
ما قل ودل: الإرساليات التبشيرية الحاضنة الثقافية والخدمية للاستعمار القديم (3)
تناولت في مقال الأحد الماضي هذه الإرساليات كحضانة للاستعمار الثقافي القديم، وإن أنصفت رواد هذه الإرساليات من رهبان ومعلمين، فيما قدموه وخاصة في المشرق العربي من خدمات في التعليم والثقافة والخدمات الصحية، وضربت مثلاً بالقديسة تريزا الحاصلة على جائزة نوبل للسلام سنة 1979، للانفصام الكبير بين هؤلاء الرواد وبين القيادة المركزية للحركات التبشيرية المتحالفة مع الاستعمار، وهو ما كشف عنه أحد رهبان الحركة اليسوعية في كتاب له، على أن أتناول دور هذه الحملات التبشيرية كحاضنة ثقافية للاستعمار القديم في مقال اليوم.
دور الإرساليات التبشيرية
وقد كان دور هذه الإرساليات:
1 - التمهيد لنزول الأساطيل الاستعمارية العالم الجديد، بعد الاكتشافات البحرية، وجدير بالذكر أن بعض هذه الإرساليات كانت قد وفدت إلى المشرق العربي بسبب الامتيازات التي حصل عليها الاحتلال الأجنبي القادم، في ضوء أوضاع الإمبراطورية العثمانية المتردية من الدولة العثمانية في فترة ضعفها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بحيث سادت الثقافة الأجنبية للدول المصدرة لتلك الثقافة على شعوب آسيا وأفريقيا بوجه عام والوطن العربي بوجه خاص لتصبح أرضية صالحة لتقبل الاحتلال وبقائه لأطول مدة ممكنة وفي ظل الاغتراب العربي (الضياع) الذي خلفته هذه الإرساليات، وقد أفردت له مقالاً على صفحات الجريدة بتاريخ 16/2/2025، وهو ما ساعد كذلك على تكريس التبعية الاقتصادية للاحتلال الأجنبي بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وما أوجد مجتمعات خاصة أو قبائل ثقافية، وقد بدا ذلك واضحاً في الحرب الأهلية اللبنانية في ظل التشريعات اللبنانية التي كانت امتداداً للتشريعات القديمة في عهد الانتداب الفرنسي.
2 - خلق كوادر من بين سكان المستعمرات الأصليين، تستطيع أن تعاون الاستعمار في تغلغله في كل مجالات التقدم والأنشطة وأن الأغلبية الساحقة لحكام لبنان وقادته كانوا من خريجي المدارس اليسوعية والجامعة اليسوعية، وهو ما حذر منه فيما تقدم الكاتب والأديب جبران خليل جبران.
فكتب يقول: في سورية مثلاً كان التعليم يأتينا من الغرب بشكل الصدقة، وقد كنا ولم نزل نلتهم خبز الصدقة لأننا جياع متضورون، وكان أحياناً خيراً، لأنه أيقظ بعض مداركنا ونبه عقولنا قليلاً، وأماتنا شراً لأنه فرق كلمتنا، وأضعف وحدتنا، وقطع روابطنا، وأبعد ما بين طوائفنا حتى أصبحت بلادنا مجموعة مستعمرات صغيرة ومختلفة الأذواق، متضاربة المشارب، كل مستعمرة منها تشد في حبل إحدى الأمم الغربية، وترفع لواءها، وتترنم بمحاسنها وأمجادها، فالشاب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أميركية تحول بالطبع إلى معتمد أميركي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم في مدرسة يسوعية صار سفيراً لبلده في فرنسا (فرنسياً)، والشاب الذي لبس قميصاً من نسيج مدرسة روسية أصبح ممثلاً لروسيا... إلى آخر ما هنالك من المدارس، وما تخرجه كل عام من الممثلين والمعتمدين والسفراء، وأعظم دليل على ما تقدم اختلاف الآراء وتباين المنازع في الوقت الحاضر في مستقبل سورية السياسي، فالذين درسوا بعض العلوم باللغة الإنكليزية يريدون أميركا وإنكلترا وصية على بلادهم، والذين درسوا باللغة الفرنسية يطلبون فرنسا أن تتولى أمرهم، والذين لم يدرسوا بهذه اللغة أو بتلك لا يريدون هذه الدولة ولا تلك، بل يتبعون سياسة أدنى إلى معارفهم وأقرب إلى مداركهم.
