
هذا هو شكل الغرب بدون أقنعة
أجيبُ مبكرًا عن هذا السؤال بأن كل هؤلاء (في جملتهم) يمثلون المنظومة الثقافية التي يحملون اسمها على تفاوت طبيعي في مستويات تمثيلهم لها، وربما تنوع تفسيرهم لها، وطريقة تنزيلهم إياها على الوقائع الجزئية للحياة. وتلك الأخيرة هي المختبر الحقيقي الكاشف عن طريقة تمثل الأفراد والمؤسسات لثقافتهم.
وفي تفاصيل هذا لا يختبئ الشيطان؛ على عكس ما يقول المثل الشهير، بل تكمن إشكالات طبيعية هي جزء من الحياة التي نحياها بجدلياتها المعتادة، وتحتاج هذه الإشكالات إلى تفكيك وفهم؛ كي نفقه الإجابة المجملة السابقة، ونحمل المعاني على وجوهها الأرجح على الأقل.
التمثيل المتناقض
أول هذه الإشكالات هو أن المنظومة الواحدة غالبًا ما تمثلها – في جانب السلوك – بعض الشخصيات والتنظيمات تمثيلًا عنيفًا، وبعضها الآخر يترجم عنها ترجمة يغلب عليها الرفق واللين؛ فهل يرجع هذا إلى طبيعة المنظومة نفسها أو إلى الطبيعة النفسية للبشر؟
فمثلًا، ظهر في ثقافات الشرقين الأقصى والأدنى، والغربين الأقصى والأقرب، والجنوبين البعيد والقريب؛ من قدَّم ثقافته تقديمًا رقيقًا يحتوي المخالف ويراعي حقوقه، وكذلك ظهر فيها جميعًا تقريبًا من ينفي الآخر، ويلغي حقوقه، بل إنسانيته أحيانًا، ويستعمل في مواجهته العنف ربما بصورة مرعبة. وكلا الفريقين يتكئ – في تعقيد واضح للمسألة – على حجج مستمدة من الوضع الثقافي الذي تكيفت عليه عقليته، وتربت عليه مشاعره.
ولفهم هذا لا ينبغي أن ننسى أساسًا مهمًا لتفكيك هذه الإشكالية، وهو أن أي منظومة ثقافية لا بد أن تنعكس فيها وبصورة تراكمية نفسيات بشرية تقف وراء تأسيسها وصنعها وتفسير نصوصها وتبيين قواعدها خلال الأجيال المتتالية، كما ينعكس فيها التاريخ والأحداث المؤثرة التي صُنعت خلالها.
وهذا البُعد يعبر عن النسبية المطلقة التي تنشط فيها الشخصية البشرية الفردية والجمعية، حتى وهي تحاول أن تفهم نصًا مقدسًا.
ويتفرع عن هذا التفاعلِ بين الإنسان والظرف الحاوي والبيئة المحيطة بتنوع ما تلده أثناء تقلباتها وتحولاتها من الأحوال السارة والمحزنة، والنافعة والضارة؛ أن تُعِد الثقافة في بنيتها لكل موقف عدته، فموسم المطر وموسم الحصاد وعقد الزيجات والولادة وهبوب النسيم العليل ومواقف الإحسان؛ ليست كحلول الموت والقحط والحرارة اللافحة والزمهرير وهجوم الأعداء ومواقف الإساءة.
لذا تحتوي الثقافات التي تحيا هذه التقلبات – حين نفترض توافقها مع نفسها ومع منطق الحياة – على تنوعات نظرية للتفاعل مع هذه المتناقضات؛ كلٌّ بقدره وحسب نوعه، وعلى من يمثل هذه الثقافة – فردًا أو جمعًا حسب ما تفترض هي – أن يستصحب تنوعاتها وأصولها هذه في تصرفاته؛ وإلا فماذا يعني انتماؤه إليها؟
ولما لم يكن الإنسان عقلًا خالصًا؛ كما اتفق عليه الدارسون والفاحصون قديمًا وحديثًا، فإن للرغبات والميول وطبيعة الشخصية ومدى قدرتها على مقاومة الانسياق وراء الآخرين وإغراءاتهم؛ دورًا أكيدًا، بل قد يكون المحدِّد الأول لاختيارات الإنسان.
لذا، فُسِّرت المنظومات الثقافية المختلفة خلال السلوك تفسيرات متناقضة، حتى حين استندت إلى نصوص دينية منضبطة، ومن هنا برز التاريخ على صورته التي نعرفها؛ ما بين نبلاء النفس والخُلُق حتى في ساحات الحرب، ووحوش كاسرة حتى في المعاملات اليومية المعتادة.
ولا يعني هذا تصويب كل أحد، أو قبول كل تفسير له يقدمه لمنظومته الثقافية في هذا الموقف أو ذاك، بل هو التحليل والبيان ومحاولة الفهم، والصحيح هو التصرف على قدر الموقف والسياق؛ فمثلًا المسيحي اليميني في الغرب – لو ضربنا المثال بالمواقف الخشنة للحياة – يوظف مسيحيته من خلال نص "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" بإطلاق، وقد يفعل مثله مسلم ضعيف الفقه في نص الحديث: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله…"، كما يفعل بوذي ينسى تسامحه مع المخلوقات حتى الحشرات، ولكنه يقتل المسلم الروهينغي بوحشية ويشرّده في البر والبحر بلا ذنب جناه. وكذلك يهودي يستحضر في تصرفه مع مخالفيه؛ فضلًا عن خصومه، ما فعله يشوع في حروبه من إبادة للحياة والأحياء وتحريق للحجر والشجر حسب أسفار القوم، وهكذا.
وفي هذه الأحوال يغيب الفهم المتوازن القائم على إدراك سياقات تنزيل وتفعيل الجانب المناسب من الثقافة التي ينتمي إليها الفاعل، وقبل ذلك تغيب وظيفة الشعور الإنساني والإحساس البشري بالمواقف، وهو أمر قارٌّ في عمق الفطرة البشرية، ولعله يمثل أحد مصادر الحكم البشري السَّويّ المشترك في المواقف العملية.
