logo
حين يصبح الماضي حاضرًا دائمًا.. من يملك حق النسيان في عصر الإعلام الرقمي؟

حين يصبح الماضي حاضرًا دائمًا.. من يملك حق النسيان في عصر الإعلام الرقمي؟

تخيل أنك كتبت ملاحظة في دفتر يومياتك قبل عشر سنوات، فكرة عابرة، انفعالا لحظيا، شيئا لم يكن يعني لك الكثير آنذاك. اليوم، فجأة، يُعاد إحياؤها، مجردة من سياقها، تُقرأ بعيون مختلفة، وتُستخدم للحكم عليك وكأنك لم تتغير، وكأن الزمن لم يُحدث أثره الطبيعي في وعيك وفكرك! من المؤكد أن ذلك سيكون مزعجًا لك، فلطالما كان النسيان جزءًا أصيلًا من التجربة الإنسانية، يمنح الأفراد فرصة للنمو وإعادة تشكيل ذواتهم بعيدًا عن أثقال الماضي. أما اليوم، فقد أصبحت الذاكرة الرقمية غير منظمة، تحفظ كل شيء دون تمييز، وتعيد تشكيل الماضي وفقًا لقواعد الخوارزميات، لا وفقًا لإرادتنا.
لم يكن التوثيق يومًا فعلًا محايدًا. في الماضي، كان المؤرخون يختارون ما يستحق أن يُحفظ في السجلات وما يجب أن يُهمل. أما اليوم، فقد أخذت الخوارزميات جزءًا من دورهم، لكنها لا تعمل وفق منطق المعرفة أو القيمة، بل وفق معايير الانتشار والتفاعل. في منصات التواصل الاجتماعي، يُعزز المحتوى الذي يُثير التفاعل العاطفي، بينما تتراجع المعلومات المتوازنة والعميقة إلى الخلف لأنها ببساطة لا تحقق الأرقام المطلوبة. وفي محركات البحث، لا تظهر الحقائق بالضرورة في مقدمة النتائج، بل المحتوى الذي حقق أعلى نسبة نقر (CTR) في الماضي، حتى لو لم يعد ذا صلة بالحاضر. وهكذا، لا تُبنى الذاكرة الرقمية على ما هو أكثر أهمية، بل على ما هو أكثر تداولًا. في عام 2014، أدركت محكمة العدل الأوروبية خطورة هذا المشهد، فأقرت 'حق النسيان الرقمي'، والذي يمنح الأفراد إمكانية طلب إزالة معلومات قديمة لم تعد تعكس واقعهم الحالي.
لم يكن هذا القرار مجرد استجابة لحالات فردية، بل كان اعترافًا بأن الإنترنت ليس مجرد مستودع للمعلومات، بل قوة تُعيد تشكيل الهويات، وأداة يمكن أن تُستخدم ضد الأفراد دون مراعاة السياق الزمني. لكن المشكلة لم تُحل بالكامل، فحتى بعد إزالة المحتوى من محركات البحث، يظل موجودًا في خوادم أخرى، أو يعاود الظهور عبر منصات مختلفة. الإنترنت لا ينسى بالكامل، لكنه أيضًا لا يتذكر بدقة، بل يُعيد إنتاج المحتوى وفقًا لمنطق السوق الرقمي، حيث لا تحكمه الحقيقة، بل قوانين الانتشار.