(فتاوى كبار الكتاب والأدباء في مستقبل اللغة العربية، ونهضة الشرق العربي وموقفه إزاء المدنية الغربية - مجلة الهلال بمصر، سنة 1923، ص 36 – 37).
جدير بالذكر أنه في الوقت الذي كانت أميركا اللاتينية على فوهة ثورة تقدمية عامة في الخمسينيات من القرن الماضي، فإن دور المثقفين في المجال السياسي كان غامضا، فهم بأغلبيتهم الساحقة أوروبيو الثقافة، بسبب الإرساليات الأوروبية، فلم يقوموا بالدور الطليعي لهم في هذه الثورة، لابتعادهم عن الجماهير ومشاكلها.
3 - السيطرة على العالم
إن أخطر ما في أهدافهم هو السيطرة على العالم، كما قرر جيروم ماز الراهب البولندي في الحركة اليسوعية، في كتابه الهجائي لهذه الحركة، الذي تناولنا ما جاء به في مقال الأحد الماضي، ومن حوادث الاغتيال ومحاولات الاغتيال التي اتهم بها اليسوعيون، هنري الرابع وإليزابيث ملكة إنكلترا، وجوزيف الأول ملك البرتغال، وغليوم دورانح وغوستاف أدولف وابراهام لنكولن.
إعادة الوعي
إن غايتنا من هذا السرد للإرساليات التبشيرية للاستعمار القديم هي إعادة الوعي والتحذير من الغزو الثقافي الجديد الذي يصاحب الاستعمار الاقتصادي الجديد في ظل العولمة، وهو الفخ الذي نصب للدول النامية والدول المالكة للثروات الطبيعية والبشرية، والمتمثل في نشر ثقافة التنميط، (حضارة التكنولوجيا في الجامعات والمعاهد) التي بدأت تدخل الوطن العربي بكثافة، من خلال مشروعات استثمارية تنشئ جامعات لا يدخلها إلا الأغنياء للارتفاع الباهظ لرسومها، ومن خلال مستشفيات القطاع الاستثماري الأجنبي الذي بدأ يزحف على الوطن العربي، والتي تشتريها الاستثمارات الأجنبية لترفع تكلفة العلاج بها بشكل مبالغ فيه، الأمر الذي أدى في مصر إلى أزمة بين هذه المستشفيات وبين النقابات المهنية المتعاقدة معها، فلم يعد يدخلها أيضاً إلا المرضى الأغنياء، وسوف يكون من تداعياته تراجع وتخلف الرعاية الصحية للفقراء ومحدودي الدخل، وهو ما سنتناوله في مقالات عن الحضانة البديلة للاستعمار الجديد والتي ترتدي مسوح الرهبان.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اليوم الثامن
١٤-٠٥-٢٠٢٥
- اليوم الثامن
غزة تعيش الأمل والفلسطينيون يحبسون أنفاسهم
هي ساعاتٌ قليلةٌ تسبق زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى كلٍ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وقطر، التي سيكون لها فيما يبدو تداعيات كبيرة على منطقة الشرق الأوسط خاصةً، والعالم بصورةٍ عامةٍ، إذ سبقتها مجموعة من الأخبار والتصريحات والتوقعات، تشير كلها بدرجاتٍ متفاوتة من الدقة، وإن كانت لا ترقى إلى درجة الحسم واليقين، إلا أنها تكشف شيئاً من الحقيقة، وتظهر جانباً من جوانب التغيير، أن الزيارة تحمل معها إشاراتٍ جادةً لمنعطفاتٍ قد تصل إلى درجة التحولات الكبرى في السياسة الأمريكية تجاه قضايا التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وتوسيع إطار الاتفاقيات الإبراهيمية، وتعزيز التحالفات والشراكات الاستراتيجية التي تربط الولايات المتحدة الأمريكية مع الدول الثلاث محل الزيارة، ودول