
ثالوث الموت" في الساحل الأفريقي تحت رحمة سلاح من الداخل
تثير قدرة الجماعات المسلحة، سواء تلك التي تتبنى أفكاراً إرهابية أو انفصالية في الساحل الأفريقي، على استهداف جيوش وقوى أمن، تساؤلات حول مصادر ترسانة الأسلحة التي تملكها تلك الجماعات.
وشهد الساحل الأفريقي في الأعوام الماضية معارك ضارية بين الجماعات الإرهابية على غرار جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" الموالية لتنظيم "القاعدة"، وتنظيم "داعش - ولاية الصحراء الكبرى"، والمتمردين والجيوش الوطنية التي باتت تعاني حال وهن غير مسبوق، على رغم تغيير خارطة تحالفاتها الإقليمية والدولية.
وكشف تحقيق، نُشر أخيراً عن مركز أبحاث تسليح الصراعات، نتائج صادمة في شأن مصادر تسليح الجماعات المسلحة الناشطة في منطقة الساحل الأفريقي. وقال محققون في هذا التحقيق إن "معظم الأسلحة التي تملكها تلك الجماعات حصلوا عليها محلياً". واستند التحقيق إلى معالجة أكثر من 700 قطعة سلاح عثر عليها أو استرجعتها قوى الأمن والجيش الوطنيين في هذه الدول، لدى الجماعات الإرهابية، بين عامي 2015 و2023 في ليبتاكو غورما الحدودية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
شهد الساحل الأفريقي في السنوات الماضية معارك ضارية بين الجماعات الإرهابية (رويترز)
مؤشر بالغ الخطورة
ويأتي تقفي أثر حصول الجماعات المسلحة على ترسانتها العسكرية في سياق بدأ فيه العالم يلتفت إلى خطورة الوضع في الساحل الأفريقي، إذ كشف "مؤشر الإرهاب العالمي''، في وقت سابق، عن أن "هذه المنطقة أخطر بؤرة في العالم، حيث سقط نحو 51 في المئة من ضحايا الإرهاب في العالم في الساحل".
وتشن جماعات مرتبطة بتنظيمات مثل "القاعدة" و"داعش" هجمات مميتة بالفعل، خصوصاً في ما بات يُسمى بـ"ثالوث الموت" الذي يشمل النيجر وبوركينا فاسو ومالي ومعها تشاد، التي تعاني هي الأخرى هجمات لـ"بوكو حرام" وتنظيمات أخرى.
الباحث في الشؤون الأفريقية وليد عتلم اعتبر أن "التصعيد في مستوى العنف لا يمكن عزله عن واقع ضعف وتفكك المؤسسات الأمنية في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، حيث تآكلت الأسس التي كانت توفر الحد الأدنى من الاستقرار"، لكن المفاجأة الكبرى التي كشف عنها التقرير هي أن نحو ربع ترسانة الجماعات الإرهابية مصدرها الجيوش الوطنية لهذه الدول نفسها، "وهذا مؤشر بالغ الخطورة، إذ يطرح تساؤلات جدية حول الهيكل الأمني الهش الذي يعاني ضعف السيطرة الداخلية، أو حتى تواطؤ بعض العناصر العسكرية في داخل هذه الجيوش"، وتابع عتلم "وعليه، فإن واقع الدولة الهشة التي تتآكل مؤسساتها بصورة يومية، يسهم بطريقة غير مباشرة في تعزيز التمردات المسلحة بدلاً من احتوائها، ومن ناحية أخرى، ينسف هذا التقرير بعض الروايات السائدة حول الإرهاب في المنطقة" لا سيما تلك التي تربط الإرهاب بتدخلات خارجية.
كشف تحقيق عن مركز أبحاث تسليح الصراعات نتائج صادمة في شأن مصادر تسليح الجماعات المسلحة الناشطة في منطقة الساحل الأفريقي (رويترز)
وأشار الباحث في الشؤون الأفريقية، أيضاً، إلى أنه "على رغم العقود الماضية التي روّجت فيها الأنظمة العسكرية الحاكمة لهذه الرواية عن وجود أطراف أجنبية تدعم الجماعات الإرهابية، فإن التحقيقات تظهر أن المصادر الرئيسة للأسلحة التي تستخدمها هذه الجماعات غالباً ما تكون محلية، إما من مخزونات الجيوش المحلية أو من الأسواق السوداء أو حتى من بقايا الحروب السابقة"، وشدد على أن "الإخفاق الأكبر يكمن في عدم قدرة الحكومات على ضبط الحدود وبناء أنظمة فعالة للرقابة على الأسلحة، مما يسهم، إلى حد كبير، في تدفق الأسلحة إلى أيدي الجماعات المسلحة".
