
هكذا سيُحاسب المجرمون السابقون في سوريا
شهد يوم الأحد، 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، منعطفًا تاريخيًا في المشهد السوري مع إعلان سقوط نظام بشار الأسد، وسيطرة إدارة العمليات العسكرية، متبوعًا بتعيين حكومة تسيير أعمال مؤقتة.
يأتي هذا التحول بعد أربعة عشر عامًا من النزاع المسلح الدموي الذي بدأ مع انطلاق الحراك الشعبي السلمي في مارس/ آذار 2011، عندما خرج السوريون مطالبين بالحرية والكرامة وبناء دولة ديمقراطية تقوم على انتخابات حرة ونزيهة.
مع نهاية حقبة حكم آل الأسد التي امتدت لأكثر من نصف قرن، تواجه سوريا تحديات هائلة تتطلب إرساء أسس جديدة للعدالة والسلم الأهلي. وفي هذا السياق، تبرز العدالة الانتقالية كنهج أساسي للانتقال من مرحلة النزاع إلى مرحلة الاستقرار وبناء الدولة.
لعبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان دورًا محوريًا في توثيق الانتهاكات بشكل يومي منذ عام 2011. فقد عملت على بناء قاعدة بيانات شاملة تضم ملايين الحوادث، وأصدرت أكثر من 1800 تقرير وبيان، تضمنت تقارير يومية وشهرية تغطي سنوات النزاع. وقد شكلت هذه التوثيقات أساسًا متينًا يمكن الاستناد إليه في أي مسار للعدالة الانتقالية في سوريا.
وفقًا لتوثيق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن النزاع السوري خلّف حصيلة مروعة من الانتهاكات، تشمل:
إعلان
مقتل ما لا يقل عن 234 ألف مدني، بينهم 202 ألف قتلوا على يد قوات نظام الأسد.
توثيق 181 ألف حالة اعتقال تعسفي وإخفاء قسري، بينهم 160 ألف مختفٍ قسريًا على يد النظام، بينهم 3.736 طفلًا و8.014 سيدة.
وفاة ما لا يقل عن 45.336 شخصًا تحت التعذيب، بينهم 45.031 شخصًا على يد قوات النظام.
استخدام أسلحة مدمرة على نطاق واسع، بما في ذلك إلقاء 81.916 برميلًا متفجرًا، وتنفيذ 217 هجومًا بأسلحة كيميائية، و252 هجومًا بذخائر عنقودية، و51 هجومًا بأسلحة حارقة.
نزوح وتشريد نحو 13.8 مليون سوري، بينهم 6.8 ملايين نازح داخليًا وقرابة 7 ملايين لاجئ خارج البلاد.
هذه الإحصاءات المروعة تعكس حجم المأساة السورية وتبرز الحاجة الملحة لتبنّي مسار شامل للعدالة الانتقالية يعالج هذا الإرث الثقيل من الانتهاكات، ويضمن عدم تكرارها، ويمهد الطريق نحو بناء سوريا جديدة قائمة على أسس العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.
وهذا ما تحاول رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان للعدالة الانتقالية في سوريا تقديمه. تتميز هذه الرؤية التي صدرت قبل أيام، بكونها نهجًا شاملًا يسعى لمعالجة جذور المشكلات التي عانت منها سوريا عبر عقود، وتحقيق تحوّل نوعي في بنية الدولة السورية ومؤسساتها.
تقترح الشبكة في رؤيتها إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية تشكل المحور الرئيسي لتنفيذ برامج العدالة الانتقالية، وتتسم بالاستقلالية والشمولية والشفافية.
كما تؤكد الرؤية على ضرورة تطبيق الأركان الأربعة للعدالة الانتقالية بشكل متزامن ومتكامل، بحيث تتضافر جهود المحاسبة الجنائية مع مساعي كشف الحقيقة وبرامج جبر الضرر وإصلاح المؤسسات.
وتولي الرؤية اهتمامًا خاصًا بالمشاركة المجتمعية الواسعة في مسار العدالة الانتقالية، مع التركيز على دور الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، وأهمية التعاون الدولي كداعم أساسي للعملية، مع الحفاظ على الملكية الوطنية للمسار بأكمله.
ونحاول في هذا المقال رصد عدد من هذه الجوانب التي غطتها الرؤية، على أن نكملها في مقال لاحق.
1- الإطار المفاهيمي للعدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية في الحالة السورية هي مجموعة من الآليات القانونية وغير القانونية التي تهدف إلى معالجة الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان التي حدثت أثناء النزاع، وخاصة تلك التي ارتكبها نظام الأسد، من أجل تحقيق العدالة للضحايا، ومحاسبة المسؤولين، وتعزيز المسار نحو سلام دائم يستند إلى القانون وحقوق الإنسان.
ترتكز العدالة الانتقالية في سوريا على أربعة أركان أساسية متكاملة: أولها؛ المحاسبة الجنائية، التي تشكل حجر الزاوية لتكريس سيادة القانون وتقويض سياسة الإفلات من العقاب، مع التركيز على محاسبة القيادات العليا المتورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ثانيها؛ الحقيقة والمصالحة، التي تهدف إلى توثيق الانتهاكات، وتحديد مصير المفقودين والمختفين قسريًا (الذين يتجاوز عددهم 160 ألف شخص)، وتعزيز المصالحة المجتمعية.
ثالثها؛ جبر الضرر والتعويض، الذي يشمل التعويض المادي للضحايا وذويهم، وبرامج جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى.
رابعها ؛ إصلاح المؤسسات، خاصة القضائية والأمنية والعسكرية، لضمان عدم تكرار الانتهاكات واستعادة ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.
تُعد العدالة الانتقالية ركيزة أساسية لنجاح الانتقال السياسي في سوريا، إذ لا يمكن تحقيق استقرار مستدام دون التصدي للانتهاكات السابقة وضمان عدم تكرارها. فهي تهيئ الأرضية لنظام سياسي قائم على سيادة القانون والمساءلة، مما يعزز الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، ويفتح المجال لمرحلة جديدة قائمة على التعددية والديمقراطية.
كما أنها تسهم في معالجة الأسباب الجذرية للنزاع وتفكيك منظومات القمع والاستبداد التي سادت لعقود، مما يمنع انزلاق البلاد نحو دورات جديدة من العنف.
2- إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية
يقوم الإطار الدستوري والقانوني لهذه الهيئة على ركائز محددة، حيث يتولى المجلس التشريعي المُشكل بعد صدور الإعلان الدستوري مسؤولية وضع قانون تأسيسي ينظم مسار العدالة الانتقالية.
يستند هذا القانون إلى القوانين الوطنية والدولية، ويتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويتضمن فصولًا رئيسة تشمل التعريفات والمبادئ العامة، وهيكلية الهيئة، وآليات العدالة الانتقالية، وإصلاح المؤسسات.
تتألف هيكلية الهيئة من مجلس إدارة يضم خبراء قانونيين وممثلين عن المجتمع المدني والضحايا، وأمانة عامة تعمل كجهاز تنفيذي، تشمل فرقًا إدارية وقانونية، ومالية، وإعلامية، وتقنية.