الخليج العربي بصورةٍ عامةٍ. فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يزور منطقة الشرق الأوسط في أول زيارةٍ خارجية له، في ولايته الجديدة بعد مشاركته في مراسم تشييع بابا الفاتيكان الراحل، يستثني منها الكيان الصهيوني، الذي يعتبر محطة ثابتة لدى كل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، الذين يتخذون منه منطلقاً لأي جولة، وعرفاً رئيساً لا يمكن لأي رئيس أمريكي أن يخرقه أو أن يتخلى عنه، لكن مستشاريه أكدوا أنه لن يلتقي رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبالتالي فإنه لن يزور كيانه، ولهذا الاستثناء دلالاتٌ كثيرة، وأشاروا إلى وجود خلافاتٍ جوهرية أدت إلى حدوث قطيعة حقيقية بينهما، إذ لا اتصالات ولا مشاورات، ولا تطمينات ولا تقدير للأولويات الإسرائيلية، أو تبني لخياراتهم الاستراتيجية. بدا من خلال تصريحات ترامب المتفرقة، والمبعثرة هنا وهناك، والمبهمة حيناً والصريحة في أحيان أخرى، والمباشرة والمنقولة عنه، أنه سيقدم على الإعلان عن قراراتٍ كبيرة وخطيرة، تتعلق بالمنطقة ودولها، وبمستقبلها واستقرارها، وهو لا يستعجل الإعلان عنها قبل وصوله إلى الرياض، لكن بات من شبه المؤكد أن إعلانه سيواكب زيارته إلى المنطقة أو سيسبقها، ولن يكون إعلانه إلا عن غزة والحرب الإسرائيلية ضدها، وسيكون، ليس ثقةً فيه ولا أملاً منه نرجوه، بل هي قناعات توصل إليها وحقائق بات يتعامل معها، بعد قرابة سنة ونصف من الحرب المدمرة التي يشنها العدو الإسرائيلي بمختلف الأسلحة الأمريكية المتطورة، والفتاكة المدمرة، إعلاناً عن الاتفاق على هدنةٍ طويلة الأمد بين المقاومة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، وقد يكون الإعلان عنها بصورته وصوته، بما يذكرنا بالمبادرة التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي جو بايدن في مايو/آيار من العام الماضي، إلا أن نتنياهو استخف به حينها، ولم يحترم كلمته، ولم يلتزم بمبادرته، وضرب بها وبه عرض الحائط. الأمر هنا اليوم مختلف تماماً، ولا يشبه ما حدث مع بايدن في نهاية ولايته، التي بدا فيها عجوزاً خرفاً، متردداً جزعاً، يخشى نتنياهو ويخاف ردة فعله، ويتجنب غضبه وينأى بنفسه عن رفض خياراته، ولا يتمعر وجهه إذ يحرجه ويستخف به، ويهزأ بما عرض ولا يقيم وزناً لما أعلن، ويهز صورة الإدارة الأمريكية ويظهر ضعفها، ويكشف عن عجزها وتبعيتها، وخضوعها للكيان واستسلامها لسياساته. فترامب الغريب الأطوار، المهووس المغرور، الطاووس المختال، الراقص المتبختر، المسكون بالقوة، والمعجب بنفسه، والمتطلع لوقف مشاركة بلاده في الحروب الخارجية وتمويلها، والحالم في أمريكا قوية، عسكرياً واقتصادياً، والطموح لنيل جائزة نوبل للسلام، لا يقبل بأن يكون أجيراً عند نتنياهو، وإن كان يدعم كيانه ويحرص عليه قوياً آمناً مستقراً، ولا يتردد في إحراجه وإهماله، وإهانته والإساءة إليه، ولا يخاف من إشاعة مقاطعته وعدم الاهتمام بمقابلته، ولست أمدح ترامب وأشيد بخصاله، بقدر ما أستعرض صفاته وأبين سلوكه وتصرفاته. يبدو أن ترامب الذي