
إيران لم تسقط وإسرائيل تجاهلت دروس التاريخ
كانت ساعةُ الفجر في بغداد يوم 17 يناير/كانون الثاني 1991 أشبه بدقّةِ ناقوسٍ لا يعلن بداية يومٍ جديد، بل نهاية عصر ماض، أو هكذا ظن الأمريكيون. استيقظت المدينة على وميضٍ متواصلٍ في السماء تُقطّعه أصواتُ صواريخ " توماهوك" وهي تشقُّ السماء فوق نهر دجلة كسهامٍ مضيئة، قبل أن تنفجر في أهدافها تحت سحابةٍ من الدخان الفوسفوري الذي عانى منه العراقيون لعقود لاحقة.
على أسطح المنازل كان الناس يحدّقون مشدوهين إلى أشباح الطائرات الأميركية وهي تُنزل حمولةً لا تنتهي من القنابل "الذكية"، فيما يؤكد ممثلو النظام العراقي أن العدوّ سيندحر عن أسوار بغداد.
كان المخطِّطون في البنتاغون يعتقدون أنَّ هذه "الجريمة" من الجو، والتي ستستمر 43 يومًا متواصلة وتُدمِّر شبكات الكهرباء والجسور ومقارَّ حزب البعث الحاكم ستُحدث شرخًا يخلع صدام حسين من كرسيّه أو يدفع ضباطه إلى الانقلاب عليه.
بيد أن رهان القصف لإسقاط النظام فشل تمامًا. فبعد أن خمد أزيز الطائرات وأُعلن وقفُ إطلاق النار، خرج صدام من ملجأه المحصَّن ليتجوَّل في الأزقة المتربة، سيجارته بين أصابعه وابتسامةُ التحدّي على وجهه، ولسان حاله يقول أنّ السلطة لا تُنتزع من الجوّ. ظلّت صورته مُعلَّقةً على المباني المنهارة، وظل نظامه قادرًا على حكم العراق لاثني عشر عامًا أخرى.
تبدو الحالة العراقية متشابهة مع ما يتمناه الإسرائيليون بشأن إيران. فمع انطلاق الحملة الجوية الإسرائيلية ضد إيران فجر الجمعة 13 يونيو/حزيران الحالي، أكدت الحكومة الإسرائيلية رسميًّا أن العملية تهدف إلى "كبح القدرات الإيرانية ومنع تهديدات مباشرة لإسرائيل"، مشيرة صراحة إلى برنامج إيران النووي، وزاعمة أن إيران كانت تقف على بعد "أمتار قليلة" من صناعة قنبلة نووية.
لكن دلالات ميدانية ورمزية أثارت تساؤلات جدية حول النية الحقيقية وراء التصعيد الإسرائيلي التي من الواضح أنها تتجاوز القضية النووية.
فطبيعة الأهداف التي شملت اغتيالات واسعة لمسؤولين إيرانيين، واتساع نطاق الهجمات ليشمل منشآت عسكرية لا علاقة لها بالبرنامج النووي فضلا عن منشآت إدارية ومدنية يعزز الانطباع بوجود أهداف أوسع للعملية، وهو ما يفيده أيضا اسم " الأسد الصاعد" الذي أطلقته إسرائيل على عمليتها، وهو اسم لا يستبطن أبعادا توراتية فقط، بل يستحضر أيضا علَم دولة إيران قبل الثورة الإسلامية الذي يتوسطه أسد يرمز للقوة، وكأنها دعوة ضمنية إلى استعادة ماضي إيران غير البعيد.
وقد قطع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو نفسه الشك باليقين حين وجه دعوة إلى الشعب الإيراني للثورة ضد حكومته، ولوّح باغتيال المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي ، مما يعني أن الضربة الإسرائيلية صُمّمت منذ البداية لتقويض النظام الإيراني ولو جزئيا.
وقد فسر العديد من المحللين في إسرائيل وخارجها استهداف حكومة نتنياهو مراكز القيادة والسيطرة الإيرانية بأنه يهدف إلى "زعزعة الوضع الداخلي" على أمل أن يتسبب ذلك في انهيار النظام ذاتيا أو تسهيل انقلاب عليه من داخل هرم السلطة. وهي إستراتيجية تُراهن، كما في تجارب تاريخية عديدة، على فعالية الإكراه الجوي في تحقيق مكاسب سياسية كبرى دون الحاجة إلى اجتياح بري أو الدخول في مواجهة شاملة.
فهل يكفي الضغط من الجو لإجبار النظام الإيراني على التراجع أو السقوط؟ وهل تعي إسرائيل دروس التاريخ، حين تعلّق هذا القدر من الطموح على أجنحة الطائرات؟
ثلاثة أوجه للقصف
في كتابه "القصف من أجل الفوز: القوة الجوية والإكراه في الحرب"، والذي نُشر قبل قرابة عشرين سنة، ولم يُلتفت إليه باللغة العربية، يفكك أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو الأميركية روبرت بيب (Robert Pape)، التصور السائد بشأن قدرة القصف الجوي وحده على إسقاط النظم المعادية أو حتى إكراه العدو على تغيير سلوكه السياسي، وهو التصور الذي ترسخ في وعي القوى الكبرى منذ الحرب العالمية الثانية.
فبعد دراسته لأربعين حملة قصف جوي، في فترة ما بين الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) حتى حرب الخليج الأولى عام 1991، خلص بيب إلى "حقيقة" مفادها أن الغارات الجوية نادرًا ما تُحقّق أهدافًا سياسية كبرى بمفردها. فهي قد تُضعف العدو أو تؤخّر تقدّمه، لكنها لا ترغمه على الاستسلام أو تقديم تنازلات جوهرية، ما لم تقترن بضغط عسكري بري أو تهديد وجودي مباشر.
