logo
هل بدأ انقلاب بكين على النظام الرقمي العالمي؟

هل بدأ انقلاب بكين على النظام الرقمي العالمي؟

فبفضل أكثر من مليار مستخدم للإنترنت، وشبكة ضخمة من الكاميرات الذكية والتقنيات الناشئة، تُنتج الصين بيانات أكثر من أي دولة أخرى في العالم، وقد قررت الحكومة تحويل هذا التدفق الهائل من المعلومات إلى مصدر قوة استراتيجي، عبر بناء ما يُشبه "سور بيانات عظيم" يُحصّن الاقتصاد ويُغذي طموحات بكين في الهيمنة التكنولوجية العالمية.
وبحسب تقرير أعدته صحيفة "ذي إيكونوميست"، واطّلع عليه موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، فإن الصين شرعت في تقييم أكوام البيانات المتوفرة لدى الشركات الحكومية، حيث أصدر مجلس الدولة الصيني في 3 يونيو 2025، قواعد جديدة تُلزم جميع المستويات الحكومية في البلاد بمشاركة ما تمتلكه من بيانات، إذ إن الفكرة الأساسية لهذا المشروع تتمثل في تقييم البيانات كأصول قيّمة، يمكن إدراجها في الميزانيات العمومية أو حتى تداولها في البورصات الحكومية.
ومن الخطوات المهمة الأخرى التي قامت بها البلاد في مجال جمع البيانات، أطلقت الصين في 15 يوليو 2025 نظام الهوية الرقمية الجديد، الذي يمنح الدولة صلاحية حصرية في الوصول إلى البيانات الخاصة بتحركات المستخدمين على مواقع الويب والتطبيقات التي يزورونها داخل البلاد. أما شركات التكنولوجيا الكبرى التي كانت تتحكم بهذا النظام سابقاً، فلن تعود قادرة على ربط أسماء المستخدمين بنشاطاتهم الرقمية، إذ لن ترى من الآن وصاعداً سوى سيلٍ مبهم من الأرقام والحروف، ما يُقلّص قدرتها على التتبع والاستهداف بدقة.
رفع البيانات إلى مرتبة رأس المال
ويبدو أن الهدف النهائي للصين هو بناء محيط بيانات وطني متكامل لا يقتصر على المستخدمين العاديين فقط، بل يشمل أيضاً الأنشطة الصناعية والحكومية، حيث تكمن مزايا هذا النموذج في توفير وفورات الحجم الضرورية لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وتقليص الحواجز أمام دخول الشركات الصغيرة إلى السوق.
ويرى صانعو السياسات في الصين أن البيانات أصبحت عنصراً إنتاجياً لا يقل أهمية عن اليد العاملة ورأس المال، نظراً لدورها المحوري في تعزيز ربحية الشركات، ودفع عجلة الابتكار، وتغذية طموحات البلاد لتصدّر السباق العالمي نحو ريادة الذكاء الاصطناعي.
تنفيذ رؤية الرئيس
والتحوّل العميق الذي تشهده الصين في تقييم البيانات، ورفعها إلى مرتبة أصول استراتيجية، لم يكن وليد الصدفة، بل هو في الأصل رؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي وصف البيانات بأنها "مورد ثوري"، يحمل في طياته القدرة على إعادة رسم خريطة المنافسة العالمية.
وتسير الصين منذ سنوات بخطى حثيثة لتحقيق هذه الرؤية الطموحة، ففي عام 2021، تبنت قوانين مستوحاة من اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبية (GDPR)، ولكنها، ومع حلول عام 2025، بدأت تبتعد عن المسار الغربي لتضع لنفسها إطاراً فريداً يعزز دمج البيانات كركيزة أساسية في استراتيجياتها التنموية والأمنية على المستويين الوطني والدولي.
ولعقود من الزمن، كانت الصين "تابعاً سريعاً" للابتكارات الغربية، ولكنها اليوم تقف على أعتاب تغيير جذري قد يقلب موازين القوى. فإذا نجحت في تحويل "سور بياناتها العظيم" إلى مصدر ثروة استراتيجية، فإن نهجها في مركزية إدارة البيانات سيغدو تحدياً لا يقتصر تأثيره على الاقتصاد، بل يتسلل إلى عمق المعادلات السياسية العالمية.
ولكن الطموح الصيني، ورغم أهميته، لا يخلو من ثغرات خطيرة. فبحسب تقرير "ذي إيكونوميست"، تحمل القوانين الجديدة مخاطر أمنية واضحة، لا سيما مع سجل الدولة المتعثر في حماية البيانات الشخصية، إذ يكفي التذكير بالحادثة التي شهدت اختراق مليار سجل لدى شرطة شنغهاي على يد أحد القراصنة.
وما يُثير القلق أيضاً، هو أثر هذه السياسات على الابتكار، فحين يتم منع الشركات الخاصة من الوصول إلى البيانات التي تساهم في إنشائها، فإن أرباحها ستتآكل وتتراجع حوافزها للابتكار، ما قد يُفرمل الزخم التكنولوجي الصيني ذاته.