لوح بالعصا في وجه نتنياهو وقطب جبينه غضباً منه وأعرض عنه، سيجبر دولاً أخرى في المنطقة على فتح المعابر وتسهيل إدخال المؤن والمساعدات، والسماح بعبور آلاف الشاحنات المصطفة طوابير طويلة تمتد لمئات الكيلومترات على الطريق الدولية، والمحملة منذ شهورٍ بالمواد التموينية والطبية، وعدم تأخيرها وتعطيل حركتها، إذ لا يكفي رضوخ حكومة الكيان الإسرائيلي لأوامر ترامب بإدخال الشاحنات، وإنما يلزم الضغط على غيره ليسهل عبور القوافل، ويزيل العقبات من طريقها، ويخفف الأعباء عنها، ويبسط إجراءات حركتها. لا يستبعد الفلسطينيون عموماً، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص، ولو أملاً ورجاءً، وإيماناً بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر"، وليس أكثر فجوراً وأشد بؤساً وعداوةً من ترامب، لكن ليس أقدر منه على الفعل اليوم والضغط على الكيان، وهو ما يجعل الفلسطينيين يعيشون بارقة أملٍ، ويحبسون أنفاسهم انتظاراً لفرجٍ، ويشعرون بأنه قد يحمل معه لهم حلاً، يوقف الحرب ضدهم، ويخفف من معاناتهم، ويرفع الحصار المفروض عليهم، ويجبر نتنياهو على احترام الهدنة والقبول بالصفقة، وعدم الانقلاب عليها أو وضع العراقيل أمامها، وليس ذلك على الله عز وجل بعزيز، أن يسخر من يجري قدره، ويستخدم من يفرض قضاءه ويمضي حكمه، ولو كان فاجراً كفاراً عدواً غداراً.


المدى
١٢-٠٥-٢٠٢٥
- المدى
جولة ترامب الخليجية: المصالح أولاً ..لا الإيديولوجيات!
صلاح سلام – اللواء إجراء الجولة الثانية من الإنتخابات البلدية أمس بسلاسة وأمان في لبنان، يبقى تفصيلاً صغيراً أمام حركة التطورات المتسارعة في المنطقة، والتي تبلغ ذروتها في زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات، وما سيحمله معه من مواقف وقرارات، من شأنها أن تُغيّر أوضاع الإقليم، من ساحة للصراعات والحروب المزمنة، إلى واحة من الإستقرار والإزدهار، حرصاً على المصالح الأميركية الإستراتيجية من جهة، وتدعيماً لطموحه المستجد في نيل جائزة نوبل للسلام من جهة أخرى. وبغض النظر عن النتائج التي ستسفر عنها زيارة ترامب للمنطقة، فإن على لبنان أن يكون مستعداً لمواجهة المتغيِّرات التي ستطرأ على مسار الأمور في الشرق الأوسط، وخاصة على صعيدي الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، والدور الإيراني بعد وضع المشروع النووي جانباً من قبل طهران، كما هو متوقع في المفاوضات الجارية مع الأميركيين في سلطنة عُمان، مقابل رفع العقوبات، وتحسين العلاقات مع دول الجوار. التسريبات الأميركية التي سبقت وصول ترامب غداً إلى السعودية، حملت إشارات قوية على التباينات الحاصلة بين الرئيس الأميركي وحليفه «المدلل» نتنياهو، حول إستمرار الحرب في غزة بلا أفق سياسي، مع الإصرار الإسرائيلي على متابعة الحصار الغذائي ضد مليوني فلسطيني، جُلُّهم من الأطفال والنساء. ترامب كان قد أبلغ نتنياهو منذ أسابيع بأنه يرغب بإنهاء الحرب في غزة في أيار، وقبل بدء جولته في المنطقة. ولكن رئيس الحكومة الإسرائيلية لم يتجاوب مع التمني الرئاسي الأميركي، ووضع