ويفصل بيب في تحليله بين ثلاث إستراتيجيات رئيسية لاستخدام القوة الجوية، لكل منها منطقها وأهدافها، لكن فاعليتها تختلف باختلاف طبيعة الصراع. الأولى هي إستراتيجية العقاب (Punishment)، وفيها يستهدف القصف البنية التحتية المدنية والأفراد المدنيين بغرض رفع تكلفة الحرب على المجتمع، وإيلامه لدرجة تدفعه إلى الضغط على القيادة السياسية للتراجع أو الاستسلام. أي أن القوة المعتدية تراهن في هذا الحالة على إرهاق خصمها اجتماعيا وتحويل السخط الشعبي إلى أداة ضغط داخلي على صانع القرار.
ويُفرّق بيب -داخل إستراتيجية العقاب- بين نمطين: الأول هو "العقاب الأقصى"، الذي يستهدف تدميرا شاملا ومباشرا للمناطق السكنية والتجارية، باستخدام ذخائر حارقة وهجمات ليلية مكثفة لإحداث صدمة سريعة. أما الثاني، فهو عقاب تدريجي أو "حملة مخاطر"، يتم تصعيد القصف خلالها تدريجيًّا من أهداف مدنية أقل أهمية نحو أهداف أشد إيلامًا، مع فترات توقّف لإتاحة فرص دبلوماسية.
أما الإستراتيجية الثانية فهي إستراتيجية الحرمان (Denial)، وتركز على استهداف القدرات العسكرية واللوجستية للعدو، بهدف منعه من استغلال هذه القدرات لتحقيق مكاسب ميدانية أو متابعة عملياته القتالية. وبعبارة أخرى، تسعى هذه الإستراتيجية إلى إفقاد العدو القدرة "المادية" على تحقيق النصر وتقويض إستراتيجيته القتالية، وهو ما يضعف بالتبعية الإرادة اللازمة لمواصلة القتال.
وأخيرا تأتي الإستراتيجية الثالثة وهي قطع الرأس (Decapitation)، وتقوم على توجيه ضربات دقيقة ومركّزة إلى مراكز القيادة والسيطرة، أو اغتيال القادة السياسيين والعسكريين، بهدف إرباك منظومة الحكم أو تعطيل سلسلة القيادة والاتصال، بما يؤدي إلى شلل في اتخاذ القرار أو انهيار مبكر للبنية القيادية.
وفي الحالة الإيرانية، تُظهر الضربات الجوية الإسرائيلية ميلًا إلى المزج بين إستراتيجيات العقاب والحرمان وقطع الرأس، دون التزام واضح بإحداها. وعلى عكس ما قد يبدو ظاهريا من أن ذلك يمنح الحملة الجوية شمولية ويجعلها أقدر على تحقيق أهدافها، فإن ما يفعله هذا "التشتت" واقعيا هو إضعاف جدوى "الإكراه الجوي"، والأهم أنه يكشف عن عدم وجود إستراتيجية متماسكة للحملة الجوية من الأصل.
ولا تختلف الضربات الإسرائيلية عن الضربات الأميركية من حيث التأثير وان اختلفت من حيث الشدة. فقد أظهر القصف الأميركي الذي استهدف منشآت فوردو ونطنز وإصفهان النووية، المدى الذي تستطيع القوة الجوية الأميركية أن تبلغه.
فقد حلّقت سبع قاذفات شبحية من طراز B-2 في رحلةٍ ذهابٍ وإيابٍ طولها 14 ألف ميل انطلاقاً من ولاية ميزوري، وألقت أربع عشرة قنبلة خارقة للتحصينات زنة كلٍّ منها 30 ألف رطل، بينما أطلقت غواصةٌ صواريخ توماهوك وقدّمت أكثر من 125 طائرةً أخرى الحماية الجوية والتزود بالوقود والتشويش.
ومع غارة بهذا التعقيد والدقة والحجم، قد يفترض البعض خطأً أن النتائج ستكون مختلفة. إذ لم يحقق التفوّق الجوي الأميركي انتصاراتٍ حاسمة في العراق أو أفغانستان أو حتى في الحملة ضد جماعة أنصار الله الحوثيين باليمن. احتلالُ الأرض وإعادةُ بناء الدول يظلان مهمّتين أساسيتين -ومكلفتين سياسياً- لا تستطيع الضربات الجوية وحدها إنجازهما.
هذا ما قاله ماكس بوت، المؤرخ والخبير في الجغرافيا السياسية في مقال نشره على موقع مركز العلاقات الخارجية الأمريكية. يرى بوت أنّ إيران، على الأرجح، لن ترضخ أو توقّع على استسلامٍ غير مشروط كما يطالب ترامب.
ويؤكد أن طهران تستطيع كسب الوقت، وتنفيذ ردودٍ محدودة، ثم إصلاح منشآتها النووية أو إعادة تشغيلها. ولا معنى للتعويل على غضب شعبي يطيح بالنظام، إذ أنّ الشعوب تحت القصف تميل إلى الالتفاف حول حكوماتها أكثر من الإطاحة بها.
فبحسب تحليله لعشرات من حملات القصف عبر التاريخ، يرى بيب أن "إستراتيجية الحرمان" هي الأكثر قابلية للنجاح، شريطة أن تُنفّذ بدقة شديدة، وتستهدف مفاصل القوة العسكرية للعدو، مثل مراكز القيادة، وخطوط الإمداد، أو البنية اللوجستية. أما ضرب الرموز أو المدنيين بمعزل عن عرقلة قدرة العدو الفعلية على تنفيذ إستراتيجيته، فلا يؤدي غالبًا إلى التراجع أو تقديم تنازلات، بل قد يُعزز تماسك النظام داخليًّا ويزيد من التفاف الشعب حول القادة السياسيين.
