دعوى قضائية ضد بشار الأسد داخل سوريا
تداول ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صورة لوثيقة صادرة عن وزارة العدل السورية، تتضمن دعوى قضائية موجهة ضد بشار حافظ الأسد بصفته "متهماً بجرم القتل العمد والتعذيب"، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والقانونية وصلت حد السخرية.
الوثيقة، التي تحمل توقيع نائب عام وتاريخاً يعود إلى 4 أيار/مايو 2025، تشير إلى أن المدعو أحمد عبد الرحمن سليمان تقدم بشكوى شخصية ضد بشار الأسد، متهماً إياه بارتكاب جرائم قتل وتعذيب، وهي اتهامات أحيلت إلى قاضي التحقيق للنظر فيها، استناداً إلى المواد 58 و59 من أصول المحاكمات الجزائية السورية.
وتبدو صيغة الدعوى قاصرة عن الإحاطة بحجم الجرائم المنسوبة إلى النظام السوري، والتي وثقتها مئات التقارير الحقوقية الدولية، إذ تقتصر التهمة على القتل العمد، دون أن تشير إلى الجرائم الكبرى من قبيل الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية.
المحامي والحقوقي السوري ميشيل شماس علق على الوثيقة المنشورة، معتبراً أن مضمونها لا يرقى إلى مستوى الجرائم التي ارتكبت في سوريا، بل يشكّل بحسب تعبيره "إهانة واستخفافاً بمعاناة الضحايا". ورأى شماس أن هذه الدعوى تقزم الانتهاكات المرتكبة وتحصرها في إطار جنائي داخلي لا يتناسب مع طبيعتها كجرائم حرب. وأضاف أن محاكمة بشار الأسد تحتاج إلى جهد جماعي من قبل فريق قانوني متخصص، يعمل على توثيق الجرائم وفق المعايير الدولية، وتقديمها أمام محاكم مختصة قائمة على القانون الدولي، لا أمام قضاء وطني لا يتمتع بالاستقلالية اللازمة، وقد كان أحد أدوات القمع خلال السنوات الماضية.
وحسب خبراء، فإن القيمة القانونية للدعوى تقتصر على الإطار المحلي، وهي تستند إلى مواد القانون السوري التي تعاقب على القتل والتعذيب، لكنها تتجاهل السياق الواسع والممنهج للجرائم التي وقعت منذ العام 2011. إذ وثقت منظمات دولية مستقلة استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، وجرائم الحصار والتجويع، والاعتقال الجماعي، والإخفاء القسري، فضلاً عن أعمال الإعدام خارج القانون.
والحال أن فرار بشار الأسد إلى روسيا عقب سقوط نظامه في كانون الأول/ديسمبر 2024، وحصوله على صفة "اللجوء الإنساني" هناك، يعزز من حمايته القانونية المؤقتة، ويوفر له مظلة سياسية تحول دون أي إجراءات قضائية دولية فورية بحقه.
غير أن تاريخ القانون الدولي الحديث يوضح بشكل لا لبس فيه أن الرؤساء والمسؤولين الرسميين لا يتمتعون بحصانة أمام الجرائم الجسيمة، وقد جرى تكريس هذا المبدأ منذ محاكمات نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تجلّى في محاكمات دولية لاحقة، من أبرزها محاكمة الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش أمام محكمة لاهاي، والرئيس الليبيري تشارلز تايلور، وكذلك صدور مذكرات توقيف دولية بحق الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير. وأكد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، في مادته السابعة والعشرين، أن الصفة الرسمية، بما في ذلك رئاسة الدولة، لا تمنع الملاحقة الجنائية على الجرائم الكبرى.
ورغم هذه السوابق القضائية، تبقى ملاحقة الأسد على المستوى الدولي معطلة في الوقت الراهن، نظراً إلى أن روسيا ليست طرفاً في نظام روما الأساسي، وبالتالي لا تلتزم قانوناً بتسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما يفرض تحدياً حقيقياً أمام جهود المساءلة الدولية، ويؤجل تحقيق العدالة في واحدة من أكثر القضايا تعقيداً في الذاكرة الحقوقية المعاصرة.