كما تضم الهيئة مكاتب محلية في كافة المحافظات السورية، وقسمًا للعلاقات الدولية يتولى التنسيق مع الجهات الدولية، وقسمًا للمراقبة والتقييم.
وتتمتع الهيئة بصلاحيات واسعة تشمل استدعاء الشهود، وجمع الأدلة، والاطّلاع على الوثائق الرسمية والخاصة، والتحقيق في الانتهاكات، والطلب من القضاء إصدار أوامر توقيف، مع إلزام جميع الكيانات الحكومية بالتعاون معها.
لضمان استقلالية الهيئة، ينصّ القانون التأسيسي بوضوح على استقلالها الكامل عن السلطة التنفيذية، حمايةً لها من التدخل السياسي. كما تُخصص للهيئة ميزانية مستقلة تُقرّ من قبل السلطة التشريعية، بما يضمن عدم تبعيتها ماليًا للسلطة التنفيذية.
وعلى الرغم من استقلالها عن وزارة العدل، تعمل الهيئة في ظل النظام القضائي السوري، متولية مهام الكشف عن الحقيقة وتوثيق الانتهاكات وتعويض الضحايا، والمساهمة مع السلطة القضائية في تشكيل محكمة خاصة لمحاسبة مرتكبي الجرائم الجسيمة.
فيما يتعلق بمعايير اختيار أعضاء الهيئة، تُعتمد الكفاءة والنزاهة أساسًا، حيث يجب أن يمتلك الأعضاء خبرة واسعة في مجالات حقوق الإنسان أو القانون، مع سجل نظيف من أي تورط في الفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان.
كما يراعى التنوع والتمثيل، بحيث تعكس الهيئة تنوّع المجتمع السوري من حيث الجنس والعرق والدين والخلفية الجغرافية، مع ضرورة استقلال الأعضاء عن الأحزاب السياسية والفصائل المختلفة.
أما آلية التعيين، فتبدأ بتشكيل لجنة توصية تضم خبراء مستقلين وممثلين عن القضاء والمجتمع المدني والضحايا، لترشيح الأسماء المقترحة، ثم انتخاب عشرة منهم لتشكيل مجلس إدارة الهيئة، الذي يتولى بدوره تعيين واختيار فريق العمل وفق معايير الكفاءة والخبرة، مع مراعاة تمثيل الجهات المعنية بالعدالة الانتقالية وعلى رأسها الضحايا.
3- المحاسبة الجنائية
تشكل المحاسبة الجنائية حجر الزاوية في عملية العدالة الانتقالية، إذ تلعب دورًا محوريًا في تكريس سيادة القانون، وتقويض سياسة الإفلات من العقاب التي سادت خلال حكم الأسد.
وقد حدّدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان نهجًا واضحًا لتحديد الأولويات في المحاسبة، يركّز على القيادات العليا من الصفَّين الأول والثاني في الجيش وأجهزة الأمن، باعتبارهم المسؤولين الرئيسين عن وضع خطط الانتهاكات والإشراف على تنفيذها.
ويمثل هذا النهج إستراتيجية واقعية للتعامل مع التحديات اللوجيستية والمالية التي تواجه عملية المحاسبة الشاملة، مع ضمان فتح المجال أمام الضحايا لرفع دعاوى قضائية ضد المسؤولين المباشرين عن معاناتهم، بغض النظر عن رتبهم أو مناصبهم.
يتطلب تحقيق المحاسبة الجنائية إطارًا قانونيًا خاصًا، نظرًا لعدم توافق القوانين المحلية السابقة مع المعايير الدولية، وافتقارها إلى أحكام واضحة لمعالجة الجرائم الكبرى.
لذا، تقترح الرؤية إنشاء لجان قانونية مختصة مؤلفة من خبراء محليين ودوليين لصياغة قوانين جنائية جديدة، تشمل تعديلات جوهرية مثل: إدراج تعريفات واضحة للجرائم الدولية كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إلغاء القوانين التي توفر الحصانة للمسؤولين، تطوير تشريعات تتيح محاكمة الجرائم بأثر رجعي، وضع قوانين تحدد صلاحيات المحاكم المكلفة بالنظر في الانتهاكات الجسيمة، وضمان الحماية القانونية للضحايا والشهود.
كما تدعو الرؤية إلى التصديق على نظام روما الأساسي أو قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 12(3)، بما يسمح للمحكمة بالتحقيق في الجرائم المرتكبة منذ مارس/ آذار 2011.
تلعب لجان تقصي الحقائق دورًا محوريًا في جمع الأدلة الجنائية اللازمة للمحاسبة، من خلال الوصول إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية لجمع الملفات والوثائق التي تكشف عن هويات المعتقلين والمختفين قسريًا وضحايا التعذيب.
تشمل هذه المؤسسات الأفرع الأمنية والسجون، دوائر السجل المدني، المشافي العسكرية والمدنية، المحاكم والدوائر القضائية، ومراكز رعاية الأيتام.
كما تقوم اللجان بتحليل البيانات، وإجراء تحقيقات ميدانية، وإعداد تقارير مفصلة تتضمن نتائج التحقيقات وتحديد المسؤولين المحتملين عن الانتهاكات، مع تقديم توصيات للإصلاح والمساءلة.
وتعتمد هذه اللجان على مبادئ الاستقلال والنزاهة والتعاون مع منظمات المجتمع المدني والشفافية والمشاركة العامة، مع الاستفادة من خبرات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي وثّقت الانتهاكات.
نظرًا لفقدان القضاء السوري استقلاليته ومحدودية موارده، تقترح الرؤية تشكيل محاكم خاصة مختلطة متخصصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
تتميز هذه المحاكم بكونها هيئات قضائية مؤقتة، تجمع بين العناصر الوطنية والدولية، مما يوازن بين الملكية المحلية والمعايير الدولية. يتم إنشاؤها على الأراضي السورية بواسطة النظام القضائي المحلي بالتعاون مع خبراء دوليين، وتتكون من قضاة ومحامين سوريين موثوقين وخبراء دوليين.
تعمل هذه المحاكم بشكل مستقل تمامًا عن السلطة التنفيذية، وتخضع للرقابة المدنية من قبل منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام، مع العمل ضمن إطار قانوني محلي يحترم المعايير الدولية.
لملاحقة المسؤولين الفارين خارج البلاد، تقدم الرؤية مجموعة من الآليات الدولية، منها: طلب التعاون الدولي استنادًا إلى معاهدات دولية كاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد أو اتفاقيات تسليم المجرمين، الاستفادة من مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي تعتمده بعض الدول ويسمح لها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الدولية حتى إذا ارتُكبت خارج أراضيها، واستخدام الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لتسليم المطلوبين.
تواجه هذه الآليات تحديات متعددة، أبرزها احتمالية فرار المتهمين إلى دول ترفض تسليمهم، وغياب الالتزام القانوني للدول بالتسليم في حال عدم وجود اتفاقيات، وبطء الإجراءات الدولية.