ويستشهد روبرت بيب بأدبيات علم الاجتماع، التي تُشكك في فعالية إستراتيجية العقاب، خاصة تلك التي تفترض أن المعاناة الاقتصادية أو النفسية ستدفع الشعوب إلى الضغط على أنظمتها.
فالدراسات تُظهر أن الحرمان قد يُولّد مشاعر إحباط فردي، لكنه لا يترجم بالضرورة إلى تمرّد جماعي أو ثورة، لأن التعبئة ضد النظام تتطلب اغترابًا سياسيًّا عميقًا، لا مجرد ألم معيشي. بل إن القصف، كما تقول الأبحاث، يُنتج في الغالب غضبًا اتجاه المهاجم أكثر من النظام، ويُحفّز استجابات تركز على النجاة وليس على المقاومة.
الإكراه لا الإخضاع
يبني روبرت بيب نظريته حول استخدام القوة الجوية على مبدأ بسيط لكنه حاسم، فالمسألة لا تتعلق فقط بامتلاك القدرة على توجيه الضربات، بل بكيفية توظيف هذه القدرة بما يؤدي إلى تغيير سلوك العدو. فالقصف في حد ذاته لا يضمن النجاح، إن لم يُستخدم ضمن تصور إستراتيجي يُراعي طبيعة الخصم وأهدافه، وسقف ما يمكن تحقيقه واقعيا.
في هذا الإطار، يُميّز بيب بين مفهومين جوهريين في استخدام القوة، هما: الإكراه (Coercion) والإخضاع عبر القوة الغاشمة (Brute Force). ويشير الإكراه إلى استخدام القوة بهدف التأثير في سلوك الخصم دون تدميره، من خلال تعديل حساباته حول التكلفة والفائدة، أي عبر دفعه إلى إعادة النظر في أفعاله برفع تكلفة استمراره في إتيان سلوك ما أو تقليل جدوى ما يقوم به، دون حاجة إلى تجريده من قدراته كليًّا.
في حالة الإكراه، يظل الخصم إذن قادرا على القتال أو المقاومة، لكنه يختار التراجع لأن تكلفة القتال أصبحت أكبر من العائد. أما الإخضاع، فيعني ببساطة تحطيم العدو تمامًا حتى يفقد قدرته على المقاومة، مثلما يحدث عند اجتياح بلد وإنهاء جيشه ونظامه كليًّا.
وتكمن ميزة الإكراه في قدرته على تحقيق أهداف سياسية دون الحاجة إلى نصر عسكري شامل، عبر دفع الخصم إلى تقديم تنازلات بأقل تكلفة ممكنة للطرفين (وللطرف المعتدي على وجه الخصوص). في المقابل، تمثل القوة الغاشمة نهجًا يقوم على تحطيم العدو ميدانيًّا أولًا، ثم فرض الشروط السياسية عليه وهو في حالة عجز تام. في هذا النموذج، تكون الحكومة المهزومة قد فقدت كل قدرة تنظيمية على المقاومة، ولم يعد بالإمكان الحديث عن عملية إقناع أو ضغط، لأن الخصم ببساطة لم يعد قادرًا على الرفض.
وفق ذلك السيناريو لا يُعد ما يحدث في تلك الحالة إكراهًا بالمعنى الحقيقي، لأن المنتصر دفع بالفعل تكلفة الحرب كاملة من أجل الوصول إلى هذه النتيجة. فإذا لم تتحقق التنازلات إلا بعد سحق العدو تمامًا، فذلك لا يُسمى إكراهًا، بل إخضاعًا بالقوة.
وفي هذا السياق ينتقد بيب ما تروّج له بعض مدارس القوة الجوية الحديثة، التي تعوّل على دقة القصف والتكنولوجيا المتقدمة كأدوات قادرة على حسم المعارك من الجو وحده، إذ يؤكد أن النجاح في الإكراه العسكري لا يُقاس بمدى القدرة على الضرب فحسب، بل بمدى فهمك لأهداف العدو، وسُبل منعه من تحقيقها بأقل تكلفة ممكنة.
وهنا يبرز ما يسميه بيب "الإكراه عبر الحرمان"، وهو شكل من الضغط العسكري يهدف إلى منع العدو من تحقيق أهدافه الإستراتيجية، لا مجرد إيذائه أو رفع تكلفة صموده. فالهدف ليس إلحاق ضرر بالخصم لأجل الضرر، بل حرمانه من أي أمل في النجاح العسكري، وإظهار أن تكاليف الاستسلام أقل من تكاليف المقاومة، بما يدفعه إلى إعادة تقييم الموقف والتراجع طواعية.
وعندما يدرك العدو أن استمرار القتال لن يجلب له مكاسب حقيقية، بل سيؤدي إلى خسائر فادحة أو طريق مسدود، فقد يختار التراجع حتى دون انهيار سياسي أو تدمير شامل. وهكذا تتحقق أهداف الحرب لكن بتكلفة أقل على كلا الجانبين. كما أن هذا النوع من الإكراه يمنح الخصم مخرجًا من الأزمة دون إذلال، وهو ما يجعله، في نظر بيب، أكثر قابلية للنجاح في النزاعات المعقدة من القصف العقابي أو محاولات الإخضاع المباشر.
