logo
تكية "هيران" بأربيل.. كنز مخطوطات نادرة عمرها 7 قرون

تكية "هيران" بأربيل.. كنز مخطوطات نادرة عمرها 7 قرون

الجزيرة٢١-٠٥-٢٠٢٥

تحتفظ تكية "هيران" التاريخية الواقعة في منطقة شقلاوة بمحافظة أربيل في إقليم كردستان شمالي العراق، بمخطوطات وكتب نادرة يعود تاريخ بعضها إلى 7 قرون، من بينها قصائد للشاعر الفارسي الشهير "أنوري"، وكتب مطبوعة بعناية فائقة باسم السلطان العثماني عبد العزيز، وذلك في مشهد يعكس عراقة هذا الموروث الثقافي في مواجهة الزمن والحروب.
ولطالما لعبت تكية هيران دورا دينيا وروحيا بارزا في المنطقة، حيث يمتد تاريخها إلى نحو 400 عام، إلا أن هذا الإرث لم يسلم من نيران النزاعات، إذ تعرضت التكية ومقتنياتها لعدة هجمات عنيفة خلال العقود الماضية، مما ألحق أضرارا جسيمة بالمخطوطات النادرة المحفوظة داخلها.
مخطوطات نجت من الرماد
وأوضح المسؤول عن التكية هنا كاكي هيران، أن المنطقة كانت ذات أهمية دينية وصوفية وعلمية منذ قرون، مشيرا إلى الجهود التي تُبذل لحماية المخطوطات المتبقية التي تُحفظ الآن في غرفة خاصة داخل مكتبة التكية.
وأشار هيران في حديثه لوكالة الأناضول إلى أن النظام العراقي قصف تكية هيران عام 1961، مما أدى إلى احتراق وفقدان عدد كبير من المخطوطات والوثائق، ثم تعرّضت التكية مجددا لقصف آخر في عام 1987 خلّف دمارا جديدا في مقتنياتها، مما جعل النجاة التي حققتها بعض الصفحات والمجلدات بمثابة معجزة تاريخية.
أشعار أنوري
وتعدّ أبرز المخطوطات التي لا تزال محفوظة، وإن جزئيا، صفحة يتيمة من ديوان الشاعر الفارسي أنوري. وتعود هذه الصفحة إلى عام 696 هـ (1297 ميلادي)، وتحتوي على رباعيات فارسية تُعد من أقدم النصوص الأدبية المكتشفة في المنطقة.
يُعد أنوري، واسمه الكامل عین‌ الفضلاء أبو النجم علي بن أبي بکر أنوری، واحدا من أبرز شعراء العصر السلجوقي في القرن السادس الهجري/الـ12 الميلادي، وقد نال شهرة واسعة بفضل أسلوبه المركّب وموسوعيته الأدبية. وُلد أنوري في مدينة طوس في خراسان الكبرى، وامتاز بشعره الفلسفي والصوفي، كما عُرف باستخدامه الرموز الكونية واللغة المتقنة التي تتطلب من القارئ إلماما بالعلوم والآداب.
اشتُهر بديوانه الذي يُعد من أعمدة الشعر الفارسي الكلاسيكي، وتنوّعت مضامينه بين المدائح التي نظمها لسلاطين السلاجقة، وبين التأملات الوجودية والحكم. ورغم قربه من بلاط السلطان سنجر السلجوقي، فقد عانى أنوري في أواخر حياته من خيبة أمل سياسية ونفسية، وعُرف عنه ميله إلى العزلة والزهد، وقد انعكس ذلك في بعض قصائده ذات النفس الصوفي الحزين.
يعتبر النقاد أن أنوري مهّد الطريق لمدرسة شعرية أكثر عمقا وتعقيدا في الأدب الفارسي، وكان له تأثير واضح على شعراء لاحقين مثل خاقاني ونظامي.
وثائق عثمانية ومخطوطات فارسية وعربية
إلى جانب ديوان أنوري، تضم التكية أيضا قصائد ومخطوطات مكتوبة بـ3 لغات: العربية والفارسية والتركية، مما يعكس التنوع الثقافي والتاريخي للحياة العلمية والدينية في شمال العراق خلال العصور الإسلامية المتعاقبة.
وتضم التكية كذلك وثائق عثمانية بارزة، منها مخطوطة تاريخية نادرة مكتوبة عام 1731 بطول 6 أمتار، ورد فيها اسم العلّامة الصوفي عبد القادر الجيلاني، أحد أبرز رموز التصوف الإسلامي في القرنين الخامس والسادس الهجريين.
كما تحتفظ التكية بنسخ من كتب دينية وعلمية طُبعت باسم الجيلاني خلال عهد السلطان العثماني عبد العزيز (الذي حكم بين 1861 و1876)، وتتناول هذه الكتب موضوعات في النحو والبلاغة والفقه، وقد طُبعت قبل نحو 170 عاما.
ورغم ما واجهته من محن وتدمير، تواصل تكية هيران جهودها في حفظ هذا الإرث الثقافي النادر، الذي يعكس عمق التاريخ الديني والفكري في منطقة كردستان العراق. وفي ظل محدودية الموارد وتكرار التهديدات، تبقى هذه المخطوطات بحاجة ماسة إلى دعم مؤسسي وعلمي لحمايتها من التآكل والنسيان.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

