
في الذكرى الرابعة لإجراءات سعيّد الاستثنائية.. هل تحولت تونس لسجن كبير؟
وبموجب تلك التدابير الاستثنائية قبل 4 سنوات، قام سُعيد بحل البرلمان ، وعزل حكومة هشام المشيشي، وحل المجلس الأعلى للقضاء وعددا آخر من المؤسسات الدستورية كالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
وأصدر سعيد المرسوم 117، ليكون دستورا مؤقتا حكم من خلاله البلاد بصلاحيات رئاسية واسعة غير مسبوقة، وقام بعزل عشرات القضاة ورفض إرجاعهم لعملهم رغم قرار المحكمة الإدارية.
كما قام بصياغة دستور بنفسه في 25 يوليو/تموز 2022، وغير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، يتمتع فيه بصلاحيات مطلقة، ورغم أنه عرضه على الاستفتاء الشعبي لكن لم تشارك فيه إلا نسبة قليلة من الناخبين.
ونهاية سنة 2022، دعا سعيد لانتخابات تشريعية لم تشارك فيها إلا نسبة قليلة أيضا، وقاطعتها أحزاب المعارضة، ليتم تنصيب برلمان موال له ذي مهمة وظيفية، ولا يتمتع بأي صلاحيات قوية أمام الرئيس.
وفي فبراير/شباط 2023 قامت السلطات التونسية بحملة أمنية واسعة ضد عشرات المعارضين الذين اعتقلوا وزج بهم في السجون، ثم حوكموا ابتدائيا بتهمة التآمر على أمن الدولة بموجب قانون الإرهاب، وحكم عليهم بأحكام قاسية.
يرى أنصار الرئيس أن الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها في يوليو/تموز 2021 مثّلت تصحيحا ضروريا لمسار الثورة، بعد ما اعتبروه عشرية من الفوضى والتجاذب السياسي وتفشي الفساد في الفترة ما بين عامي 2011 و2021، كما يعتبرون أن محاكمة المعارضين تتم وفق القانون على جرائم إرهابية ومالية حقيقية.
ويؤكد مؤيدوه أن الرئيس لا يزال يحظى بثقة شريحة واسعة من التونسيين الذين يرونه رمزًا لنظافة اليد والتعفف، في وقت يتهمون فيه ما يُعرف بالإدارة العميقة بمحاولات متواصلة لتعطيل مساره الإصلاحي وإفشال مشروعه السياسي، سواء من داخل أجهزة الدولة أو عبر حملات التشويه الإعلامي والمعارضة السياسية.
ويرى أنصار الرئيس أنه يسعى إلى ترسيخ أسس دولة اجتماعية عادلة، تحمي الفئات الهشّة وتقطع مع مظاهر الاستغلال والتمييز، ويستشهدون بجملة من التشريعات التي يصفونها بـ "التاريخية" على غرار القانون المتعلق بمنع المتاجرة باليد العاملة، والمبادرات القانونية الرامية إلى تحسين وضعية العاملات الفلاحيات وضمان حقوقهن، مؤكدين أن هذه الخطوات تعبّر عن توجّه جديد يجعل من العدالة الاجتماعية جوهر المشروع السياسي لسعيّد.
ملاحقات قضائية
وفي المقابل يؤكد معارضون بارزون أن تونس تحولت إلى "سجن كبير" خلال فترة حكم سعيّد، بعد إيداع عشرات المعارضين والنشطاء السجون، من بينهم زعيم حركة النهضة ورئيس البرلمان المحلول راشد الغنوشي (84 عاما) المعتقل منذ أكثر من عامين في قضايا يصفها خصوم سعيّد بأنها سياسية بامتياز.
كما طالت حملة التوقيفات والسجون عددا من أمناء الأحزاب، من بينهم الأمين العام ل لحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي، والأمين العام لحزب الاتحاد الشعبي الجمهوري لطفي المرايحي، إلى جانب قيادات بارزة من جبهة الخلاص المعارضة.