أضف إلى ذلك أن القصف الجوي، مهما بلغت دقته أو شدته، لم يؤدِّ في أي حالة موثقة إلى إسقاط نظام حكم بمفرده، من دون أن يصاحبه غزو بري أو انهيار داخلي حاسم. ففي أفضل الأحوال، قد يدفع القصف قادة العدو إلى تراجع تكتيكي أو توقيع هدنة لحماية ما بقي من مقدراتهم، لكنه نادرًا ما يُفضي إلى التخلي عن السلطة أو تغيير جذري في التوجهات السياسية.
ولعل نماذج أخرى أحدث تؤكد هذه النتيجة، منها ما جرى في ليبيا عقب اندلاع الثورة الليبية ضد معمر القذافي في فبراير/شباط 2011. إذ أن الضربات الجوية لم يكن لها أن تؤدي إلى إسقاط النظام الليبي من غير النجاحات التي حققها المقاتلون المعارضون للقذافي على الأرض.
يُفسّر بيب هذا النمط بتركيبة صناعة القرار داخل الدول الواقعة تحت الضغوط القصوى، موضحًا أن القادة، خاصة في الأنظمة السلطوية أو ذات الطابع التعبوي، يدركون جيدًا أن الاستسلام تحت ضغط القصف لا يعني فقط الهزيمة السياسية، بل تهديدًا مباشرًا لبقائهم الشخصي، وربما لحياتهم. من هنا، يُفضل العديد منهم المواصلة في القتال رغم التكاليف، على أمل الصمود أو قلب الموازين لاحقًا، لا سيما حين تغيب الضغوط البرية.
المطرقة وحدها لا تكفي
يستحضر بيب أمثلة عدة تدلل على وجهة نظره، ففي حرب فيتنام ، شنت الولايات المتحدة حملتين جويتين رئيسيتين ضد الشمال، بهدف إجباره على وقف تسلل المقاتلين والإمدادات إلى الجنوب وإجبار هانوي على التفاوض على تسوية سلمية.
إعلان
سُمِّيت الحملة الأولى "الرعد المتدحرج" (Rolling Thunder) وكانت في عهد الرئيس جونسون. وركّزت خلالها الولايات المتحدة على التصعيد التدريجي للضربات الجوية، بما يشمل استهداف البنية الصناعية وأحيانًا منشآت مدنية.
تنقّلت هذه الحملة بين ثلاث إستراتيجيات دون التزام واضح بإحداها، هي: العقاب من خلال ضرب أهداف مدنية، والحرمان عبر استهداف البنية العسكرية واللوجستية، والتصعيد الرمزي لإيصال رسائل ضغط سياسي.
غير أن الحملة فشلت في تحقيق أهدافها، إذ كانت فيتنام الشمالية ترى في دعم الجنوب قضية وطنية لا يمكن التنازل عنها، كما أظهرت قدرة لافتة على التكيف مع القصف بفضل بساطة بنيتها التحتية وتدفق الدعم العسكري والاقتصادي من الصين والاتحاد السوفياتي.
أما الحملة الجوية الثانية "لاينباكر" (Linebacker)، فكانت أكثر تركيزًا على إضعاف القدرات الميدانية من خلال هجوم تقليدي واسع، وحققت نجاحًا نسبيًّا لأنها جاءت متزامنة مع ضغط بري جنوبي، وتطور في شكل الصراع.
ويؤكد بيب أن النجاح النسبي لهذه الحملة لم يكن نتيجة دقة الضربات فحسب، بل بسبب تطابق الإستراتيجية الأميركية مع نقاط الضعف الحقيقية للعدو، على عكس حملة الرعد التي استهدفت المدنيين والبنى الهشة، دون التأثير فعليًّا في قدرة العدو على القتال.
والدرس الأساسي المستفاد من فيتنام، كما يراه بيب، هو أن القصف الجوي وحده، حتى وإن كان مكثفًا، لا يكفي لتغيير القرار السياسي للخصم، ما لم يُدمج ضمن إستراتيجية متعددة الأبعاد تُضعف قدرة العدو على القتال وتعرضه لخسائر حقيقية في ميدان المعركة.
أما في حرب الخليج الثانية (1991)، فقد اعتمدت الولايات المتحدة على حملة جوية ضخمة استمرت ستة أسابيع تحت اسم عملية "الرعد الفوري"، لجأت في بدايتها إلى إستراتيجية قطع الرؤوس التي راهنت بها على حسم الصراع جوًّا فقط، عبر استهداف القيادة العراقية ومراكز الاتصال والأمن الداخلي والبنية التحتية الحيوية. ورغم الأضرار الفادحة التي لحقت بشبكات الطاقة والنفط والاتصالات، فشلت هذه الحملة في تحقيق أهدافها، كما لم تفضِ إلى تمرد داخلي أو انهيار للنظام.
ومع تعثر المرحلة الأولى انتقل التحالف إلى إستراتيجية "الحرمان"، التي انطلقت فعليًّا في الأسبوع الثاني. وركزت هذه الحملة على تقويض قدرة العراق، عبر تدمير خطوط الإمداد ومهاجمة القوات والمعدات بدقة. ورغم نجاح هذه الإستراتيجية في تفكيك بنية الجيش العراقي، فإنها لم تُجبر صدام حسين على الانسحاب إلا بعد تهديد حقيقي باجتياح بري واسع.
وبحسب بيب، فإن هذه التجربة تُظهر بوضوح أن إستراتيجية الحرمان هي الأكثر فاعلية في الإكراه الجوي، مقارنة بالعقاب أو حتى قطع الرأس. كما تُظهر أهمية الجمع بين "المطرقة الجوية" و"السندان البري"، حيث تؤدي القوة الجوية دورًا حاسمًا فقط عندما تُساندها قوة برية تضيق الخناق على العدو وتضعه أمام خيارات محدودة.