حديث عن النقد الثقافي.. ما بين المفهوم والرواد والمرتكزات والرفض والقبول
حديث عن النقد الثقافي.. ما بين المفهوم والرواد والمرتكزات والرفض والقبول

الجزيرة

timeمنذ 10 ساعات

  • الجزيرة

حديث عن النقد الثقافي.. ما بين المفهوم والرواد والمرتكزات والرفض والقبول

هل جربت في إحدى جلساتك مع أصحابك أو زملائك في العمل أن تلحظ أو تحصي الجمل التي قيلت بهدف النقد؟ هل جربت أن تدقق بكلماتك وعباراتك وأسلوبك في حياتك اليومية، إن كنت ممن ينبرون للنقد ويكثرون منه أو لا؟ من البدهي أن ندرك أن للنقد وجهين، فمنه البناء ومنه الهدام، وبعض الناس يتغذون على الهدام منه بوعي أو بدون إدراك حقيقي لمغازي عباراتهم التي يسلخون بها وجوه المحيطين بهم يمينا ويسارا، وبعضهم يعتمدون على البنّاء منه بغية تحسين أنفسهم ومعطيات البيئة المحيطة بهم وتطوير الإمكانيات من حولهم. يظن بعض الناس أن النقد المنهجي مصطلح خاص بالدراسات الأدبية، لكنه حاضر في الدراسات الإنسانية كافة، لا سيما النقد الثقافي الذي يعتمد على ثقافة الناقد وسعة اطلاعه وقدرته على استحضار ما يملأ الفراغ ويتواءم مع الحاضن البيئي المحيط. يعد النقد الثقافي من أهم المفاهيم النقدية التي ظهرت في مرحلة ما بعد الحداثة في ساحتي الأدب والنقد، ويقال إنه أشبه برد فعل على اللسانيات البنيوية وعلم السيمياء ونظرية الجمال، التي تعنى بالجانب الشكلي للأدب أو الجانب الفني والجمالي، وتغض الطرف عن المحيط الثقافي الذي احتضن النص الأدبي عند ابتكاره. فانصب اهتمام النقد الثقافي على دراسة الأنساق الثقافية عامة، والمضمرة خاصة، وتحليلها وفقا للظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية المحيطة بصاحب العمل الأدبي وبالنص الذي أبدعه. النقد الثقافي بين الرفض والقبول حين بدأ نجم النقد الثقافي بالسطوع في الأوساط النقدية العربية أحدث جدلا عميقا ممتدا واسع الأطراف، فقد دعا بعض النقاد لقطيعة النقد الأدبي المعهود سابقا والاستعاضة عنه بالنقد الثقافي وما يضمه من آليات ومفاهيم، استنادا إلى كونه أكثر حرية واتساعا من سابقه في ما يذهب إليه من زوايا وأفكار وآراء عند مقاربة النصوص الأدبية والنقدية. فانقسم النقاد والدارسون بين داعم ومتقبل لآليات النقد الثقافي وإمكانية إحلاله محل النقد التقليدي، وبين رافض محافظ على ما نشأ عليه من مفاهيم يأبى دخول جديد موسوم بالثورة على ما سبق وترسخ من مفاهيم وأصول نقدية علمية في التراث البلاغي والنقدي والأدبي على حد سواء. وقد اعترى مفهوم النقد الثقافي كثير من الغموض، فانبرى كثيرون ممن تبنوا وجهته إلى تحديد مفهومه العام، وتعريف آلياته وطرائق مقاربته للأعمال الأدبية، بغية توضيحه وعرضه كما يستحق وينبغي، وبهدف تقريبه للرافضين له من جهة أخرى. يختلف مفهوم الثقافة من مجال إلى آخر، فهو في علم الاقتصاد مختلف عما هو عليه الحال في مجال الأدب والنقد، ولأن النقد الثقافي القائم على مفهوم الثقافة الواسع المتشعب وصل إلى الأوساط العربية مكتمل الأدوات، وبوصفه منهجا عاما كان الخوف من الاقتراب منه واستيضاحه وتبنيه أكبر، فقد تراءى للبعض أنه جاء لتقويض جزء من الأصالة والتراث اللذين يعنى بهما المحافظون من المثقفين والنقاد ودارسي الأدب. النقد الثقافي ومقاربة الأدب يهتم النقد الثقافي بداية بالنص المدروس، لكنه لا يغفل عن النظر إلى المؤلف ومقاصده ولا ينسى دور القارئ أو المستمع في إنتاج المعنى المراد من النص، ويعنى بالسياقات التي تحتضن كلا من النص والمؤلف والمتلقي، لذلك يعد النقد الثقافي نقدا أيديولوجيا فكريا اجتماعيا عقائديا… واسع النطاق. يقول كيه إم نيوتن في كتابه التاريخ الأدبي ومناهجه: "العمل الأدبي جزء مباشر من المحيط الأدبي… إن العمل الأدبي الخاص عنصر تابع، ومن ثم لا ينفصل عمليا عن المحيط الأدبي، وهو يحتل مساحة محددة في هذا المحيط، وتحدده مباشرة تأثيرات هذا المحيط، عندها سيكون من العبث أن نعتقد أن العمل الذي يحتل مساحة في المحيط الأدبي يمكن أن يتجنب تأثيراته المباشرة". يمكن للنقد الثقافي أن يقارب أي