لكن حق النسيان وحده لا يكفي، فالمشكلة لا تتعلق فقط بحذف المعلومات، بل بكيفية إدارتها منذ البداية. هنا يأتي دور الحوكمة الرقمية التي لا تهدف فقط إلى منح الأفراد سلطة على بياناتهم، بل إلى إعادة التوازن إلى الطريقة التي تُبنى بها الذاكرة الرقمية، بحيث لا تُحكم بالكامل بمعايير السوق والتفاعل اللحظي. حق النسيان ليس سوى أداة ضمن هذه المنظومة الأوسع التي يجب أن تضمن أن القرارات حول ما يُمحى وما يُحفظ لا تكون عشوائية أو خاضعة لمصالح اقتصادية بحتة. إذا كانت الخوارزميات هي التي تقرر ما يبقى وما يُنسى، فمن يضمن بقاء الحقائق، بينما تتكرر الضوضاء بلا توقف؟
إن الشركات الكبرى التي تتحكم في تدفق البيانات مطالبة بأن تكون أكثر شفافية، فلا تُخزن المعلومات لمجرد أنها مربحة، ولا تزيلها فقط لأنها لا تحقق نسب مشاهدة عالية. تحتاج المؤسسات التشريعية إلى وضع قوانين واضحة تحمي الأفراد دون أن تصبح وسيلة لحذف التاريخ أو التلاعب بالحقائق. إصلاح هذا الخلل لا يتطلب فقط وضع سياسات لحذف البيانات، بل إعادة النظر في آليات البحث، بحيث لا تُبنى الأولويات فقط على الشعبية، بل على الدقة والقيمة الحقيقية للمحتوى.
تسعى بعض التشريعات الأوروبية، مثل قانون الخدمات الرقمية (DSA)، إلى إلزام محركات البحث الكبرى بإعطاء الأولوية للمصادر الموثوقة وتقليل انتشار المعلومات المضللة. كما بدأت شركات مثل Google تعديل خوارزمياتها وفق تحديثات E-E-A-T (التجربة العملية، التخصص، الجدارة، الموثوقية)، لتعزيز المحتوى عالي الجودة وتحسين دقة نتائج البحث، بحيث تُمنح الأفضلية للمحتوى المستند إلى الخبرة والموثوقية. يجب أن تكون الخوارزميات أكثر وعيًا بعامل الزمن، بحيث لا تتعامل مع المعلومات القديمة وكأنها لا تزال صالحة للحاضر. يجب على منصات التواصل تعديل معايير ترتيب المحتوى، بحيث لا يكون معيار النجاح الوحيد هو مدى إثارة الجدل، بل مدى إسهامه في إثراء النقاش العام.
على الأفراد أيضًا أن يدركوا أن كل منشور أو تعليق قد يكون له أثر طويل الأمد، ما يستدعي التفكير مليًا قبل مشاركة أي محتوى. الذاكرة الرقمية لم تعد مجرد أرشيف للماضي، بل أصبحت قوة تصوغ الحاضر وترسم ملامح المستقبل. لم يعد ما يبقى وما يُنسى قرارًا فرديًا، بل أصبح خاضعًا لخوارزميات لا تفهم الزمن، ولا تعترف بأن الإنسان يتغير. وحين تتحول الذاكرة إلى قيد يُفرض علينا، يصبح السؤال الحقيقي: هل مازلنا نملك حق تشكيل وعينا، أم أننا مجرد امتداد لنظام يعيد إنتاج ذاته في حلقة مفرغة، بلا بداية ولا نهاية؟.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