لمواجهة هذه التحديات، توصي الرؤية بتعزيز الضغوط الدولية، التفاوض على اتفاقيات ثنائية جديدة للتسليم، ممارسة ضغوط اقتصادية ودبلوماسية على الدول المؤوية للمتهمين، وتقديم أدلة قوية تدينهم أمام المحاكم الدولية.
4- الحقيقة والمصالحة
يمثل كشف الحقيقة ركنًا أساسيًا في مسار العدالة الانتقالية، كونه يساهم في معالجة إرث الانتهاكات وبناء الثقة المجتمعية، مما يمهّد الطريق نحو المصالحة الوطنية.
توثيق الانتهاكات وتحديد مرتكبيها يكتسب أهمية بارزة في السياق السوري لعدة أسباب، أبرزها: الكشف عن حقيقة الانتهاكات وآثارها المجتمعية، تحديد المسؤولين سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، رأب الصدوع المجتمعية، وبناء ذاكرة وطنية جامعة.
تتطلب هذه العملية جمع شهادات من جميع الأطراف، بمن في ذلك المتورطون في الانتهاكات، مما يساعد في فهم البنية التنظيمية للانتهاكات وبناء السرد التاريخي وتخفيف الضغط عن النظام القضائي، إضافة إلى دعم المصالحة والشفاء المجتمعي.
ولمواجهة التحديات في هذا المسار، تقترح الرؤية تطبيق نظام العفو المشروط للأفراد الذين يعترفون بمسؤوليتهم ويقدمون معلومات قيمة، وإتاحة خيارات السرية للشهادات، وتنظيم جلسات استماع عامة خاضعة لضوابط، واعتماد نهج يركز على الضحايا.
بعد سقوط النظام السابق وفتح مراكز الاحتجاز، تقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن أكثر من 160.123 شخصًا لا يزالون قيد الاختفاء القسري على يد النظام السابق، إضافة إلى ما لا يقل عن 16.898 مختفيًا قسريًا على يد بقية أطراف النزاع.
يشكل الكشف عن مصير هؤلاء المفقودين ركيزة أساسية في مسار الحقيقة، ويستلزم تشكيل لجان متخصصة تضم خبراء في التحقيقات الجنائية، الطب الشرعي، علماء الجينات والأنثروبولوجيا، إضافة إلى ممثلين عن المنظمات الدولية المختصة مثل المؤسسة المستقلة للمفقودين (IIMP) واللجنة الدولية لشؤون المفقودين (ICMP).
تعمل هذه اللجان بالتعاون مع السلطات الوطنية، المنظمات الحقوقية، الهيئات القضائية، وروابط الضحايا وذوي المختفين قسريًا، مما يضمن شمولية العملية وفاعليتها.
تشكل المقابر الجماعية نقطة انطلاق رئيسة لعمل لجان البحث عن المفقودين، إذ تم الكشف بعد سقوط النظام عن عشرات المواقع التي تحوي رفات المختفين قسريًا الذين قتلوا تحت التعذيب.
تتضمن خطوات التعامل مع هذه المواقع: حمايتها فورًا باعتبارها مسارح جريمة، إجراء البحث الميداني المنهجي وفق بروتوكولات دولية معتمدة، جمع الأدلة الجنائية لدعم التحقيقات، توثيق البيانات بدقة، إجراء تحقيقات شاملة تستند إلى المعايير الدولية، تحديد هويات الضحايا باستخدام تقنيات متطورة كتحليل الحمض النووي، والتواصل المستمر مع ذوي الضحايا ثم تسليمهم الرفات لدفنه بطريقة لائقة.
تلعب لجان الحقيقة دورًا محوريًا في تعزيز المصالحة المجتمعية، إذ تتجاوز المحاسبة الجنائية لتشمل آليات محلية تعالج المظالم وتبني الثقة. تشرف هذه اللجان على تشكيل مجالس عرفية ولجان مصالحة في المحافظات السورية، تضم وجهاء المجتمع وشخصيات قيادية ورجال دين، وتعمل على تسوية النزاعات المحلية، إعادة الحقوق إلى أصحابها، تعزيز المصالحة المجتمعية، ضمان الاعتذار والاعتراف بالمسؤولية، نشر ثقافة السلم الأهلي، وإعادة دمج المتضررين في المجتمع.
ويمكن الاستفادة من تجارب المجتمعات العشائرية في سوريا التي طورت آليات للصلح تشمل المسامحة ودفع الدية وتقديم الاعترافات العلنية.
تشكل هذه المحاسبة المحلية نهجًا رديفًا للمحاسبة الجنائية، يشجع الجناة الأقل تورطًا على الاعتراف والمشاركة في إصلاح الأضرار، مما يعزز العدالة التصالحية ويساهم في بناء آليات مستدامة لحل النزاعات ومنع دورات جديدة من العنف الانتقامي.
برامج جبر الضرر والتعويض
تُشكل برامج جبر الضرر والتعويض عنصرًا حيويًا في مسار العدالة الانتقالية السورية، وذلك لمعالجة الأضرار الهائلة التي خلفها النزاع والتي وثقتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بما فيها مقتل أكثر من 234 ألف مدني، واختفاء نحو 177 ألف شخص قسريًا، ووفاة أكثر من 45 ألف شخص تحت التعذيب، وتشريد نحو 13.8 مليون سوري.
تتنوع آليات التعويض المادي للضحايا وذويهم لتشمل: منح مادية مباشرة تُصرف دفعة واحدة أو على شكل رواتب طويلة الأجل للأرامل والأيتام، خدمات تفضيلية كالرعاية الصحية والتعليم المجاني، إعادة حقوق الملكية من خلال لجان محلية متخصصة لحل النزاعات على الممتلكات، تمويل مشاريع الإسكان عبر منح أو قروض بدون فوائد، دعم إعادة التأهيل الاقتصادي للأفراد، برامج تعويضات جماعية للمجتمعات المتضررة، تعويضات لخسائر الدخل، وتأهيل البنى التحتية في المناطق المتضررة.
إلى جانب التعويضات المادية، تُولي الرؤية اهتمامًا كبيرًا لبرامج جبر الضرر المعنوي وتخليد الذكرى، التي تساهم في تضميد جراح الضحايا والاعتراف بمعاناتهم واستعادة كرامتهم.
تشمل هذه البرامج: إعادة تأهيل الضحايا نفسيًا واجتماعيًا، تقديم الدعم القانوني لمساعدتهم في المطالبة بحقوقهم، إنشاء نصب تذكارية كبرى في المناطق الأكثر تضررًا ونصب محلية مصغرة، تخصيص أيام تذكارية وطنية مصحوبة بفعاليات عامة ومعارض، إنشاء متاحف ومراكز توثيق تعرض شهادات الضحايا والصور، تطوير أرشيفات رقمية، إطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة، تنظيم فعاليات ثقافية تخلد ذكراهم، تشجيع الاعتذارات العلنية والاعتراف بالتضحيات، إدماج إرث الثورة في المناهج التعليمية، وتنظيم عمليات شاملة لإحياء الذكرى بمشاركة أسر الضحايا والمجتمع المدني.