ولا يعنينا هنا الميزان الأخلاقي السابق الذي اتكأنا عليه فقط، بل يعنينا إلى جانبه كذلك ميزان التحليل الباحث عن تعليل وتفسير لهذا السلوك البشري؛ لأن التصالح مع أصحابه ليس متاحًا في كل الأحوال، فإن لم ينفع معهم التصالح فلْيُجدِ الفهم والتحليل يومًا ما!
ولكي نلخص ما سبق، فإن أهل الثقافة الواحدة يقدمون في العادة تطبيقات متناقضة في المواقف المتشابهة؛ بسبب تنوع الأحكام النظرية في تلك الثقافة، إلى جانب اختلاف الطبائع والشخصيات لدى البشر وما لها من تأثير محقق في تصرفاتهم وتفسيراتهم.
إشكالية الانقسام وتحديد الممثِّل.. غزة نموذجًا
ما دامت الثقافة والطبيعة البشرية لممثليها؛ هما معًا ما نعلل به الاختلاف السابق، فلندخل في إشكالية أدق، وهي: أنه حين يكون الاختلاف اختلاف تناقض تام بين ممثلي ثقافة واحدة في موقف واحد ممتد، ولا يمكن أن يختلف عليه اثنان يفهمان معنى الكلام الإنساني وحقيقة الأفعال البشرية؛ فهل سيظلان معًا ممثلينِ لثقافة واحدة؟
وحرب غزة الحالية هي المثال الجلي لإيضاح هذه النقطة؛ إذ لا يمكن أن يطلع على قضيتها وأحداثها الحالية مطلع له عقل وضمير، إلا حكم بأنه عدوان وحشي وإبادة جماعية على جموع غفيرة من البشر ارتكب بعض أبنائها "خطأ" بمنطق المفعول به وأنصاره، ومارس "فعلًا مقاومًا للاحتلال" باعتباره من حق كل إنسان بمنطق أصحاب الأرض وأنصارهم.
فهناك إذن اتفاق – أو شبه اتفاق! – على أن العقوبة تجاوزت ما عدَّه الطرف الأول اعتداءً بمراحل كثيرة جدًا، ومن هنا كان يجب أن تكون المناداة والمساعي العملية إلى إيقاف الحرب بعد كل هذا الوقت وكل هذا القتل وكل هذا الدمار محل إجماع، وهو ما لم يحدث أبدًا مع الأسف.
انقسم الموقف الغربي إزاء أحداث غزة لطرفين؛ أولهما: ليس متعاطفًا فقط مع الاحتلال وإجراءاته المجاوزة لكل حدود العنف المسوَّغ بمستويات قياسية، بل إنه يمده أيضًا بالأدوات العسكرية والوسائل التكنولوجية التي يوظفها في ممارساته، ويقدم له الدعم الإعلامي، ويضيّق على ناقديه من أي جنسية كانوا.
وأهم ما يميز هذا الطرف هو: كونه في موضع مسؤولية سياسية حاليًا، أو ينتمي إلى تيار سياسي واجتماعي يميني يؤمن بأن "الناس" ليسوا جميعًا "بشرًا" متساوين في الحقوق، أو صاحب مصالح اقتصادية ضخمة، أو حتى يخشى سطوة الصهيونية السياسية والدينية على نفسه ونفوذه وثروته، أو يتماهى مع محيطه الاجتماعي المتعاطف مع الاحتلال بقطع النظر عن كونه الظالم أو المظلوم.
ومجموع هذه الميزات أتاح لهم التدخل المباشر في الحدث الغزي المؤلم لصالح الاحتلال، وسمح لهم بقمع ما استطاعوا من الأصوات المنادية بإيقاف الإبادة والدم النازف في غزة، بل والأصوات الفاضحة مجرد فضح للعدوان والكاشفة للحقيقة مجرد كشف، حتى طاردوا مشاهد الفيديو والعبارات والإشارات المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي والمناصِرة لحقوق أهل غزة في الطعام والشراب والأمان!
هذا هو الطرف الأول وموقفه، وأما الطرف الثاني، فيمثله كثير من المشاهير الغربيين وممثلي المنظمات الدولية، وليس فقط مجرد موقف جماهيري لقطاع واسع من الشباب الجامعي وغير الشباب ممن يملؤون شوارع المدن الكبرى والجامعات في الولايات المتحدة وكندا ودول الاتحاد الأوروبي بالاحتجاج والتظاهر، ويرون الحقيقة واضحة، سواء خطّؤُوا المقاومة الفلسطينية في هجومها الذي شنته في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أو اعتبروه فعلًا مشروعًا وسعيًا مستحَقًا لاستعادة الحقوق المسلوبة، وأنه لا ينبغي أن ينظَر إليه منفصلًا عن سياقه التاريخي الذي أدى إليه.
ولا يخفى أن أصحاب هذا الموقف النبيل لا يملكون إلا الصوت والكلمة، ولم يستطيعوا إلى الآن إلا أن يضغطوا في اتجاه إيقاف الحرب، والعمل على إبراز بقايا الإنسانية التي ما زالت كامنة في منظومتهم الثقافية.
ولعلنا نلاحظ هنا أن المواقف الحاسمة والمؤثرة في أحداث غزة الحالية لا تصنعها العواصم العربية ولا الإسلامية للأسف؛ لا على المستوى الرسمي ولا الجماهيري، ونستعير من الدكتور نجيب الكيلاني عنوان روايته: "الظل الأسود"؛ للتعبير عن هذا الاستبداد المتمكن في تلك البلاد منذ انفصلت عن الاستعمار، حتى فقدت خلال هذه العقود قدرتها على التأثير حتى في قضاياها الأخص.. لقد ترحّل عنها التأثير يوم غطاها هذا الظل الكالح، وصارت تحت سيطرته لا تُرى إلا باهتة فاقدة لأسباب الحياة.