كيف طوّرت «Google» قدرات «AMIE» في الاستدلال الطبي؟
كيف طوّرت «Google» قدرات «AMIE» في الاستدلال الطبي؟

الوطن

timeمنذ 6 أيام

  • الوطن

كيف طوّرت «Google» قدرات «AMIE» في الاستدلال الطبي؟

في أحدث أبحاثها حول «AMIE»، «مستكشف الذكاء الطبي الناطق»، تعمل شركة Google على توسيع قدرات الذكاء الاصطناعي التشخيصي ليشمل فهم المحتوى الطبي المرئي. يُعدّ AMIE نظام ذكاء اصطناعي بحثياً مبنياً على نموذج لغوي ضخم ومُحسّن خصيصاً للتفكير التشخيصي الطبي وإجراء المحادثات. وقد قامت الشركة بتحديث النظام ليتمكن من معالجة المعلومات الطبية البصرية أو تحليل الصور السريرية، مما يُتيح له إجراء استنتاجات بشكل أكثر شمولية، كما يعمل الطبيب المدرب. تمثل هذه الخطوة تطوراً جديداً في تقريب الذكاء الاصطناعي من الطريقة التي يشخّص بها الأطباء الحالات المرضية عبر الصور الطبية. تخيل أن تتحدث مع ذكاء اصطناعي حول مشاكلك الصحية، وبدلاً من الاكتفاء بتحليل الأعراض من وصفك لها، يمكنه أيضاً تفسير وتحليل صورك الطبية. يعتمد الأطباء بشكل كبير على ما هو مرئي، مثل الحالات الجلدية، وقراءات الأجهزة، وتقارير التحاليل المخبرية، وكما أشار فريق Google بشكل صحيح، فإن حتى تطبيقات التراسل الفوري تتيح معلومات متعددة الوسائط (مثل الصور والوثائق) لإثراء المحادثة. كيف طوّرت Google قدرات AMIE في الاستدلال الطبي؟ لتعزيز قدرات AMIE في التفكير الطبي، دمجت Google نموذج Gemini 2.0 Flash وطبّقت ما يُسمّى «إطار عمل الاستدلال القائم على الحالة». يسمح هذا الإطار لـAMIE بالتكيّف ديناميكياً مع الأسئلة والإجابات خلال المحادثة، كما يعمل الطبيب الحقيقي. يمكن للنظام تحديد الثغرات في المعلومات، وطلب مدخلات إضافية مثل الصور أو نتائج الفحوصات، وتحسين استنتاجه التشخيصي في الوقت الفعلي. فعلى سبيل المثال، إذا اكتشف AMIE وجود معلومات ناقصة، يمكنه طلب صورة لحالة جلدية أو تخطيط قلب كهربائي (ECG)، وتحليل تلك البيانات البصرية، ودمج النتائج في الحوار السريري. ولتدريب AMIE دون تعريض المرضى للخطر، أنشأت Google مختبر محاكاة طبية افتراضياً. القيود: رغم النتائج الواعدة، أوضحت Google عدداً من القيود التي ينبغي أخذها في الاعتبار عند تفسير نتائج البحث. أولاً، أُجريت الدراسة في بيئة بحثية مضبوطة لا تعكس تماماً واقع الرعاية الصحية في العالم الحقيقي. كما أن واجهة المحادثة لا يمكنها التقاط جميع تفاصيل الاستشارة الشخصية أو بالفيديو، بالإضافة إلى أن المرضى المُحاكين، على الرغم من كونهم ممثلين مدرّبين، لا يمكنهم تمثيل جميع جوانب التفاعل السريري الحقيقي. الخاتمة: يُظهِر عمل Google على نظام AMIE «مستكشف الذكاء الطبي الناطق»، الإمكانيات المتقدّمة للذكاء الاصطناعي في فهم أعراض المرضى ليس فقط من خلال النصوص، بل أيضاً من خلال تحليل البيانات البصرية المعقدة، تماماً كما يفعل الطبيب المتخصّص. هذا النهج متعدّد الوسائط يُعزّز دقة التشخيص ويُقرّب الذكاء الاصطناعي خطوة إضافية نحو دعم اتخاذ القرارات السريرية في الوقت الفعلي وبشكل تفاعلي. وفي محاكاة بحثية، أظهر نظام AMIE نتائج مبهرة، حيث تفوق على الأطباء البشريين في عدة مهام تشخيصية، بل وتلقى تقييمات أعلى فيما يتعلق بالتعاطف والمصداقية أثناء الاستشارات النصية.

من الجغرافيا إلى الخوارزم: عصر الـGeo Tech وصياغة النفوذ الجديد
من الجغرافيا إلى الخوارزم: عصر الـGeo Tech وصياغة النفوذ الجديد