وكذلك يشير بيب إلى الحملة الجوية الواسعة على ألمانيا النازية بين عامي 1942 و1945، فرغم القصف الكارثي لمدن مثل هامبورغ ودريسدن، وما أسفر عنه من مئات الآلاف من القتلى ودمار واسع للبنية التحتية، فإن النظام النازي لم ينهَر، بل واصل القتال حتى اجتاحت القوات السوفياتية برلين في الأيام الأخيرة للحرب.
المشهد نفسه تكرر في اليابان، حيث نفذت القوات الأميركية حملة جوية قاسية شملت قصف طوكيو وتدمير المدن الكبرى، وصولًا إلى إسقاط القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي. ومع ذلك، لم تقرر القيادة اليابانية الاستسلام إلا بعد أن أصبح الغزو البري وشيكًا، وعقب إعلان الاتحاد السوفياتي دخول الحرب ضدها، مما أجهض أي أمل في إمكانية الصمود أو التفاوض من موقع قوة.
تدعم هذه النماذج الفرضية المركزية لبيب، وهي أن القصف الجوي مهما بلغ عنفه وتدميره، لا يفضي وحده إلى إسقاط الأنظمة السياسية أو إرغامها على التراجع، ما لم يقترن بضغط بري مكثف أو تهديد وجودي شامل، وغياب هذا "السندان البري"، في عدد من النزاعات السابقة، أدى إلى تحويل الحملات الجوية إلى مجرد أدوات استنزاف بلا أثر إستراتيجي حاسم.
استعراض بلا نتيجة
انطلاقًا من هذا الدرس، قام بيب في مقال تحليلي منشور عام 2022، بتطوير نموذج جديد يُعرف بـ"إستراتيجية المطرقة والسندان"، مثّلت القوات الجوية خلاله "المطرقة" التي تسدد ضربات دقيقة مكثفة إلى النقاط الحساسة، في حين تعمل القوات البرية كـ"سندان"، يقيّد حركة العدو ويجبره على التمركز في مواقع مكشوفة تُسهّل استهدافه.
يرى بيب أن تطور الأسلحة الدقيقة يضاعف من فعالية القصف، حين يُستخدم في سياق إستراتيجية "الحرمان"، إذ تُتيح هذه الأسلحة استهداف المفاصل الحيوية في بنية العدو العسكرية بدقة، دون الحاجة إلى تدمير شامل أو استنزاف طويل. لكن هذه التقنيات، مهما بلغت دقتها، لن تجعل من القوة الجوية أداة قسرية كافية بحد ذاتها، ما لم ترتكز على بيئة سياسية وعسكرية ملائمة تُمكّنها من تحقيق أهدافها. فالقصف لن يُنتج "الإكراه" بمعزل عن أدوات الضغط الأخرى.
ويُحذّر الكاتب من الإفراط في التعويل على القصف وحده خصوصا ضد الجماعات المتمردة أو الفاعلين غير الدوليين.
ففي حالات نادرة، قد تُفلح إستراتيجية "قطع الرأس" في تفكيك تنظيمات تعتمد على قيادة مركزية كاريزمية لكن هذه الإستراتيجية تُصبح محدودة الجدوى في مواجهة جماعات ذات امتداد اجتماعي قوي حيث تُستمد الشرعية من القاعدة الشعبية وليس من القادة وحدهم. بل قد يؤدي استهداف المناطق المدنية المحيطة بتلك الجماعات إلى نتائج عكسية، تُعزز من تماسك الحاضنة الاجتماعية، وتُقوّي من شرعية الخصم بدل تقويضها.
أما في مواجهة دول نووية، مثل روسيا أو الصين أو كوريا الشمالية، فإن رهانات القصف الجوي ترتفع إلى مستوى خطر إستراتيجي. إذ حتى الضربات "المحدودة" قد تُفهم على أنها تمهيد لهجوم شامل، مما قد يدفع هذه الدول إلى التصعيد النووي.
وفي هذا السياق تحديدا، يؤكد بيب أن الإكراه عبر القصف لا يُقاس فقط بفعالية الضربة، بل بقدرة الدولة المُهاجِمة على إرسال إشارات مدروسة، تُحدث التأثير المطلوب دون تجاوز الخطوط الحمراء النفسية والعسكرية لدى الخصم.
والخلاصة، كما يطرحها الكتاب، أن القصف الجوي، مهما بلغ من دقة أو كثافة، لن يُنتج أثرًا حاسمًا، وسيتحول إلى مجرد استعراض للقوة دون تأثير فعلي، ما لم يُدرَج ضمن إستراتيجية أوسع تشمل ضغطًا بريًّا ودعمًا دبلوماسيًّا متزامنَين.
وفي حالة إسرائيل، فإن حملتها الجوية على إيران ربما تظل عاجزة عن إحداث تغيير جذري في توجهات النظام الإيراني (فضلا عن إسقاطه)، دون عناصر ضغط إضافية. فالقصف وحده قد يؤخّر طهران عن أهدافها، لكنه غالبًا لن يردعها، فضلًا عن أن إسقاط نظام عبر الجو وحده لم يتحقق تاريخيًّا، دون عوامل مساعدة حاسمة يبدو أنها لا تتوفر في الحالة الإيرانية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 35 دقائق
- الجزيرة
غزة.. بقلم صحافية!