ونعيد السؤال من جديد: أي هذين الطرفين الغربيين يمثل الثقافة السائدة والأكبر تأثيرًا في العالم الآن؟
لا شك أن الجانب الإنساني قد ضمر في بنيان هذه الثقافة بصورة واضحة، لكنه لم ينمحِ تمامًا، وهذا الوجود الضامر قابع وكامن في ذواكر ونفوس أهل هذه الثقافة، ويعبر عن نفسه أحيانًا متصالحًا مع نفسه؛ أي لا يستثني حالة بشرية اطلع عليها تستحق التعاطف، وأحيانًا أخرى يعبر عن نفسه متناقضًا مع ذاته، فيتعاطف في حالات ويتنازل عن إنسانيته في أخرى؛ فـ"بيل غيتس" مثلًا – مؤسس وأكثر فرد مالك لأسهم في شركة مايكروسوفت التي تدعم بوسائلها التقنية المتقدمة جرائم الاحتلال مباشرة – هو نفسه أحد أكبر المتبرعين بالمساعدات لعلاج الأمراض المتوطنة ونتائج الجوائح والكوارث في العالم، حتى سجل تقرير مؤسسته الخيرية قوله عن جهودها الخيرية في العام الماضي: "التزمت مؤسسة بيل وميليندا غيتس بإنفاق 8.6 مليارات دولار هذا العام؛ للمساعدة في تلبية الاحتياجات المتزايدة، وتمويل طرق مبتكرة لإنقاذ الأرواح، وتحسين حياة الناس".
ومن هنا يمكننا أن نزعم أننا أمام تعبير غربي انشطاري إزاء الحدث الغزي الضخم؛ أعني أن أحد شطريه يتبنى جانبًا من ثقافته والثاني يتبنى الآخر، وما دام النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، فإن امتداد الحدث الغزي سيمثل مزيدًا من الضغط لزيادة التمايز بين الفريقين المذكورين، ولو بقي هذا مجرد رواسب نفسية كاشفة للزيف، فإن له تأثيرًا ما في الواقع والمستقبل.
ولكن هل يمكن أن يؤدي هذا إلى تغييرات عميقة أو حتى سطحية في الموقف الأخلاقي الغربي من الآخر مهما يكن؟
الحقيقة أن هذه الانشطارية قد عاشتها هذه المجتمعات من قبل في أحداث عدة، وإن بصورة أقل حدة؛ منها مثلًا: الغزو الأميركي الغربي للعراق عام 2003 بأسباب لم يستسغها كثير من المثقفين والشباب الأميركي والأوروبي، حتى جرى كثير من التواصل بين جموع المحتجين في العالم لتنسيق التظاهرات والجهود المناوئة للحرب، لكن لم يعقب هذا الأمر أي تغيير ملحوظ في المواقف الغربية الرسمية من القضايا المشابهة.
ويبدو أن الأمر رهن بالنفوذ المالي والسياسي والإعلامي، فمن يدير ويوجه العمل في هذه المجالات هو الذي يربح معارك التغيير والثبات في النهاية.
إن الحركة الاجتماعية لكي تكون تغييرية فلا بد أن تتخذ شكل مؤسسات تعمل في عصب الحياة الحساس للمجتمع، وتركز على المفاصل التي من شأنها أن تحمل مستقبلًا أفضل في التعبير الأخلاقي عن النفس؛ مثل: مدارس الأطفال، وكليات العلوم الإنسانية، ومؤسسات تخريج القادة، والأحزاب السياسية، ومنابر الرأي والكلمة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 18 دقائق
- الجزيرة
مشاهد مفجعة غير مسبوقة من مركز المساعدات الأميركي في غزة
في مشهد صادم، تدافع آلاف الفلسطينيين الجوعى يوم السادس والعشرين من مايو/ أيار 2025، أمام أحد مراكز توزيع المساعدات في رفح، مما أدّى إلى فوضى عارمة اضطرّت معها القوات الإسرائيلية لإطلاق النار في الهواء. لم يكن هذا مجرد خلل تنظيمي، بل صورة مكثفة لمعاناة شعبٍ حُوصر حتى العظم، وترك ليتقاتل على فتات الغذاء تحت بنادق الجنود. وفي محاولة سابقة، كان مشروع "الميناء العائم" الذي روّجت له إسرائيل والولايات المتحدة كحلٍّ مبتكر لإدخال المساعدات، قد انهار قبل أن يبدأ فعليًا، وسط انتقادات لوجيستية وأمنية حادة، ما زاد من الشكوك حول جدية هذه المبادرات. وسط هذه الكارثة، برزت مبادرة إسرائيلية- أميركية جديدة تحت عنوان "المساعدات الإنسانية"، أثارت أسئلة جوهرية: هل يمكن لخطة تُدار بمنطق الاحتلال وتُوزّع تحت إشراف عسكري أن تُوصف بأنها إنسانية؟ وأين الحياد والاستقلال حين تُهمَّش الوكالات الأممية لصالح كيانات أمنية جديدة؟ هذا التقييم يحاول تفكيك تلك الخطط من خلال محاور قانونية وإنسانية لرصد مدى التزامها – أو انحرافها – عن المبادئ الدولية للعمل الإغاثي. أولًا: الوضع القانوني لغزة ومسؤوليات الاحتلال رغم انسحاب إسرائيل من داخل غزة عام 2005، لا تزال تُعدّ قانونيًا قوة احتلال، نظرًا لاستمرار سيطرتها على الحدود والمعابر، وفقًا لمحكمة العدل الدولية والأمم المتحدة. إعلان وهذا يُحملها مسؤولية تأمين احتياجات السكان، بما يشمل إدخال المساعدات بشكل تلقائي وانسيابي. ورغم عملية (7 أكتوبر/ تشرين الأول)، لا يبرر القانون الدولي سلوك إسرائيل العقابي بحق المدنيين، إذ يحظر العقوبات الجماعية، ويُوجب استمرار حماية السكان. لذا، فإن أية خطة مساعدات لا تنبع من هذه المسؤولية- بل تُوظّف للتهرّب منها- تُعدّ مخالفة واضحة للقانون الدولي الإنساني. خرق المبادئ الإنسانية في خطط الإغاثة تستند عمليات الإغاثة الدولية إلى أربعة مبادئ إنسانية أساسية توجه عمل المنظمات، وهي (الإنسانية): تخفيف المعاناة وحماية الحياة والصحة (الحياد): عدم الانحياز في النزاعات (الاستقلال): عن أي اعتبارات سياسية أو عسكرية وعدم التمييز (الحيادية): أي إيصال المساعدة للمحتاجين دون تفرقة. هذه المبادئ تهدف لضمان أن تكون المساعدات خالصة للأغراض الإنسانية، لا تُستغل لتحقيق أجندات سياسية أو عسكرية. غير أن الخطط الإسرائيلية- الأميركية في غزة – وعلى رأسها مبادرة "مؤسسة غزة الإنسانية (GHF)" – تثير تساؤلات جدية حول مدى احترامها هذه المبادئ. تأسست (GHF) في الولايات المتحدة (ولاية ديلاوير) في (فبراير/ شباط 2025) بدعم من إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية؛ بهدف توزيع الغذاء في غزة بصورة "آمنة وشفافة". ولكن منذ انطلاقتها واجهت المؤسسة انتقادات حادة من منظمات إنسانية تتهمها بتسييس توزيع المساعدات. فالخطة التشغيلية المعلنة لـ (GHF) شذت عن الأعراف المعمول بها: حيث اعتمدت إقامة 4 مراكز توزيع كبيرة (غالبيتها في جنوب القطاع)، تحت حراسة مشددة من الجيش الإسرائيلي، وشركات أمنية أميركية خاصة، مع نشر جنود إسرائيليين في محيطها لـ"ضمان الحماية". وقد تفاخر القائمون على الخطة بأنها النموذج الوحيد الذي نال موافقة إسرائيل لتوزيع الإغاثة، ما يعني ارتهان العملية بالكامل لإرادة القوة المحتلة. وفي هذا تعارض صارخ مع مبدأ الاستقلالية. فبدلًا من أن تكون المساعدات بقيادة جهات أممية أو محايدة، باتت مشروطة بتنسيق أمني إسرائيلي يشرف على كل تفصيل. كذلك مبدأ الحياد تعرض للخرق عبر اشتراط "تدقيق أمني" للمستفيدين؛ إذ أعلن مسؤولو (GHF) أنهم سيُخضعون السكان للفحص بشأن أي صلة محتملة بحماس عبر تقنيات كالتعرف على الوجوه والبيومترية. هذا الشرط يعني تمييزًا سياسيًا في إغاثة المدنيين، وهو انتهاك لمبدأَي: الحياد وعدم التمييز. أما مبدأ الإنسانية نفسه فموضع شك، إذ حجّمت الخطة نطاق المساعدات بصورة كبيرة لا تفي بالاحتياجات الهائلة. فقد اقترحت (GHF) توزيع وجبات معلبة ومواد نظافة ودواء مرّة أو مرتين شهريًا فقط عبر مراكزها، مع تحديد تكلفة الوجبة بنحو 1.3 دولار فقط (بما يشمل الشراء والتوزيع)، ما يُظهر محدودية المحتوى الإغاثي. انتقدت الأمم المتحدة وجمعيات دولية هذا البرنامج بوصفه غير شفاف وغير كافٍ، مؤكدة أنه لن يلبّي الاحتياجات واسعة النطاق في غزة. وتساءل مسؤولون أمميون إن كانت هذه "المساعدات" سوى ورقة توت لتغطية أهداف عسكرية وسياسية. وقد صرّح توماس فليتشر – كبير مسؤولي الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة – بأن خطة (GHF) ليست إلا "واجهة زائفة لمزيد من العنف والتهجير"، محذرًا من أنها تجعل إيصال الغذاء مشروطًا بالأهداف السياسية والأمنية الإسرائيلية، بحيث يتحول "التجويع إلى ورقة مساومة"، ووصفها مسؤول أممي آخر صراحة بأنها "تسليح للمساعدات" (Weaponizing Aid). هذه الانتقادات تبلورت بشكل عملي عندما استقال المدير التنفيذي لـ (GHF) جيك وود في (25 مايو/ أيار 2025)، معلنًا أنه وجد استحالة في تحقيق أهداف المؤسسة مع "الالتزام الصارم بالمبادئ الإنسانية من إنسانية وحياد وعدم انحياز واستقلال". وأقرّ وود أنه لن يشارك في أي خطة تنطوي على تهجير قسري للفلسطينيين، داعيًا إسرائيل إلى فتح المعابر أمام إدخال كميات أكبر من المساعدات دون إعاقة أو تمييز. ورغم ذلك أعلنت (GHF) المضي قدمًا بدونه، وادّعت أنها ستباشر إطعام مليون فلسطيني خلال أسبوع. لكن أولى عمليات التوزيع كشفت هشاشة الخطة؛ فمع افتتاح مركز في رفح في (26 مايو/ أيار 2025) تدافع آلاف الجوعى بشكل خرج عن السيطرة، واضطر الموظفون للانسحاب بعد إطلاق الجيش الإسرائيلي نيرانًا تحذيرية لتفريق الحشود اليائسة. مشاهد الفوضى هذه أكدت مخاوف المراقبين من أن الخطة تفتقر لمقومات الحياد والسلامة، وتضع المدنيين في خطر، في ظل تهميش متعمّد للوكالات الدولية التقليدية: (كالأونروا واللجنة الدولية للصليب الأحمر) ذات الخبرة في التعامل المباشر مع السكان. واللافت أن إسرائيل استبعدت فعليًا الأونروا والمؤسسات الأممية من آلية الإغاثة الجديدة؛ بذريعة انهيار قنواتها، ما اعتبره الفلسطينيون محاولة لاستبدال المؤسسات الشرعية بكيانات مُسيطر عليها إسرائيليًا. وقبل ظهور مؤسسة (GHF)، طُرحت مبادرة إنشاء "ميناء بحري عائم" قبالة شواطئ غزة بإشراف الجيش الأميركي كممر لدخول المساعدات. رُوّج لهذه الخطة باعتبارها حلًا مبتكرًا لتجاوز العقبات اللوجيستية، لكنها افتقرت منذ بدايتها إلى أساس قانوني وإنساني واضح. فالميناء لم يكن مستقلًا، بل خاضعًا للتفتيش والسيطرة الإسرائيلية، ومحدود القدرة، دون إشراك فعّال للوكالات الأممية. وما لبث أن انهار فعليًا في (أبريل/ نيسان 2025)، حين جرفت العواصف