البلاد البحرينية

time١٤-٠٥-٢٠٢٥

  • البلاد البحرينية

من الجغرافيا إلى الخوارزم: عصر الـGeo Tech وصياغة النفوذ الجديد

في وقتٍ كانت الخرائط تُرسم فيها بالبوصلة والدم، وُلد مصطلح 'الجغرافيا السياسية' Geo Political كإطار لفهم كيف تؤثر الجغرافيا في رسم النفوذ، وتحديد التحالفات، وإشعال الحروب. لكننا اليوم نعيش انزياحًا زلزاليًّا في منطق القوة؛ لم تعد الجغرافيا وحدها كافية لفهم المعادلة، بل بات علينا أن نقرأ المشهد بعينٍ جديدة: عين تلتقط إشارات الضوء من كابلات الألياف البصرية، لا من تضاريس الجبال. إننا ندخل عصر 'الجغرافيا التكنولوجية' Geo Tech — زمنٌ لا تُقاس فيه الدول بما تختزنه من براميل نفط، بل بما تضخه من مليارات في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، ومراكز البيانات العابرة للقارات. من حقول النفط إلى أودية السيليكون حين زار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب — مؤخرًا — الرياض وأبوظبي، قرأ كثيرون الزيارة على الطريقة الكلاسيكية: علاقة قديمة بذهبٍ أسود ما زال يسيل. لكن القراءة العميقة تفضح سطحية هذا التفسير؛ فالزيارة ليست جولة في متحف الطاقة، بل إقرار رسمي من واشنطن بأن خريطة النفوذ تعاد صياغتها الآن بلغة الخوارزميات. هذه العواصم لم تعد فقط 'دول نفط'، بل تحوّلت إلى رعاة رسميين للطفرات التكنولوجية الكبرى في وادي السيليكون، مستثمرين عمالقة في مستقبل الذكاء الاصطناعي الأمريكي نفسه. الرسالة واضحة: من يملك أدوات المستقبل، لا يُعامَل كمجرد تابع في الجغرافيا القديمة، بل كشريك في صياغة المعادلة القادمة. الـGeo Tech تفكيك المفهوم الجديد للهيمنة مصطلح Geo Tech لا يعني فقط توظيف التكنولوجيا في العلاقات الدولية، بل يعني إعادة تعريفها بالكامل. إنه يدور حول 'المقدرات المستقبلية' — أي تلك الأصول غير الملموسة التي ستحدد من يملك القدرة على التأثير في الاقتصاد العالمي، ومن يستطيع أن يُملي شروط اللعبة الجيوسياسية القادمة. هذه المقدرات تشمل، من بين أمور أخرى: * الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة: من يتحكم في برمجيات التفكير، يوجّه مصائر الأسواق والمؤسسات. * البنية التحتية الرقمية: مراكز بيانات، شبكات ألياف، بوابات سحابية — هي الموانئ الجديدة على طريق الحرير السيبراني. * الحوسبة الكمية: سلاح التشفير وفك الشيفرات في عالم ما بعد الأمن التقليدي. في هذا السياق، الدول التي تستثمر في هذه المجالات لا تسعى فقط للنمو، بل لامتلاك مفاتيح التفوّق. فليست مصادفة أن تكون دول الخليج — وعلى رأسها السعودية — محور هذه الزيارة الجيو-تكنولوجية. فهذه الدول لم تعد تعتمد على الطاقة فقط كمصدر للقوة، بل أصبحت تستخدم فوائضها المالية لتأمين موقع متقدم في السباق نحو المستقبل. السعودية على سبيل المثال، تضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرقمية، وتحوّل مدنها إلى 'عواصم ذكية'، وترسم مشروع 'نيوم' كأول كيان جغرافي يولد داخل الفضاء الـGeo Tech قبل أن يثبت أقدامه على الأرض. الإمارات، بدورها، باتت شريكًا استراتيجيًّا في تمويل مشاريع الذكاء الاصطناعي داخل الولايات المتحدة، وتحتضن الآن شركات ناشئة ذات ثقل عالمي. وفي البحرين ثمة استراتيجية واعدة ومتكاملة وشاملة للاستثمار في التقنية، وخصوصا الذكاء الاصطناعي. بعبارة أخرى، هذه الدول تنتقل من استثمارها في الجغرافيا (المكان)، إلى استثمارها في الزمن (المستقبل). صعود الذكاء الاصطناعي كعملة جيوسياسية لا يمكن فهم زيارة الرئيس الأمريكي الأخيرة دون إدراك أن الذكاء الاصطناعي هو العملة السياسية الجديدة. النفوذ هنا لا يُقاس بحاملات الطائرات، بل بالرموز البرمجية. انظر إلى الخريطة من زاوية Google وAmazon وAzure، وستكتشف أن الدول التي تستضيف البنية التحتية السحابية أصبحت عقدًا جيواستراتيجية لا تقل أهمية عن قناة السويس أو مضيق هرمز. ولهذا، تسعى دول الخليج لامتلاك هذه البنى على أرضها، كي لا تكون مجرد مستهلك للبيانات، بل بوابة عبور لها. التحالفات الجديدة على أساس الأكواد في هذا التحول، تتغير أيضًا طبيعة التحالفات. لم تعد المعاهدات تُبنى على حدود أو تهديدات مشتركة، بل على مشاريع مشتركة في الذكاء الاصطناعي، على أبحاث في الحوسبة، على بنى تحتية رقمية تُدار عبر قارات. ما نشهده اليوم هو تشكُّل محور Geo Tech عالمي، قوامه الدول القادرة على تمويل التكنولوجيا وتوطينها. قد لا تجمعها اللغة أو الأيديولوجيا، لكن يجمعها الاعتقاد بأن المستقبل يُصنع بالكود لا بالبندقية. إذا أردت أن تفهم شكل العالم القادم، لا تقرأ فقط عناوين السياسة التقليدية؛ بل اقرأ تقارير الاستثمارات في النماذج اللغوية، صفقات شركات الرقائق، خطط التوسع لمراكز البيانات. ففي زمن Geo Tech، التكنولوجيا أصبحت مرآة السياسة، بل باتت هي السياسة نفسها.