لتنفيذ هذه البرامج، تقترح الرؤية تشكيل لجان متخصصة للتعويض وجبر الضرر، تضم ممثلين حكوميين وقضاة وحقوقيين، ممثلين عن المجتمع المدني، ممثلين عن الضحايا وذويهم، ومستشارين دوليين؛ لضمان تنفيذ العملية وفق المعايير الدولية.
تتولى هذه اللجان تحديد الفئات المستهدفة بالتعويضات، أنواع الأضرار القابلة للتعويض، وضع آليات لتقدير حجم الضرر والتعويض المناسب، تصميم هيكلية للتعويضات تشمل التعويضات الفردية والجماعية والخدماتية، وتحديد كيفية توزيع التعويضات ضمن إطار زمني محدد.
ولتحديد قيمة التعويضات بشكل عادل، يجب التعاون مع المحكمة الجنائية الخاصة والاستفادة من توصيات لجان الحقيقة، مع أهمية التشاور مع المجتمعات المتضررة، وضمان احترام كرامة الناجين، وفرض آليات رقابة صارمة تضمن نزاهة وشفافية العملية.
تواجه برامج التعويض تحديات كبرى، أبرزها نقص الموارد المالية في ظل الدمار الاقتصادي الشامل الذي خلفه النظام السابق. لمواجهة هذا التحدي، تقترح الرؤية عدة إستراتيجيات: إقامة شراكات دولية مع مؤسسات مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، اعتماد آليات تمويل مبتكرة كإنشاء صندوق ائتمان خاص، الاستفادة من الأصول والأموال المصادرة من مرتكبي الانتهاكات، الحجز على أموال رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق، الربط بين التعويض ومشاريع إعادة الإعمار، وتشجيع المساهمات المحلية والدولية.
كما تواجه البرامج تحديات أخرى كالتفاوت في توزيع التعويضات، والتعقيدات القانونية، والخلافات المجتمعية. لمواجهة هذه التحديات، توصي الرؤية بوضع معايير واضحة وعادلة للتعويضات، إجراء مسح شامل للأضرار، تعزيز الشفافية وإشراك الضحايا، تنويع خيارات التعويض، تطبيق نهج تدريجي ومرن، إنشاء هيئات قانونية متخصصة، وتنفيذ برامج حوار مجتمعي لتعزيز قبول عملية التعويض.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
من أسرار التاريخ.. لماذا اغتال بيبرس السلطان قُطز؟
كثيرة هي حوادث التاريخ التي اختلف المؤرخون حول أسبابها ونتائجها، وبعضها حتى يومنا هذا غامض في أسبابه ونشأته، وفي تاريخنا الوسيط العديد من هذه الحوادث، وخاصة الاغتيالات السياسية الكبرى مثل مقتل السلطان المظفّر قُطز في نشوة انتصاره على المغول وطردهم من بلاد الشام وتحريرها منهم، وتأسيس عهد جديد ستدخل فيه المنطقة إلى فترة من الاستقلال والأمن والازدهار. وكان من الأغرب أن نَصيره وعضده ومن تصالح معه قُبيل معركة عين جالوت وهو الأمير سيف الدين بيبرس البندقداري سيكون قاتلَه، بل وسيصبحُ السلطان الجديد لدولة المماليك، وهو الذي وصفه المؤرخون بالمؤسس الثاني لهذه السلطنة الممتدة من وسط الأناضول وجنوبها إلى بلاد الشام والحجاز ومصر وحتى حدود النوبة. ولهذه الحادثة قصة لا بد من الوقوف عندها وتأمل أسبابها، وآراء المؤرخين فيها، فإذا كان العديد منهم -قديما وحديثا- يعتبرون أسبابها غامضة وغير مفهومة، فإن آخرين استذكروا حوادث التاريخ، وتتبعوا العلاقة بين الرجلين القاتل والمقتول من قديم، وقدّموا بعض الإجابات المهمة في هذا المضمار. من عين جالوت إلى الاغتيال في أعقاب الانتصار الحاسم في معركة عين جالوت، التي وقعت يوم 25 رمضان 658هـ/ سبتمبر 1260م، وتمكّنت فيها القوات المملوكية بقيادة السلطان قُطز من كسر الزحف المغولي والتقدم نحو قلب بلاد الشام، سارع السلطان إلى استثمار هذا التفوق العسكري وتوجه مباشرة إلى دمشق. وكان لاستقباله في المدينة وقعٌ خاصٌّ لدى سكانها، الذين تنفّسوا الصعداء بعد 7 أشهر من الاحتلال المغولي القاسي، والذي وجدوا فيه من الذل والمهانة ما نقلته مصادر تلك الحقبة. وقد أمضى السلطان قُطز في دمشق قرابة أسبوعين، في مهمة هدفت إلى إعادة النظام وترميم الجهاز الإداري الذي انهار تحت وطأة الاحتلال المغولي، وقد وصف المؤرخ بدر الدين العيني في كتابه "عِقد الجُمان" ما قام به قُطز من إصلاحات بالقول: "فنظر في أحوال البلاد، وحسم مواد الفساد، وحدّد إقطاع الإقطاعات بمناشيره"، وهي إشارة إلى تعميماته الرسمية التي أعادت تنظيم الحقوق الإقطاعية والسلطة المحلية في سوريا. وبعد استقرار الأوضاع في بلاد الشام على المستويات الأمنية والعسكرية والإدارية، وبعد غياب دام قرابة شهرين عن القاهرة، اتخذ السلطان المظفر قُطز قراره بالعودة إلى مصر، دون أن يستكمل حملته شمالاً نحو حلب، المدينة الكبرى ذات الأهمية الاستراتيجية. وقد أثار هذا التراجع المفاجئ تساؤلات عدد من المؤرخين، من أبرزهم القاضي والمؤرخ عز الدين بن شداد (ت 684هـ) الذي علّق على القرار في سياق تأريخه لوقائع حكم السلطان بيبرس. ينقل ابن شداد في سرده ما يفيد أن قُطز كان في نيته التوجّه إلى حلب "ليكشف أحوالها، ويُزيح أعدارها من خراب التتار"، غير أن تقارير وصلت إليه تفيد أن الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري وعددا من أمراء المماليك البحرية من فرقة الصالحية، وهم المنتسبون إلى السلطان الصالح أيوب، "متنكرون له، ومتغيّرون عليه"، ما دفعه إلى العدول عن حملته ومباشرة العودة إلى مصر. ويضيف ابن شداد: "فصرف وجهه إلى ناحية الديار المصرية، وهو أيضًا مُضمر لهم الشر، وربّما أسرّ ذلك