ومع ذلك، فإن محاكمة الأسد تبقى ممكنة، إذا توفرت الإرادة السياسية لإنشاء محكمة خاصة بسوريا، أو إذا قامت دول أعضاء في المحكمة برفع دعاوى بناء على اختصاصها العالمي، خاصة في حال كان بعض الضحايا من حملة جنسيتها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

المدن
منذ 16 ساعات
- المدن
التاريخ يُعيد نفسه جزئيًا
بعد هروب رأس النظام البائد، بشار الأسد، إلى موسكو، بدأ البعض من السوريين والسوريات، خصوصًا منهم أولئك الذين ابتعدوا عن الخوض في المشهد السياسي طوال عقود، بالبحث عن موطئ قدم في مقدمة خشبة المشهد السياسي أو الإداري، وذلك كما جرت عليه العادة تاريخيًا بعد سقوط نظام ما وإحلاله بنظام آخر. وبالفعل، فسرعان ما نشط هؤلاء في مساعيهم بعيدًا عن أي موقفٍ أو فعلٍ جديٍ يتمسك بالمبادئ الأخلاقية والوطنية التي قامت عليها ثورة الشباب السوري في مطلع 2011. لقد تمعّن هؤلاء، ومن في حكمهم من أصحاب المصالح المتنوعة والمتلونة، مليًّا في المشهد السوري طوال 14 عامًا محللين أبعاده ومقدرين مآلاته، سعيًا للاستفادة من ركوده أو تغيراته الجزئية أو الكليّة. ولقد كانوا صامتين أحيانًا ومهللين أحيانًا أخرى لمن لديه الغلبة. ولقد كانت الغلبة في المشهد الدموي السوري طوال هذه الفترة، بتفاوتات مختلفة، هي لنظام البراميل والسلاح الكيماوي ضد شعبه، كما ولأزلامه من كل الطوائف والنحل. التحوّل من الصمت المريب الذي يُقارب التلبّس، أو من الاشتراك المفضوح مع آليات عمل النظام البائد الأمنية أو الاقتصادية أو الدينية، إلى موقع يتقرّب أصحابه من خلاله من الإدارة الجديدة بعد 8 كانون الأول الماضي، ليس بالتأكيد حكرًا على السوريين، وإن أبدعوا في تنفيذه وتأمين متطلباته. ففي بلد مثل فرنسا، الذي شهد نظاما خاضعًا للمحتل النازي الألماني إبّان الحرب العالمية الثانية بين عامي 1940 و1944، متمثلاً بحكومة فيشي، وعلى رأسها المارشال فيليب بيتان، أسرع متمجّدوه وأتباعه، وخصوصًا أولئك الذين كانت مواقفهم وأدوارهم ليست شديدة الوضوح والتي كانت أيضًا ليست سهلة الإدانة لغموض تفاصيلها، إلى تقمّص شخوص ثورية تكون من خلالها أقرب ما تكون لشخوص المقاومة الفرنسية التي ناهضت الاحتلال النازي والحكومة الفرنسية المتعاونة معه. وقد جرى استنباط سردية مقاومة لكل فرد منها بحيث تمنحه شرعية تعينه على قضاء حاجاته المتجددة وتأمين احتياجاته المتضخمة. ولقد عرفت هذه المرحلة بفترة "التطهير القانوني أو العفوي". لم يتم التعامل مع كل من تعامل مع النازيين بالأسلوب نفسه. فالبعض تم وصفهم بالخونة وخضعوا للقضاء. والبعض الآخر اعتبروا بأنهم تعاملوا مضطرين وبشكل محدود. وكان الرئيس الفرنسي حينها، ومحرّر باريس، الجنرال شارل ديغول، يسعى الى الوحدة الوطنية. وبالتالي، فقد تجنّب تطهير أجهزة الدولة (مثل القضاء