحقيقة الزائفة واقعا مصدقا. الأمر المروع للغاية أننا نستعين بغوغل للتحقق من الواقع، ولا تتلاعب 'فيريتي' بعقول معتديها فحسب، بل تعيد تصميم الواقع الذي يعيشون فيه، فهي لا تمارس الحيل في عقولهم فحسب، بل تجعل العالم من حولهم نسخا مشوهة. تيه بين نسخ الواقع المتصارعة أصبحت التكنولوجيا أداة انتقام في يد ملاك مظلم، جاعلة ضحاياها يعيشون في نسخة مشوهة من عالمهم، مصمّمة خصيصا لتعكس ارتباك ذواتهم وهشاشتها. إنها قصة انتقام تستخدم التكنولوجيا لتزييف الواقع والحقيقة، وفي كل مرة تصير الحقيقة المزيفة أمرا واقعا، إنها أكثر اللحظات إثارة للقلق في هذا الموسم، حين تجد أن الواقع كله يتعرض للهجوم. فنحن نعيش في زمن تتنافس فيه نسخ من الواقع، والنسخة المنتصرة ربما لا تكون النسخة الأكثر حقيقية أو صدقا؟ والمسلسل يجعلنا أيضا نطرح أسئلة أخلاقية ووجودية، حول الاحتمالات التي تثيرها التقنيات الجديدة. يواصل مبدع المسلسل 'بروكر' هنا انشغاله بما هو حقيقي وما هو واقعي، وما هي التجربة الأصيلة، وأيضا بما تثيره كائنات رقمية ذات وعي بشري من أسئلة أخلاقية مشكلة، فهو مهتم دائما بعالم الألعاب، وقد عمل صحفيا في مجال الألعاب خلال التسعينيات. من المواضيع الرئيسة في أغلب حلقات المسلسل، وهو أن الكائنات الرقمية إذا كانت ذات وعي بشري، فهل يُقبل السماح بقتل هذه الكائنات الواعية، حتى إذا كانت تعيش في عالم مواز أو افتراضي؟ يمكنك أن تلاحظ ذلك التطرق إلى حد ما في مخلوقات 'ثرونجليتس' في حلقة 'لعبة'، وكذلك في حلقة 'يو إس إس كاليستر: إلى اللانهاية. أخلاقيات العنف ضد التكنولوجيا الواعية نشاهد إنسانا يقتل إنسانا آخر انتقاما لهذه الكائنات، بعد أن ألقى عليها كل تثبيته العاطفي، فأصبحت هاجسه الوحيد، فكرس حياته لمساعدتها على النمو والازدهار. يكشف مشهد من الماضي أن 'لامب' -صاحب الجثة التي تظهر في بداية الحلقة- قد قتل عشرات من مخلوقات 'الثرونجليتس' مرحا، فأثار بذلك غضب 'كاميرون'، فخنقه ثم قطع أوصاله وتخلص من جثته. في حلقة 'يو إس إس كاليستر'، رأينا شخصيات مخلقة بالذكاء الاصطناعي، وقد اكتسبت مستوى الوعي الكافي، لتشعر بالألم والأسى والخوف من الزوال. ويقوم الجوهر العاطفي لهذه الحلقة على تعاطفنا مع هذه الشخصيات، التي تدور سفينتها الفضائية في فلك كوكب افتراضي، ضد بشر يحاولون محوهم تماما لأجل مكاسب مادية. هذا ما يلعب به 'بروكر' هنا، متسائلا عن أخلاقية العنف الممارس على وعي رقمي، وإن كان بشريا. ربما يبدو سؤال كهذا نوعا من الترف، في لحظة نجد فيها من يجد مبررا لعنف مماثل ضد بشر من لحم ودم. جانب التكنولوجيا المشرق لا تدور كل حلقات هذا الموسم في أفق 'ديستوبي' وليست فقط حكاية تحذيرية، فبعض الحكايات تظهر التكنولوجيا ضوءا حقيقيا، كأنها يد ممدودة للمساعدة. ففي حلقة 'تأبين'، ينجح الذكاء الاصطناعي في وضع خاتمة لقصة حب 'فيليب' الحزينة (بول غياماتي)، بل إنه استعاد مشاعر الحب لحبيبته الراحلة، إنها حكاية عن تقبل إنسانيتنا وقت الضعف والخطأ، وأن نكون أكثر تعاطفا مع أنفسنا ومع الآخر. في حلقة 'فندق ريفيري' تعيش 'براندي' (الممثلة إيسا راي) تجربة حب شاذة مع 'كلارا' (الممثلة إيما كورين)، أما 'براندي' فهي ممثلة هوليودية مرموقة، وقد أزهرت قصتها في فضاء فيلمي لكلاسيكية حب قديمة مستعادة بتقنية حديثة. وفي لحظة من مسار هذه التجربة، تتمنى 'براندي' أن يظل وعيها المسقط حرا داخل هذا الفيلم، حتى لو كان معنى ذلك موتها في عالم الواقع. ومع أن هذه العلاقة وقعت في بعد افتراضي، فإنه من الممكن القول إن هذا كان حبا حقيقيا، شعرت به 'براندي' على نحو لم تعشه من قبل. تثير كل حلقة من حلقات هذا المسلسل أسئلة يظل صداها ممتدا بعد المشاهدة بكثير، أسئلة تقول الكثير عنا وعن واقعنا المعيش في هذا اللحظة القائمة، عن العنف المتفجر والوحدة الصاخبة، وعن الجراح الأبدية في روح الإنسان، وقد جرحتها شظايا التكنولوجيا الحديثة مرة أخرى.