لبعض خواصّه"، ما يُلمح إلى حالة من التوتر المتبادل وسيناريو أزمة سياسية وعسكرية وشيكة. ويختم ابن شداد قوله: "فبلغ ذلك الأمير ركن الدين البندقداري، فخرجوا من دمشق، وكل واحد منهما محترز من صاحبه"، في إشارة واضحة إلى انعدام الثقة بين الطرفين وتوجس كل منهما من الآخر. تُسلّط رواية المؤرخ عز الدين بن شداد الضوء على بُعد بالغ الأهمية في المشهد السياسي والعسكري لما بعد معركة عين جالوت، إذ تكشف خفايا العلاقة المتوترة بين السلطان قطز وبعض الأمراء المماليك، سواء من فئة البحرية الصالحية أو حتى من زملاء السلطان من المماليك "المعزية" الذين انتموا مثله إلى خدمة السلطان السابق المعز أيبك وانتسبوا إليه. وتدلّ تفاصيل الرواية على أن حادثة اغتيال قطز فيما بعد لم تكن مجرد فعل مفاجئ أو نتيجة نزاع عابر في اللحظة التي قُتل فيها في مدينة القُصير القريبة من الصالحية شمال شرقي مصر، بل كانت ثمرة لتراكم من التوجس والاحتكاك السياسي، وربما حتى لمخطط مسبق بين بعض الأمراء النافذين. وكما يقول ابن شداد، فإن قطز نفسه كان "مضمرًا لهم الشر، وربما أسرّ ذلك لبعض خواصّه"، ما يشير إلى شعوره المبكر بالخطر الكامن في دوائر الحكم حوله. مقتل قطز في نظر مؤرخي عصره تعددت الروايات التاريخية حول الدوافع الكامنة وراء مقتل السلطان سيف الدين قطز على يد الأمير بيبرس وعدد من الأمراء المماليك الصالحية، ممن خدموا في عهد السلطان الصالح أيوب. وتتنوع هذه الروايات بحسب المنظور الذي ينطلق منه كل مؤرخ. ومن أبرز هذه التفسيرات ما يورده المؤرخ ابن أيبك الدواداري، الذي يُعَد من مؤرخي العصر المملوكي المقربين من دوائر الحكم، وله كتاب جامع وموسوعي هو "كنز الدرر وجامع الغُرر"، حيث يُرجع الأمر إلى مشهد مشين وقع أثناء معركة عين جالوت، حين فرَّ بعض المماليك البحرية الصالحية المقرّبين من بيبرس من ساحة القتال في مواجهة المغول، وهو ما أثار غضب السلطان قطز بعد النصر، فواجههم بعنف، يقول الدواداري: "فوبّخهم، وشتمهم، وتوعّدهم". ومنذ تلك اللحظة وبحسب روايته، بدأت ملامح الانقسام والعداوة تظهر علنا، "فأضمروا له السوء، وحصلت الوحشة منذ ذلك اليوم، ولم تزل الأحقاد والضغائن تتراءى في صفحات الوجوه وغمزات العيون، وكل منهم يترقب من صاحبه الفرصة". أما المؤرخ المملوكي الآخر بيبرس الدواداري المنصوري، الذي يُعد من أقرب شهود العصر إلى مجريات الأحداث في كتابيه "التحفة الملوكية في الدولة التركية" و"زُبدة الفكرة في تاريخ الهجرة"، فيرى أن اغتيال السلطان قطز لم يكن نتاج خلاف عابر أو رد فعل متسرع على توبيخ بعد المعركة، كما ذهب إلى ذلك ابن أيبك الدواداري، بل هو نتيجة لصراع طويل ومتجذر تعود أسبابه الأولى إلى عهد السلطان السابق عز الدين أيبك التركماني. فبحسب رواية المنصوري، فإن قطز كان مشاركا أساسيا في مقتل الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، أحد كبار قادة المماليك الصالحية، وهو زعيم كان صاحب نفوذ وكلمة ومنافس على العرش المملوكي، ويدين له بيبرس وبقية الأمراء الصالحية بالمودة والزمالة، الأمر الذي خلّف عداء دفينا في نفوس المماليك البحرية الذين اضطروا إلى الهرب والتشتت إثر تلك الحادثة خوفا على أنفسهم، ليستتب الحكم للسلطان المعز أيبك أستاذ قُطز وسيده. ويورد بيبرس المنصوري هذه الخلفية بقوله: "وذلك أنه (أي قطز بعد عين جالوت) رحل من دمشق عائدًا إلى الديار المصرية، وفي نفوس البحرية منه ومن أستاذه ما فيها لقتلهما الفارس أقطاي، واستبدادهما بالملك، وإلجائهم إلى الهرب والهجاج، والتنقل في الفِجاج، إلى غير ذلك من أنواع الهوان التي قاسوها، والمشقات التي لبسوها". ثم يكشف المنصوري أن التقارب والتصالح بين المعزّية وسيدهم السلطان قُطز، وبين المماليك الصالحية بزعامة بيبرس قُبيل معركة عين جالوت الفاصلة؛ كان مجرد صلح تكتيكي مؤقت، أملاه الموقف العصيب، والعدو المشترك المتمثل في المغول، حيث يقول: "وإنما انحازوا إليه لما تعذّر عليهم المقام بالشام، والتناصر على صيانة الإسلام، لا لأنهم أخلصوا له الولاء، أو رضوا له الاستيلاء". إذن تشير هذه الرواية إلى أن العداء بين قطز والمماليك الصالحية لم يكن طارئًا بل كان ممتدًا منذ سنوات، وقد وجد أولئك الأمراء اللحظة المواتية للثأر في طريق عودة السلطان إلى مصر. ويرجّح المؤرخ الشهير تقي الدين المقريزي في العديد من كتبه وعلى رأسها "السلوك لمعرفة دول الملوك"، أن جذور اغتيال السلطان سيف الدين قطز تعود إلى توتر علاقته بالأمير بيبرس، ويُرجِع السبب المباشر إلى رفض السلطان منح نيابة حلب لبيبرس، قائلاً: "فأضمرها في نفسه، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً". غير أن هذا التفسير، على وجاهته، لا يعبّر إلا عن جانب من مشهد أكثر تعقيدا وتشابكا، فمقتل قطز لا يمكن قراءته فقط كنتاج لخلاف على منصب، بل يجب فهمه ضمن سياق سياسي ممتد يعود إلى حقبة السلطان المعز أيبك، الذي استهدف المماليك البحرية الصالحية، وقضى على زعيمهم أقطاي، مما أفضى إلى ترسيخ سلطة المماليك المعزية، وعلى رأسهم قطز نفسه، وهكذا تبلورت قطيعة عميقة بين الفريقين، ظلت كامنة حتى وجدت فرصتها للانفجار عند الحدود المصرية، بعد نصر عين