والشرطة والإدارة..) بشكل كامل وقد ركّز اهتمامه على إعادة بناء فرنسا وتجنب حرب أهلية. ولقد سمح هذا التصرف البراغماتي لبعض المتعاونين سابقاً مع النازية بالبقاء في مناصبهم أو العودة إليها تدريجيًا بعد فترة قصيرة من التغيب المرغوب. من جهة أخرى، فقد تمكن بعض المتعاونين من إعادة كتابة أدوارهم خلال فترة الاحتلال. فزعم البعض منهم بأنهم كانوا جزءًا من المقاومة السرية وأنهم لعبوا أدواراً أساسية خلف خطوط العدو. وزعم البعض الآخر بأن ما قاموا به كان هدفه حماية المدنيين. فاستطاعت هذه الفئات التلاعب بالذاكرة كيفما شاءت. وتمكنت فئات متعاونة أخرى من الاستفادة لاحقًا من العفو الرسمي الشامل أو الجزئي، مما أعاد لها حقوقها المدنية والسياسية طاويًا صفحة التعاون مع الاحتلال النازي. كما أن البعض منهم قام بتبديل مواقفه الأيديولوجية رأسًا على عقب بعد الحرب. وقام البعض الآخر بالانضمام للتيارات السياسية السائدة، والتي كانت مع المقاومة، وعلى رأسها الجمهوريون المؤيدون لفرنسا الجديدة بقيادة الجنرال ديغول. لقد تمكنوا من الاستفادة من غموض وضعهم خلال الاحتلال وقدرتهم اللاحقة على تكييف صورتهم. كما استغلوا الرغبة السياسية التي برزت حينها في السعي الى تحقيق المصالحة الوطنية. وساعد العفو العام أو الجزئي، كما ضعف وتعقيد عملية المحاسبة عبر القضاء، في ذلك. لقد نجح هؤلاء في البقاء أو حتى الصعود مجددًا في الحياة السياسية أو الإدارية. ولقد اعتبر كثير من المؤرخين بأن ما حصل ما هو إلا نفاق تاريخي ليفتح بذلك جدلاً واسعًا في التعامل مع الذاكرة الجماعية الفرنسية. من أبرز هذه الشخوص الرئيس السابق فرانسوا ميتران (1981 ـ 1995) الذي كان في حكومة فيشي منذ بدايتها وحاز على وسام من رئيسها سنة 1943 ليتركها قبل اندحارها وينضم الى المقاومة. وبعدها استطاع بناء مسيرة سياسية ناجحة للغاية، مع أن موضوع تعاونه مع حكومة فيشي أُثير لاحقًا وأثار جدلًا واسعًا، لكن ماضيه هذا لم يمنعه من الصعود. بالمحصلة، كثيرون من المتعاونين السابقين مع الاحتلال النازي وأدواته في فرنسا استطاعوا تبييض صورتهم أو الإفلات من المحاسبة. ولقد ساعد في ذلك تقاعس القضاء، إضافة إلى جرعة من البراغماتية السياسية، ورغبة النظام الجديد في النسيان وتحقيق المصالحة الوطنية. أخطأ من يقول بأن التاريخ لا يُعيد نفسه، لكن في فرنسا، لم يقم أحد من هؤلاء لاحقًا بالتشكيك في مقاومة المقاومين الحقيقيين وجعل ألسنة وسائل التواصل، التي كانوا يفتقدونها -ولله الحمد- تلوك سمعة الشرفاء من مقاومين عسكريين ومثقفين. أما في سوريا، فكثيرون ممن يصح وصفهم بالمتعاونين المنقلبين، وليسوا من المنفلتين من الحساب فحسب، يقومون اليوم بتوزيع الاتهامات الكاذبة ذات اليمين وذات اليسار، معتقدين بأن ذاكرة السمكة منحة ربّانية. والله أعلم.