ليس سهلًا على فتاة اختارت أن تكون قويةً في كل استحقاق أن تكتشف في أعماقها مكامن الخوف التي خلفتها طبول الحرب، التي بقيت تدق على مدى أكثر من عام ونصف. في كل صباح، تدخل مكتبها، تتابع أخبار غزة التي لا تنتهي؛ أحداث حمراء مضرجة بالدماء، ودموع تسيل من الشاشات كأنما هي نهر بلا ضفاف، وعداد يرتفع، ونحيب يعبر من غزة إلى لبنان عبر الأثير، ومنه إلى كل العالم بلا حدود ولا قيود ولا هوامش. خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ بالستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال تنتظر العنوان الساخن من مديرها، وتبتلع الخبر الذي سيتحول بعد قليل إلى نص يحبس أنفاس القراء.. تفكر أنها بحاجة إلى اختيار صورة عميقة بحجم الفاجعة، وجملة افتتاحية تمهد لحكاية موجعة جديدة. تدرك أن الكتابة عن القصف المتواصل والقتل المتواصل باتت عبئًا يتكرر كل يوم، وأن الطفل الذي يصرخ من تحت الركام لن يسكت في ذاكرتها. تسابق الوقت لتنقل التفاصيل، وتخبّئ بين السطور وجعًا شخصيًّا لا يمكن أن يذاع. خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ بالستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال، بعد اقتحام الجيوش العربية كل الحدود، وفك الحصار، ودخول قوافل الصمود، وعودة الأهالي الذين أتعبهم النزوح، وحمل حقائب الذكريات إلى بيوتهم.. لكن النبأ لم يأتت بعد. وبالانتظار.. تقرير واحد كان كفيلًا بأن تنتمي قلبًا وروحًا إلى غزة! هناك ما يقارب 400 تقرير آخر، شاهدت من خلالها جنازات، وتشييعًا، ومآتم لآلاف الشهداء، بحثت مع الأطفال عن ألعابهم التي بترت القذائف أطرافها تحت الركام.. تقارير أدخلتها إلى خيام الهاربين من الموت إلى موت أبشع، عايشت أنين الجائعين الذين يسكنون على قارعة الموت، وهم يزحفون تحت الشمس إلى أقرب تكية.. فتصيبها أصوات أواني الطعام الفارغة بالصداع، وأزيز القصف بالذعر حتى الهذيان من صمت يلف العالم. وما بين تقرير وآخر، تمسك القلم كأنها تمسك نبض المدينة، تتلمس جراحها، تكتب بدمعها، لا بحبر عابر.. تسهر على حروف لا تنام، وتسائل الصور التي تصلها: هل مات هذا الطفل فعلًا؟ هل ستنجو شقيقته من بين الأنقاض؟ هل أكل الأطفال وجبة العشاء؟ ماذا عن محمد وسوسو الصغيرة وريم وليان؟ ماذا عن حجارة غزة وكل ما فيها؟ إعلان وتسأل: كيف صمد هؤلاء كل هذا الوقت؟ كيف ثبتوا زهاء العشرين شهرًا من الألم والمآسي؟! لا بد أن قوةً إيمانيةً عظمى تحرك أرواحهم، وأن نورًا داخليًّا لا ينطفئ يضيء لهم الطريق في ظلام الحرب القاتم. رحلة مؤلمة هي، لكنها مملوءة بالمسؤولية: تشاهد، تنقل، توثق، تحكي، وتعاني معهم.. تحيي بقلمها أو بأزرار هاتفها وبشاشة حاسوبها أصواتهم، وتحاول أن تمنحهم صوتًا آخر في وجه الصمت العالمي، رغم التعب ورغم الألم. لكنها في كل مساء، حين تخلع عنها معطف القوة وتسدل الستائر على يوم آخر من المجازر، تجد نفسها تنهار أمام طفل أضاع أمه، ورضيع لا يجد الحليب، ومريض لم يضمد جرحه بعد، وأم أثكلها الفقد!. هي غزة الألم والأمل.. غزة التي لا تنكسر؛ فعظامها كأغصان زيتون، ودماؤها رائحة غار، وفي قلبها مقام شهيد يحبو نحو الحرية، على ركبتي الزمن.. من الأمس وحتى تختم الرواية!