خطاب سواء أكان أدبيا عاليا رفيع المستوى أم شعبيا بسيطا، أم مبتذلا، فهو يعنى بتفكيك عرى النص العقلية وتحليل وشائجه الفكرية وإسنادها إلى مصادرها الحقيقية المتأثرة بالجو الثقافي من حولها، ولا يهمل النقد الثقافي بوصفه منهجا نقديا الجوانب الفنية والبلاغية والجمالية للنص، بل يهتم بما تحمله من رسائل وما تستند إليه من أفكار ومعتقدات، وما دفعت به دفعا من مظاهر ثقافية وبواعث حضارية منبثقة من الحاضن المحيط بالنص وصاحبه ومتلقيه. وفي ذلك، يرى الغذامي واصطيف -في مقالهما "نقد ثقافي أم نقد أدبي"- أن الدراسات النقدية استنفدت جميع طاقاتها في دراسة جوانب البلاغة والجمال، مما جعلها قاصرة أمام الحشود الثقافية والمعرفية والتغيرات الثقافية، لذا صرنا بحاجة للانفتاح على مفهوم جديد متمثل بالنقد الثقافي. لكنهما يغاليان قليلا فيما يذهبان إليه، فالنقد عامة مفهوم واسع بخطوات حرة ومتشعبة، والنقد الأدبي ذو أدوات متفرعة تنبثق من مجالات مختلفة من جوانب الحياة. فالنقد الثقافي يقوم على مقاربات متعددة الاتجاهات، تستند إلى التاريخ، وتحاكي الواقع الاجتماعي، وترصد التطور السياسي، وتواكب الحالات النفسية والأهداف المضمرة في الأنساق الثقافية المتنوعة، والمختفية وراء اللاوعي اللغوي والفني والجمالي. ما مفهوم النقد الثقافي؟ يعد مفهوم النقد الثقافي رؤية منهجية نقدية مهمة في الدراسات العربية النقدية المعاصرة، وقد أخذ موقعا مميزا في الوسط النقدي منذ أكثر من عقدين من الزمن، وعند تحديد مفهوم النقد الثقافي لا بد من العودة إلى مفهوم الحضارة الذي يربط بينه وبين الثقافة، فكما يقول ابن خلدون إن للحضارة طرفين أساسيين، ماديا تقنيا تكنولوجيا، ومعنويا أخلاقيا إبداعيا يتجلى بمفهوم الثقافة. هل من صراع بين النقد الثقافي والنقد الأدبي عامة؟ كثيرا ما يُسأل إن كان النقد الثقافي قد جاء ليزيح النقد الأدبي ويتربع على عرشه، لكن الأمر ليس بهذه السطحية، فالنقد الثقافي ليس بديلا عن النقد الأدبي والبلاغة وعلم الجمال، وليس بديلا عن الدراسات البينية المتمثلة بعلم الجمال والتحليل النفسي والاجتماعي، فهدف النقد الأدبي هو البحث عن الجمال في النصوص المدروسة، أما النقد الثقافي فيبحث عن المخبوء وراء كل جميل، والمخبوء بين السطور ووراء الكلمات، ويبحث عن غايات النص الكامنة، وعما سعى الكاتب إلى إيصاله بأسلوب لا يعيه من ينظر إلى المتون المدروسة نظرة عابرة أو سطحية، يقول إيزابرجر آرثر في كتابه النقد الثقافي: "النقد الثقافي نشاط، وليس مجالا معرفيا خاصا بذاته". أشهر رواد النقد الثقافي في الغرب والشرق عني كثير من النقاد والدارسين بمفهوم النقد الثقافي، وبحثوا في آلياته، وحاولوا تقعيد كثير من مفاهيمه، وقد انبرى لذلك ثلة من المهتمين بالموضوع من رواد الغرب والشرق، الذين وسموا برواد النقد الثقافي في الغرب والشرق. ففي الغرب، يعد الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (توفي 1984) الذي كان متأثرا بالمدرسة البنيوية من أول وأهم من تبنى منهج الدراسات الثقافية في مقاربة الأدب من الغربيين، وكذلك المنظر الماركسي ريموند هنري ويليامز (توفي 1988)، فقد كانت أعماله من الأسس التي قامت عليها الدراسات التي اعتمدت منهج النقد الثقافي. والبريطاني ريتشارد هوجارت (توفي 2014) الأكاديمي الذي كان يعمل في مجالات علم الاجتماع والأدب الإنجليزي، وكان مهتما بالدراسات الثقافية، خاصة ما يتعلق بالثقافة البريطانية الشعبية. وغيرهم كثر أمثال ستيوارت هول، وبيير بورديو، وكاندي، على أن هؤلاء كانوا ينظرون لأفكارهم إلى جانب اهتماماتهم بالدراسات الثقافية. أما رواد المشرق فقد ذكرهم محمد عابد الجابري في بنية العقل العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، وعبد الفتاح العقيلي في النقد الثقافي قضايا وقراءات، ويأتي في طليعتهم المفكر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد (توفي 2003)، ويعد كتابه "الاستشراق" أهم نتاج له في هذا الإطار النظري، فقد بدأ توجهه الفكري انطلاقا من وعيه لفكرة الاستعمار