المدن
منذ يوم واحد
- المدن
الودائع السورية المجمدة بالمصارف اللبنانية.. إشكاليات متشعبة حلولها معقدة
مع سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، طُويت صفحة واحدة من أطول الديكتاتوريات في الشرق الأوسط، ودخلت سوريا مرحلة انتقالية بالغة الحساسية بمجموعة ملفات تحتاج حيّزاً من التفكير والتنسيق الدولي. وبينما تتصدر ملفات العدالة الانتقالية، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة الاقتصادية والأمنية والعسكرية، وجدولة إعادة الإعمار، برزت إلى السطح قضية أموال السوريين المجمدة في المصارف اللبنانية، التي تُقدَّر بمليارات الدولارات وتعدّ من بين أبرز تحديات ومساعدات التعافي الاقتصادي السوري في آنٍ معاً. تعود بداية هذه الأزمة إلى أواخر عام 2019، عندما انهار القطاع المصرفي اللبناني بصورة شبه كاملة، في واحدة من أسوأ الأزمات المالية في تاريخ البلاد؛ حينما فرضت المصارف اللبنانية ما عُرف شعبياً بـ"الكابيتال كونترول" وفرضت فيها القيود غير القانونية على السحب والتحويل، رغم غياب قانون رسمي ينظم ذلك. ونتيجة لخطة القيود هذه تضرر مئات آلاف اللبنانيين، لكن الضربة كانت أشدّ على المودعين السوريين، الذين وجدوا أنفسهم محرومين من الوصول إلى مدخراتهم، والتي تراوحت تقديراتها في البداية بين 20 و42 مليار دولار. لم تكن هذه الأموال مقتصرة على رجال أعمال أو أفراد أثرياء، بل شملت أيضاً شركات كبرى، ومغتربين، ومنظمات دولية عاملة في سوريا كانت تستخدم النظام المصرفي اللبناني لتحويل الأموال إلى الداخل السوري، في ظل العقوبات الغربية على النظام السوري والمؤسسات المالية التابعة له، حيث شكّل لبنان لعقود "صندوق أمان مالي" بالنسبة لكثير من السوريين، خصوصاً منذ 2011، حين أصبحت المصارف اللبنانية بوابة التمويل الخارجي شبه الوحيدة المتاحة لسوريا المحاصرة اقتصادياً والنافذة الأقرب على التبادلات التجارية العالمية بالقطع الأجنبي. ارتدادات الأزمة فور تجميد الودائع في لبنان، بدأت التداعيات المباشرة تضرب الاقتصاد السوري، حيث انخفضت تدفقات الدولار إلى البلاد، فانهارت الليرة السورية، وارتفعت معدلات التضخم، وتضاعفت أسعار الواردات الأساسية، ليعقب ذلك انهيار آخر بعد تداخل آثار الانهيار اللبناني مع العقوبات الأميركية المفروضة بموجب "قانون قيصر"، وتفاقمت الأزمة المالية المشتركة بين البلدين إلى حد غير مسبوق. ومع دخول سوريا مرحلة ما بعد الأسد، أطلقت الحكومة السورية الانتقالية تحركات دبلوماسية وقانونية لاسترداد هذه الأموال، مُعتبرة إياها أحد أهم موارد تمويل عملية إعادة الإعمار، لا سيما أن حجمها – حتى في أدنى التقديرات – يفوق مجموع ودائع وأصول القطاع المصرفي السوري الخاص بأكمله. فعلياً، لا تزال التقديرات المتعلقة بحجم الودائع السورية في لبنان متضاربة إلى حد كبير، ففي حين قدّرت بعض الدراسات الرقم بين 20 و40 مليار دولار، فإن مصرف لبنان أشار إلى أن الودائع الأجنبية غير المقيمة بالعملات الأجنبية انخفضت من 28.4 مليار دولار في