الجزيرة
منذ 35 دقائق
- الجزيرة
كود الردع: الصراع السيبراني بين إيران وإسرائيل
شهدت الساحة السيبرانية في يونيو/ حزيران 2025 تصعيدًا حادًّا بين إيران وإسرائيل، عكس تحولًا جديدًا في طبيعة الاشتباك غير المعلن بين الطرفين؛ فقد تعرضت هواتف إسرائيلية لاختراق واسع النطاق، فيما اختُرِق البث التلفزيوني الرسمي الإيراني، وتلا ذلك إنذار عاجل بإخلاء مقري قناتي 12 و14 الإسرائيليتين. وفي هجوم آخر، شلّت عملية سيبرانية بنك "سبه" الحكومي في طهران، وقد أعلنت مجموعة تُدعى "العصفور المفترس" مسؤوليتها عنها، مؤكدةً "تدمير كافة بيانات البنك". لا يمكن قراءة هذه الحوادث بمعزل عن السياق الأوسع لصراع طويل الأمد؛ يتجاوز الحدود الجغرافية، ويُخاض عبر كودات وشبكات خفية. هذا الصراع، الذي يُعد نموذجًا أوليًّا لحروب القرن الحادي والعشرين، يختزل في جوهره ما يمكن تسميته بـ"كود الردع". تنشط مجموعات غير رسمية ذات طابع أيديولوجي أو قومي، مثل "حنظلة" و "الشبح العربي" و"عصا موسى"، في تنفيذ عمليات اختراق علنية تتسم بالجرأة والوضوح الإعلامي يشهد الصراع السيبراني بين إسرائيل وإيران تطورًا متسارعًا، يعكس تحوّلًا عميقًا في شكل النزاعات الحديثة، حيث بات الفضاء السيبراني لا مجرد ساحة خلفية للمواجهة، بل ميدانًا رئيسيًّا يؤثر في ميزان القوى ويعيد تعريف مفاهيم الردع والسيادة. لم يعد اختراق البنية التحتية أو تعطيل شبكة كهرباء أو تسريب بيانات، مجرد حوادث منفصلة، بل تحوّلت إلى أدوات إستراتيجية تُستخدم بوعي بالغ لإعادة تشكيل قواعد الاشتباك الإقليمي، من دون اللجوء إلى الحرب التقليدية. يعتمد النموذج الإيراني في هذا الصراع على بنية مرنة ومتشعبة، تستند إلى ما يمكن وصفه بـ'اللامركزية المنظمة'، حيث تتداخل الأذرع الرسمية مع الجهات غير الرسمية في شبكة عمل منسقة، تُخفي آثارها ضمن الضجيج الرقمي العالمي. الفرق الحكومية، مثل APT34 وAPT39، تؤدي أدوارًا استخباراتية طويلة المدى، تستهدف البنية المعلوماتية للخصوم، وتعمل على بناء قواعد بيانات متقدمة حول الأهداف الإستراتيجية. في الوقت ذاته، تنشط مجموعات غير رسمية ذات طابع أيديولوجي أو قومي، مثل "حنظلة" و "الشبح العربي" و"عصا موسى"، في تنفيذ عمليات اختراق علنية تتسم بالجرأة والوضوح الإعلامي. هذه المجموعات لا تحرص على الإخفاء بقدر ما تسعى إلى إرسال رسائل مباشرة، سواء عبر تلغرام أو عبر تسريبات على مواقع مفتوحة، ما يضيف بُعدًا نفسيًّا للهجمات، ويخلق حالة من القلق العام داخل الدولة المستهدفة. طبيعة هذه الجماعات تُتيح لإيران هامش مناورة كبيرًا؛ فهي تنفي رسميًّا علاقتها بها، لكنها في الواقع تستفيد منها سياسيًّا وأمنيًّا، وتوظفها في حروب رمادية يصعب تتبع مصدرها بدقة. هذا النمط من الهجمات يجعل من الصعب تحميل المسؤولية لأي جهة محددة، ويفتح المجال أمام ما يشبه 'الاشتباك المستدام' دون عتبة صريحة للحرب. على الجانب الآخر، تتبنى إسرائيل نهجًا شديد المركزية والانضباط، يعتمد على بنى أمنية عالية التنظيم والتقنية، تتصدرها 'الوحدة 8200'، المعروفة بكونها واحدة من أرفع وحدات الاستخبارات السيبرانية عالميًّا. العمليات الإسرائيلية غالبًا ما تُنفَّذ في صمت، وتُصمم لتكون دقيقة وفعّالة، وتُدار وفق أهداف إستراتيجية بعيدة المدى، ليس فقط لإحباط مخططات آنية، بل لتقويض القدرة المستقبلية للخصم على العمل. الهجمات المنسوبة إلى إسرائيل عادة ما تتسم بالطابع النوعي، مثل اختراق أنظمة التحكم الصناعية، أو تعطيل الشبكات النووية، أو ضرب مراكز اتصالات حرجة في عمق الأراضي الإيرانية. تبرز "دودة ستوكسنت" بوصفها العلامة الفارقة في هذا المسار؛ فهي لم تكن مجرّد هجوم سيبراني، بل سابقة نوعية غيّرت وجه الحروب الرقمية. القدرة على إلحاق ضرر مادي ببنية نووية من خلال كود رقمي وحده، دون أي تدخل ميداني، أعادت تعريف معنى السلاح، وكسرت المعادلة التقليدية التي تربط الأثر العسكري بالقوة النارية. لقد فتحت "ستوكسنت" الباب أمام عصر جديد، يمكن فيه لدولة أن تعطل مشروعًا إستراتيجيًّا معاديًا وهي لا تزال خارج دائرة الاتهام الرسمي، بل وقد تظل غير مرئية بالكامل. بعد تصاعد التوتر في مناسبات متتالية، خاصة بعد عملية 'الأسد الصاعد'، أصبح الصراع السيبراني أكثر جرأة واستهدافًا للبنية الداخلية للدولة. محاولات تعطيل نظام 'تسوفار'، المعني بإنذار السكان في حالات الطوارئ، وكذلك استهداف البنية الإعلامية وشركات الطاقة، كل ذلك يشير إلى تحول نوعي في تفكير الفاعلين السيبرانيين: لم يعد الهدف فقط تجميع المعلومات أو استنزاف موارد الخصم، بل التأثير في القدرة على إدارة الدولة ذاتها في لحظات الأزمات، ما يعني أن السيبرانية أصبحت أداة لـ'تعطيل الدولة' وليس فقط إرباكها. وعلى خط موازٍ، أصبحت الحرب السيبرانية أيضًا قناة لحرب