منشآته الأولية، تزامنًا مع فضائح تتعلق بتضارب الصلاحيات وغياب التنسيق. وقد وصفته منظمات دولية بأنه "ميناء دعائي" أكثر من كونه مسارًا إغاثيًا حقيقيًا. هذا الفشل الميداني يكمّل إخفاق تجربة (GHF)، ويعكس هشاشة كل مشروع إغاثي يُبنى على اعتبارات أمنية لا على أسس إنسانية وقانونية. تُظهر تحليلات إضافية أن الخطط الإسرائيلية- الأميركية المقترحة لغزة، وعلى رأسها مبادرة (GHF)، لا تعاني فقط من اختلالات في المبادئ الإنسانية، بل تنطوي على أهداف أعمق تتجاوز الإغاثة الظاهرية. إذ يرى مراقبون أن هذه الخطط تسعى إلى "إعادة تغليف الحصار وتقنين التجويع"، في صورة مشروع إنساني، حيث يُستخدم الغذاء كأداة إخضاع لدفع السكان نحو النزوح عبر إنهاكهم الجسدي والنفسي. كما أن عسكرة التوزيع لا تقتصر على الحماية العسكرية، بل تشمل أبعادًا استخباراتية، من خلال إشراك شركة أمنية أميركية (Safe Reach Solutions) أسسها ضابط سابق في (CIA)، تتولى جمع وتحليل بيانات المستفيدين، وربما استخدام تقنيات بيومترية، ما يجعل الفلسطيني يخشى أن يتحول إلى هدف أمني لمجرد طلبه المساعدة. وفي السياق ذاته، حذرت شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية (PNGO) في بيان بتاريخ (22 ديسمبر/ كانون الأول 2024) من أن إسرائيل تسعى إلى التحكم الكامل في توزيع المساعدات، وإسكات الأصوات التي توثق الانتهاكات، معتبرة أن هذه السياسات تتزامن مع تصاعد الجرائم إلى حد الإبادة، كما وثّقته تقارير أمنستي وهيومن رايتس ووتش. ويُعد استبعاد الأمم المتحدة ووكالاتها من آلية الإغاثة الجديدة خطوة خطيرة، إذ يُفقد العملية الإنسانية شفافيتها، ويحرم السكان من آليات الشكوى الدولية. وقد رحّبت منظمات حقوقية دولية، مثل (AIDA)، بمواقف دول كأيرلندا، وإسبانيا، والنرويج التي شدّدت على ضرورة دعم الأونروا وعدم الالتفاف عليها. من اللافت أن النسخة السويسرية من (GHF) أُغلقت قبل أن توزع أي طعام، تحت وطأة تحقيقات جنائية، ما اضطر القائمين عليها إلى نقل العمليات إلى كيان أميركي يحمل الاسم نفسه. وقد كشفت تحقيقات صحفية في New York Times وWashington Post أن هذه الخطة وُلدت من داخل الحكومة الإسرائيلية، التي حاولت إخفاء دورها عبر واجهات خيرية أجنبية، فيما وصف زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد كلًا من (GHF) وشركة (SRS) الأمنية بأنهما "شركات وهمية" هدفها التغطية على تورط الحكومة. ثالثًا: تجويع غزة بين الجريمة المقصودة والخطط المُعلّبة ومع بدء الهجوم الإسرائيلي الواسع على غزة في (أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، لم تقتصر الانتهاكات على القصف والتدمير العسكري، بل اتّخذت شكلًا مركبًا من سياسات التجويع والتهجير القسري، والتدمير الجماعي للبنى التحتيّة والمدنيين، ما دفع منظّمات دولية مرموقة، كالعفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، إلى اعتبار ما يجري جريمة إبادة جماعية محتملة. وقد استندت هذه التوصيفات إلى حجم الخسائر البشرية الهائل، ونمط الحرمان الممنهج من مقوّمات الحياة، ووضوح نيّة الإبادة في الخطاب الرسمي لبعض القادة الإسرائيليين. وفي الوقت ذاته، فُرض حصار شامل على القطاع طال الغذاء والماء والكهرباء والدواء، واعتُبر استخدام "التجويع كسلاح حرب" جريمة إضافية تؤسس للمساءلة الجنائية الدولية، خصوصًا بعد أن طلب مدعي المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع، لضلوعهما في استخدام الحصار والتجويع كوسيلة لمعاقبة جماعية. وفي هذا السياق، فإن المتّهم بارتكاب أفعال ترقى إلى الإبادة الجماعية والعقاب الجماعي، يَبرز معه سؤال جوهري: كيف يمكن لمن يرتكب جرائم إبادةٍ وحصارٍ أن يطرح خططًا إنسانية؟ كيف يمكن للجاني أن يتقمّص دور المُنقذ؟ إن ما يُعرض على أنه "مساعدات" ليس إلا تغليفًا ناعمًا لسياسة الخنق، بل محاولة لشرعنة الجريمة من خلال إنشاء مؤسسات ذات طابع أمني- سياسي مثل مؤسسة (GHF)، تهمّش الوكالات الإنسانية المحايدة، وتقيّد التوزيع بشروط أمنية تمسّ جوهر الحياد والاستقلال. آفاق المستقبل: نحو تحصين العمل الإنساني من العبث والتسييس تُعد تجربة (GHF) نموذجًا تحذيريًا لما قد يحدث حين تُختطف المبادئ الإنسانية وتُدار الإغاثة كأداة في يد المحتل. لكن هذا الفشل بحد ذاته يفتح نوافذ مستقبلية يمكن البناء عليها، أبرزها: عودة الاعتبار للمبادئ الإنسانية الأربعة: أثبت الواقع أن أي خطة إغاثية لا تقوم على الحياد والاستقلالية والإنسانية وعدم التمييز، مصيرها الفشل. سيُدفع المجتمع الدولي إلى مراجعة سياساته بخصوص إشراك الدول المحتلة في إدارة المساعدات، تجنبًا لتكرار ما حصل في غزة. تعزيز دور الوكالات الأممية والجهات المحايدة: الفشل