كانون الثاني/يناير 2020 إلى 20.9 مليار في كانون الثاني 2025، دون تفصيل حسب الجنسية. في المقابل، قدّرت مصادر مصرفية لبنانية أن الودائع السورية الفعلية لم تتجاوز 3 إلى 4 مليارات دولار بحلول 2025، نتيجة سحب تدريجي من قبل المودعين بأسعار صرف منخفضة لقبولهم بشروط المصارف رغبة منهم في تسيير أعمالهم بالحد الأدنى من الخسائر. ورغم صعوبة تأكيد هذه الأرقام، إلا أن المقارنة مع القطاع المصرفي السوري تُظهر مدى الفجوة، إذ إن قيمة ودائع المصارف السورية الخاصة بلغت في النصف الأول من عام 2024، نحو 1.5 مليار دولار، في حين قُدّرت أصولها بـ3.9 مليار دولار فقط. حتى في أكثر التقديرات تحفظاً، يتضح أن الودائع السورية المجمدة في لبنان تفوق القدرة المصرفية السورية مجتمعة، ما يعكس مدى الاعتماد البنيوي لسوريا على النظام المالي اللبناني الذي كان آمناً إلى حد بعيد حتى في ظل الحروب والأزمات السياسية والدبلوماسية في لبنان، ويُفسِر حجم الضربة التي تلقّاها الاقتصاد السوري إثر الانهيار اللبناني. أفاق الحل بعد تحركات الإدارة السورية الجديدة، انتعشت آمال السوريين باسترداد ودائعهم. لكن الواقع السياسي والاقتصادي في لبنان لا يزال بعيداً عن تقديم حلول واقعية، إذ لا تزال المصارف اللبنانية تعاني من أزمة سيولة عميقة، ولم يُقرّ حتى اليوم قانون لضبط رأس المال يحدد آليات التعامل مع هذه الودائع. علاوة على ذلك، فإن جزءاً من الأموال المجمدة إما تم توظيفه في تمويل الديون العامة اللبنانية، أو تبخر في دوامة الفساد وسوء الإدارة. وإذ تعاني الحكومة السورية الانتقالية من ضغوط داخلية كبيرة من قبل رجال أعمال ونخب اقتصادية تطالب باسترداد الأموال كأحد سبل الإنعاش السريع، تحاول أطراف لبنانية استخدام هذا الملف كورقة ضغط سياسي، خصوصاً ما يتصل بملفات اللاجئين والمصالح الاقتصادية المشتركة. إلا أن واقع الأمر مختلف، إذ إن في ملف الودائع السورية إشكاليات سياسية وقانونية متشابكة. ففي لبنان، تُثار تساؤلات حول شرعية بعض هذه الودائع، خصوصاً تلك العائدة لشخصيات مرتبطة بالنظام السابق، أو المتورطة بشبهات فساد وتبييض أموال. وبسبب السرية المصرفية اللبنانية، يُعدّ التحقق من مصادر هذه الأموال عملية معقدة، وهو ما يفتح المجال أمام تسييس الملف، بل واستغلاله ضمن الصراعات الإقليمية والدولية. يمكن على المستوى السوري ترتيب استعادة هذه الأموال عبر القنوات الدبلوماسية، مع التركيز على تلك المرتبطة بالمال العام أو النظام السابق. أو عبر صندوق استثماري مشترك: اقتُرح تشكيل صندوق خاص تُسهم فيه الودائع السورية المجمدة، موزّعة بنسبة 35% للاستثمار، 35% للاستيراد، و30% كودائع نقدية في المصارف السورية، مع الاستفادة من قرار تجميد حسابات النظام السابق، حيث أصدر مصرف سوريا المركزي تعميماً بتجميد الحسابات المرتبطة بشخصيات النظام القديم، في محاولة للفصل بين المال المشروع والمال الفاسد. أما على المستوى اللبناني، فيمكن طرح مجموعة إصلاحات تصب في صالح إتمام هذا الملف، تبدأ بالمساواة في