حين يصبح الماضي حاضرًا دائمًا.. من يملك حق النسيان في عصر الإعلام الرقمي؟
حين يصبح الماضي حاضرًا دائمًا.. من يملك حق النسيان في عصر الإعلام الرقمي؟

البلاد البحرينية

time٢١-٠٣-٢٠٢٥

  • البلاد البحرينية

حين يصبح الماضي حاضرًا دائمًا.. من يملك حق النسيان في عصر الإعلام الرقمي؟

تخيل أنك كتبت ملاحظة في دفتر يومياتك قبل عشر سنوات، فكرة عابرة، انفعالا لحظيا، شيئا لم يكن يعني لك الكثير آنذاك. اليوم، فجأة، يُعاد إحياؤها، مجردة من سياقها، تُقرأ بعيون مختلفة، وتُستخدم للحكم عليك وكأنك لم تتغير، وكأن الزمن لم يُحدث أثره الطبيعي في وعيك وفكرك! من المؤكد أن ذلك سيكون مزعجًا لك، فلطالما كان النسيان جزءًا أصيلًا من التجربة الإنسانية، يمنح الأفراد فرصة للنمو وإعادة تشكيل ذواتهم بعيدًا عن أثقال الماضي. أما اليوم، فقد أصبحت الذاكرة الرقمية غير منظمة، تحفظ كل شيء دون تمييز، وتعيد تشكيل الماضي وفقًا لقواعد الخوارزميات، لا وفقًا لإرادتنا. لم يكن التوثيق يومًا فعلًا محايدًا. في الماضي، كان المؤرخون يختارون ما يستحق أن يُحفظ في السجلات وما يجب أن يُهمل. أما اليوم، فقد أخذت الخوارزميات جزءًا من دورهم، لكنها لا تعمل وفق منطق المعرفة أو القيمة، بل وفق معايير الانتشار والتفاعل. في منصات التواصل الاجتماعي، يُعزز المحتوى الذي يُثير التفاعل العاطفي، بينما تتراجع المعلومات المتوازنة والعميقة إلى الخلف لأنها ببساطة لا تحقق الأرقام المطلوبة. وفي محركات البحث، لا تظهر الحقائق بالضرورة في مقدمة النتائج، بل المحتوى الذي حقق أعلى نسبة نقر (CTR) في الماضي، حتى لو لم يعد ذا صلة بالحاضر. وهكذا، لا تُبنى الذاكرة الرقمية على ما هو أكثر أهمية، بل على ما هو أكثر تداولًا. في عام 2014، أدركت محكمة العدل الأوروبية خطورة هذا المشهد، فأقرت 'حق النسيان الرقمي'، والذي يمنح الأفراد إمكانية طلب إزالة معلومات قديمة لم تعد تعكس واقعهم الحالي. لم يكن هذا القرار مجرد استجابة لحالات فردية، بل كان اعترافًا بأن الإنترنت ليس مجرد مستودع للمعلومات، بل قوة تُعيد تشكيل الهويات، وأداة يمكن أن تُستخدم ضد الأفراد دون مراعاة السياق الزمني. لكن المشكلة لم تُحل بالكامل، فحتى بعد إزالة المحتوى من محركات البحث، يظل موجودًا في خوادم أخرى، أو يعاود الظهور عبر منصات مختلفة. الإنترنت لا ينسى بالكامل، لكنه أيضًا لا يتذكر بدقة، بل يُعيد إنتاج المحتوى وفقًا لمنطق السوق الرقمي، حيث لا تحكمه الحقيقة، بل قوانين الانتشار. لكن حق النسيان وحده لا يكفي، فالمشكلة لا