وسياساته، محيطا بالظرف التاريخي والسياسي، وما نتج عن تلك الظروف من أنساق انعكست على صفحات الأدب بأشكاله كافة، إذ نراه في الروايات والقصص والمسرحيات، وصولا إلى كل ما يحاكي الثقافة الشعبية من نصوص أدبية. وكذلك محمد عابد الجابري، وجابر عصفور، وإدريس الخضراوي صاحب كتاب "الأدب موضوعا للدراسات الثقافية"، فقد قدم فيه نماذج مختلفة تعود لكبار مؤسسي النقد الثقافي، ونماذج لممارسيه من المعاصرين، وحدد بعض قضاياه في إطار الهوية، والذات، ورؤية الآخر المخالف، والحديث حول المرأة، ملقيا الضوء على أنساق ثقافية مضمرة وعميقة. أضف إليهم مالك بن بني صاحب كتاب "مشكلة الثقافة" الذي يعد من أهم الذين أسسوا للدراسات الثقافية في الأوساط العربية، وزكي نجيب محمود، والرائد الناقد عبد الله الغذامي الذي يعرف بأنه أكبر النقاد العرب الذين تبنوا الدراسات الثقافية بوصفها منهجا مكتملا مستقلا قائما بذاته، ومن أهم آثاره المعرفية في مجال النقد "الخطيئة والتكفير"، وقد عرض في كتابه "النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية" أفكارا جديدة وجريئة حول منهج النقد الثقافي، ويعد تأصيلا معرفيا ونظريا له. وقد كثر الحديث عن الغذامي رائد هذا المنهج النقدي في الأوساط النقدية العربية المعاصرة، إذ يرى كثير من النقاد ودارسي الأدب والمهتمين أن ما جاء به يعد ثورة على أساليب النقد الأدبي، ويعتقدون أنه جاء بمشروع نقدي جديد بدعائم منهجية مبتكرة بعيدة عن أساليب البلاغة والدلالات الأسلوبية والجمالية المعهودة، يهدف إلى استنطاق خفايا المواد المدروسة سواء أكانت متونا أم كلاما منطوقا أم فنا معماريا أم غير ذلك. في حين رأى بعضهم أن ما جاء به يعد نظريته النقدية الخاصة، وذهب آخرون إلى أن ما جاء به ليس إلا نشاطا معرفيا. ويرد عبد النبي اصطيف على ذلك فيقول إن النقد الثقافي: "لم يلغ دور النقد الأدبي في المجتمعات الغربية وغير العربية التي ازدهر فيها". والحقيقة أنني أرى أن ما جاء به يعد استكمالا وسدا لفراغ نظري وعملي في الدراسات والمناهج النقدية، فالدراسات البلاغية والأسلوبية والجمالية وغيرها من المقاربات النقدية المعهودة لا تنظر إلى المدروس نظرة سطحية، ولا تقطعه عن واقعه الذي انطلق منه، وتعنى بما أراده المؤلف وما أومأ إليه إيماء اتكاء على المنهج النفسي للعلامات البلاغية والدلالات الجمالية، كما تعنى بما ترك عند القارئ أو السامع من أثر وما حاكاه من خيالات ومعالم حقيقية لديه، وذلك بالانطلاق مما جاءت به نظرية الاستقبال، وهي نظرية نقدية ذات أصول عميقة في تراثنا النقدي القديم. علامَ يرتكز النقد الثقافي؟ يركز النقد الثقافي على الأنساق المضمرة، وينظر إلى الأساليب اللغوية ويدقق في معانيها، ويكشف عن مراميها، فالتركيز الجوهري للنقد الثقافي يقوم على أنظمة الخطاب والإفصاح، ويعنى بالأنساق الثقافية السائدة سواء أكانت أنساقا اجتماعية أم دينية أم أخلاقية. وهذه الآلية التي يعتمدها النقد الثقافي تعد "إستراتيجية تتأسس على الوعي بالبعد الثقافي للعنصر، بالإضافة إلى الوعي بالبعد الجمالي للعنصر نفسه داخل النص". ويهتم بالدلالات البعيدة التي لا تقف عند حدود البلاغة والأثر الجمالي والشكل الفني للنصوص، ويسعى إلى إظهار الأنظمة الثقافية وتسليط الضوء على علاقاتها النسقية على الصعد كافة، السياسية والتاريخية والاجتماعية والفكرية وغيرها، ولا يكتفي بذلك فحسب، بل يكشف الغطاء عن خبايا تلك الأنساق، وكيف تجلت في سياقات الخطاب المختلفة، وعن أي أبعاد ثقافية أدبية أو فنية أو إعلامية أو غير ذلك انبثقت. وبالحديث عن نظرة النقد الثقافي إلى الأدب وكيفية مقاربته للمتون الأدبية، فإن النقد الثقافي ينظر إلى الأدب بوصفه ظاهرة ثقافية لها أصول وجذور وامتدادات معرفية، وتصل تشعباتها إلى آفاق الدراسات البينية، سواء أكانت متأثرة بها أم مؤثرة فيها، كما يعنى النقد الثقافي بـ"الكشف عن الأنساق المضمرة والفاعلة في تشكيل الخطاب المخالف والمتنوع في مقابل الخطاب المركزي". ما مدى تشابك النقد الثقافي مع المناهج النقدية الأخرى؟ إذا انطلقنا من فكرة مفادها أن النقد الثقافي ليس بديلا عن النقد الأدبي وعلوم البلاغة والبيان والجمال، فسيواجهنا سؤال عن مدى تشابك النقد الثقافي مع المناهج النقدية الأخرى، ومع المناهج العامة للدراسات الموضوعية كافة؛ كالمنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي، وكذلك المنهج النفسي، وغيرها من المناهج المعروفة والمعتمدة في الدراسات. ولعل أفضل إجابة عن هذا السؤال هي اعتبار هذه المناهج أدوات لضبط العينة النصية المدروسة، واستخدام ما يوائم طبيعة المدروس منها، ففي المقاربات الثقافية لا ضوابط للتأويل، لكن لا بد من ضبط حدود ما تقع عليه الدراسة، سواء أكان نصا مكتوبا أم شفهيا مسموعا، وسواء أكان شعرا أم نثرا. ومن العينة الثقافية سنصل إلى استنباط الجمل الثقافية التي ستخضع للتحليل الثقافي والتأويل المناسب للشواخص التي حددتها الأطر العامة للدراسة. ما أدوات النقد الثقافي، وما مفاهيمه الرئيسة؟ أول سؤال يتبادر إلى ذهن الدارسين المهتمين بالنقد الثقافي هو: هل يمتلك النقد الثقافي أدوات واضحة المعالم لمقاربة النصوص؟ قد يبدو سؤالا باهت المعالم للنقاد والدارسين، لكننا بحاجة إلى الإجابة عنه، وإن بدا سؤالا منحازا، فمما يعكسه واقع الدراسات الثقافية يبدو لنا أن النقد الثقافي لا يمتلك أدوات واضحة المعالم. وهنا تكمن خطورة تطبيقه وممارسته، إذ لا يمتلك جميع القراء ولا جميع الدارسين مطلق الأدوات اللازمة للتفكيك البنيوي للغة، ولا يمكن الوصول إلى معنى المعنى إن لم تفكك البنى اللغوية تفكيكا دقيقا ملائما لحيثيات النص المدروس، ناهيك عن العلاقات الإسنادية في الجمل الثقافية التي يحتاج تحليلها إلى ثقافة موسوعية خاصة محيطة بأجواء المادة المدروسة من كل جانب. تعد الأنساق المضمرة من أهم المفاهيم التي يدور حولها النقد الثقافي، فهي الهدف الذي يسعى وراءه في أي عمل أدبي يقاربه، يستقرئها ويحاكيها في جوانب النص المعتمة، ويستنطقها ويبحث عما تخفيه وما يريده صاحب العمل من خلالها. وهي ابنة البيئة التي أنشئ العمل فيها تاريخيا واجتماعيا وثقافيا، كما أنها تختفي وراء الكلمات وبين السطور، لكنها تلوح ببوارق الحاضن الثقافي وتعكس مكامنه. كما يذكر المجاز الكلي في سياق النقد الثقافي على أنه البديل الأنسب عن المجاز البلاغي، ويضم الجمل الثقافية في أنساقه المتعددة، ففي النقد الثقافي لا نتحدث عن التراكيب النحوية أو الدلالات المعنوية والبلاغية، بل يدور الحديث حول الجمل الثقافية واستقراء الأنساق وما تخفيه من رسائل مضمرة. أضف إلى ذلك الظرف التاريخي والسياسي والثقافي السائد في الحاضن العام للنص المدروس وصاحبه ومتلقيه. إلامَ يرمي النقد الثقافي؟ إذا ما سألنا عن هدف النقد الثقافي، فسنرى أنه يسعى إلى البحث عن المقصى والمخفى، ليكشف عن المضمر، ويسلط الضوء على كل ما يهيمن على النص اتكاء على سلطتين أساسيتين قادرتين على إخضاع أي كلام مكتوب كان أو منطوق لهما، السلطة المركزية والسلطة الشعبوية، وحين تسيطر إحدى هاتين السلطتين على الكلام وتهيمن عليه، فإن الأخرى تكون مهمشة. وأيا ما كان المهمش فإن حيثيات النص وشواخصه ستتضافر لإبراز المهيمن على النص جميلا ومقبولا، وستسعى لجعله مقبولا باللاوعي لدى القراء أو المستمعين غير الواعين وغير المنتبهين للرسائل المضمرة التي تبثها الجمل الثقافية في ثنايا النصوص. ماذا عن النقد الثقافي والشعر العربي القديم؟ كثر الحديث في العقود الأخيرة عن مدى قدرة المناهج النقدية الحديثة على مقاربة الشعر العربي القديم بأدواتها ومفاهيمها، وكثر بالتزامن مع ذلك الحراك النقدي الداعي إلى بعث الحياة في خفايا تراثنا النقدي. وقد وجد هذا الحراك أن كثيرا من المناهج النقدية الحديثة ذات أصول أو لها إرهاصات فيما مضى، ولسنا هنا بصدد إثبات ذلك من عدمه، فعنوان هذه الدراسة كفيل بإظهار قدرة التراث الشعري على التماشي، بل التناغم مع معزوفات النقد الحديث وكل ما يأتي به من جديد، فقد أثبتت الدراسات البنيوية قدرتها على استخراج لآلئ مخبوءة في خزائن العرب الشعرية والنثرية.