الصارخ لمحاولة تهميش الأونروا والصليب الأحمر سيُعيد التأكيد على ضرورة التمسك بالفاعلين التقليديين ذوي الخبرة والثقة المجتمعية. هذا يعزز مكانة العمل الإنساني كمجال مستقل، لا كذراع سياسية لأي جهة. مأسسة الحماية القانونية للعمل الإنساني: ستكون هناك حاجة ملحة لوضع خطوط حمراء قانونية تمنع عسكرة المساعدات. منظمات الإغاثة الدولية ستطالب بوثائق مرجعية جديدة، تُلزم الدول باحترام المعايير، وقد يُدفع نحو إصدار بروتوكول إضافي ملزم ضمن اتفاقيات جنيف. تفعيل المساءلة القضائية: ما جرى في غزة قد يخلق سوابق قانونية تُدين استخدام التجويع كسلاح، وتمهّد لإدراج تسييس المساعدات ضمن أشكال الجرائم ضد الإنسانية. وستُستخدم تجربة (GHF) كشاهد في المحاكم الدولية لإثبات سوء النية وانتهاك المبادئ. غزّة من قضية محلية إلى اختبار أخلاقي عالمي: لم تعد غزة مجرّد شأن فلسطيني داخلي أو صراع إقليمي معزول، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس مدى التزام العالم بروح العمل الإنساني. إنها ليست فقط ساحة للمأساة، بل لحظة كاشفة لاختبار الضمير العالمي: هل لا يزال التضامن الإنساني قادرًا على تجاوز الجغرافيا والاصطفافات السياسية؟ لقد أظهرت الفضيحة المرتبطة بتسييس المساعدات أن الإنسانية ذاتها أصبحت موضع مساومة. ومن هنا، فإن غزة ليست محطة عابرة، بل نقطة تحوّل يمكن أن تعيد تعريف مفاهيم الحياد والاستجابة الطارئة، وتدفع باتجاه بناء منظومة إغاثية عادلة لا تُسلّح ولا تُشترط، بل تصون الكرامة وتُبقي الحياة ممكنة في وجه الحصار والإبادة.


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
تعرف على موسكو أكبر مدن أوروبا وقلب روسيا النابض
موسكو- تعد موسكو عاصمة روسيا، وأكبر مدنها وقلبها التاريخي والسياسي والروحي، كما تعتبر أكبر عاصمة في أوروبا، وهي مدينة مليئة بالمعالم السياحية والتاريخية والثقافية، فضلاً عن المتاحف والمسارح والمعارض الفنية والحدائق والجسور الخلابة ذات المستوى العالمي. وكونها ذات ديناميكية وحجم كبيرين، حيث تعج بالأماكن المثيرة للاهتمام والتي من غير المبالغة القول إنها تعد بالآلاف. تأسست موسكو في العام 1147، ومساحتها تصل إلى نحو 2560 كيلومتر مربع، وتذخر بالمعالم والقصور القديمة، والتي تقف جنبا إلى جنب مع المباني الضخمة ذات الطابع الهندسي المعماري السوفيتي فضلًا عن المباني الحديثة. وتتمتع بمناخ قاري معتدل، فعادة ما يكون الصيف هنا دافئا نسبيًا، أما الشتاء فبارد جدا والخريف بارد وممطر، بينما يتميز فصل الربيع فيها بالطقس المتغير، حيث تتناوب الأيام الدافئة مع الأيام الباردة. تتمتع العاصمة الروسية ببنية تحتية متطورة وشبكة مواصلات تعد من الأفضل في العالم، وكذلك تعد من أبرز مدن العالم من حيث النظافة والتنظيم، كما تعتبر آمنة بشكل عام للزوار الأجانب فمعدل الجريمة منخفض. في موسكو، يمكنك السفر عبر العصور بمجرد المشي في الشوارع، حيث تنتظرك أنماط معمارية متنوعة عند كل منعطف. إعلان اشرع بالتعرف على المدينة من مركزها، ولتكن البداية من الكرملين أو الساحة الحمراء أو شارع "أرباط"، وما يحيط بهم من أماكن تاريخية، وجميعها متقاربة مع بعضها البعض، لذلك يمكنك التنقل فيما بينها سيرا على الأقدام. الساحة الحمراء قلب موسكو وواحدة من أشهر الساحات في العالم والمعلم الأكثر شهرة في روسيا. شهدت العديد من الأحداث المهمة في التاريخ الروسي وتاريخ الدولة السوفياتية، وموقع المظاهرات الحاشدة لعمال العاصمة واستعراضات الجيش الروسي. أطلق عليها اسم الساحة الحمراء في منتصف القرن السابع عشر، ولكن ليس للدلالة على اللون، بل لأن كلمة "الحمراء" كانت تعني في اللغة الروسية القديمة "الجميلة". جامعة موسكو أحد المعالم البارزة في العاصمة وهي مبنى عملاق مميز التصميم بناه الأسرى الألمان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كان يعتبر أطول مبنى في أوروبا لمدة 40 عامًا تقريبا – ولم يتفوق عليها إلا برج المعرض في مدينة فرانكفورت الألمانية في عام 1990. تحفة معمارية مميزة تضم أكثر نحو 6 آلاف غرفة وقاعة دراسية وغيرها. لذلك يقال إنك إذا جعلت طفلا عمره يوم واحد ينام في كل يوم في غرفة مختلفة من غرف الجامعة، فإنه سيخرج منها وقد بلغ من العمر أكثر من 16 عاما. مؤسسات ورموز الكرملين وهو رمز البلاد، عبارة عن مجمع تاريخي محصن يضم خمسة قصور وأربع كاتدرائيات، إضافة إلى جدار الكرملين المحيط به مع الأبراج، وهو المكان الذي بدأ معه بناء العاصمة المستقبلية لروسيا، ويقع فيه المقر الرسمي لرئيس البلاد. ضريح لينين يعد من أحد الرموز الرئيسية لعاصمة العصر السوفياتي، وهو قبو الدفن الذي يتم فيه حفظ جسد الزعيم الشيوعي فلاديمير لينين المحنط منذ قرن تقريبا، وقد