حساباته الداخلية ومصالحه الشخصية والحفاظ على حكومته، فوق المصالح الأميركية، وبعضها إستراتيجي، فكان رد البيت الأبيض صاعقاً: أولاً بإلغاء المحطة الإسرائيلية في جولته الشرق الأوسطية، وثانياً: الإعلان عن إعداد خطة لإنهاء الحرب في غزة، ووضع هيكلية الإدارة السياسية في القطاع في «اليوم التالي»، دون إشراك تل أبيب، أو التشاور مع نتنياهو، حول مضمون هذه الخطة. الرهان لن يكون على الخلاف الأميركي مع نتنياهو، فهذا الأمر قد يجد طريقه للعلاج سريعاً، ولكن يبقى الأهم على الإطلاق هو التوجُّه الصارم للرئيس الأميركي، الذي بدا واضحاً أنه يُعطي الأولوية المطلقة للمصالح الإقتصادية والمالية لبلاده بعيداً عن مرحلة الأيديولوجيات والشعارات التي سادت في زمن الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وإستمرت بوتيرة أقل في أميركا، بعد سقوط جدار برلين وإنهيار الإتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية. الإعتراف بدولة للفلسطينيين، التعاون مع السعودية في التكنولوجيا النووية لخدمة الأهداف السلمية، تزويد المملكة بالأسلحة الاكثر تطوراً، وخاصة طائرات «أف ٣٥»، فضلاً عن العمل على تصفير المشاكل والأزمات في الشرق الأوسط، والمساهمة في خلق الأجواء المناسبة للإستقرار والإستهلاك، كلها خطوات في حال تنفيذها في عهد ترامب، من شأنها أن تساعد على إطلاق عصر جديد في المنطقة، وبالقدر نفسه التأسيس لمفاهيم جديدة للسياسة الخارجية الأميركية، قائمة على مراعاة المصالح الأميركية التجارية والمالية، وتقوية الإقتصاد الأميركي، بمواجهة التهديد الذي يشكله إقتصاد المارد الصيني، الذي خرج من القمقم، ولم يعد بمقدور أحد إعادته إلى الوراء. إنطلاقاً من مفهوم تغليب المصالح المالية على ما عاداها، يمكن فهم خلفيات قرارات ترامب المتعاقبة بإلغاء موازنات مؤسسات أميركية عريقة، كانت تعمل على نشر المبادئ اللبيرالية، والتبشير بحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، والتحريض على الحريات العامة، والممارسة الديموقراطية في دول العالم الثالث. الواقع أن واشنطن ترامب تُطلق أسس ومعايير لنظام عالمي جديد يقوم على مراعاة المصالح الإقتصادية والمالية، وإنهاء زمن النظام الراهن الذي قام في إعقاب الحرب العالميّة الثانية، والذي كان عماده الحرب الإيديولوجية بين الليبرالية والشيوعية. أين لبنان من هذه التطورات المتسارعة، وما تحمله من متغيِّرات جذرية في الإقليم، وعلى مستوى العالم بأسره؟ هل حان الوقت ليضع اللبنانيون مصالح بلدهم وأبنائهم فوق أي إعتبار إيديولوجي، داخلي أو خارجي؟. ماذا يبقى من مسألة فلسطين والقدس بعد قيام الدولة الفلسطينية بدعم أميركي ودولي وعربي؟. ولماذا التأخير في وضع إستراتيجية الأمن القومي وحصر السلاح مع الدولة، طالما أن المنطقة كلها على أبواب مرحلة جديدة، لا علاقة لها بمفاهيم ومعايير المرحلة الراهنة؟. وهل من الصعب على اللبناني أن يضع مصالح بلده الإقتصادية والمالية فوق كل ما عداها من الإعتبارات الإيديولوجية والفئوية، كما تفعل عادة شعوب العالم بأسره؟.