الجزيرة
٢٨-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
"بلاك ميرور 7".. كوابيس رقمية وأصابع بشرية
يقدم المبدع البريطاني تشارلي بروكر في الموسم السابع من مسلسله "بلاك ميرور" (Black Mirror) 6 حلقات ترقى لأن تسمى أفلاما؛ لا لأن زمن كل منها يناهز ساعة ونصف الساعة فحسب، بل لأنه يوظف خصائص اللغة السينمائية من اختزال وبلاغة بصرية تتجاوز السرد التلفزيوني التقليدي. الأهم أن الدراما المتفردة في كل حلقة، وفي الموسم إجمالا، تطرح أسئلة حول تصنيفها ضمن المواضيع المعروفة، إذ تحمل من الابتكار والتجديد ما يؤهلها لاستحداث مواضيع جديدة. منذ انطلاقه عام 2011، أعاد "بلاك ميرور" تعريف التأمل البصري على الشاشة، كاشفا بمرآته السوداء المتشائمة ذلك التقاطع القاتم -وأحيانا البائس- بين التكنولوجيا والطبيعة البشرية. تدفع كل حلقة مستقلة المشاهد إلى مستقبل قريب، أو إلى حاضرٍ يقلق لشبهه بذلك المستقبل، إذ لم تعد أجهزتنا ورغباتنا وبياناتنا أدوات وحسب، بل مرايا تعكس أعمق مخاوفنا. ولا يكتفي صناع العمل بإدانة التكنولوجيا الرقمية بوصفها الفاعل الرئيس، بل يصدمون المتلقي بحقيقة أن مصدر العتمة والظلم ليس التقنية ذاتها، بل شخص يرتدي ثيابا أنيقة ويقبع في زاوية عمياء قريبة. مآسٍ إنسانية وبطولة رقمية تنساب حبكة حلقة "أناس عاديون" إلى المُشاهد برفق ودون مؤشرات تنذر بما سيأتي، حتى يتبين له في لحظة حاسمة أنه انجرف عاطفيا إلى قلب مأزق عنيف يشكل ذروة الحدث، وذلك منذ الحلقة الأولى. تبدأ الحكاية في سكون مع زوجين لا يعكر صفو سعادتهما سوى محاولاتهما العقيمة للإنجاب. لكن الهدوء يتبدد حين تتعرض الزوجة (أماندا) لحادث خطير. يسارع الزوج (مايك) إلى التعاقد مع شركة "ريفرمايند" التي تروّج لنظام تقني متقدم يبقي زوجته حية مقابل رسوم شهرية لا تختلف، ظاهريا، عن اشتراكات الإنترنت، غير أن الكلفة تتصاعد باطراد بعد بدء التجربة. لا يدين صناع العمل التكنولوجيا الرقمية في حد ذاتها، بل يضعون المجتمع أمام مرآة تكشف وجوه الاستغلال والجشع، والرغبة في الربح ولو على حساب أقدس حقوق الإنسان؛ حق الحياة. ويعزز الأداء الآلي لموظفي "ريفرمايند" الإحساس بالطبيعة التجارية للشركة التكنولوجية، البعيدة تماما عن الاعتبارات الإنسانية. وفي الحلقة الثانية "البطة السوداء" تحتفل ماريا بنجاحاتها المتواصلة كمديرة تنفيذية في شركة شوكولاتة، لكن ظهور زميلة الدراسة التي كانت محل تنمر الجميع يفسد عليها هذا النجاح، والغريب أن الزميلة "فيريتي" تستطيع تحويل الحقائق الصلبة نفسها إلى أكاذيب لا يمكن تصديقها، وتلعب بحواس كل العاملين في الشركة. تقرر ماريا الدفاع عن نفسها، لتكتشف أن فيريتي المعروفة بتميزها في التكنولوجيا الرقمية تستطيع باستخدام تلك التكنولوجيا أن تقلب الحقائق، وأنها جاءت خصيصا للانتقام. صنع تشارلي بروكر كاتب العمل حالة تواز بين الصديقة التي استخدمت الديجيتال في تغيير إدراك المحيطين بها وقلب أكثر الحقائق وضوحا في لحظات، وبين ماريا التي ينبع نجاحها من مزج بعض العناصر لصنع مذاق مختلف لنوع جديد من الشيكولاتة. وظهرت المفارقة بين النموذجين (ماريا وفيريتي) حين ظهر الصدام بينهما، فكان لا بد أن تدمر كل منهما الأخرى. وحرص