كما امتدت الإجراءات لتشمل صحفيين ونقابيين ونشطاء المجتمع المدني، من خلال استخدام المرسوم رقم 54 الذي يعتبره ناشطون سيفا مصلتا على رقاب المنتقدين، إلى جانب قوانين مكافحة الإرهاب والمجلة الجزائية وقانون الاتصالات، ويصفه مراقبون بحملة ممنهجة للتضييق على الحريات.
ومؤخرا، أصدر القضاء -المتهم بالتبعية لسلطة الرئيس- أحكاما سجنية قاسية في حق عشرات المتهمين في قضايا تتعلق بالتآمر على أمن الدولة، وذلك في الطور الابتدائي. ومن المنتظر أن ينظر القضاء في طور الاستئناف، بعد انتهاء العطلة الصيفية، في إمكانية تثبيت تلك الأحكام.
حصيلة سلبية
وفي تقييمه السياسي لمسار سعيّد، يرى القيادي في حركة النهضة رياض الشعيبي أن هذا المسار كان منذ البداية يرتكز على توظيف بعض المطالب الاجتماعية كغطاء للسيطرة على البلاد وتوسيع نفوذه، دون أن يحمل أي برنامج سياسي حقيقي أو رؤية اقتصادية.
ويؤكد أن الحصيلة بعد 4 سنوات من الحكم الفردي كانت "سلبية جدا" على المستوى السياسي، معتبرا أن السلطة لم تكتف بتهميش المعارضة من المشهد العام، بل صعّدت استهدافها من خلال محاكمة المعارضين وغلق مقرات أحزاب كحركة النهضة، وملاحقة نشطاء المجتمع المدني، لترهيب المجتمع.
ويرى الشعيبي أن تونس، التي كانت تمثل تجربة ديمقراطية واعدة وتطمح لأن تكون أول ديمقراطية ناشئة في المنطقة بعد ثورة 2011 ، قد شهدت انتكاسة خطيرة أعادت البلاد إلى مربع الاستبداد، حتى باتت أشبه بسجن كبير، بعد أن كانت تقدم نموذجا يُحتذى به في مسار الانتقال الديمقراطي، وفق تعبيره.
وبعيدا عن الملف السياسي، يشير الشعيبي إلى تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، إذ يرى أن البلاد لم تشهد تحسنا يذكر، حيث ظلت معدلات النمو منخفضة، وتفاقمت معاناة المواطنين بسبب ارتفاع نسب البطالة وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب الأزمات المتكررة في تأمين المواد الأساسية.
ويوضح أن الفجوة بين الواقع الاقتصادي والشعارات التي ترفعها السلطة واسعة جدا، فخطابات مثل "سياسة التعويل على الذات" لم تنعكس في سياسات واضحة أو نتائج ملموسة، بل كانت مجرد أدوات خطابية تُوظف لإضفاء مشروعية شعبية على خيارات فاشلة، ولبناء ولاءات سياسية موالية لسعيد.
ويقول أيضا إن السلطة استندت إلى إصدار ترسانة من القوانين والإجراءات الشكلية، لكنها فشلت في أن تمس جوهر الأزمة الاقتصادية أو تقدم حلولًا جدية لوقف النزف المالي والاجتماعي لأن منطق الاقتصاد يختلف كليا عن منطق الإجراءات القانونية الشكلية التي لا تصلح مشكلات الاقتصاد.
ويرى القيادي بالتيار الديمقراطي هشام العجبوني أن تجربة 25 يوليو/تموز مثّلت انزلاقا خطيرا نحو الحكم الفردي المطلق، معتبرا أن الرئيس سعيد استغل فقدان الثقة في المنظومة السياسية السابقة لتعزيز سلطاته دون ضوابط، مما أدى إلى ضرب مؤسسات الدولة وتهميش دور الأحزاب والمنظمات.
ويشير إلى أن البلاد دخلت منذ ذلك التاريخ مرحلة غياب المساءلة وتعطيل الحياة السياسية "حيث تم تجميع السلطات بيد شخص واحد، وسط خطاب تقسيمي يعتبر كل مختلف خائنا ومتآمرا".