المعاملة القانونية وفقاً للقانون اللبناني ومبدأ الملكية الفردية مع إتاحة المجال أمام أدوات استثمارية مؤقتة تتيح للمودعين استخدام أموالهم كي لا تفقد قيمتها السوقية، والتحقيق في مصادر الودائع على أن الأموال السليمة قانونياً ستُحرر، بينما سيجري حجز الأموال المشبوهة، وعدم ربط ملف الأموال المحتجزة بملف اللاجئين ما يُدخل البعد الإنساني في سياق المعادلة المالية، لا سيما وأن ربط الإفراج عن الودائع السورية بتسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، من شأنه أن يطيل أمد ملف الأموال لتعقيد ملفات اللاجئين. ماذا بعد العقوبات؟ ورغم رفع العقوبات الأميركية عن سوريا في أيار/مايو الماضي، تبقى المصارف اللبنانية متوجسة من أي معاملات قد تعيد تفعيل عقوبات ثانوية، ما يعقّد التحويلات المالية. بالإضافة إلى ذلك، فإن القوانين اللبنانية المتعلقة بالسرية المصرفية قد تعرقل عمليات الكشف عن مصادر الأموال، ما يصعّب عملية التحقق من مشروعية الودائع في ظل غياب آليات إجرائية أو قانونية مفعّلة يمكنها إلزام المصارف اللبنانية بإعادة الأموال دون وجود اتفاق سياسي وقانوني شامل. هنا يبرز دور المنظمات الدولية كعنصر توازني ضروري، إذ يمكن للأمم المتحدة والبنك الدولي المساهمة بوضع إطار تقني وقانوني يفصل بين الأموال الشرعية وتلك المرتبطة بالفساد، وإنشاء آلية تعويض للمودعين الصغار، وضمان الشفافية والعدالة في إدارة المطالبات.


سيدر نيوز
منذ يوم واحد
- سيدر نيوز
'غزة لم تعد جحيماً فقط، بل أصبحت أسوأ'
قالت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر لهيئة لبي بي سي إن غزة أصبحت أسوأ من الجحيم على الأرض. وفي مقابلة أجرتها بي بي سي في مقر اللجنة بجنيف، قالت رئيسة المنظمة ميرْيانا سبولياريتش إن 'الإنسانية أخفقت' بينما يشاهد العالم أهوال الحرب في القطاع. وفي غرفة قريبة من واجهة عرضت عليها ثلاث جوائز نوبل للسلام حصلت عليها اللجنة، سألنا سبولياريتش عن تصريحاتها في شهر أبريل/نيسان حين وصفت غزة بأنها 'جحيم على الأرض'، وما إذا كان هناك شيء قد تغيّر منذ ذلك الحين، فأجابت: 'لقد أصبح الأمر أسوأ، لا يمكننا الاستمرار في مشاهدة ما يحدث، إنه يتجاوز أي معيار قانوني أو أخلاقي أو إنساني مقبول'، وأضافت: 'مستوى الدمار، مستوى المعاناة، والأهم من ذلك، حقيقة أننا نشهد شعباً يُجرد بالكامل من كرامته الإنسانية، يجب أن يصدم ذلك ضميرنا الجماعي'. وأكدت على ضرورة أن تبذل الدول المزيد لإنهاء الحرب، ووقف معاناة الفلسطينيين، وضمان إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. كلماتها، التي بدا واضحاً أنها اختارتها بعناية شديدة، تحمل ثقلاً أخلاقياً كبيراً كونها صادرة عن رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر. إذ أن الصليب الأحمر الدولي، منظمة إنسانية عالمية تعمل منذ أكثر من 150 عاماً على تخفيف المعاناة خلال الحروب، كما أنها الجهة الراعية لاتفاقيات جنيف، وهي مجموعة من القوانين الإنسانية الدولية التي تهدف إلى حماية