المخرج على استعراض مشاهد من الماضي، ليتمكن المشاهد من المقارنة بين حيوية الماضي وإنسانيته، وآلية الحاضر وانعدام الروح فيه. وودي آلان والحنين على طريقة المخرج الأميركي وودي آلان في فيلمه "وردة القاهرة القرمزية" 1985 (The Purple Rose of Cairo)، إذ أحبت بطلة العمل بطل فيلم سينمائي أثناء مشاهدتها له، ومن ثم غادر الفيلم من خلال الشاشة وخرج إليها، فإن الحلقة الثالثة من "بلاك ميرور" تصنع مفارقة شبيهة، وهي المعنونة "فندق ريفيري". تبدأ أحداث "فندق ريفيري" حين تقع نجمة هوليود براندي فرايدي في فخ إعادة إنتاج فيلم رومانسي كلاسيكي، ولكن بطريقة رقمية مدهشة، إذ يتم إدخالها إلى الأحداث لاستبدالها بالبطل وذلك من خلال وضعها في حالة غياب عن الوعي، ووضع ذلك الوعي داخل الفيلم، وهي طريقة في صناعة الأفلام قد تظهر في الغد القريب. أثناء تنفيذ المشاهد الخاصة بالنجمة الهوليودية تنحرف عن النص، فتنحرف الأحداث في اتجاه آخر، وهكذا تبدأ متاهة رقمية لانهائية ضحيتها نجمة من هوليود وشركة إنتاج أرادت استعادة أمجادها القديمة. وحرص صناع العمل على وجود تصاميم ديكور فخمة وأساليب تصوير سينمائي عتيقة تعيد إحياء العصر الذهبي لهوليود، مع الانتقالات السلسة بين المشاهد التي تطمس الخط الفاصل بين الأداء والواقع. المتاهة الأبدية وكما انتهت بطلة الحلقة الثالثة إلى متاهة أبدية، فإن الحلقتين الرابعة والساسة تنتهيان إلى متاهتين، الأولى يضيع فيها العالم كله في "لعبة فيديو"، والثانية يضيع فيها فريق داخل لعبة أخرى، لا تنتهي. في الحلقة الرابعة يفاجأ المشاهد بشخص انطوائي يدعى "كاميرون" مهووس بلعبة فيديو من التسعينيات، ومشتبه به في جريمة قتل. يقبض على "كاميرون" بالمصادفة، ليتم استجوابه، وبينما يجيب عن أسئلة المحققين عمليا باستخدام الكمبيوتر ليشرح ما حدث، فإنه ينفذ جميع متطلبات الوصول إلى النهاية، ليتحول العالم بأكمله إلى حالة أخرى بعد أن تخرج كائنات اللعبة إلى الواقع وتسيطر على العقول. لعب مخرج العمل منذ البداية على فكرة التداخل بين تفاصيل الواقع الحقيقي والواقع الافتراضي، ولم يكن الإيقاع متسقا تماما، وهو أمر مقصود ليرى المشاهد أنه لا يستطيع التنبؤ بنهاية غريبة مثل تلك التي انتهت بها الحلقة، إذ تبتلع اللعبة العالم. وفي الحلقة السادسة "نحو اللانهاية"، يستحضر صناع العمل عالم أفلام "حرب النجوم"، ولكن على طريقتهم، إذ يموت قائد السفينة الفضائية يو إس إس كالستر، فيخوض طاقمها بقيادة الكابتن نانيت كول معركة من أجل البقاء في عالم ألعاب لانهائي يعجّ باللاعبين العدائيين، ولكنهم يكتشفون أن الخيانة قديمة، إذ استنسخ القائد الراحل نسخة رقمية من كل واحد منهم، وأدخلهم اللعبة بشكل غير قانوني دفع كل اللاعبين إلى استهداف الفريق. وفي الحلقة الخامسة التي جاءت تحت عنوان "تأبين"، نجد رجلا وحيدا، وحزينا، تخطى منتصف العمر، يشارك في تأبين امرأة يزعم أن علاقته به سطحية، وأنه لا يجد ما يساعد على استدعاء الذكريات معها، لكن الدخول الرقمي إلى تفاصيل صور فوتوغرافية يكشف مفاجآت. حرص المخرج على تحويل الصور الفوتوغرافية إلى عالم واقعي تماما للمشاهد، وتميزت الانتقالات بين الذكريات والحاضر بتركيز خفيف واختفاء تدريجي للصورة.