أما الخوف الأكبر، فهو أن يُصبح هذا المشروع الصيني الطموح غطاءً لنظام مراقبة شامل، يُحكم قبضته على كل حركة رقمية داخل البلاد، ما سيُثير جدلاً أخلاقياً واسعاً حول مستقبل الخصوصية في الدولة.
نقلة نوعية
ويقول المطور التكنولوجي هشام الناطور، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إن الصين لا تطرح مجرد سياسة بيانات جديدة، بل تصوراً مختلفاً لعصر جديد تصبح فيه البيانات عنصراً إنتاجياً مستقلاً يمكن تملّكه، تسعيره، أو حتى تداوله. فاعتبار البيانات أصلاً مالياً في الميزانيات العمومية ليس إجراءً محاسبياً فحسب، بل تحول مفاهيمي يعيد تعريف مفهوم القيمة الاقتصادية، ما يعني أن الاقتصادات لن تتنافس فقط على الموارد الطبيعية، بل على تدفقات البيانات أيضاً، ما يفتح الباب أمام نشوء أسواق رقمية تُدار فيها البيانات كما تُدار السلع الاستراتيجية التقليدية.
ويعتبر الناطور أن ما يميز الطرح الصيني هو الجدية في التنفيذ، بدءاً من فرض مشاركة البيانات الحكومية، إلى إطلاق الهوية الرقمية التي تعيد تموضع الدولة في قلب الاقتصاد الرقمي. إذ لا توجد دولة في العالم تملك هذه القدرة على توحيد مصادر البيانات وتنظيمها مركزياً بهذا الشكل، ما يمنح بكين تفوقاً تنظيمياً قد يُترجم إلى ميزة تنافسية هائلة في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي. فكما كانت الطاقة هي المحرك الرئيسي للثورات الصناعية السابقة، أصبحت البيانات اليوم الوقود الحيوي لعصر الاقتصاد المعرفي، ومَن يملكها ويسيطر على تدفقها يمتلك مفتاح الريادة في التكنولوجيا، والصناعة، وحتى الأمن القومي.
زلزال جيوسياسي رقمي
ويشدد الناطور على أن نجاح النموذج الصيني الجديد، باعتبار البيانات كأصل، يعتمد على عاملين، هما: الأول هو قدرة الدولة على حماية البيانات وتأمين البنية التحتية ضد الاختراقات، والثاني إيجاد توازن دقيق بين مركزية السيطرة الحكومية على البيانات وترك الهامش مفتوحاً أمام الشركات، للابتكار من خلال منحها حق الوصول للبيانات كي تتمكن من تطوير منتجاتها. وبالتالي، إذا استطاعت بكين تجاوز هذه التحديات، فإن ذلك سيمنحها تفوقاً تنظيمياً، إذ إن التدفق المستمر للبيانات التي يُنتجها أكثر من مليار مستخدم نشط للإنترنت داخل الصين، يُمثل منجماً لا ينضب من المعلومات السلوكية والاجتماعية والاقتصادية، ويمنح الدولة قدرة غير مسبوقة على تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي وتحسين الخدمات وصناعة قرارات أكثر دقة. وهذا بحد ذاته يمثل زلزالاً جيوسياسياً رقمياً.
بيانات أم أدوات تحكّم؟
من جهته، يقول المطور التكنولوجي فادي حيمور، في حديث لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية"، إنه في الظاهر تُعتبر البيانات أصلاً اقتصادياً ثميناً، ولكن في المضمون قد يكون طموح الصين هو بناء منظومة تحكُّم استراتيجي، وليس مجرد سوق بيانات. فبكين قد لا يكون تفكيرها محصوراً في القيمة السوقية التي تجسدها البيانات، بل في القيمة السلطوية كأداة ضبط وتحكم اجتماعي وسياسي، مشيراً إلى أن تحويل البيانات إلى أصل يتطلب ثقة في المؤسسات وحوكمة شفافة وحماية للملكية الفكرية، وجميع هذه عناصر غير متوفرة في الصين تاريخياً، وهو ما يُضعف مصداقية مشروع بهذا الحجم رغم زخمه التشريعي.
ويرى حيمور أن المفارقة تكمن في أن ما يجعل المشروع الصيني ممكناً، أي مبدأ المركزية أو حصرية البيانات، هو نفسه ما قد يُفشله. فالنموذج الأميركي أو الأوروبي للتعامل مع البيانات يزدهر باللامركزية والتعددية، وهو نموذج أثبت نجاحه، بينما النموذج الصيني الجديد سيُقصي الشركات الخاصة من التحكم بالبيانات، وهذا قد يحدّ من قدرتها على تطوير منتجات عالمية موجهة للسوق المفتوح. ولذلك، فإن ما تفعله الصين ليس فقط تحدياً تكنولوجياً، بل فلسفياً أيضاً، فمن سيملك الذكاء: الشركات أم الدول؟ وماذا ستفعل بكين حيال هذه المفارقة الصعبة؟
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الصين توضح آليات الإعفاء الضريبي للمستثمرين الأجانب
الصين توضح آليات الإعفاء الضريبي للمستثمرين الأجانب