جالوت. ظل التوتر قائما بين المماليك المعزية والمماليك البحرية حتى فرض الغزو المغولي الوشيك على مصر لحظة إجبارية للوحدة، إذ اضطر الفريقان إلى الاصطفاف في خندق واحد لمواجهة الخطر الداهم. ويؤكد ذلك ما أورده المؤرخ العيني في "عقد الجمان" حين أشار إلى أن المماليك البحرية الصالحية (هنا كلام ناقص فالجملة غير مكتملة الأركان) للنصرة الإسلام والمسلمين، وليس للصلح معه والولاء له. لكن هذا التحالف المؤقت لم يصمد بعد زوال التهديد الخارجي، فبانتصار المسلمين في عين جالوت اختفى مبرر الوحدة، ليظهر العداء الكامن إلى السطح، ويتوّج في النهاية باغتيال السلطان قطز على يد بيبرس، أحد أبرز قادة المماليك الصالحية. وفي هذا السياق، يورد المؤرخ ابن أبي الفضائل القبطي المصري في كتابه "النهج السديد والدر الفريد في ما بعد تاريخ ابن العميد" تعليقا دالا يعكس حالة القلق العامة عقب مقتل قطز، حيث قال: "فلحِق الناس خوف عظيم من عودة المماليك البحرية إلى ما كانوا عليه من الفساد"، وهي إشارة نكشف منها أن المماليك الصالحية كان يهمهم في فترات الاضطرابات مصالحهم الخاصة. على أية حال، قُتل قُطز، وأُسقط في يد المماليك المعزية؛ لأنهم لم يستطيعوا عمليا أن يمنعوا اعتلاء بيبرس عرشَ دولة المماليك ويثأروا لمقتل زميلهم "خشداشيهم" السلطان قُطز، ولهذا السبب يروي المؤرخ ابن إياس أنه "لما تم أمر بيبرس في السلطنة، رسم بإحضار المماليك البحرية الذين كانوا منفيين في البلاد"، وهو ما يكشف عن حرص السلطان الجديد على ترسيخ سلطته بإعادة أصدقائه القدامى وأهل الثقة الذين لن يخونوه. وفي موضع آخر، يشير ابن إياس والمقريزي إلى محاولة اغتيال تعرض لها بيبرس من قِبل بعض المماليك المعزية فور عودته إلى القاهرة، ما أدى إلى قتل عدد منهم، وسجن ونفي آخرين. وتؤكد هذه الشهادات التاريخية أن اغتيال السلطان قطز لم يكن فعلا طارئا أو نزوة شخصية من بيبرس، بل جاء في سياق خصومة مستحكمة بين جناحين قويين من المماليك: البحرية الصالحية التي مثّلها بيبرس، والمعزية التي انتمى إليها قطز، وهو ما يجعل مقتل الأخير نتيجة منطقية لصراع طويل بلغ ذروته عقب انتصار عين جالوت. مقتل قطز في نظر المؤرخين المعاصرين والأجانب يرى المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم أن التفسير الأقرب لمقتل قطز هو ما أورده المؤرخ بيبرس الدواداري، الذي يُرجع الحادث إلى صراعات قديمة تعود جذورها إلى حقبة السلطان عز الدين أيبك. فبحسب هذا الطرح، لم يكن قطز مجرد قائد عسكري فحسب، بل كان رأس حربة في تصفية فارس الدين أقطاي، أحد أبرز قادة المماليك الصالحية، وملاحقة رفاقه من المماليك البحرية، الذين اضطروا بعد ذلك للفرار إلى الشام وقضاء سنوات في المنفى تخللتها معارك واعتقالات وملاحقات، وكان لقطز دور فيها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ويلفت الدكتور قاسم النظر إلى أن رابطة "الخشداشية" -أي الزمالة في مدرسة المماليك العسكرية- كانت ذات وزن عاطفي وتنظيمي بالغ، بحيث تحوّلت لدى بيبرس ورفاقه إلى دافع انتقام مضاعف؛ ثأرًا لأقطاي، وانتقامًا لما لحق بهم من إذلال في المنافي، ليغدو اغتيال قطز، في هذا السياق، استعادة رمزية وسياسية لكرامتهم ونفوذهم المهدور. ومن اللافت أن المؤرخ الأميركي الإسرائيلي روفين أميتاي في كتابه "المغول والمماليك"، اعتبر اغتيال السلطان قُطز حادثة غامضة، يقول: "ما زالت الملابسات الدقيقة لاغتيال قطز وما تلاه من أحداث غير واضحة تمامًا، لكن النتيجة النهائية كانت إعلان بيبرس سلطانا على مصر". هذا مع اعتراف أميتاي أن هناك أسبابا قديمة أدت إلى تطور هذه العداوة، وقيادة بيبرس بنفسه عملية اغتيال قُطز قرب الصالحية في الشرقية. أما المؤرخ البريطاني روبرت إيروين في كتابه "الشرق الأوسط في العصور الوسطى.. السلطنة المملوكية المبكرة"، فيرى أن اغتيال قُطز لم يكن نتيجة لحادثة مفاجئة، بل كان تتويجًا لصراعات طويلة الأمد بينه وبين الأمير بيبرس، كما يشير إلى أن قُطز رفض تعيين بيبرس حاكمًا لحلب، مما أدى إلى تفاقم التوتر بينهما. وعلى الرغم من أن المصادر المملوكية تنسب عملية الاغتيال إلى بيبرس، فإن إيروين يوضح أن القتلة كانوا مجموعة متنوعة من الأمراء، بعضهم من المماليك المعزية، ويرى أن سبب اشتراك فريق من الأمراء والمماليك المعزّية -وهم زملاء قُطز في هذه المؤامرة- كان انتقاما منهم بسبب عزل قطز لابن سيدهم السلطان الصغير علي بن المعز أيبك من السلطنة واستئثاره بها. ومهما يكن، ورغم تعدد الروايات التاريخية واختلاف التحليلات حول الأسباب التي قادت إلى مقتل السلطان سيف الدين قطز، فإن جوهر شخصيته العسكرية والسياسية يبقى ثابتا في ضوء ما أنجزه في واحدة من أهم لحظات التاريخ الإسلامي والإنساني، فقد قاد قطز جموع المماليك والعرب المتطوعة بقوة وصبر نادرين، ليواجه التهديد المغولي الذي بدا حينها غير قابل للهزيمة، وساهم بانتصاره في عين جالوت ليس فقط في إنقاذ بلاد الإسلام، بل في درء خطر اجتياحٍ محتملٍ كان يهدد الحضارة الغربية ذاتها. لقد أظهر قطز براعة استراتيجية وحسن تدبير منذ اللحظة التي تولى فيها مسؤولية الدولة المملوكية بعد وفاة أستاذه المعز أيبك، مرورًا بفترة الفوضى السياسية في مصر والشام، ويمكننا إلى حد ما، تفهّم الدوافع التي دفعت بيبرس والمماليك الصالحية البحرية بل وبعض المعزية إلى الحقد على قطز، فقد كان الأخير أحد أبرز من ساهموا في قتل زعيمهم فارس الدين أقطاي، كما كان له دورٌ رئيسي في تشتيت صفوفهم بعد ذلك. ومع ذلك، فإن ما يثير التساؤل الجاد هو موقف بعض المماليك المعزّية، زملاء قطز في العسكرية والولاء، الذين شاركوا في اغتياله رغم كونه قائد الانتصار الساحق على المغول، أخطر أعداء الإسلام آنذاك، فكيف يُعقل أن يتحول الحقد الشخصي أو الغيرة السلطانية إلى خيانة للسلطان المظّفر قطز واللحظة التاريخية، وعقب نصرٍ غير مسبوق أنقذ مصر والعالم الإسلامي من الإبادة؟