الجزيرة
١٠-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
"بلاك ميرور" يعود إلى جذور السخرية السوداء في موسمه السابع
يعود مسلسل "بلاك ميرور" (Black Mirror) اليوم الخميس إلى منصة "نتفليكس" بموسمه السابع الذي يأخذ المشاهدين إلى مستقبل تكنولوجي قاتم يهدف هذه المرة إلى إحياء الماضي. فبعد غياب عامين، تعود السلسلة السوداوية التي ابتكرها وكتبها البريطاني تشارلي بروكر بست حلقات جديدة، من بينها تتمة لجزء أول مستوحى من عالم "ستار تريك" (Star Trek) عُرض عام 2017، تدور أحداثها على متن المركبة الفضائية "يو إس إس كاليستر". وقال تشارلي بروكر في نهاية مارس/آذار خلال مهرجان "سيري مانيا" في مدينة ليل الفرنسية إن "بعض الحلقات غير سارة (…) على غرار بدايات 'بلاك ميرور'"، في حين ثمة أخرى "مؤثرة جدا، مما يجعلها في الواقع مزيجا من المألوف وغير المتوقع". وتستلهم حلقات عدة الحنين إلى الماضي، من خلال تقنيات تتيح إحياء ذكرى ما من خلال الغوص في صورة قديمة، أو إعادة صوغ فيلم بالأبيض والأسود بفضل الذكاء الاصطناعي. ومن بين الممثلين المشاركين في هذا الموسم بطل مسلسل "عطلة الشتاء" (Winter Break) بول جياماتي، وبطلة مسلسل "الحدائق والمنتزهات" (Parks and Recreation) رشيدة جونز، وبطلة مسلسل "غير آمن" (Insecure) إيسا راي، ونجمة "ذي كراون" (The Crown) إيما كورين. وعُرض "بلاك ميرور" في البداية على القناة البريطانية الرابعة بين عامي 2011 و2014، قبل أن ينتقل إلى "نتفليكس" عام 2016 ويحقق نجاحا عالميا، وفي رصيده 9 جوائز إيمي. ونقل الملف الصحافي عن تشارلي بروكر قوله إنه كتب الموسم السابق أثناء جائحة "كوفيد-19" في وقت كان يشعر فيه "بالاشمئزاز من التكنولوجيا". ويتوقع أن يحظى الجزء السابع من المسلسل بإعجاب محبيه القدامى بفضل "عودته إلى الأساسيات، مع استكشاف التطورات التكنولوجية في المستقبل القريب، ونبرة ساخرة ونقد اجتماعي"، بحسب بروكر. وتتناول الحلقة الأولى بعنوان "عامة الناس" (Common People) قصة زوجين تم إنقاذهما بواسطة تقنية طبية معجزة، لكنهما يتعرضان للاختناق تدريجيا بسبب نموذجها القائم على الاشتراك. وقال بروكر إن "المسلسل لا يظهر أن التكنولوجيا سيئة أو شريرة"، لكن المشكلة تعود غالبا إلى "خطأ أو سلسلة من العواقب". وما لبث الموسم السادس من "بلاك ميرور" أن احتل المركز الأول عالميا بعد وقت قصير من طرحه، إذ تجاوز عدد المشاهَدات التي حظي بها 11 مليونا في أسبوع واحد.