هذا هو شكل الغرب بدون أقنعة
هذا هو شكل الغرب بدون أقنعة

الجزيرة

timeمنذ 11 ساعات

  • الجزيرة

هذا هو شكل الغرب بدون أقنعة

أجيبُ مبكرًا عن هذا السؤال بأن كل هؤلاء (في جملتهم) يمثلون المنظومة الثقافية التي يحملون اسمها على تفاوت طبيعي في مستويات تمثيلهم لها، وربما تنوع تفسيرهم لها، وطريقة تنزيلهم إياها على الوقائع الجزئية للحياة. وتلك الأخيرة هي المختبر الحقيقي الكاشف عن طريقة تمثل الأفراد والمؤسسات لثقافتهم. وفي تفاصيل هذا لا يختبئ الشيطان؛ على عكس ما يقول المثل الشهير، بل تكمن إشكالات طبيعية هي جزء من الحياة التي نحياها بجدلياتها المعتادة، وتحتاج هذه الإشكالات إلى تفكيك وفهم؛ كي نفقه الإجابة المجملة السابقة، ونحمل المعاني على وجوهها الأرجح على الأقل. التمثيل المتناقض أول هذه الإشكالات هو أن المنظومة الواحدة غالبًا ما تمثلها – في جانب السلوك – بعض الشخصيات والتنظيمات تمثيلًا عنيفًا، وبعضها الآخر يترجم عنها ترجمة يغلب عليها الرفق واللين؛ فهل يرجع هذا إلى طبيعة المنظومة نفسها أو إلى الطبيعة النفسية للبشر؟ فمثلًا، ظهر في ثقافات الشرقين الأقصى والأدنى، والغربين الأقصى والأقرب، والجنوبين البعيد والقريب؛ من قدَّم ثقافته تقديمًا رقيقًا يحتوي المخالف ويراعي حقوقه، وكذلك ظهر فيها جميعًا تقريبًا من ينفي الآخر، ويلغي حقوقه، بل إنسانيته أحيانًا، ويستعمل في مواجهته العنف ربما بصورة مرعبة. وكلا الفريقين يتكئ – في تعقيد واضح للمسألة – على حجج مستمدة من الوضع الثقافي الذي تكيفت عليه عقليته، وتربت عليه مشاعره. ولفهم هذا لا ينبغي أن ننسى أساسًا مهمًا لتفكيك هذه الإشكالية، وهو أن أي منظومة ثقافية لا بد أن تنعكس فيها وبصورة تراكمية نفسيات بشرية تقف وراء تأسيسها وصنعها وتفسير نصوصها وتبيين قواعدها خلال الأجيال المتتالية، كما ينعكس فيها التاريخ والأحداث المؤثرة التي صُنعت خلالها. وهذا البُعد يعبر عن النسبية المطلقة التي تنشط فيها الشخصية البشرية الفردية والجمعية، حتى وهي تحاول أن تفهم نصًا مقدسًا. ويتفرع عن هذا التفاعلِ بين الإنسان والظرف الحاوي والبيئة المحيطة بتنوع ما تلده أثناء تقلباتها وتحولاتها من الأحوال السارة والمحزنة، والنافعة والضارة؛ أن تُعِد الثقافة في بنيتها لكل موقف عدته، فموسم المطر وموسم الحصاد وعقد الزيجات والولادة وهبوب النسيم العليل ومواقف الإحسان؛ ليست كحلول الموت والقحط والحرارة اللافحة والزمهرير وهجوم الأعداء ومواقف الإساءة. لذا تحتوي الثقافات التي تحيا هذه التقلبات – حين نفترض توافقها مع نفسها ومع منطق الحياة – على تنوعات نظرية للتفاعل مع هذه المتناقضات؛ كلٌّ بقدره وحسب نوعه، وعلى من يمثل هذه الثقافة – فردًا أو جمعًا حسب ما تفترض هي – أن يستصحب تنوعاتها وأصولها هذه في تصرفاته؛ وإلا فماذا يعني انتماؤه إليها؟ ولما لم يكن الإنسان عقلًا خالصًا؛ كما اتفق عليه الدارسون والفاحصون قديمًا وحديثًا، فإن للرغبات والميول وطبيعة الشخصية ومدى قدرتها على مقاومة الانسياق وراء الآخرين وإغراءاتهم؛ دورًا أكيدًا، بل قد يكون المحدِّد الأول لاختيارات الإنسان. لذا، فُسِّرت المنظومات الثقافية المختلفة خلال السلوك تفسيرات متناقضة، حتى حين استندت إلى نصوص دينية منضبطة، ومن هنا برز التاريخ على صورته التي نعرفها؛ ما بين نبلاء النفس والخُلُق حتى في ساحات الحرب، ووحوش كاسرة حتى في المعاملات اليومية المعتادة. ولا يعني هذا تصويب كل أحد، أو قبول كل تفسير له يقدمه لمنظومته الثقافية في هذا الموقف أو ذاك، بل هو التحليل والبيان ومحاولة الفهم، والصحيح هو التصرف على قدر الموقف والسياق؛ فمثلًا المسيحي اليميني في الغرب – لو ضربنا المثال بالمواقف الخشنة للحياة – يوظف مسيحيته من خلال نص "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" بإطلاق، وقد يفعل مثله مسلم ضعيف الفقه في نص الحديث: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله…"، كما يفعل بوذي ينسى تسامحه مع المخلوقات حتى الحشرات، ولكنه يقتل المسلم الروهينغي بوحشية ويشرّده