ويرى العجبوني أن البرلمان المنتخب في ظل دستور 2022 أُفرغ من مضمونه التشريعي، وتحوّل إلى مؤسسة شكلية لا تعكس التعددية ولا تمثل المواطنين تمثيلا حقيقيا، بل غلبت عليه عقلية الولاء والخوف من انتقاد الرئيس، مما ساهم في تغييب النقاش الجاد وتعطيل الرقابة على السلطة التنفيذية.
أما على المستوى الاقتصادي، فيقول العجبوني إن الإنجاز الوحيد بعد 4 سنوات من حكم سعيّد هو توسيع استخدام مرسوم 54 الذي أصبح سيفا مصلتا على رقاب المعارضين والمنتقدين لسياساته.
ويضيف العجبوني "نظام سعيّد فشل في تحقيق أي إنجاز اقتصادي يُذكر، باستثناء ضرب استقلالية القضاء وتصفية المعارضة والزجّ بمنتقديه في السجون" مشددا على أن الشعارات الشعبوية لم تنعكس على واقع التونسيين الذين يرزحون تحت عبء التضخم والبطالة وغلاء المعيشة.
واعتبر أن شعار "التعويل على الذات" الذي يروّجه الرئيس "مجرّد وهم" موضحا أن الدولة "اعتمدت على سياسة اقتراض مفرطة، حيث بلغت القروض الداخلية والخارجية خلال سنتين فقط رقماً قياسيًا يعادل 36% من حجم الميزانية".
وأشار العجبوني إلى أن النمو الاقتصادي يراوح الصفر، مع تراجع الاستثمارات وانعدام الثقة، قائلا "كل المشاريع الكبرى التي تم الترويج لها، من الشركات الأهلية إلى الصلح الجزائي، بقيت وعودا بلا أثر ملموس في الواقع".
وأضاف "حتى قانون منع المناولة الذي قُدّم كإنجاز اجتماعي، تم تمريره دون تقييم للواقع الاقتصادي، مما تسبب في تسريح عمال وإلغاء عقود، وهو ما يضرب الفئات التي يُفترض أن نحميها".
وختم العجبوني بتأكيد أن "خطابات الرئيس المليئة بالشعارات لم تعد تقنع أحدا" وأن "تونس اليوم تدفع ثمن الحكم الفردي والقرارات الارتجالية التي زادت من عزلتها وعمّقت أزمتها الاقتصادية".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
شبكات انقسام بالمنصات الأردنية حول عبلي.. حرية تعبير أم تهديد للأمن؟
أشعل المؤثر الأردني أيمن عبلي منصات التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، ليس بمحتواه الكوميدي المعتاد، بل بموقف سياسي جريء حول الوضع في غزة تسبب في اعتقاله وإثارة جدل واسع حول حدود الحرية. اقرأ المزيد


الجزيرة
منذ 11 ساعات
- الجزيرة
العدو الذي يتحدث لغتك.. خطة إسرائيل الجديدة لاختراق المجتمعات
في محاولة للتمدد داخل المجتمعات العربية، يعمل الاحتلال الإسرائيلي على صناعة جيل من عناصر الاستخبارات والجنود المتحدثين بالعربية بلهجاتها المتنوعة، كأداة اختراق تتجاوز البندقية والدبابة إلى محاولة السيطرة على العقول. "إسرائيلي يتحدث لهجتك، يغني أغانيك، ويردد أمثالك الشعبية" مشهد بات يتكرر في مقاطع فيديو ينشرها إعلام الاحتلال، ضمن خطة مدروسة للتأثير على الرأي العام العربي وتحويل مجرم الحرب إلى وجه مقبول. ومهمة الجيل الجديد هي كسر الحواجز النفسية مع الشعوب العربية، وتهيئة الأرضية لاختراقات ثقافية وأمنية أشد خطورة من الحرب التقليدية، وفق ما كشفت وسائل إعلام إسرائيلية. مدارس اللهجات الإسرائيلية بعد فشل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في التنبؤ بعملية " طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شرعت إسرائيل في إعادة تقييم أدواتها الاستخبارية وأساليبها