شيد هذا الضريح في العام 1924 ويحمل أهمية تراثية ويعد نصبا تذكاريا، ومتحفا ومدفنا في الأساس ويقع في قلب الساحة الحمراء. كما تحتصن موسكو العديد من الصروح الدينية والثقافية، مثل كاتدرائية القديس باسيل، والتي تقع في الساحة الحمراء، وتشتهر بقبابها الملونة على شكل بصلة وتصميمها المعقد، وأيضاً يوجد صرح ثقافي يتمثل في مسرح البولشوي أي المسرح الكبير، وهو أحد أشهر المسارح في العالم، والمعروف بعروض الباليه والأوبرا، ويبعد خطوات قليلة عن الساحة الحمراء. كما تزدان موسكو بحدائق عامة مثل زارياديه أيضا تقع بجوار الساحة الحمراء، وهي حديقة عصرية تجمع ما بين الطبيعة والتكنولوجيا، وحديقة غوركي والتي تعد حديقة عالمية المستوى توفر مساحة شاسعة للترفيه والرياضة والرقص والألعاب الخارجية. وافتتحت هذه الحديقة في عام 1928، ويزورها أكثر من 20 ألف شخص في أيام الأسبوع، و100 ألف شخص في عطلات نهاية الأسبوع والأعياد. سميت بهذا الاسم تخليدا لذكرى الأديب الروسي مكسيم غوركي. ويجاور ضريح الجندي المجهول الكرملين، ويكرم هذا الضريح الجنود السوفيات الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الثانية، وأبرز ما يميز زيارة الضريح هو إمكانية مشاهدة مراسم تبديل الحرس المناوبين عند الضريح، والتي تجري كل ساعة على مدار اليوم، وذلك بطريقة تخطف الأبصار في حركاتهم وإيقاعهم الدقيق. متاحف ومعارض يمكنك القيام بجولة داخل متحف "الحرب الباردة" لكي تتعرف على الملاجئ السرية تحت الأرض التي تستخدم أيام الحرب، وهو متحف للتاريخ العسكري بمساحة تفوق 7 آلاف متر مربع وعلى عمق 65 متراً. تم إنشاء المتحف في ذروة الحرب الباردة خلال أزمة الصواريخ الكوبية (أكتوبر/تشرين الثاني 1962). من بين معروضات المتحف بدلات الحماية من الحرب الكيميائية، ومعدات الراديو من الخمسينيات، وأقنعة الغاز، وملصقات دعائية وغيرها من العناصر المثيرة للاهتمام. أما معرض تريتياكوف فيوصف بأنه كنز لا يقدر بثمن، ويحتوي على أكبر مجموعة في العالم من اللوحات التي رسمها فنانون روس، وقد تأسس المعرض في عام 1856 ويحتوي على أكثر من 200 ألف عمل فني. مترو موسكو قم برحلة في مترو موسكو للحصول على انطباع لا ينسى عن المدينة، فهو ليس فقط للتنقل السريع والبسيط التكلفة (سعر التذكرة أقل من دولار واحد) داخل المدينة المترامية الأرجاء، بل شبكة أنفاق بسحر خاص. إعلان افتتاح المترو في عام 1935 وأصبح أحد أكثر المشاريع المعمارية التي أنفق عليها كثيرا خلال حقبة الاتحاد السوفياتي. لهذا السبب تبدو معظم محطات المترو المركزية وكأنها متحف، حيث تتمتع كل واحد منها بأجواء خاصة بها وزخارف مختلفة وقصة شيقة. شارع "أرباط" هذا الشارع من أهم المناطق المحببة في موسكو والتي تجذب الضيوف من جميع أنحاء العالم حتى أولئك الذين يوجدون في موسكو لبضع ساعات فقط بروحه الخاصة وتاريخه الغني. وتتقاطع في شارع "أرباط" التقاليد والإبداع والحياة، مما يخلق جوا فريدا للمشي والرحلات والإلهام، وهو شارع المشاة الأسطوري الذي أصبح علامة تجارية ورمزا للعاصمة. واسم الشارع له أصل عربي، ولكن تنقسم الآراء فقط حول ما إذا كان أصل الكلمة هو "أرباض" أو "الرباط" أم "العربات"، إذ ارتبط الاسم بالرحالة والتجار العرب الأوائل الذين قدموا إلى موسكو منذ نحو أربعة قرون، وهي فترة طويلة كانت كفيلة بمحو الفارق بين الكلمتين المتشابهتين التي لم يكن للإنسان الروسي آنذاك قدرة على التمييز بينها بوضوح. كلفة الرحلة تنتشر في موسكو على نطاق واسع مطاعم ومحلات منتجات الحلال، ومختلف أنواع المأكولات الروسية وغيرها من المطاعم العالمية بما فيها العربية المختلفة، فضلًا عن مطاعم الوجبات السريعة. ويبلغ متوسط أسعار الوجبات على اختلافها من 10 إلى 18 دولار. وفي العموم، من السهل العثور على عروض في المطاعم الروسية تناسب جميع الميزانيات. كما تعد تكلفة وسائل النقل في العاصمة الروسية معقولة نسبيا بل منخفضة بالمعايير الأوروبية لا سيما عند التنقل بالمترو وغيره من وسائل النقل العام، كما أن جميع المتنزهات وجولات المشي مجانية وتعتبر طريقة سهلة لتوفير المال. يبلغ متوسط سعر الليلة الواحد في فندق من فئة 3 نجوم ما بين 30 و40 دولارا، وفي فنادق فئة 4 نجوم بين 50 و70 دولارا، أما فئة 5 نجوم فيناهز سعر الليلة الواحدة من 90 دولارا فما فوق. يمكن الحصول على تأشيرة سياحية إلى روسيا لمدة 30 يوما من السفارات والقنصليات ومراكز التأشيرات، ويتمتع مواطنو بعض الدول العربية بالإعفاء من التأشيرة لدخول روسيا، أو بإمكانية الحصول عليها عند الوصول إلى المطارات، ويتعلق الأمر بدول مجلس التعاون الخليجي الست: قطر والإمارات (إعفاء)، والسعودية والكويت والبحرين وسلطنة عمان (تأشيرة عند الوصول).