ترسانة ضخمة
وتتعدد الجماعات المسلحة التي تنشط في المنطقة، فعلى سبيل المثال تعاني بحيرة تشاد معضلة أمنية مركبة فرضتها جماعتان تتنافسان على النفوذ وهما، تنظيم "داعش" في غرب أفريقيا، و"الجماعة السنية للدعوة والجهاد". وعلى رغم تعدد خلفيات حمل السلاح بالنسبة إلى هذه الجماعات وأفكارها، فإنها تتقاطع في أنها تملك "ترسانة ضخمة من الأسلحة" بحسب الباحث العسكري أكرم خريف الذي قال أيضاً إن "الهجمات الدموية الأخيرة، في دول مثل بنين ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، تعكس، بالفعل، حجم التحدي الذي تطرحه هذه الجماعات المسلحة، التي تحرج الأنظمة العسكرية الحاكمة هناك"، ولفت إلى أن "غالبية الأسلحة تأتي من غنائم الحرب، والبقية تأتي من دول مثل ليبيا التي تشهد انفلاتاً كبيراً للسلاح، أو من السوق السوداء، ومع الأسف عدم السيطرة على ذلك، ومنع هذه الجماعات من الاستيلاء على أسلحة جديدة، يجعلان استعادة الاستقرار هدفاً صعب المنال في الساحل الأفريقي''.
تعقيد مهمة الجيوش
من جانبها، اعتبرت الباحثة المتخصصة في شؤون الساحل الأفريقي ميساء نواف عبدالخالق أن "هناك عدداً من الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي بات قادراً على امتلاك السلاح، خصوصاً من خلال السيطرة على بعض الأسلحة بطريقة غير شرعية أو الشراء من السوق السوداء وتجار الأسلحة"، ورأت عبدالخالق أن "هذا أمر يعقّد بالفعل مهمة جيوش الدول في الساحل الأفريقي في ظل هشاشة كبيرة تعانيها تلك الدول أصلاً لضبط الأمن، مما جعل العمليات الإرهابية تتصاعد على رغم التدخلات الدولية لمكافحة الإرهاب، وأخيراً تدخلت روسيا لكن المؤشرات لا تزال مقلقة بصورة كبيرة"، وتابعت أن "الجماعات الإرهابية تعرض غنائم الحرب التي تستولي عليها من خلال مقاطع فيديو دعائية في إطار الحرب النفسية بينها وبين الجيوش".
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أسلوب عسكري متطور
وعلى رغم التحولات السياسية التي عرفتها منطقة الساحل الأفريقي، غير أن الهجمات لا تتوقف ومعها عداد الضحايا أيضاً لا يتوقف. واستعانت دول الساحل الثلاث التي عرفت انقلابات عسكرية، وهي مالي وبوركينا فاسو والنيجر، بحليفة جديدة هي روسيا بدلاً من فرنسا التي طُردت قواتها وبعض بعثاتها الدبلوماسية.
وفي اعتقاد عتلم فإن "عقلية واستراتيجيات الجماعات المسلحة عرفت تطوراً واضحاً إذ لم تعد هذه التنظيمات مجرد مجموعات عشوائية من المتطرفين، بل أصبحت تدير صراعاتها بأسلوب براغماتي وعسكري متطور، فهذه الجماعات المسلحة، اليوم، تحسن استخدام الأسلحة التي تغنمها من الجيوش في ما يشبه حرباً نفسية ضدّ الدولة، إذ تبث مقاطع دعائية تظهرها كقوة بديلة يمكن أن توفر الأمان والعدالة للمجتمعات المحرومة، ولكن الأهم من ذلك هو أن هذه الجماعات تدير هذه الأسلحة بذكاء، وتعتبرها أصلاً استراتيجياً غير قابل للتبديد"، وأكد أن "منطقة الساحل الأفريقي لم تعد مجرد هامش جيوسياسي يعاني اختلالات مزمنة، بل تحولت، في الأعوام الأخيرة، إلى بؤرة مركزية لانفجار أمني متعدد الأوجه، يتجاوز الطابع الإرهابي ليشكل مشهداً مركباً من العنف المنظم والتهريب العابر للحدود والتفكك المؤسسي والصراع الإقليمي الممزوج بعناصر انفصالية وأيديولوجية"، ولفت عتلم إلى أن "هذا التنظيم ركز نشاطه في مناطق حيوية مثل شمال مالي (بخاصة كيدال وغاو)، وامتدت عملياته عبر النيجر حتى بوركينا فاسو. وتعد عملية تونغو تونغو في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، التي أسفرت عن مقتل أربعة جنود أميركيين وأربعة نيجيريين، إحدى العلامات الفارقة التي أظهرت قدرة التنظيم على ضرب أهداف ذات طابع دولي".