تتعلق فقط بحذف المعلومات، بل بكيفية إدارتها منذ البداية. هنا يأتي دور الحوكمة الرقمية التي لا تهدف فقط إلى منح الأفراد سلطة على بياناتهم، بل إلى إعادة التوازن إلى الطريقة التي تُبنى بها الذاكرة الرقمية، بحيث لا تُحكم بالكامل بمعايير السوق والتفاعل اللحظي. حق النسيان ليس سوى أداة ضمن هذه المنظومة الأوسع التي يجب أن تضمن أن القرارات حول ما يُمحى وما يُحفظ لا تكون عشوائية أو خاضعة لمصالح اقتصادية بحتة. إذا كانت الخوارزميات هي التي تقرر ما يبقى وما يُنسى، فمن يضمن بقاء الحقائق، بينما تتكرر الضوضاء بلا توقف؟ إن الشركات الكبرى التي تتحكم في تدفق البيانات مطالبة بأن تكون أكثر شفافية، فلا تُخزن المعلومات لمجرد أنها مربحة، ولا تزيلها فقط لأنها لا تحقق نسب مشاهدة عالية. تحتاج المؤسسات التشريعية إلى وضع قوانين واضحة تحمي الأفراد دون أن تصبح وسيلة لحذف التاريخ أو التلاعب بالحقائق. إصلاح هذا الخلل لا يتطلب فقط وضع سياسات لحذف البيانات، بل إعادة النظر في آليات البحث، بحيث لا تُبنى الأولويات فقط على الشعبية، بل على الدقة والقيمة الحقيقية للمحتوى. تسعى بعض التشريعات الأوروبية، مثل قانون الخدمات الرقمية (DSA)، إلى إلزام محركات البحث الكبرى بإعطاء الأولوية للمصادر الموثوقة وتقليل انتشار المعلومات المضللة. كما بدأت شركات مثل Google تعديل خوارزمياتها وفق تحديثات E-E-A-T (التجربة العملية، التخصص، الجدارة، الموثوقية)، لتعزيز المحتوى عالي الجودة وتحسين دقة نتائج البحث، بحيث تُمنح الأفضلية للمحتوى المستند إلى الخبرة والموثوقية. يجب أن تكون الخوارزميات أكثر وعيًا بعامل الزمن، بحيث لا تتعامل مع المعلومات القديمة وكأنها لا تزال صالحة للحاضر. يجب على منصات التواصل تعديل معايير ترتيب المحتوى، بحيث لا يكون معيار النجاح الوحيد هو مدى إثارة الجدل، بل مدى إسهامه في إثراء النقاش العام. على الأفراد أيضًا أن يدركوا أن كل منشور أو تعليق قد يكون له أثر طويل الأمد، ما يستدعي التفكير مليًا قبل مشاركة أي محتوى. الذاكرة الرقمية لم تعد مجرد أرشيف للماضي، بل أصبحت قوة تصوغ الحاضر وترسم ملامح المستقبل. لم يعد ما يبقى وما يُنسى قرارًا فرديًا، بل أصبح خاضعًا لخوارزميات لا تفهم الزمن، ولا تعترف بأن الإنسان يتغير. وحين تتحول الذاكرة إلى قيد يُفرض علينا، يصبح السؤال الحقيقي: هل مازلنا نملك حق تشكيل وعينا، أم أننا مجرد امتداد لنظام يعيد إنتاج ذاته في حلقة مفرغة، بلا بداية ولا نهاية؟.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store