في البر والبحر بلا ذنب جناه. وكذلك يهودي يستحضر في تصرفه مع مخالفيه؛ فضلًا عن خصومه، ما فعله يشوع في حروبه من إبادة للحياة والأحياء وتحريق للحجر والشجر حسب أسفار القوم، وهكذا. وفي هذه الأحوال يغيب الفهم المتوازن القائم على إدراك سياقات تنزيل وتفعيل الجانب المناسب من الثقافة التي ينتمي إليها الفاعل، وقبل ذلك تغيب وظيفة الشعور الإنساني والإحساس البشري بالمواقف، وهو أمر قارٌّ في عمق الفطرة البشرية، ولعله يمثل أحد مصادر الحكم البشري السَّويّ المشترك في المواقف العملية. ولا يعنينا هنا الميزان الأخلاقي السابق الذي اتكأنا عليه فقط، بل يعنينا إلى جانبه كذلك ميزان التحليل الباحث عن تعليل وتفسير لهذا السلوك البشري؛ لأن التصالح مع أصحابه ليس متاحًا في كل الأحوال، فإن لم ينفع معهم التصالح فلْيُجدِ الفهم والتحليل يومًا ما! ولكي نلخص ما سبق، فإن أهل الثقافة الواحدة يقدمون في العادة تطبيقات متناقضة في المواقف المتشابهة؛ بسبب تنوع الأحكام النظرية في تلك الثقافة، إلى جانب اختلاف الطبائع والشخصيات لدى البشر وما لها من تأثير محقق في تصرفاتهم وتفسيراتهم. إشكالية الانقسام وتحديد الممثِّل.. غزة نموذجًا ما دامت الثقافة والطبيعة البشرية لممثليها؛ هما معًا ما نعلل به الاختلاف السابق، فلندخل في إشكالية أدق، وهي: أنه حين يكون الاختلاف اختلاف تناقض تام بين ممثلي ثقافة واحدة في موقف واحد ممتد، ولا يمكن أن يختلف عليه اثنان يفهمان معنى الكلام الإنساني وحقيقة الأفعال البشرية؛ فهل سيظلان معًا ممثلينِ لثقافة واحدة؟ وحرب غزة الحالية هي المثال الجلي لإيضاح هذه النقطة؛ إذ لا يمكن أن يطلع على قضيتها وأحداثها الحالية مطلع له عقل وضمير، إلا حكم بأنه عدوان وحشي وإبادة جماعية على جموع غفيرة من البشر ارتكب بعض أبنائها "خطأ" بمنطق المفعول به وأنصاره، ومارس "فعلًا مقاومًا للاحتلال" باعتباره من حق كل إنسان بمنطق أصحاب الأرض وأنصارهم. فهناك إذن اتفاق – أو شبه اتفاق! – على أن العقوبة تجاوزت ما عدَّه الطرف الأول اعتداءً بمراحل كثيرة جدًا، ومن هنا كان يجب أن تكون المناداة والمساعي العملية إلى إيقاف الحرب بعد كل هذا الوقت وكل هذا القتل وكل هذا الدمار محل إجماع، وهو ما لم يحدث أبدًا مع الأسف. انقسم الموقف الغربي إزاء أحداث غزة لطرفين؛ أولهما: ليس متعاطفًا فقط مع الاحتلال وإجراءاته المجاوزة لكل حدود العنف المسوَّغ بمستويات قياسية، بل إنه يمده أيضًا بالأدوات العسكرية والوسائل التكنولوجية التي يوظفها في ممارساته، ويقدم له الدعم الإعلامي، ويضيّق على ناقديه من أي جنسية كانوا. وأهم ما يميز هذا الطرف هو: كونه في موضع مسؤولية سياسية حاليًا، أو ينتمي إلى تيار سياسي واجتماعي يميني يؤمن بأن "الناس" ليسوا جميعًا "بشرًا" متساوين في الحقوق، أو صاحب مصالح اقتصادية ضخمة، أو حتى يخشى سطوة الصهيونية السياسية والدينية على نفسه ونفوذه وثروته، أو يتماهى مع محيطه الاجتماعي المتعاطف مع الاحتلال بقطع النظر عن كونه الظالم أو المظلوم. ومجموع هذه الميزات أتاح لهم التدخل المباشر في الحدث الغزي المؤلم لصالح الاحتلال، وسمح لهم بقمع ما استطاعوا من الأصوات المنادية بإيقاف الإبادة والدم النازف في غزة، بل والأصوات الفاضحة مجرد فضح للعدوان والكاشفة للحقيقة مجرد كشف، حتى طاردوا مشاهد الفيديو والعبارات والإشارات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي والمناصِرة لحقوق أهل غزة في الطعام والشراب والأمان! هذا هو الطرف الأول وموقفه، وأما الطرف الثاني، فيمثله كثير من المشاهير الغربيين وممثلي المنظمات الدولية، وليس فقط مجرد موقف جماهيري لقطاع واسع من الشباب الجامعي وغير الشباب ممن يملؤون شوارع المدن الكبرى والجامعات في الولايات المتحدة وكندا ودول الاتحاد الأوروبي بالاحتجاج والتظاهر، ويرون الحقيقة واضحة، سواء خطّؤُوا المقاومة الفلسطينية في هجومها الذي شنته في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أو اعتبروه فعلًا مشروعًا وسعيًا مستحَقًا لاستعادة الحقوق المسلوبة، وأنه لا