نفسية مديدة. تقوم إيران، وفق نمط متكرر، باختراق قواعد بيانات وشركات إسرائيلية، ثم تسريبها مع تعليقات دعائية تهدف إلى زعزعة ثقة الجمهور بقيادته، وإظهار هشاشة منظومته الأمنية. تستخدم في ذلك أدوات متطورة: روبوتات اجتماعية، وحملات مدفوعة بالذكاء الاصطناعي، ونشر منظم للروايات المضللة. والهدف ليس التأثير الآني فقط، بل نحت صورة نفسية طويلة الأمد مفادها أن الخصم مخترَق وضعيف، حتى وإن لم تسقط عليه قذيفة واحدة. تشهد الساحة السيبرانية حاليًّا سباقًا محمومًا نحو تطوير "أسلحة سيبرانية- جيل رابع" تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، ما يضيف طبقات جديدة من التعقيد لمعادلة الردع. كما برزت ظاهرة "الوكلاء السيبرانيين" كعنصر محوري في إستراتيجية التصعيد المحدود، حيث تتيح للدول تنفيذ عمليات معقدة مع الحفاظ على قابلية الإنكار. يشكل الصراع السيبراني بين إيران وإسرائيل نموذجًا أوليًّا لشكل جديد من أشكال التنافس الجيوسياسي، حيث تتحول الأصفار والآحاد إلى عملة جديدة للقوة والنفوذ الإشكال الأكبر، الذي يُضفي على هذا الصراع بعدًا غير تقليدي، هو غياب أية قواعد دولية ناظمة.. لا توجد اتفاقيات تحدد ما يشكّل "عدوانًا سيبرانيًّا"، ولا آليات محاسبة فعالة، ولا خطوط حمراء مُعترف بها عالميًّا. وهذا ما يجعل من الفضاء السيبراني منطقة شبه خارجة عن القانون، تُمارس فيها الدول ما تشاء، طالما أنها لا تُمسك متلبسة. هذا الغموض القانوني يوفر غطاءً مثاليًّا لكل من يريد أن يضرب خصمه دون أن يتحمل كلفة سياسية مباشرة، ويُغري بالمزيد من التصعيد التدريجي الذي يراكم التوتر دون أن يفضي بالضرورة إلى الحرب، لكنه في الوقت ذاته يقربها باستمرار. البعد السيبراني بات يضاف إلى عنصر مركزي في معادلة الردع، يكمّل القوة العسكرية، ويتجاوزها في بعض الحالات؛ فبينما تحتاج الصواريخ والطائرات إلى إذن سياسي وكلفة دبلوماسية، فإن الهجمات السيبرانية يمكن أن تُنفَّذ دون ضجيج، وتُحدث أثرًا بالغًا دون الحاجة إلى إعلان حالة حرب. وقد بات واضحًا أن كل طرف من الطرفين، إيران وإسرائيل، يعمل بوتيرة متسارعة على تعزيز ترسانته السيبرانية الهجومية والدفاعية، باعتبار أن الجولة القادمة من الصراع قد لا تُحسم في الجو أو البحر، بل في أعماق الكود، ومن خلال شبكات لا تُرى، لكنها تصوغ ملامح الأمن الإقليمي بعمق لا يقل عن أي معركة في الميدان. ختاماً، يشكل الصراع السيبراني بين إيران وإسرائيل نموذجًا أوليًّا لشكل جديد من أشكال التنافس الجيوسياسي، حيث تتحول الأصفار والآحاد إلى عملة جديدة للقوة والنفوذ. هذا التحول لا يعيد تعريف أدوات الردع فحسب، بل يطرح إشكاليات عميقة حول طبيعة الأمن القومي في القرن الحادي والعشرين. ويعكس في الوقت ذاته نموذجًا جديدًا للصراع، يتسم باللامركزية والغموض وعدم التماثل، يجسد ما يمكن تسميته "كود الردع" في العلاقات الدولية المعاصرة.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
ترامب: إسرائيل تضررت بشدة خلال الأيام الأخيرة وأخبار جيدة عن غزة قريبا
قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إن إسرائيل تضررت بشدة خلال الأيام الأخيرة، كما قال إنه حقق انتصارا كبيرا في إيران وأنه لو لم يدمر المنشآت الإيرانية ما كان ممكنا التوصل إلى تسوية مع الإيرانيين، على حد قوله. كما عبر الرئيس الأميركي عن اعتقاده بأنهم يحرزون تقدما كبيرا في غزة بسبب الضربة التي نفذتها الولايات المتحدة في إيران، وقال إنه ستكون لديه أخبار جيدة عن غزة قريبا. وكان ترامب يتحدث خلال اجتماع مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته لدى وصوله إلى قمة الناتو في لاهاي بهولندا، اليوم الأربعاء، وتاليا أبرز ما جاء في تصريحاته: إسرائيل تضررت بشدة خلال الأيام الأخيرة سينتهي بنا المطاف لنوع من العلاقات مع إيران لن نسمح للإيرانيين بتخصيب أي يورانيوم بعد الآن إسرائيل أعادت الطائرات أمس التي كانت تنوي قصف إيران وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران يسير بشكل جيد حققنا انتصارا كبيرا في إيران ما حدث في إيران دمار كامل للمنشآت النووية ولا أعتقد أنهم نجحوا في إنقاذ أي مواد لو لم ندمر المنشآت الإيرانية ما كان ممكنا التوصل إلى تسوية مع الإيرانيين ضربتنا في إيران كانت ممتازة حيث دمرت كل ما لم تتمكن إسرائيل من تدميره شبكات إعلامية بينها سي إن إن تصف التقارير بشأن تدمير منشآت إيران النووية بالكاذبة وهذا عار عليها. الضربة الأميركية هي التي أنهت الحرب بين إيران وإسرائيل تماما كما فعلت ضربتا هيروشيما وناغازاكي. تواصلت مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثيرا وقد تطوع للمساعدة في قضية إيران وقلت له المساعدة نحتاجها في أوكرانيا وليس إيران وعن الوضع في غزة قال ترامب: إعلان