في جمع المعلومات. وفي هذا السياق، كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية -في تقرير نشرته في الثامن من يوليو/تموز الجاري- عن تكثيف إسرائيل جهودها في تدريب كوادر بشرية متخصصة في اللغات واللهجات المحلية بهدف تعزيز قدراتها الاستخبارية بعد إخفاقات أكتوبر/تشرين الأول. وقد أقرت الأجهزة الأمنية ضرورة العودة إلى الأدوات التقليدية، كاللغة وتفعيل الجواسيس على الأرض، إلى جانب استخدام التكنولوجيا المتطورة لمراقبة الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي بشكل أكثر فاعلية. وبناءً على ذلك، أطلقت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" برامج تدريبية مكثفة تستهدف شبابًا أنهوا دراستهم الثانوية حديثًا، حيث يتم اختيارهم لتعلم لغات ولهجات محددة، حسب الاحتياجات الأمنية. وتستغرق هذه الدورات حوالي 6 أشهر. وهو ما أكد عليه ضابط إسرائيلي برتبة مقدم، رمزت له الصحيفة بالحرف (ح) والذي قال إن الحرب الدائرة في غزة أظهرت أنه "لا يمكن الاستغناء عن الأذن التي تلتقط النبرة، والعين التي تفسر التعبيرات والسلوكيات" مضيفًا أن هذا التوجه سيمتد للسنوات القادمة من خلال تعزيز وتوسيع منظومة كوادر اللغة داخل المؤسسة الأمنية. وتعود مدارس اللغات التي تديرها "أمان" إلى بدايات تأسيس الشعبة، لكنها تشهد توسعًا كبيرًا حاليًا لتلبية متطلبات "الجبهات المشتعلة" حيث يتعلم مئات المجندين سنويًا لغات ولهجات متنوعة تشمل السورية واللبنانية والفلسطينية والعراقية والبدوية، وقبل 18 شهرا أضيفت اليمنية إلى القائمة، مما يعكس اهتمامًا غير مسبوق بتنوع اللهجات العربية. ويتجاوز التدريب الجانب اللغوي ليشمل مواد نصية وصوتية مستمدة من الواقع العملياتي مثل محادثات حديثة أو تقارير إخبارية، وذلك للحفاظ على التأهب العملي لدى المتدربين، كما يتعرض المتدربون لتعبيرات يومية وأغانٍ ومقاطع فيديو من شبكات التواصل لإتقان النبرة واللهجة بشكل طبيعي، وفقا للصحيفة. لا يتوقف التدريب عند اللغة وحدها، بل يدمج بين الجانب اللغوي والتحليل الثقافي والسياسي، إذ يتعلم عناصر الاستخبارات المستقبليون قراءة ما بين السطور، وفهم أنماط التفكير والعادات المحلية، بحسب يديعوت أحرونوت. ورغم أهمية اللغة، يوضح الضابط (ح) أن الهدف ليس فقط بناء "مترجمين" بل عناصر استخبارات تجمع بين القدرة اللغوية وفهم الثقافة والمجتمع والسياسة المحلية، مشددًا على أنه "لكي تكون رجل استخبارات جيدًا يجب أن تدرس النظريات، والثقافة (..) والقيم التي تشكل أساس رؤيتهم للعالم". وقال الضابط المقدّم المسؤول عن مدرسة اللغات في شعبة الاستخبارات العسكرية -في حديثه عن دروس السابع من أكتوبر/تشرين الأول- أن أحد الاستنتاجات الأساسية من الهجوم المفاجئ هو الحاجة الماسة إلى زيادة عدد المتخصّصين في اللغات ضمن المنظومة الأمنية. يُشار إلى أن تقارير إسرائيلية أكدت أنه كانت يُفتقر لمعلومات استخباراتية في اليمن بالتحديد، كونها لم تتوقع دخول جماعة أنصار الله (الحوثيين) في معارك ضدها كما حدث في جبهة الإسناد الحالية. وهو ما استدعى تجنيد إسرائيليين من أصول يمنية، من اليهود الذين وصلوا حديثا لإسرائيل ويجيدون العربية واللهجة اليمنية، للمساعدة في جمع