المدنيين وغير المقاتلين. وأحدث نسخة من تلك الاتفاقيات، هي اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تم تبنيها بعد الحرب العالمية الثانية بهدف منع تكرار المجازر بحق المدنيين. وفي حين تبرر إسرائيل ما تقوم به في غزة على أنها دفاع عن النفس، تقول سبولياريتش إن ''لكل دولة حق في الدفاع عن نفسها، ولكل أم الحق في أن ترى أطفالها يعودون إليها، ولا يوجد أي مبرر لأخذ رهائن، ولا يوجد أي مبرر لحرمان الأطفال من الغذاء أو الرعاية الصحية أو الأمان'، مشيرة إلى أن 'هناك قواعد تحكم الأعمال القتالية، وعلى كل طرف في أي نزاع احترامها'. وعند سؤالها عمّا إذ كان ذلك يعني أن هجوم عناصر من حماس وفصائل أخرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي أدى إلى مقتل نحو 1200 شخص واحتجاز حوالى 250 رهينة بحسب السلطات الإسرائيلية، لا يبرر تدمير إسرائيل لقطاع غزة وقتل أكثر من 50,000 فلسطيني؟، فأجابت: 'لا يوجد أي مبرر لانتهاك أو تفريغ اتفاقيات جنيف من مضمونها، ولا يُسمح لأي طرف بخرق القواعد مهما كانت الظروف، وهذا أمر مهم، لأن القواعد نفسها تنطبق على كل إنسان بحسب اتفاقيات جنيف، الطفل في غزة يتمتع بالحماية ذاتها التي يتمتع بها الطفل في إسرائيل'. وأضافت سبولياريتش: 'أنت لا تعرف أبداً متى قد يكون طفلك هو الطرف الأضعف، وسيحتاج لهذه الحماية'. وتُعتبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر مصدراً موثوقاً للمعلومات بشأن ما يحدث في غزة، خصوصاً مع منع إسرائيل لوسائل الإعلام الدولية، بما فيها بي بي سي، من إرسال صحفيين إلى القطاع. وتشكل تقارير أكثر من 300 موظف يعملون لدى الصليب الأحمر في غزة، 90 في المئة منهم فلسطينيون، جزءاً مهماً من سجل الحرب. وتتحدث سبولياريتش يومياً مع قائد فريق اللجنة في غزة، كما يُعد المستشفى الجراحي التابع للجنة في رفح أقرب منشأة طبية إلى المنطقة التي شهدت مقتل العديد من الفلسطينيين أثناء عملية توزيع المساعدات من قبل مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل. وعلى غرار الأمم المتحدة، لا تشارك اللجنة الدولية في العملية الجديدة لتوزيع المساعدات، إذ تقول إن أبرز عيوب هذه العملية هو اجبار عشرات الآلاف من المدنيين الجائعين على المرور داخل منطقة حرب نشطة. وقالت سبولياريتش إنه 'لا يوجد أي مبرر لتغيير وكسر شيء يعمل، واستبداله بشيء لا يبدو أنه يعمل'. وفي الأيام الأخيرة، تعرض الفريق الجراحي في مستشفى الصليب الأحمر في رفح لحالة من الإنهاك الشديد مرتين على الأقل نتيجة تدفق المصابين أثناء توزيع الغذاء. وأكدت سبولياريتش أنه 'لا يوجد مكان آمن في غزة، لا للمدنيين، ولا للرهائن. هذه حقيقة، حتى مستشفانا ليس آمناً، لا أتذكر حالة مشابهة رأينا فيها أنفسنا نعمل في وسط العمليات العسكرية'. وقبل بضعة أيام، أُصيب طفل صغير برصاصة اخترقت نسيج خيمة المشفى أثناء علاجه. وتابعت سبولياريتش أنه 'لا يوجد لدينا أمن حتى لموظفينا، إنهم يعملون 20 ساعة في اليوم، يرهقون أنفسهم، ولكن الوضع يفوق قدرة