لا أيادي خارجية
ودأبت الطغمة العسكرية الحاكمة في الساحل الأفريقي على توجيه أصابع الاتهام إلى أطراف "خارجية" خصوصاً فرنسا، بدعم الجماعات المسلحة أو السعي إلى ضرب استقرارها، لكن عتلم قال إن "التحقيق الحديث لمركز أبحاث تسليح الصراعات يفند تلك الروايات"، ورصد عتلم أن "الجماعات الإرهابية طورت استراتيجية مزدوجة تجمع بين الاستعراض الحربي والهيمنة المحلية، إذ تستعرض أسلحتها في مقاطع دعائية لترهيب السكان، لكنها تدير هذه الترسانة بحكمة تنظيمية، وتدير معاركها بعقلانية عسكرية تناقض الصورة النمطية عنها ككيانات فوضوية"، وأبرز "في المقابل، تعاني الجيوش الوطنية تآكل في المهنية والانضباط، ويغيب عنها التنسيق الاستراتيجي، فيما يستنزف الرد العسكري المتكرر قدرة الدول من دون أن يحسم المعركة، بل يسهم، بطريقة غير مباشرة، في تعزيز الدورة الجهنمية لتسليح الجماعات المسلحة عبر الغنائم".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ ساعة واحدة
- Independent عربية
سلام إسرائيلي يلوح من دمشق وصمت مفروض في بيروت
تشهد المنطقة تحركات دبلوماسية متسارعة توحي بأن "ورشة سلام" جديدة بدأت تنسج خيوطها خلف الأبواب المغلقة، ليس كنتاج قناعة بالسلام نفسه، بل كحاجة فرضتها الوقائع الجيوسياسية والعسكرية ما بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، أو ما عرف بـ"طوفان الأقصى". ونقلت وكالة "رويترز" أمس الثلاثاء عن خمسة مصادر مطلعة أن إسرائيل وسوريا على اتصال مباشر، وأجرتا خلال الأسابيع الأخيرة لقاءات وجهاً لوجه، بهدف احتواء التوتر والحيلولة دون اندلاع صراع في المنطقة الحدودية بين البلدين. وأضافت الوكالة أن اللقاءات ركزت على الملفات الأمنية، وقادها من الجانب السوري أحمد الدالاتي، لكن قناة "الإخبارية" السورية نقلت نفي قائد الأمن الداخلي في محافظة السويداء العميد الدالاتي حول ما أشيع عن مشاركته في محادثات مباشرة مع إسرائيل، وأكد أنه "ينفي بصورة قاطعة مشاركته في أية جلسات تفاوضية مباشرة مع الجانب الإسرائيلي"، مشدداً على أن هذه الادعاءات لا أساس لها من الصحة وتفتقر إلى الدقة والمصداقية. من محادثات السلام السورية- الإسرائيلية في البيت الأبيض 1999 (أ ف ب) لكن الرئيس السوري أحمد الشرع وخلال لقائه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه بداية مايو (أيار) الجاري، أعلن أن هناك مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل عبر وسطاء لـ"تهدئة الأوضاع وعدم خروجها عن السيطرة". وخلال ديسمبر (كانون الأول) عام 2024 إبان تسلمه للسلطة، قال الشرع "لسنا بصدد الخوض في صراع مع إسرائيل ولا حِمل معركة ضدها"، وفي تصريحات إعلامية سابقة كان أشار إلى أننا "نريد السلام مع جميع الأطراف". في هذا السياق يطرح سؤال جوهري، هل نقترب فعلاً من رؤية مشهد كان يبدو حتى الأمس القريب ضرباً من الخيال؟ علم إسرائيلي يرفرف في دمشق، والواقع أن مجرد تداول هذه الفرضية في الإعلام يظهر حجم التحول في المزاج الإقليمي، فدمشق التي كانت لعقود رأس حربة ما يعرف بـ"جبهة الرفض" أو "جبهة الصمود والتصدي"، ولاحقاً عموداً رئيساً في "حلف الممانعة"، تجد نفسها اليوم أمام خيارين، سلام مشروط يعيد لها ربما بعض شرعيتها الدولية، أو استمرار العزلة والانهيار الاقتصادي الكامل، علماً أن مفاوضات سلام جدية جرت بين دمشق وتل أبيب خلال عهد النظام السابق برئاسة حافظ الأسد، بخاصة بعد "مؤتمر مدريد" 1991، واستمرت بصورة متقطعة حتى عام 2000، لكنها لم تصِل إلى اتفاق نهائي. دمشق البقاء في المدار الإيراني لم يعُد مجدياً إذاً ما كان يُعد خطاً أحمر في السياسة السورية منذ عقود، بات اليوم مطروحاً للنقاش في أروقة القرار، مفاوضات مباشرة مع إسرائيل برعاية إماراتية وربما بغطاء روسي – أميركي مزدوج، ذلك أن النظام الجديد في دمشق بقيادة الشرع يدرك تماماً أن البقاء في المدار الإيراني لم يعُد مجدياً، لا سياسياً ولا اقتصادياً، فطهران المثقلة بالعقوبات والانهيارات الداخلية لم تعُد الحليف القادر على انتشال سوريا من عزلتها، بل أصبحت عبئاً مهدداً. هنا من المحتمل أن تكون دمشق اليوم تحاول المناورة بين المحاور، ذلك أن التلويح بالتقارب مع إسرائيل ربما يكون وسيلة لاجتذاب الاستثمارات الخليجية، وفتح الأبواب المغلقة مع الغرب، وحتى كسب ورقة تفاوض قوية بوجه طهران نفسها، وإذا ما رُفع العلم الإسرائيلي فعلاً على الأراضي السورية، فسيكون ذلك إعلاناً بانتهاء مرحلة كاملة من الصراع العربي – الإسرائيلي، وبداية شرق أوسط جديد تُعاد فيه كتابة خرائط النفوذ والتحالفات، ولكن لا تزال تفصلنا عن ذلك عقبات ومواجهات ومواقف متباينة عدة من الدول التي تعد نفسها، ولا تزال في صراع مع إسرائيل، ومن بينها لبنان. كما أن سوريا تعلم أن هذا "السلام" المحتمل لن يكون بلا ثمن، فالثمن الأكبر قد يكون التخلي التدريجي عن حلفاء الأمس، وربما مواجهة اضطرابات داخلية من قوى ترفض السلام مع "العدو التاريخي"، ولا سيما في أوساط الجيش والأمن الذين نشأوا على عقيدة المواجهة، في المقابل إسرائيل لا تزال تقرع طبول الحرب وما زالت حربها في غزة وغاراتها وتوغلاتها في الداخلين اللبناني والسوري، لم تتوقف. لبنان "الرهينة" في مشاريع الآخرين ولكن أين لبنان مما يجري في المنطقة؟ وهل يمكن الحديث عن سلام بين لبنان وإسرائيل؟ للبنان قصة مختلفة، وهو من أكثر الدول العربية التي "دفعت" ثمن احتضان القضية الفلسطينية والفلسطينيين، فهو الذي اختل أمنه وشهد حرباً أهلية لمدة 15 عاماً، شكلت "القضية" أحد أبرز عواملها، ولا يزال يعيش تداعيات الحرب الضروس التي شنتها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية، رداً على "حرب إسناد غزة" التي بدأ بها "حزب الله" من على الحدود الجنوبية في أكتوبر عام 2023. تشعر إسرائيل أنها تملك اليد العليا عسكرياً في الشمال (الجيش الإسرائيلي) وعلى ما يبدو أن مسؤوليه يعيشون في كوكب آخر، وكعادتهم يسيرون عكس التيار، ذلك أن كل المنطقة تسير باتجاه التهدئة ومشروع شرق أوسط جديد، لكن بعضاً من الداخل اللبناني وعلى رأسهم "حزب الله" لا يزال مصراً على حمل البندقية ورفض مجرد الحديث عن السلام. وكل من تسول له نفسه الحديث عن سلام أو تهدئة مع إسرائيل يُخوّن وربما تفتح بحقه ملفات أمنية، فالدولة التي لا تزال "مأسورة" بيد الحزب، مرتبطة عضوياً بمحور طهران، ولا تملك قرار الحرب ولا السلام، وأي انضمام لبناني إلى ورشة السلام سيبقى شكلياً ما لم تُحسم مسألة السلاح غير الشرعي، بالتالي، فإن بيروت تتحول إلى ساحة تقاطع مصالح، لا شريكة فعلية في رسم مستقبل المنطقة. في السياق كان الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم أكد أن "لن نسمح لأحد أن ينزع سلاح 'المقاومة'، وهذا السلاح هو الذي أعطى الحرية لشعبنا وحرر وطننا"، وقال "سنواجه من يعتدي على الحزب ومن يعمل على نزع سلاحه، كما واجهنا إسرائيل". وعلى رغم كل التغيرات التي حصلت على الساحة اللبنانية، من افتتاح لعهد جديد، وشروع الدولة في تيسير عمل المؤسسات، فإن هناك جواً سائداً بأن قراره الخارجي لا يزال مصادراً، ولا يملك حرية توقيع السلام حتى لو أراد لأن قراره النهائي يصاغ في طهران. من هنا يجد لبنان نفسه ضمن "ورشة السلام"، العنصر الغائب-الحاضر، إذ تخاض حروب الآخرين على أرضه وتصنع قرارات السلم والحرب خارجه، بالتالي فإن أية تسوية إقليمية لن تمر عبر بيروت، بل فوقها. الذاكرة الوطنية وجرح الاحتلال لكن هناك عوامل أخرى تجعل من الحديث عن السلام مع إسرائيل محظوراً ليس فقط بسبب المعطيات التي ذكرناها، بل نتيجة تشابك عميق بين الذاكرة الجماعية والسردية الوطنية وتوازنات القوى الداخلية والإقليمية، فلبنان عانى احتلالاً إسرائيلياً دام 22 عاماً للجنوب، رافقته اعتداءات وجرائم وثقتها صور المعتقلين في الخيام ومجازر مثل قانا، وهذه الذاكرة لا تزال حية في وجدان بعض اللبنانيين، خصوصاً الجنوبيين، مما يجعل أي حديث عن سلام مع إسرائيل يبدو وكأنه سلام مع الجلاد، أو إنكار لمعاناة لم تُشفَ بعد. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) الدور المركزي لـ"حزب الله" بُني "حزب الله" على شعار "المقاومة ضد إسرائيل"، وهو لا يزال يمتلك ترسانة عسكرية ضخمة ونفوذاً سياسياً هائلاً، بالتالي، أي نقاش عن السلام مع إسرائيل يعد تهديداً مباشراً لشرعية سلاحه، ويُقابل بردّ عنيف سياسياً وإعلامياً وربما أمنياً، فالحزب لا يملك فقط القوة لفرض هذا "الحظر"، بل لديه جمهور يتبنى هذه الرؤية كجزء من الهوية. ويشار إلى أن الكل في لبنان يتخوف من تخلخل التوازنات الطائفية، فالطوائف اللبنانية لا ترى في السلام مع إسرائيل مسألة تقنية، بل خياراً مصيرياً من الممكن أن يهدد وجودها، فيتخوف المسيحيون من أية تسوية توطن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ويرتبط السُنة تاريخياً بسردية قومية ترفض إسرائيل، والشيعة بقيادة "حزب الله" يعدونها عدواً وجودياً، لذا، فإن أي خطاب سلمي يعتبر تفجيراً محتملاً لهذه التوازنات الهشة. قرار السلام "مصادر" ولبنان، بخلاف دول عربية أخرى، لا يملك سلطة مستقلة لاتخاذ قرار كهذا، فإيران، وسوريا سابقاً، و"حزب الله" حالياً، ترى في لبنان ساحة مواجهة استراتيجية مع إسرائيل، بالتالي حتى إن وجدت إرادة داخلية للسلام، فإن القرار في جزء كبير منه "مصادر"، ثم إن إسرائيل نفسها لا تبدي رغبة في سلام مع دولة ضعيفة، حدودها مستباحة، ولا سلطة مركزية موحدة فيها. ومع ذلك، فإن الحدود اللبنانية – الإسرائيلية هي الجبهة الأكثر اشتعالاً، وأية تسوية من دون تهدئة دائمة في الجنوب ستكون منقوصة، وهنا تبرز معضلة نزع سلاح "حزب الله"، وهي عقدة لا يمكن تفكيكها إلا في إطار صفقة شاملة تشمل إيران، وربما سوريا، وفي حال جرى التوصل إلى تسوية كبرى، من الممكن أن يطلب من الدولة اللبنانية استيعاب الحزب داخل الجيش، أو إدماجه في معادلة أو استراتيجية دفاعية رسمية، على غرار النموذج العراقي مع "الحشد الشعبي"، لكنها صيغة محفوفة بالأخطار، ولذلك بحث آخر، وفي المحصلة الحديث عن السلام مع إسرائيل في لبنان ليس مجرد وثيقة سياسية أو أمنية، في بلد لا يزال يعيش نصف حرب، ونصف سلم، تبدو كلمة "سلام" أخطر من أي إعلان حرب. هل تريد إسرائيل السلام فعلاً؟ ولكن ماذا عن الجانب الآخر من الحدود؟ هل تريد إسرائيل فعلاً الذهاب إلى سلام في المنطقة؟ وكان وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر قال خلال حديث إعلامي إن إسرائيل تريد السلام مع لبنان، لكن "حزب الله" هو العائق أمام تحقيق ذلك، لافتاً إلى أن إسرائيل "ليس لديها صراع حقيقي مع دولة لبنان وإنما المشكلة تكمن في 'حزب الله' الذي يمثل إيران واستولى على لبنان". في العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية السلام ليس هدفاً بحد ذاته (أ ف ب) وأشار ساعر إلى أنه "قد يكون من المبكر للبنان اليوم الحديث عن السلام، لكننا نريد السلام حقاً وأعتقد بأنه سيكون ممكناً في المستقبل"، مضيفاً أن "الشرط الأساس هو أن تتوقف إيران عن احتلال لبنان من خلال 'حزب الله'، هذا هو العائق أمام السلام هناك"، وأردف أن "لبنان استمر تحت الاحتلال الإيراني لعقود، وعندما نصل إلى اللحظة التي يكون فيها الجيش اللبناني والحكومة اللبنانية أقوى من 'حزب الله' أعتقد بأنه ستكون لدينا آفاق جديدة". لكن إسرائيل لا تبدو متحمسة للذهاب نحو سلام لأن كلفته في ظل الظروف الحالية، تفوق فوائده من وجهة نظرها الاستراتيجية، فلبنان ليس دولة موحدة القرار، والسلطة فيه ضعيفة ومقسمة بين أطراف متناحرة، أبرزها "حزب الله" الذي يعد في نظر إسرائيل عدواً وجودياً، بالتالي، أي سلام مع الحكومة اللبنانية سيكون شكلياً لأن الطرف الأقوى على الأرض لا يعترف به، بل يحاربه، فمن منظور إسرائيلي، ما فائدة توقيع سلام مع سلطة لا تملك قرار الحرب والسلم؟ أضف إلى ذلك أن وجود الحزب على حدودها يمنح إسرائيل مبرراً دائماً للبقاء في "وضع تأهب"، بالتالي هذا يبرر استمرار حال التعبئة العسكرية والتحصينات الأمنية والضغط السياسي الدولي على لبنان وإيران، إذاً السلام سيفقدها هذا "العدو الواضح" الذي تبرر من خلاله كثيراً من سياساتها العسكرية والإقليمية. وإسرائيل لا تريد السلام بمعناه الكلاسيكي، أي سلام متكافئ قائم على الحقوق والاعتراف المتبادل، بقدر ما تسعى إلى سلام بشروطها، يحقق لها الأمن أولاً والهيمنة الإقليمية ثانياً. السلام ليس هدفاً وفي العقيدة الاستراتيجية الإسرائيلية، السلام ليس هدفاً بحد ذاته، بل أداة لضبط الحدود وتفكيك الخصوم وخلق بيئة إقليمية تسمح لإسرائيل بأن تعيش بلا تهديد وجودي، والدليل هو ما فعلته بعد "اتفاقات أبراهام"، إذ إنها وقعت سلاماً مع دول ليس لديها نزاع مباشر معها، في مقابل تجاهل كامل للقضية الفلسطينية التي تركت بلا أفق. وعلى عكس السلام مع دول الخليج (التطبيع الاقتصادي والتكنولوجي)، أو السلام مع مصر (تأمين حدود سيناء)، لا ترى إسرائيل في لبنان مكسباً استراتيجياً كبيراً، فهو بلد فقير منهار اقتصادياً ومحكوم من قوى معادية وليست لديه سوق استهلاكية ولا يملك عمقاً جغرافياً يمكن الاستثمار فيه. إسرائيل تفضل "الردع" على "المعاهدات" في الجبهة الشمالية وتشعر إسرائيل بأنها تملك اليد العليا عسكرياً في الشمال، وتحقق ما تريده من خلال القوة والاغتيالات والضربات الجوية وردع "حزب الله" من دون أن تدفع ثمن سلام، فلماذا تذهب إلى تنازلات والتزامات دبلوماسية مقابل دولة مفككة؟ ولماذا توقع سلاماً الآن، بينما "حزب الله" في أضعف حالاته والسلطة اللبنانية عاجزة والاقتصاد منهار؟ هي تفضل مواصلة الضغط والاستثمار في الضعف اللبناني، بدلاً من تقديم "هدية سياسية" عبر اتفاق سلام يشرعن الدولة اللبنانية ويعطيها مكاسب، من هنا فإنها قد تكون ساعية وراء سلام شكلي، وهي تفضل بقاء الوضع الحالي، من دون اتفاق وبلا حرب شاملة، مع "ردع من بعيد" يتيح لها قصف أهداف في العمق متى شاءت، ما دام أن "حزب الله" لا يرد على نحو يغير المعادلة، أضف إلى أنها تعتبر لبنان ساحة نفوذ إيرانية، لا دولة قابلة للشراكة، ولذلك فهي تتحدث مع طهران عبر بيروت، لا مع بيروت نفسها. أما في الحالة السورية، فإذا رأت تل أبيب أن النظام الجديد مستعد للانفصال عن طهران، والتوصل إلى اتفاق سلام مقابل ضمانات أمنية على الجبهة الشمالية، فقد تدفع نحو سلام "تكتيكي" وليس "تاريخياً"، أشبه بهدنة دائمة أكثر منه تسوية شاملة. إسرائيل إذاً، لا تريد "سلاماً عادلاً" يفتح صفحة جديدة مع الشعوب، بل "سلاماً مفصلاً" على قياس مصالحها الاستراتيجية، فإسرائيل تريد "سلاماً بارداً" مع دول الطوق، مشروطاً بالتخلي عن أي طموح سيادي في ملفات رئيسة، مثل عودة اللاجئين والانسحاب من أراضٍ محتلة خارج التفاوض والسلاح في يد أية قوة قد تشكل تهديداً مستقبلياً، وهنا يكمن التحدي الحقيقي لأية ورشة سلام مقبلة في المنطقة، هل هي لإنهاء الصراع، أم لتجميده على شروط المنتصر؟


صحيفة عاجل
منذ 2 ساعات
- صحيفة عاجل
"الشؤون الإسلامية" تقيم حفل توديع لضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين من موريتانيا
أقامت وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، ممثلة بسفارة المملكة العربية السعودية لدى الجمهورية الإسلامية الموريتانية، حفل توديع لضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للحج لعام 1446هـ، وذلك في مقر السفارة بالعاصمة نواكشوط، بحضور سفير خادم الحرمين الشريفين الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الرقابي، وعدد من المسؤولين في السفارة. واستهل الحفل بكلمة ألقاها السفير الرقابي، أكد فيها أن البرنامج المبارك يأتي امتدادًا للدعم والرعاية المستمرة التي يوليها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- للمسلمين، مشيرًا إلى أن مكرمة هذا العام شملت أكثر من 1300 حاج من مختلف دول العالم، إضافة إلى 1000 حاج من ذوي الشهداء والأسرى الفلسطينيين، مما يعكس عمق الرسالة الإنسانية والدينية التي يحملها البرنامج. وثمّن السفير الرقابي الجهود التي تبذلها وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في تنظيم هذا البرنامج النوعي، الذي يعكس الدور الريادي للمملكة في خدمة الإسلام والمسلمين، ويجسد رسالتها النبيلة في دعم قضايا الأمة وتعزيز أواصر الأخوة والوحدة بين الشعوب الإسلامية. وفي ختام الحفل سلّم سفير خادم الحرمين الشريفين المشمولين بالبرنامج لهذا العام حقيبة الحاج التي وفرتها وزارة الشؤون الإسلامية, ضمن خدمات البرنامج التي تحتوى على كل ما يحتاجه الحاج قبل سفره إلى الأراضي المقدسة لتأدية مناسك الحج والعمرة.