معلومات استخباراتية عن الحوثيين، وفق صحيفة معاريف الإسرائيلية. وفي إطار الإصلاحات التي تبنتها قيادة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بعد "طوفان الأقصى" أصدرت تعليمات بعمل دورات في الثقافة الإسلامية واللغة العربية بدءًا من مرحلة ما قبل التجنيد وصولًا إلى تدريب الضباط. وتهدف هذه المبادرة إلى تزويد الأفراد العسكريين والجنود والقادة المستقبليين بالكفاءة اللازمة لفهم المجتمعات العربية بشكل أعمق، بحسب إذاعة جيش الاحتلال. ووفقًا لتقرير نشره موقع "ذا ديفنت بوست" في 16 يوليو/تموز الجاري، فإن جميع أعضاء شعبة الاستخبارات العسكرية سيخضعون لتدريب في الدراسات الإسلامية، وسيتلقى نصفهم تدريبًا في العربية بحلول العام المقبل. سلاح خفي في السنوات الأخيرة، اتضح أن إسرائيل باتت تستخدم إستراتيجيات ناعمة ترتكز على الجانب النفسي والثقافي، الهدف منها كسر الحواجز النفسية واختراق الوعي الجمعي، مما يسهل عليها نقل رسائلها وتأثيرها بالمجتمع العربي دون إثارة مقاومة واضحة. ويتفق الخبير النفسي عبد الرحمن مزهر مع ذلك، ويقول إنها خطوات نحو محاكاة أنماط السلوك والتعبيرات العربية اليومية، مما يجعلها تظهر كجزء من النسيج الاجتماعي المستهدف. ويوضح مزهر أن هذا الانخراط اللغوي والثقافي يقلل الفجوة النفسية بين الطرفين، إذ إن اللهجة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل تعبر عن الهوية والشخصية. وعندما يتحدث شخص غريب باللهجة نفسها، يشعر المستمع بحالة من الألفة والقبول اللاواعي، مما يسهل قبول رسائل العدو دون وعي. ويشير الخبير -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن هذه العمليات النفسية تؤسس لتطبيع عاطفي مع الطرف الآخر، يجعل من السهل تمرير أفكار سياسية وثقافية عبر قنوات تبدو طبيعية ومألوفة، مثل ارتداء بعض الإسرائيليين لباسا عربيا تقليديا، والترويج لأطعمة عربية على أنها جزء من المطبخ الإسرائيلي، كممارسات تهدف إلى تشويش الهوية وإعادة تشكيل الصور الذهنية. ويعتبر مزهر أن هذا "السلاح الناعم" أكثر خطورة من السلاح التقليدي، لأن الأخير معروف وتتم مواجهته برفض ومقاومة، أما السلاح الناعم فيتسلل بسلاسة ليعيد تشكيل المفاهيم والقيم داخل المجتمع، دون أن يشعر المتلقي بخطورته أو يدرك طبيعة تأثيره الحقيقي. إستراتيجية توظيف الشخصيات العامة من أجل تعزيز التواصل مع الجمهور العربي، أنشأت الخارجية الإسرائيلية صفحات رسمية لكبار المسؤولين بالعربية على منصات التواصل، وصفحات بعض السفارات في دول عربية مثل مصر والأردن. وتعتمد إسرائيل على وسائل إعلام ناطقة بالعربية منذ تأسيس إذاعة "صوت إسرائيل" التي بدأت العمل بموجب قانون سلطة البث لعام 1965، والذي نص على أن تعمل الإذاعات بالعربية لخدمة المواطنين العرب (الفلسطينيين) داخل إسرائيل، وتعزيز التفاهم والسلام مع الشعوب العربية المجاورة. ومع ظهور ثورات الربيع العربي ، تغيرت الصورة التقليدية لهذه الوسائل الإعلامية، إذ أدركت إسرائيل -كما الأنظمة العربية- أهمية وتأثير مواقع التواصل على الشباب العربي، لذا اتجهت نحو استخدام صفحات التواصل والمتحدثين العرب بهدف كسر الحواجز النفسية والثقافية مع الجمهور العربي الشاب. ومن أبرز الشخصيات