البيان

timeمنذ ساعة واحدة

  • البيان

الصين توضح آليات الإعفاء الضريبي للمستثمرين الأجانب

أصدرت الهيئة الوطنية للضرائب في الصين قواعد تنفيذية مفصلة توضح للمستثمرين الأجانب كيفية الاستفادة من الإعفاءات الضريبية عند إعادة استثمار أرباحهم داخل البلاد، وذلك في خطوة تهدف إلى تعزيز الاستثمار الأجنبي. وذكرت وكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا"، أن هذه القواعد تأتي لتفعيل حوافز ضريبية تم الإعلان عنها مسبقا، وتمنح المستثمرين الأجانب إعفاء بنسبة 10% من ضريبة دخل الشركات على الأرباح التي يعاد استثمارها مباشرة في الصين، حيث تسري هذه السياسة من 1 يناير 2025 حتى 31 ديسمبر 2028. وحددت الإرشادات الجديدة الأطر التشغيلية لهذه الحوافز، وشملت توضيحا لفترة الاحتفاظ المطلوبة بإعادة الاستثمار، وطريقة حساب مبلغ الائتمان الضريبي، والإجراءات اللازمة للمطالبة بالإعفاءات. كما أوضحت الهيئة أن الأرباح المستخدمة لزيادة رأس المال المدفوع أو احتياطيات رأس المال تعتبر مؤهلة للاستفادة من هذه الحوافز.

الإمارات .. الذكاء الاصطناعي رفيق طلاب العلم من رياض الأطفال إلى الدكتوراة
الإمارات .. الذكاء الاصطناعي رفيق طلاب العلم من رياض الأطفال إلى الدكتوراة