البشر'. وقالت اللجنة إن فرقها الجراحية في رفح استقبلت خلال ساعات قليلة فقط صباح الثلاثاء 184 مصاباً، من بينهم 19 توفوا لحظة وصولهم، و8 آخرون توفوا متأثرين بجراحهم لاحقاً. وكان ذلك أعلى عدد من الإصابات في حادثة واحدة منذ إنشاء المستشفى الميداني قبل أكثر من عام. ووقع الحادث عند الفجر، إذ قال شهود فلسطينيون وأطباء من اللجنة إن مشاهد القتل كانت مروعة حين فتحت القوات الإسرائيلية النار على فلسطينيين اقتربوا من موقع توزيع المساعدات الجديد جنوب غزة، بينما وصف شاهد أجنبي المشهد بـ'المجزرة الكاملة'. في المقابل، قدمت إسرائيل رواية مختلفة تماماً. ففي بيان رسمي، قالت إن 'مشتبه بهم' اقتربوا من القوات الإسرائيلية 'من خارج المسارات المحددة'، مضيفة أن قواتها 'أطلقت نيران تحذيرية، وتم توجيه طلقات إضافية بالقرب من بعض المشتبه بهم الذين واصلوا التقدم نحو القوات'. وقال متحدث عسكري إن السلطات الإسرائيلية تحقق في ما جرى، ونفى إطلاق النار على فلسطينيين في حادثة مماثلة يوم الأحد. وقالت سبولياريتش إن اللجنة تشعر بقلق عميق تجاه الخطاب الداعي إلى النصر بأي ثمن، والحرب الشاملة، وتجريد البشر من إنسانيتهم. وأضافت: 'نحن نشهد أموراً ستجعل العالم مكاناً أكثر بؤساً، ليس فقط في هذه المنطقة، بل في كل مكان، لأننا نُفرغ القواعد التي تحمي الحقوق الأساسية لكل إنسان من معناها'. وحذرت سبولياريتش من مستقبل مظلم للمنطقة في حال عدم التوصل إلى وقف لإطلاق النار، مؤكدة أن 'هذا أمر مصيري للحفاظ على طريق نحو السلام في المنطقة، إذا دمرنا هذا الطريق إلى الأبد، فلن تجد المنطقة أبداً الأمن والاستقرار. ولكن يمكننا إيقاف ذلك الآن، لم يفت الأوان بعد'. ودعت سبولياريتش قادة الدول للتحرك، قائلة: 'على قادة الدول الالتزام بالتحرك. أنا أناشدهم أن يفعلوا شيئاً، أن يفعلوا المزيد، وأن يستخدموا كل ما في وسعهم، لأن ما يحدث سيرتد إليهم وسيطاردهم وسيصل إلى أبوابهم'. وتُعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر الجهة الراعية لاتفاقيات جنيف، خاصة الاتفاقية الرابعة التي أُقرت بعد الحرب العالمية الثانية لحماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة. وأكدت سبولياريتش أن هجمات عناصر من حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لا تبرر ما يجري حالياً، إذ 'لا يُسمح لأي طرف بخرق القواعد، مهما كان'. وأطلقت إسرائيل حملتها العسكرية في غزة رداً على هجوم عناصر من حماس، أسفر عن مقتل حوالي 1,200 شخص واحتجاز 251 آخرين كرهائن بحسب السلطات الإسرائيلية. ومنذ ذلك الحين، قُتل ما لا يقل عن 54,607 أشخاص في غزة، منهم 4,335 منذ استئناف إسرائيل لهجومها في 18 مارس/آذار، بحسب وزارة الصحة في القطاع. وفي ختام المقابلة، دعت سبولياريتش إلى وقف فوري للعدوان، وقالت: 'لا يمكننا الاستمرار في مشاهدة ما يحدث، إنه تحدٍ الإنسانية، وسيطاردنا جميعاً'. وأضافت أن 'على كل دولة الالتزام باستخدام الوسائل السلمية المتاحة لديها للمساعدة لتغيير ما يحدث اليوم في غزة'.