التي تتفاعل بالعربية بشكل مستمر مع الجمهور العربي أفيخاي أدرعي (المتحدث الرسمي باسم جيش الاحتلال) والذي يحرص على التفاعل المباشر مع المتابعين على فيسبوك وتويتر، من خلال تهنئة المسلمين بالأعياد، ودعاء قبول الصلاة في منشورات مثل "جمعة مباركة". كما ينشر صورا له من أماكن مختلفة بالأراضي المحتلة، رغم أن هذه المنشورات غالبا ما تتلقى تعليقات ساخرة من الجمهور العربي. ويرى المنسق العام لتنسيقية مقاومة الصهيونية والتطبيع أنس إبراهيم أن مشروع الاحتلال الإسرائيلي لإنتاج جيل من المتحدثين الرسميين بالعربية بلهجاتها المتنوعة -من الخليج إلى الشام فالمغرب- ليس مسألة لغوية أو تواصلية بريئة، بل هو جزء من خطة عميقة تستهدف بنية الوعي العربي، وتهيئة الأجيال القادمة لتقبّل الكيان الصهيوني كجزء طبيعي من نسيج المنطقة. ويقول إبراهيم في حديثه للجزيرة نت إن "الرسالة الأساسية التي يسعى الاحتلال لبثّها هي أنه ليس كيانًا غريبًا أو طارئًا، بل هو كيان مألوف يفهم العرب أكثر مما يفهمون أنفسهم. وعندما يتحدثون مثلنا فإنهم يخفون حقيقتهم الاستعمارية خلف قناع التفاعل الإنساني، في محاولة لكسر الصورة النمطية للعدو". ويرى أن أخطر ما في هذه السياسات أنها تُنتج استعمارًا ناعمًا يفتك بالعقول والقلوب قبل الأرض، فالاحتلال لم يعد يعتمد فقط على القوة المسلحة، ولهذا فإن مقاومة هذا المشروع تبدأ من الوعي، وحماية الهوية، وتمتين المناعة النفسية والثقافية، لأن ما لا نرفضه اليوم بوضوح سنعتاده غدا بصمت، على حد تعبيره.


الجزيرة
منذ 12 ساعات
- الجزيرة
مظاهرات غاضبة في عدة دول احتجاجا على تجويع غزة
شهدت عدة مدن حول العالم مظاهرات حاشدة وغاضبة احتجاجا على سياسة التجويع التي تمارسها إسرائيل بحق سكان قطاع غزة ، والتنديد بالدعم الأميركي المستمر لحرب الإبادة الإسرائيلية. وشارك مئات التونسيين مساء السبت في فعالية أطلق عليها اسم "حصار السفارة الأميركية" بالعاصمة تونس، بدعوة من منظمات مناهضة للتطبيع. وندد المحتجون بدور واشنطن في دعم ما وصفوه بـ"حرب الإبادة والتجويع" التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة. وقرع المحتجون أواني فارغة رمزا للجوع، ووضعوا مجسمات لأطفال شهداء على الطريق، مرددين شعارات مثل "الصهاينة والأميركان شركاء في العدوان" و"مطلب واحد للجماهير: غلق السفارة وطرد السفير" و"الجريمة صهيونية والقذيفة أميركية". كذلك، خرج عشرات المواطنين في العاصمة البوسنية سراييفو بمسيرة من ميدان باسكارسييا إلى النصب التذكاري للأطفال، حاملين لافتات كُتب عليها "غزة تتضور جوعا والعالم يكتفي بالمراقبة" و"أوقفوا قتل الأطفال الأبرياء". كما قرع المشاركون أواني الطبخ رمزا للجوع المتفشي في القطاع. طلاب الجامعات ضد التجويع وفي العاصمة الموريتانية نواكشوط ، تظاهر مئات الطلاب أمام السفارة الأميركية، رافعين الأعلام الفلسطينية ومرددين هتافات تندد بالمجازر والتجويع، مثل "أميركا شريكة في تجويع غزة" و"غزة تتعرض لحرب إبادة". ودعا الطلاب الجامعات في العالم العربي إلى التحرك لمساندة غزة ووقف الدعم الأميركي لإسرائيل. وشهدت مدينة ميلانو شمالي إيطاليا، مظاهرة احتجاجية، تنديدا بحرب الإبادة المتواصلة في غزة، وللمطالبة