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
ضحايا العنف الطائفي بالذاكرة.. مبادرة سورية للسلام من جرمانا
دمشق- أقامت مبادرة "الطائفة السورية"، بالتعاون مع هيئات ومنظمات أهلية من مدينة جرمانا ، نقاشا مفتوحا بشأن عدد من القضايا الاجتماعية والوطنية، استكمالا لجهودها في تعزيز السلم الأهلي والعيش المشترك بين السوريين. واستهل وفد المبادرة اللقاء، الذي عُقد أمس الجمعة في صالة أفراح بمدينة جرمانا شرقي العاصمة دمشق ، بتقديم العزاء لأهالي الضحايا الذين قُتلوا في الاشتباكات التي شهدتها المدينة نهاية أبريل/نيسان الماضي. وعبر مدير المبادرة منذر رساس عن حزنه الشديد إزاء "الأحداث الأمنية المؤسفة" التي وقعت في المدينة، متمنيا أن تكون الأخيرة من نوعها، معتبرا أن "جرمانا تمثل نموذجًا مصغرا لسوريا، ولا يليق بها ما حدث". وكانت جرمانا قد شهدت اشتباكات عنيفة بين فصائل محلية وجهة مسلحة مجهولة حاولت اقتحام المدينة، مما أدى إلى مقتل عنصرين من الأمن العام و6 من أبناء المدينة، وذلك عقب انتشار تسجيل صوتي مسيء للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، نسب خطأ إلى أحد مشايخ الطائفة الدرزية. نبذ الطائفية وشارك في النقاش المفتوح عدد من أعضاء المبادرة إلى جانب أهالي الضحايا، ومشايخ ووجهاء المدينة، بحضور رئيس البلدية وهيب حمدان. وتناول النقاش عدة محاور، أبرزها أحداث جرمانا الأخيرة وأثرها على التماسك الاجتماعي في سوريا ، وتصاعُد الخطاب الطائفي على وسائل التواصل الاجتماعي. وأكد المشاركون ضرورة نبذ الطائفية في سوريا، وأهمية التمييز بين "الطائفة الأسدية" التي ارتكبت جرائم بحق السوريين في إشارة إلى فلول نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد ، و"الطائفة السورية" التي يسعى الجميع إلى تحقيقها، مشددين على الدور الحيوي الذي تلعبه المبادرات الأهلية في إرساء السلم الأهلي، لا سيما في المناطق التي شهدت توترات أمنية. من جهته، قال المحامي والناشط المدني كمال الخطيب، أحد المشاركين في النقاش ومن أبناء جرمانا، إن مبادرة "الطائفة السورية" تعبّر عن تطلعات السوريين نحو مستقبل قوي ومزدهر بعيدا عن الطائفية والمناطقية. وأضاف الخطيب، في حديثه للجزيرة نت، أن الشعب السوري بطبيعته محب وحاضن لجميع مكوناته، مستشهدا بتاريخ طويل من التعايش في مدن مثل دمشق وحلب و السويداء و اللاذقية ، مؤكدا أن سوريا كانت ولا تزال منيعة أمام التطرف، ولديها خبرة متجذرة في التعايش المشترك. المواطنة الفاعلة أما منذر رساس، مدير المبادرة، فلفت إلى أن فكرتها انطلقت من توافق بين عدد من منظمات المجتمع المدني السوري، التي رأت أن ضعف التماسك الاجتماعي يمثل أحد أبرز التحديات الحالية. وأوضح رساس -في حديثه للجزيرة نت- أن هناك حاجة ملحة لتفعيل مفهوم "المواطنة الفاعلة"، مضيفا أن "توحيد الشعب ليس مسؤولية الدولة وحدها، بل إنه واجب جماعي يجب أن يتحمله المجتمع بأكمله، وهو ما تسعى مبادرتنا لتحقيقه". وتابع قائلا "بعض القضايا لا تحل بالقوانين فقط، بل تتطلب تغيير الصور النمطية والانفتاح على الآخر، وكسر الحواجز النفسية، ومد الجسور بين أبناء الوطن". إعلان وأشار إلى أن المبادرة حرصت على الحضور في مختلف المناطق السورية، من الساحل إلى درعا و عفرين وجرمانا، وستقوم قريبا بزيارة محافظة السويداء، بهدف تقديم الدعم المادي والمعنوي. وأكد رساس أن الرسالة الأساسية التي تسعى المبادرة إلى إيصالها هي "دم السوري على السوري حرام"، داعيا إلى رفض الفتن والتفرقة، وتعزيز الروح الوطنية الجامعة. تقريب وجهات النظر وقالت لين غريواتي، إحدى المشاركات في المبادرة من مدينة حلب ، إن النقاش المفتوح يعد وسيلة مثلى لتسليط الضوء على المشكلات التي يواجهها السوريون اليوم. وأوضحت للجزيرة نت أن مشاركتها في الفعالية جاءت دعما للطلاب الدروز الذين اضطروا إلى ترك جامعاتهم في حلب وحمص بسبب الأحداث الأخيرة، إلى جانب مناقشة قضايا أخرى مثل تمكين المرأة، مؤكدة أن تغييب دورها في الماضي يجب ألا يتكرر مستقبلا. بدوره، شدد مفيد كرباج، الناشط المدني من جرمانا، على أهمية كل مبادرة تسهم في تقريب وجهات النظر بين السوريين، وإعادة تعريف الانتماء إلى الهوية الوطنية الجامعة. وقال -في حديثه للجزيرة نت- إن الهدف النهائي يتمثل في بناء دولة مدنية تحترم الدستور وتمنح الحقوق لأصحابها دون تمييز، مشيرا إلى أن الحوار هو السبيل الوحيد لحل الخلافات الداخلية.