الجزيرة
منذ 9 ساعات
- الجزيرة
غزة: 600 يوم من الصمود الأسطوري
حين يصبح الإنسان أقوى من الحديد، وتصبح الحقيقة أقسى من الصمت! غزة، هذه البقعة الصغيرة المحاصرة منذ ما يقارب العقدين، لم تعد مجرد اسم على خارطة الشرق الأوسط! إنها الآن رمز.. أيقونة.. صرخة حارقة في وجه عالم أصابه العطب الأخلاقي حتى نخاعه. ستمائة يوم من الحرب، ولم تنكسر.. لم ترفع راية بيضاء، ولم تُطفئ جذوة الأمل رغم ركام البيوت، ورائحة الموت، وارتعاش الأطفال في أحضان الليل بلا كهرباء، ولا دواء، ولا ماء نظيف. الحرب كما ترويها غزة ليست توازن قوى، بل توازن مبادئ.. ليست تفوقًا تقنيًّا، بل تفوقًا أخلاقيًّا.. ليست مناورات تكتيكية، بل استعدادًا لتقديم الروح فداءً لما تؤمن به الحروب ليست دبابات وصواريخ فقط في كتب التاريخ العسكري، تُروى الحروب غالبًا عبر الخرائط، وأسماء المعارك، وحجم الخسائر، والنسب المئوية للنجاح أو الفشل.. لكن غزة قدمت درسًا مختلفًا. الحرب كما ترويها غزة ليست توازن قوى، بل توازن مبادئ.. ليست تفوقًا تقنيًّا، بل تفوقًا أخلاقيًّا.. ليست مناورات تكتيكية، بل استعدادًا لتقديم الروح فداءً لما تؤمن به. إنها حرب الإنسان الأعزل ضد آلة تجسدت فيها البشاعة الحديثة بأبشع صورها: طائرات بدون طيار، قنابل ذكية، قنابل فسفورية، جرافات، عزل كامل، وكل ذلك في مواجهة صدور مفتوحة لا تملك إلا الإيمان. العالم بلا أقنعة في ستمائة يوم، لم تكشف غزة وجه إسرائيل فقط، بل وجه العالم كله.. كم بدا هذا الكوكب صغيرًا، جبانًا، كثير الكلام، لكنه قليل الفعل! كم من "قمة طارئة" عُقدت، وكم من "جلسة خاصة" خُصصت لمناقشة العدوان.. كلمات، خطب، دبلوماسية مُنمّقة، بيانات ختامية.. ثم لا شيء! إعلان كأنما غزة كائن خارق لا تنطبق عليه قواعد الرحمة الدولية، كأن أطفالها لا يحق لهم البكاء، وكأن نساءها لا يحق لهن النجاة. كل شيء انكسر في هذه الحرب: شرعة حقوق الإنسان، ميثاق الأمم المتحدة، وهم العدالة الدولية.. كل ذلك أصبح رمادًا تحته نار صامتة، اسمها غزة. قهرٌ على الهواء غزة لم تُقهر، بل قهرت.. لم تُحرج، بل أحرجت. كشفت عورات أنظمة عربية هرعت للتطبيع، ثم التزم بعضها الصمت، والبعض الآخر راح يلوم الضحية لأنها لم تمت "بشكل لائق"! وحتى بعض المنظمات الحقوقية العالمية لم تسلم من فضيحتها الأخلاقية؛ إذ ساوت بين الضحية والجلاد، وابتكرت تعابير جديدة مثل "الدعوة إلى التهدئة من الطرفين"، وكأنما طفلٌ يقذف حجرًا يوازي قصف أبراج بأكملها. غزة لم تصمد فقط، بل صنعت ذاكرة! هذه الذاكرة ستلاحق كل المتواطئين، كل المتفرجين، كل من آثر الحياد في زمن يجب فيه الانحياز للمظلومين ولو بالكلمة قادة لا يحتاجون لجيوش القيادة في غزة لم تكن صورة في مكتب رئاسي. كانت أمهات يخبزن الخبز تحت القصف، أطفال يرسمون الشمس في كراساتهم الرمادية، شباب ينقلون المصابين وهم يلفظون أنفاسهم.. هؤلاء هم الجنرالات الحقيقيون، قادة الظل الذين لا تصنعهم البروتوكولات، بل تصنعهم المأساة عندما يتفوق الإنسان على نفسه. التاريخ يُعلّمنا: البقاء للشرفاء أجل، من يقرأ التاريخ جيدًا يعرف أن القوة العارية لا تدوم. الإمبراطوريات التي حكمت العالم بالسيف سقطت لأن الشرف لم يكن جزءًا من معادلتها.. النازية، الفاشية، الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وحتى الاستعمار الإسرائيلي، مهما طال عمره فلن يستطيع أن يزرع جذوره في أرضٍ لا تنحني. غزة لم تصمد فقط، بل صنعت ذاكرة! هذه الذاكرة ستلاحق كل المتواطئين، كل المتفرجين، كل من آثر الحياد في زمن يجب فيه الانحياز للمظلومين ولو بالكلمة. صرخة ضمير إذا كان هناك معنى حقيقي للبطولة في القرن الحادي والعشرين، فهو موجود في غزة. بطولة ليست في هوليود، ولا في كتب "التنمية الذاتية"، بل في دمعة طفل فقد أهله وما زال يقول "أنا بخير".. في وجه أم تودّع أبناءها وتقول للكاميرا "لن ننكسر".. في طبيب يعمل في مستشفى بلا أجهزة ولا أدوية، ويصرخ: "أنقذوا ما تبقى من إنسانيتكم". إعلان ستمائة يوم من الدم والدمع والصمود، وستكتب غزة سطرها الأخير بنفسها. لن تكتبه تل أبيب، ولا مجلس الأمن، ولا عواصم الكذب الدولي.. بل سيكتبه قلب طفل نجا من المجزرة، وقرر أن يحمل الحجر من جديد ليبني لا ليقذف، لأن شعبًا كهذا لا يُهزم. وغدًا، حين يُعاد ترتيب العالم، سيكون السؤال: "أين كنت يوم صمدت غزة؟".