المدى
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- المدى
خاص المدى – هدنة عيد النصر: هل تشكّل بداية النهاية لحرب روسيا ـ أوكرانيا؟
في خضمّ النزاع الروسي ـ الأوكراني المستمر، برزت تطورات لافتة مع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن هدنة موقّتة خلال احتفالات الذكرى الثمانين لعيد النصر في أوائل أيار المقبل. هذا الإعلان ترافق مع محاولات أميركية لإعادة إطلاق مسار التهدئة، وسط تصلّب في المواقف، خصوصًا من قبل كييف المُصرّة على استعادة أراضيها بما فيها شبه جزيرة القرم، مقابل تمسّك موسكو بمطالبها الأمنية والجغرافية. وبين الشروط والشروط المضادة، يطرح المراقبون تساؤلات حول مستقبل هذا النزاع، ودور الولايات المتحدة، والدعم الأوروبي الثابت لأوكرانيا، وفرص الوصول إلى تسوية سياسية تنهي هذه الحرب الدامية. وفي هذا السياق، قال أستاذ العلوم السياسية في جامعة العلوم الإنسانية في موسكو د. نزار بوش لـ'المدى': 'يبدو أن بوتين يستعدّ لمرحلة جديدة، بعدما حقّق الجيش الروسي انتصارًا كبيرًا في كورسك، وسيطر مجدّدًا على مناطق دخلها الجيش الاوكراني قبل 6 أشهر، واستطاع دحره وتكبيده خسائر فادحة. فبعد هذا النصر، كان بوتين قد أعلن هدنة خلال عيد الفصح،إلا أن اوكرانيا لم تلتزم بها. واليوم، ومع إعلانه هدنة جديدة بمناسبة عيد النصر، يبدو أن الهدف منها تكريم القوات السوفييتية التي انتصرت على النازيين، علماً أن تلك القوات لم تكن روسية فقط بل كانت تضمّ أوكرانيين أيضًا'. واعتبر بوش أنّ 'هذه الهدنة قد تكون بمثابة اختبار لمدى التزام زيلينسكي الذي يتنصّل من تهمة النازية. فإذا التزم بها، قد يتم تمديدها، رغم أنني أستبعد أن يقبل الغرب، لا سيما بريطانيا، أن تتحوّل هذه الهدنة انتصاراً رمزياً لبوتين. فالاحتفالات المرتقبة في الساحة الحمراء بحضور ضيوفه، وأبرزهم الرئيس الصيني، في 9 أيار، ستكون مناسبة له لعرض انتصار كورسك باعتباره انتصارًا جديدًا لروسيا على النازية، وهدية يقدّمها للشعب الروسي، ورسالة قوية للأوكرانيين والغرب مفادها أن روسيا لا تُهزم'. وتابع بوش: 'إذا وافقت أوكرانيا على هذه الهدنة والتزمت بها، فإنها قد تكون مقدّمة لتمديدها أو حتى لمفاوضات سلام. ولكن، أعتقد أن الأمر لن يسير بهذه الطريقة. من المحتمل أن تكون ضربات روسيا القادمة أقوى، كما شهدنا قبل أيام، حين نفّذت ضربات صاروخية باستخدام صواريخ فرط صوتية استهدفت مصانع الدفاع ومخازن الذخيرة في كييف، واستهدفت مركزًا لتجمع الجنود الأوكرانيين والمرتزقة الغربيين'. وتوقّع بوش أن يتّجه الوضع نحو تصعيد أكبر في حال عدم التزام الأوكرانيين بالهدنة، 'فحينها، ستكثّف روسيا ضرباتها لتضعف الجيش الأوكراني بشكل أكبر، والحقيقة الميدانية اليوم تشير إلى أنه يعاني نقصًا حادًا في الأفراد والذخيرة'. أما ترامب 'فيسعى جاهدًا للتوصل إلى سلام، ليس فقط من أجل إنهاء الحرب، بل أيضًا ليقدّم نفسه كرجل سلام ويطمح ربما في الحصول على جائزة نوبل للسلام. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، وهو يواصل اتصالاته عبر مستشاره ويتكوف في سبيل التوصل إلى مفاوضات سلام، ولكن رغباته اصطدمت بعدد من العوائق، وأهمها الموقف الأوروبي، ومواقف الصقور المعادين لروسيا في الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة.' كما أنّ ترامب 'يريد تقديم هدية للشعب الأميركي والعالم بمناسبة مرور مئة يوم على تسلمه للسلطة، لكن من المحتمل أن هذا لن يتحقّق، ولن يتمكن من التوصل مع روسيا وأوكرانيا إلى مفاوضات سلام توقف الحرب في الأيام القليلة المتبقّية. ومع ذلك، سيستمر الأميركيون في التواصل مع روسيا لوقف الحرب، لكن هذا لن يتم على حسابها'. وذكّر بوش بما قاله بوتين، 'إذا لم ينصاع الأوكرانيون والغرب لمطالب روسيا، إضافة إلى تنفيذ الضمانات التي قدّمتها عامي 2021 و2022، فإن الجيش الروسي سيواصل تقدّمه، وقد رأينا أخيرًا أنه تمكّن من تحرير عدة بلدات في الدونباس، ويتجه الآن نحو مقاطعة خاركوف. روسيا قد تواصل تحرير البلدات في هذه المقاطعة، رغم أنها لا تُعتبر جزءًا من مناطق الدونباس تاريخيًا. لكن إذا استمرت الحرب، قد تتوجه لتحرير خاركوف، ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا، ويبلغ عدد سكانها أكثر من مليوني نسمة'. أضاف: 'الخسائر الأوكرانية باتت كبيرة، والجيش الأوكراني أصبح منهكًا، ما يجعل استمرار الحرب مرشحًا لأن ينتهي بفرض روسيا الاستسلام على القوات الأوكرانية. أما زيلينسكي، فيبدو أنه يماطل، خشية فقدان منصبه؛ إذ إن ذهابه إلى التفاوض وقبوله بالتخلي عن نحو 20% من الأراضي التي ضمّتها روسيا قد يعني نهاية مسيرته السياسية، وربما يواجه المحاكمة في أوكرانيا. وفي حال استمراره في التصعيد، فسيبقى تحت الضغط العسكري الروسي، فيما الدعم الأوروبي لن يكون كافيًا إذا تخلّت الولايات المتحدة عن دعمه. كما أن أوروبا نفسها بدأت تعاني اقتصاديًا، نتيجة العقوبات التي فرضتها على روسيا وتوقف إمدادات الغاز الروسي الرخيص. فمنذ ثلاث سنوات، كانت التقديرات الأوروبية تشير إلى أن العقوبات ستقوّض الاقتصاد الروسي، لكن الواقع أتى مغايرًا تمامًا، إذ بدأ الاقتصاد الروسي بالنمو، وشهدت الصناعة المحلية تطورًا ملحوظًا. وهكذا، انعكست العقوبات إيجابًا على روسيا، التي أصبحت أكثر اعتمادًا على قدراتها الذاتية'. أما الغرب، فهو المتضرر الأكبر، برأي بوش، حيث يستمر في دعم أوكرانيا بالمال والسلاح، وإذا تخلت واشنطن عن دعمها لأوكرانيا، فلن يكون الدعم الغربي كافيًا، ولن تتمكّن أوكرانيا من الصمود ربما لأسبوعين