ينبغي أن ينظَر إليه منفصلًا عن سياقه التاريخي الذي أدى إليه. ولا يخفى أن أصحاب هذا الموقف النبيل لا يملكون إلا الصوت والكلمة، ولم يستطيعوا إلى الآن إلا أن يضغطوا في اتجاه إيقاف الحرب، والعمل على إبراز بقايا الإنسانية التي ما زالت كامنة في منظومتهم الثقافية. ولعلنا نلاحظ هنا أن المواقف الحاسمة والمؤثرة في أحداث غزة الحالية لا تصنعها العواصم العربية ولا الإسلامية للأسف؛ لا على المستوى الرسمي ولا الجماهيري، ونستعير من الدكتور نجيب الكيلاني عنوان روايته: "الظل الأسود"؛ للتعبير عن هذا الاستبداد المتمكن في تلك البلاد منذ انفصلت عن الاستعمار، حتى فقدت خلال هذه العقود قدرتها على التأثير حتى في قضاياها الأخص.. لقد ترحّل عنها التأثير يوم غطاها هذا الظل الكالح، وصارت تحت سيطرته لا تُرى إلا باهتة فاقدة لأسباب الحياة. ونعيد السؤال من جديد: أي هذين الطرفين الغربيين يمثل الثقافة السائدة والأكبر تأثيرًا في العالم الآن؟ لا شك أن الجانب الإنساني قد ضمر في بنيان هذه الثقافة بصورة واضحة، لكنه لم ينمحِ تمامًا، وهذا الوجود الضامر قابع وكامن في ذواكر ونفوس أهل هذه الثقافة، ويعبر عن نفسه أحيانًا متصالحًا مع نفسه؛ أي لا يستثني حالة بشرية اطلع عليها تستحق التعاطف، وأحيانًا أخرى يعبر عن نفسه متناقضًا مع ذاته، فيتعاطف في حالات ويتنازل عن إنسانيته في أخرى؛ فـ"بيل غيتس" مثلًا – مؤسس وأكثر فرد مالك لأسهم في شركة مايكروسوفت التي تدعم بوسائلها التقنية المتقدمة جرائم الاحتلال مباشرة – هو نفسه أحد أكبر المتبرعين بالمساعدات لعلاج الأمراض المتوطنة ونتائج الجوائح والكوارث في العالم، حتى سجل تقرير مؤسسته الخيرية قوله عن جهودها الخيرية في العام الماضي: "التزمت مؤسسة بيل وميليندا غيتس بإنفاق 8.6 مليارات دولار هذا العام؛ للمساعدة في تلبية الاحتياجات المتزايدة، وتمويل طرق مبتكرة لإنقاذ الأرواح، وتحسين حياة الناس". ومن هنا يمكننا أن نزعم أننا أمام تعبير غربي انشطاري إزاء الحدث الغزي الضخم؛ أعني أن أحد شطريه يتبنى جانبًا من ثقافته والثاني يتبنى الآخر، وما دام النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن امتداد الحدث الغزي سيمثل مزيدًا من الضغط لزيادة التمايز بين الفريقين المذكورين، ولو بقي هذا مجرد رواسب نفسية كاشفة للزيف، فإن له تأثيرًا ما في الواقع والمستقبل. ولكن هل يمكن أن يؤدي هذا إلى تغييرات عميقة أو حتى سطحية في الموقف الأخلاقي الغربي من الآخر مهما يكن؟ الحقيقة أن هذه الانشطارية قد عاشتها هذه المجتمعات من قبل في أحداث عدة، وإن بصورة أقل حدة؛ منها مثلًا: الغزو الأميركي الغربي للعراق عام 2003 بأسباب لم يستسغها كثير من المثقفين والشباب الأميركي والأوروبي، حتى جرى كثير من التواصل بين جموع المحتجين في العالم لتنسيق التظاهرات والجهود المناوئة للحرب، لكن لم يعقب هذا الأمر أي تغيير ملحوظ في المواقف الغربية الرسمية من القضايا المشابهة. ويبدو أن الأمر رهن بالنفوذ المالي والسياسي والإعلامي، فمن يدير ويوجه العمل في هذه المجالات هو الذي يربح معارك التغيير والثبات في النهاية. إن الحركة الاجتماعية لكي تكون تغييرية فلا بد أن تتخذ شكل مؤسسات تعمل في عصب الحياة الحساس للمجتمع، وتركز على المفاصل التي من شأنها أن تحمل مستقبلًا أفضل في التعبير الأخلاقي عن النفس؛ مثل: مدارس الأطفال، وكليات العلوم الإنسانية، ومؤسسات تخريج القادة، والأحزاب السياسية، ومنابر الرأي والكلمة.

"التعريب".. يحمي الأمة من فقدان الهوية أم يعزلها عن العالم؟
"التعريب".. يحمي الأمة من فقدان الهوية أم يعزلها عن العالم؟

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

"التعريب".. يحمي الأمة من فقدان الهوية أم يعزلها عن العالم؟

يعتبر التعريب من أكثر القضايا إثارة للجدل في الأوساط التعليمية والثقافية، حيث ينقسم المختصون بين مؤيدي تعزيز الهوية العربية عبر تعريب المناهج ومعارضي عزل التعليم عن اللغات العالمية. اقرأ المزيد

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store