البيان

timeمنذ ساعة واحدة

  • البيان

الإمارات .. الذكاء الاصطناعي رفيق طلاب العلم من رياض الأطفال إلى الدكتوراة

شكل تسخير واستغلال مخرجات الذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم أحد أبرز الأولويات الإستراتيجية لدولة الإمارات التي نجحت خلال زمن قياسي في جعل الـ "AI" رفيقا أساسيا في رحلة الطالب التعليمية، من المدرسة وحتى الجامعة. وتزخر مؤسسات التعليم العالي اليوم بأكثر من 44 برنامجا دراسيا مرتبطا بالذكاء الاصطناعي، وفقا لمكتب الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتطبيقات العمل عن بعد، وفي هذا الإطار تبرز تجربة جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي التي نجحت منذ تأسيسها في أكتوبر 2019 في ترسيخ مكانتها كوجهة عالمية رائدة في مجال التعليم الجامعي والبحثي للذكاء الاصطناعي. وتعد الجامعة اليوم واحدة من أفضل 10 جامعات في العالم في تخصصات الذكاء الاصطناعي، والرؤية الحاسوبية، وتعلم الآلة، ومعالجة اللغة الطبيعية، وعلم الروبوتات، وعلم الأحياء الحاسوبي، وفق تصنيف الجامعات في مجالات علوم الحاسوب (CSRankings). وتقدم جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي حاليا 13 برنامجا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، تغطي مجالات متعددة تشمل الرؤية الحاسوبية، وعلم الروبوتات، والإحصاء وعلوم البيانات، ومعالجة اللغات الطبيعية، والبيولوجيا الحاسوبية، إلى جانب برنامج بكالوريوس أُطلق عام 2025 بمسارين أكاديميين هما "الأعمال" و"الهندسة" وتحتضن الجامعة طلابا من 39 دولة، يشكل الإماراتيون منهم نحو 17%، فيما تبلغ نسبة الطالبات 31%، وقد تخرج منها أكثر من 300 طالب وطالبة بدرجات عليا، التحق 80 % منهم مباشرة بمنظومة الذكاء الاصطناعي في الدولة. وفي إطار دعم الابتكار، أطلقت الجامعة مركز محمد بن زايد لحضانة وريادة الأعمال عام 2023، لدعم تأسيس الشركات الناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي، ومن أبرز مراكز الجامعة المتخصصة معهد النماذج التأسيسية الذي يعمل على تصميم نماذج لغوية كبيرة متخصصة جديدة، وشملت مشاريعه الريادية نموذج K2 اللغوي الكبير الذي يعتمد على 65 مليار بارامتر وطورته الجامعة بالكامل، ونموذج "جيس" اللغوي الكبير الأكثر تحميلا للغة العربية، كما أنشأت مركز الذكاء الاصطناعي التكاملي ومركز الميتافيرس، وساهمت الجامعة في نشر أكثر من 1200 ورقة بحثية في مؤتمرات مرموقة، و2200 ورقة في مجلات علمية متخصصة، مما عزز من تصنيفها العالمي كما اتخذت العديد من الجامعات الإماراتية خطوات متسارعة لتعزيز حضور الذكاء الاصطناعي في برامجها الأكاديمية، ومنها جامعة السوربون أبوظبي التي تطرح بكالوريوس الرياضيات بتخصص علم البيانات للذكاء الاصطناعي، وجامعة أبوظبي التي تقدم بكالوريوس العلوم في الذكاء الاصطناعي، وجامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا التي تمنح درجة البكالوريوس في الروبوتات والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى مركز الذكاء الاصطناعي في الجامعة الأميركية بالشارقة، وكذلك برنامج بكالوريوس العلوم في الذكاء الاصطناعي في جامعة عجمان. وفي نقلة نوعية للتعليم العام، يشهد العام الدراسي المقبل 2025 - 2026 إدراج مادة الذكاء الاصطناعي ضمن المناهج الدراسية للمدارس الحكومية، بدءا من مرحلة رياض الأطفال حتى الصف الثاني عشر، بهدف إعداد أجيال متمكنة من أدوات المستقبل. وبهذه الخطوة، تصبح دولة الإمارات من أوائل الدول على مستوى العالم التي تدرج الذكاء الاصطناعي كمادة دراسية ضمن مناهج التعليم المدرسي، بهدف تزويد الطلبة بالمعارف والمهارات اللازمة لفهم مبادئ الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في الحياة اليومية. ويغطي المنهج الإماراتي 7 مجالات رئيسية تشمل المفاهيم الأساسية، والبيانات والخوارزميات، واستخدام البرمجيات، والوعي الأخلاقي، والتطبيقات الواقعية، والابتكار وتصميم المشاريع، وكذلك السياسات والارتباط المجتمعي. وتواصل دولة الإمارات في ضوء هذه المبادرات المتكاملة ترسيخ مكانتها العالمية كدولة رائدة في تسخير الذكاء الاصطناعي لخدمة التعليم، وصناعة جيل واع ومؤهل بالمعارف المستقبلية، وقادر على استشراف الغد وصناعته.

الصين: «الحمائية» تضر بمصالح جميع الأطراف
الصين: «الحمائية» تضر بمصالح جميع الأطراف

الإمارات اليوم

timeمنذ 9 ساعات

  • الإمارات اليوم

الصين: «الحمائية» تضر بمصالح جميع الأطراف

نددت الصين، أمس، بالحمائية التي «تضر بمصالح جميع الأطراف»، بعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب رسوماً جمركية جديدة على نحو 70 بلداً. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية، غوو جياكون، خلال مؤتمر صحافي دوري، إن «الصين تعارض بصورة منهجية وواضحة فرض هذه الرسوم الجمركية. لا رابح في حرب رسوم جمركية أو حرب تجارية».

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store