أو شهر'. وأكد بوش الاصرار الروسي على مجموعة من الشروط لإنهاء الحرب والانتقال إلى السلام، أبرزها: – حيادية أوكرانيا: تطالب موسكو بأن تظل أوكرانيا دولة حيادية، دون انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو تزويدها بأسلحة متطورة قد تُشكّل تهديدًا لروسيا. – الاعتراف بالأمر الواقع: تُصرّ روسيا على أن تعترف أوكرانيا والغرب بسيطرتها على المناطق الأربع التي ضمتها، وتعتبرها أراضي روسية لن تتخلى عنها. – شبه جزيرة القرم: تُعدّ القرم خطًا أحمر بالنسبة لروسيا، وترفض التفاوض بشأنها مع أي طرف. وقد أشار ترامب إلى أن القرم أصبحت روسية منذ 12 عامًا، ولا يمكن لأحد استرجاعها أو تحريرها، مما يُعتبر اعترافًا ضمنيًا بسيادة روسيا عليها. وتؤكد روسيا على ضرورة تقديم ضمانات أمنية، سبق أن طرحتها عامي 2021 و2022، ولا تزال متمسّكة بها. في المقابل، يُوافق ترامب على الضمانات الأمنية التي تطالب بها روسيا، وقد صرّح بأن أصل الأزمة يعود إلى سعي أوكرانيا للانضمام إلى الناتو، محمّلًا الرئيسين جو بايدن وفولوديمير زيلينسكي مسؤولية اندلاع الحرب. ورغم تأكيده على إمكانية إنهاء الحرب بسرعة، أشار ترامب إلى وجود عقبات كثيرة، خاصة من الجانب الأوروبي، الذي يسعى إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، وهو أمر أكّد ترامب أنه غير ممكن. أما في ما يتعلق بخيار تجميد النزاع، فتحدث بوش عن رفض روسيا هذا الخيار كحل دائم، 'لكنها قد تقبل به موقّتًا في إطار مفاوضات جادة. إلا أن موسكو تبدي حذرًا بالغًا، مستندة إلى تجربتها السابقة مع اتفاقيات 'مينسك'، التي استُخدمت – بحسب اعتراف المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا هولاند – كغطاء لإعادة تسليح الجيش الأوكراني بدلاً من الالتزام بتسوية سلمية. لهذا، تصرّ روسيا اليوم على أفعال ملموسة بدلاً من الوعود الكلامية، وترفض تكرار ما تعتبره خديعة سياسية'. وختم بوش بالقول: 'مع استمرار المفاوضات والضغوط الدولية، من المتوقع أن يشهد عام 2025 بداية لنهاية الصراع في أوكرانيا. فرغم التعقيدات، لا يبدو الأفق مسدودًا بالكامل، بل تبقى الحلول ممكنة وقائمة.' وأضاف أن 'أحد أبرز السيناريوهات المطروحة هو إجراء انتخابات رئاسية في أوكرانيا تؤدي إلى خسارة زيلينسكي وخروجه من المشهد السياسي، وهو خيار يحظى بدعم ترامب. غير أن العقبة الأساسية تكمن في تمسّك الأوروبيين بزيلينسكي، في محاولة لمنع روسيا من تحقيق نصر سياسي واضح.' وختم قائلاً: 'رغم ذلك، ستستمر المفاوضات ولن تصل إلى طريق مسدود، لأن البديل سيكون الانزلاق إلى حرب أوسع لا يرغب بها لا الروس ولا الأميركيون، وحتى الدول الأوروبية، التي تعاني من أزمات اقتصادية وتراجع في صناعاتها الدفاعية، غير قادرة على خوض مثل هذا التصعيد'.