البلاد السعودية
منذ 5 ساعات
- البلاد السعودية
وسط تحذيرات أمنية مشددة.. فرنسا تضيق الخناق على ذراع «الإخوان»
البلاد – باريس تصاعد الجدل مجددًا في فرنسا حول أحد أبرز المعاهد الإسلامية في البلاد؛ المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية (IESH) بمدينة شاتو- شينون، بعد صدور تقارير استخباراتية ووزارية تصفه بأنه 'منصة فكرية' تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وتربطه بأدوار محورية في دعم ما تصفه السلطات بـ'الإسلام السياسي'. هذا التحرك يأتي ضمن سياق أوسع لما تسميه الحكومة الفرنسية 'معركة الجمهورية ضد التطرف'؛ إذ باتت المؤسسات التعليمية والدينية المحسوبة على الجماعة تحت الرقابة الدقيقة من السلطات. تقرير إستخباراتي يقرع جرس الإنذار تقرير إستخباراتي حديث، عرض أمام مجلس الدفاع الفرنسي برئاسة الرئيس إيمانويل ماكرون، وضع المعهد في قلب اتهامات بالانتماء الأيديولوجي والتنظيمي للحركة الإخوانية، واعتبره 'ركيزة بارزة' في مشروع الجماعة داخل فرنسا. التقرير المؤلف من 76 صفحة أورد أيضًا أن المعهد، الذي يختص بتكوين الأئمة والدعاة، يروّج لنسخة 'متشددة' من الإسلام، تحت ستار الاعتدال. التحقيقات تشير إلى أن المعهد يستند إلى مرجعيات فكرية مثيرة للجدل، على رأسها يوسف القرضاوي، الزعيم الروحي السابق للجماعة، الذي تولّى رئاسة مجلسه العلمي حتى وفاته في 2022. كما أورد التقرير شبهات حول مصادر تمويل المعهد، دون تقديم تفاصيل دقيقة حتى الآن. هذه الاتهامات دفعت عددًا من النواب الفرنسيين، خصوصًا من التيار اليميني، للمطالبة بإجراء 'تحقيق إداري وأمني شامل'، قد يفضي إلى إغلاق المعهد. وقال النائب فيليب بون، الذي يمثل الإقليم الذي يقع فيه المعهد: إن' فرنسا لا يمكن أن تسمح بوجود معاهد دينية تُستخدم كحصان طروادة لبث خطاب سياسي مغلف بالدين'. كما انتقد سياسيون آخرون ما وصفوه بـ'التهاون في الرقابة على المؤسسات الإسلامية، التي تساهم في تفكيك النسيج الجمهوري العلماني'، واعتبروا أن استمرار نشاط مثل هذه المعاهد يهدد مبادئ الاندماج والانتماء الوطني. وأورد التقرير الاستخباراتي أن جماعة الإخوان تدير شبكة واسعة من المساجد والمؤسسات التعليمية في فرنسا، منها 139 مسجدًا تحت مظلة جمعية 'مسلمو فرنسا' (المعروفة سابقًا بـUOIF)، و21 مؤسسة تعليمية، فيما يُعد معهد IESH أهمها من حيث التأثير الأيديولوجي والتنظيمي. تأسس المعهد عام 1990، وكان دومًا محاطًا بالجدل حول ارتباطه الفكري والتنظيمي بجماعة الإخوان. ومع احتدام النقاش السياسي والإعلامي حوله، يجد نفسه اليوم في مرمى نيران السلطات، في لحظة يتصاعد فيها التوتر المجتمعي والسياسي حول علاقة الدين بالدولة، وقضية اندماج المسلمين في المجتمع الفرنسي. وبينما تؤكد السلطات أن تحرّكها يستهدف 'الإسلام السياسي لا الإسلام'، تطرح هذه القضية أسئلة عميقة حول التوازن بين الحريات الدينية والأمن القومي، والكيفية التي يمكن من خلالها تأطير الخطاب الديني؛ بما ينسجم مع قيم الجمهورية دون الوقوع في فخوص التمييز أو التضييق.