بإنهاء سياسة تجويع سكان القطاع. وردد المتظاهرون شعارات تنتقد بشدة الحكومة الإيطالية لرفضها الاعتراف بالدولة الفلسطينية ولرفضها تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. وفي النمسا، عرقل ناشطون مؤيدون لفلسطين حفل افتتاح مهرجان سالزبورغ، رافعين لافتات "أوقفوا الإبادة الجماعية" و"أيديكم ملطخة بالدماء". وأوقِف خطاب أندرياس بابلر، نائب المستشار النمساوي وزعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بينما عبّرت المؤرخة الأميركية-البولندية آن أبلباوم في كلمتها عن صدمتها من صور الأطفال الجائعين في غزة، مطالبة إسرائيل باحترام القانون الإنساني الدولي. كما شهدت العاصمة الألمانية برلين مظاهرة دعمًا للشعب الفلسطيني، وللمطالبة بوقف إبادة جماعية في غزة، ورفع الحصار المفروض على سكان القطاع، ورفع المحتجون شعارات طالبت بوقف ألمانيا تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، ولافتات تندد بالصمت الدولي. "لا خبز في غزة ولا خجل في العالم" كذلك، نظمت منصة التضامن الإسلامي في إسطنبول مسيرة احتجاجية انطلقت من مسجد خير الدين برباروس باشا إلى مبنى القنصلية الإسرائيلية. ورفع المشاركون لافتات كُتب عليها "لا مستشفيات ولا أدوية في غزة، بل هناك مجزرة". وقرعوا الطناجر الفارغة أمام القنصلية، في مشهد رمزي لأزمة المجاعة في غزة. وشهدت مدينة فانكوفر الكندية مظاهرة للتضامن مع الشعب الفلسطيني وللمطالبة برفع الحصار عن قطاع غزة. وقد جاب المشاركون في المظاهرة شوارع المدينة حاملين أكياس القمح والطحين تعبيرا عن تضامنهم مع سكان قطاع غزة، ومؤكدين رفضهم سياسة التجويع الممنهجة التي تمارسها قوات الاحتلال بحق أكثر من مليوني فلسطيني في غزة. كما طالب المتظاهرون بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة ووقف تصدير السلاح لإسرائيل. وتعاقد المتظاهرون مع إحدى شركات الإعلان لتأجير طائرة تحمل لافتة مكتوب عليها "إسرائيل تجوّع غزة" وبالتوازي مع المظاهرات الدولية، خرج آلاف الإسرائيليين إلى الشوارع في تل أبيب مطالبين بإنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق لإعادة الأسرى. وشهدت العاصمة الإندونيسية جاكارتا تجمعات ومسيرات ومهرجانات خطابية مؤيدة للفلسطينيين. ورفع الإندونيسيون شعارات تقول "غزة تموت من الجوع" و"الموت لجيش الاحتلال". كما حمل المشاركون أوانيَ طبخ في إشارة إلى سياسة التجويع التي تتبعها إسرائيل هناك، إضافة إلى استمرار إغلاق المعابر المؤدية إلى القطاع. وتوجه المتظاهرون إلى السفارة الأميركية، داعين واشنطن إلى الضغط على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإبرام الاتفاق، حتى لو تطلب ذلك وقف العمليات العسكرية. وتأتي هذه التحركات الدولية في وقت أعلنت فيه وزارة الصحة في غزة عن استشهاد 127 فلسطينيا، بينهم 85 طفلا، جراء المجاعة وسوء التغذية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نتيجة الحصار المشدد وإغلاق المعابر ومنع دخول الغذاء والدواء. ووصفت منظمات دولية الوضع في القطاع بأنه "كارثي وغير مسبوق"، وسط استمرار إسرائيل في تجاهل قرارات محكمة العدل الدولية ونداءات المجتمع الدولي لوقف الإبادة وتجويع المدنيين.