الجزيرة
منذ 8 ساعات
- الجزيرة
هل تفعلها سوريا كما فعلتها ألمانيا وكوريا؟
حين تُرفع العقوبات، لا تُفتح فقط الأبواب أمام المال والمشاريع، بل تُطرح أسئلة عميقة: هل يمكن إعادة بناء بلد خرج بعد عقد من الحرب، دون إعادة إنتاج الأسباب التي أوصلته إلى الانهيار؟ إن ما تحتاجه سوريا اليوم ليس مجردَ إعمار للبنية التحتية، بل تعافيًا سياسيًا ومجتمعيًا يضع الأسس لدولة حديثة عادلة ومشتركة. إنّ التحولات العميقة في رواندا، وألمانيا، وكوريا، وأميركا، لا تمنحنا وصفات جاهزة، لكنها تكشف كيف يمكن للدول أن تنهض من تحت الركام إذا امتلكت إرادة جماعية ورؤية واضحة. فهي تساعدنا على تمييز ما يُصلح الدول بعد الصراع، وما يُعيدها إلى الدوامة. ومن هنا، نفهم أن الإعمار لا يبدأ من المال، بل من الإصلاح والمؤسسات. العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، خُصصت مبالغ ضخمة لإعادة الإعمار، لكن النتائج كانت كارثية. غابت الرؤية الوطنية، وهيمنت المرجعيات الدينية على المشهد السياسي، وتشكّلت مليشيات طائفية موازية لمؤسسات الدولة تُدار من الخارج، ما أدى إلى تآكل السلطة المركزية. تزامن ذلك مع انتشار واسع للفساد المالي والإداري، وغياب أي مساءلة حقيقية، مما حوّل الإعمار إلى أداة تعميق للانقسام بدل أن يكون وسيلة لتجاوزه. تجربة إعادة الإعمار بقيادة الرئيس رفيق الحريري بعد الحرب الأهلية بدت واعدة في بدايتها، لكنها افتقرت إلى استقلالية القرار الوطني، الذي كانت تهيمن عليه آنذاك أجهزة المخابرات السورية، بالإضافة إلى غياب إصلاح جذري في بنية الدولة. تركّز الجهد بشكل مفرط على دور الحريري كمحرّك للإعمار، على حساب بناء مؤسسات فاعلة ومستقلة. تم التركيز على البنيان العمراني، فيما غابت المحاسبة والشفافية، واستُبدلت الدولة بشبكات مصالح طائفية، ما أدى لاحقًا إلى انهيار شامل في مؤسسات الدولة ومقوماتها الاقتصادية. كما تكشف لنا التجارب السابقة: لا يمكن بناء دولة عادلة ما لم تتوفر مصالحة وطنية شاملة، وعدالة انتقالية، وهوية وطنية جامعة، وفي حال التغاضي عما سبق فإن أي مشروع إعمار لن يكون إلا استراحة قصيرة في طريق أزمة أعمق. تجارب النجاح: من رماد الدمار إلى نهضة الدول.. كيف نجحت رواندا وكوريا وألمانيا وأميركا؟ رواندا خرجت من إحدى أفظع الإبادات في القرن العشرين، لكنها اختارت طريق المصالحة الجماعية بدل الثأر. أنشأت محاكم شعبية (غاتشاكا)، وركزت على التعليم، وتمكين المرأة، واستخدام التقنية والحكومة الإلكترونية. فنجحت في التحول من دولة فاشلة إلى واحدة من أكثر الدول كفاءة في أفريقيا. ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، كانت البلاد مدمرة اقتصاديًا وسياسيًا. لكن تجربة مشروع مارشال فيها لم تكن ناجحة بسبب المال، علمًا بأنها ليست أكثر المستفيدين أوروبيًا منها، بل لأن الشعب الألماني امتلك مشروعًا للإصلاح وإعادة البناء. ارتبط الدعم الخارجي بحكومة شرعية، ومؤسسات منتخبة، وقانون صارم ضد الفساد. ويُعزى تميز النجاح الألماني مقارنة بدول أوروبية أخرى إلى عدة عوامل: وجود قاعدة صناعية وتعليمية متقدمة نسبيًا قبل الحرب. تمكين القيادة المحلية من إدارة الدعم بدل فرضه من الخارج. البيروقراطية الفعالة. الإرادة الشعبية الواضحة للنهوض من جديد. كوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية، كانت من بين أفقر دول العالم. لكنها اختارت طريق التنمية من خلال التعليم، والإصلاح الزراعي، والتصنيع الموجه للتصدير. بدعم من الدولة، نشأت شركات وطنية كبرى واستثمرت في الإنسان قبل البنيان، مما مهّد لتحولها إلى قوة اقتصادية عالمية. ما تعلّمناه من التحولات الكبرى الناجحة: التنمية ليست منحة خارجية، بل رؤية داخلية. إعادة الإعمار الناجحة تبدأ من الإنسان، ومن الثقة بين الدولة والمجتمع، ومن العدالة، قبل أن تبدأ من التمويل أو العقود. ما الذي تحتاجه سوريا؟ سوريا لا تحتاج فقط إلى أموال أو مؤتمرات، بل إلى رؤية وطنية جذرية تُرسي أسس الدولة الجديدة على أربعة محاور مترابطة: هيئة وطنية مستقلة لإدارة الإعمار: تتمتع بصلاحيات تنفيذية كاملة، وتخضع لمجلس رقابي متعدد التمثيل وبرلمان محترف فاعل، مما يضمن الشفافية التامة في التمويل والتنفيذ. مصالحة وطنية عميقة: لا تستند إلى تسويات فوقية، بل إلى حوار مجتمعي شامل يشمل جميع الضحايا والفاعلين، وتؤطره آليات العدالة الانتقالية والمساءلة. اقتصاد إنتاجي وتنمية متوازنة: يقوم على دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، والتعليم المهني، والزراعة والصناعة، والانتقال إلى اقتصاد حيوي لا رَيعي. سيادة وطنية وشراكات نزيهة: الانفتاح على التمويل الخارجي يجب ألا يتحول إلى وصاية سياسية، بل إلى شراكات إستراتيجية تحفظ القرار الوطني. وفي الوقت ذاته، من الضروري أن يعي كل من يعوّل على الخارج أو يراهن على تدخلاته، أن هذا الخيار لم يكن يومًا مسارًا ناجحًا لبناء الأوطان. فالتجارب القاسية في الإقليم والعالم أثبتت أن الاستقرار لا يُستورد، وأن التنمية الحقيقية لا تُبنى على انتظار الخارج، بل على إرادة الداخل. خاتمة رفع العقوبات لا يعني بالضرورة بداية التعافي، بل هو فرصة مشروطة. نجاحها يتوقف على خيارات الداخل أكثر من الخارج. سوريا اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تختار طريق رواندا، وألمانيا، وكوريا في لحظاتها التحولية، فتنهض ببطء ولكن بثقة، أو تعيد تكرار أخطاء العراق، ولبنان فتُغرق نفسها في دوامة جديدة. لكن ما تحقق حتى الآن ليس بالقليل: من التحرير العسكري لأجزاء واسعة من البلاد، إلى تعزيز الانفتاح الإقليمي، وصولًا إلى رفع العقوبات. كلها مؤشرات على أن مشروع الدولة السورية الجديدة يسير بثبات نحو استعادة السيادة والفاعلية. وتبقى إحدى المهام المصيرية أمام القيادة اليوم هي استكمال استعادة وحدة الأراضي السورية، لا سيما في شمال شرق البلاد، وتوحيد المؤسسة العسكرية والأمنية، وتشكيل البرلمان الفاعل، بما يعزز الشعور الوطني ويؤسس لبيئة سياسية واقتصادية مستقرة. ويبقى السؤال: هل تنجح القيادة؟ وفي مقدمتها الرئيس الشرع في إنجاز المهام الكبرى القادمة من إعادة بناء المؤسسات، وتحقيق العدالة إلى إطلاق تنمية حقيقية؟ إنها لحظة كتابة التاريخ مجددًا لا ترميمه، إعادة الإعمار ليست إعادة بناء لما كان، بل رؤية إبداعية لما يجب أن يكون.