
"لا مجازر مرة أخرى".. شعار فارغ في زمن الإبادة
اضافة اعلان
في ذكرى الإبادة الجماعية الثانية التي وقعت في تسعينيات القرن الماضي، لا يمكننا الادعاء بأننا لا نعلم ما يحدث في غزة اليوم. ما يزال الإفلات من العقاب يُغذي الإبادة الجماعية في أوكرانيا وغزة، بينما يواصل الغرب التعامل بازدواجية أخلاقية مع الضحايا وفقاً لهويتهم. ما يحدث اليوم يعيد إنتاج الجرائم التي ظن العالم أنه لن يراها ثانية.***عندما اضطر صحفي جنوب أفريقي منفي إلى شرح ما جرى في المحرقة النازية لابنه البالغ من العمر سبع سنوات، فهم الطفل على الفور أنه لا أحد من البالغين في ألمانيا كان يستطيع أن يقول بصدق: "لم نكُن نعلم".كبر ذلك الصبي ليصبح مراسلاً صحفياً غطى حالتين متتاليتين من الإبادة الجماعية في تسعينيات القرن الماضي، صُنفتا، وفق التعريف الرسمي، كـ"إبادتين جماعيتين": الأولى في البوسنة، والثانية في رواندا.في يوغوسلافيا السابقة، شهد مطاردة المسلمين في شوارع سراييفو كما تطارد الفرائس، ورأى شوارع كاملة وهي تغطى بستائر لإخفاء المتسوقين المدنيين عن قناصة الصرب.أما في رواندا، فقتل مليون شخص خلال ثلاثة أشهر فقط، بمعدل إبادة يماثل ما ارتكبه النازيون. لكن القتل هناك تم بأيدي القتلة مباشرة، من دون وساطة أسلحة حديثة، حتى انسدت الأنهار بالجثث وتحولت إلى ما يشبه "الحساء البشري".والآن، نحن نشهد جميعاً جولة جديدة ثالثة من محاولات الإبادة الجماعية في كل من أوكرانيا وغزة. والأكيد أنه لا يمكن وصف أي منها بأنها عمليات "تجري في الخفاء".في يوغوسلافيا السابقة، لم يتدخل المجتمع الدولي إلا بعد فوات الأوان في محاولة لوقف عمليات التطهير العرقي بعد مجزرة سريبرينيتسا. وفي رواندا، لم يتدخل المجتمع الدولي على الإطلاق، على الرغم من أن المجازر وقعت هناك قبل عام من تدخله المتأخر في البوسنة. بل تجنب العالم حتى استخدام مصطلح "إبادة جماعية"، على الرغم من أن الأمم المتحدة تلقت تحذيرات واضحة من أن خطة شاملة لإبادة قبائل التوتسي كانت قيد الإعداد قبل أن تنفذ في السابع من نيسان (أبريل) 1994.اليوم، فرضت العقوبات على روسيا، ووجهت إلى فلاديمير بوتين تهم بارتكاب جرائم حرب من قبل المحكمة الجنائية الدولية. وتحظى أوكرانيا بدعم غربي لتعزيز دفاعها، ويدفع بوتين ثمن عدوانه.أما إسرائيل، فما تزال تتلقى الأسلحة من الولايات المتحدة، من دون أن تلوح في الأفق أي عقوبات اقتصادية ضدها.النمط السائد هو أن الغرب يتعامل مع القتل الجماعي للمسيحيين البيض بجدية أكبر من تعامله مع استئصال جماعات عرقية أخرى أو مسلمين.كان الحلفاء على علم بـ"الحل النهائي" (الخطة النازية الممنهجة لإبادة يهود أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية) الذي تبناه هتلر بحلول العام 1942، لكنهم لم يفعلوا شيئاً لوقفه. وعلينا أن نسأل التاريخ، وأن نسأل أنفسنا اليوم: ألم يكُن غض الطرف عن اقتياد الأبرياء إلى موتهم أسهل قليلاً لو كانوا "مختلفين"؟ يهوداً، أو مسلمين، أو أفارقة سوداً، والآن فلسطينيين؟اتفاقية العام 1951 الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة حول منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، تلزم الدول بمعاقبة مرتكبي الإبادة الجماعية ومنع وقوعها. لكن سجل المجتمع الدولي في هذا المجال متباين حين يتعلق الأمر بالعقاب، وكارثي حين يتعلق بالمنع، سواء في حالات الإبادة الجماعية أو الأفعال التي ترقى إلى مستواها.بينما نحيي الذكرى الثلاثين لمذبحة سريبرينيتسا التي قتل فيها أكثر من 8.000 رجل وصبي مسلم من البوسنيين على يد القوات الصربية في العام 1995، يتضح أن شعار "لن يتكرر هذا أبداً" ليس سوى عبارة قديمة وجوفاء.الحقيقة أن البشر يقتلون بعضهم بعضاً بسهولة، خصوصاً عندما يكون القتل مجازاً أو مدعوماً من قبل الدولة. ويصبح القتل أسهل، بل يغدو من الأسهل غض الطرف عنه، إذا كان الضحايا من "الآخرين".يكمن مفتاح كبح الغريزة البشرية التي تدفع إلى ارتكاب المجازر الجماعية على نطاق واسع في إنهاء الإفلات من العقاب. علينا أن نضع حداً للإفلات من المحاسبة. وعلينا أن نعترف بإنسانية الجميع، بصدق ومن دون استثناء. ولكي نحقق ذلك، لا بد من وضع حد للإفلات من العقاب. وللقيام بذلك، علينا أن نواجه ما يحدث أمام أعيننا.لقد خضع القتلة الصرب للمحاكمة ودينوا على جرائمهم أمام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا. وأتاح ذلك المسار لحظة من المساءلة. وفي العام 2010، اعتذرت صربيا عن الفظائع التي ارتكبت في البوسنة، ودعت إلى اعتقال المسؤول الرئيس عنها، راتكو ملاديتش.لدى ألمانيا مصطلح مركب يلخص ما فعلته للاعتراف بماضيها، وإصلاحه، والمصالحة معه: "التعامل مع عبء الماضي". وقد بدأ هذا المسار مع محاكمات جرائم الحرب في نورمبرغ.أما في رواندا، فقد أطلق التوتسي الناجون من إبادة العام 1994 عملية الحقيقة والمصالحة من خلال محاكم "غاتشاتشا" المحلية -وهي محاكم شعبية جماعية، قُدمت فيها الاعترافات مقابل أحكام مخففة بحق مرتكبي الإبادة الجماعية من الهوتو. كما جرت بعض المحاكمات أيضاً أمام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا.لكن كثيراً من أسوأ الجناة في مجازر العام 1994 فروا إلى المنفى، حيث لم يخضعوا لأي مسار عدالة على جرائمهم. بل إنهم شرعوا في التخطيط للعودة واستكمال المهمة، ونشر أيديولوجيا القتل على نطاق أوسع، في ما كان يعرف آنذاك بزائير.لقد تمددت أيديولوجيا "اقتل جارك قبل أن يقتلك" على مدى الأعوام الثلاثين في المنطقة، وأفضت، من بين نتائج أخرى، إلى عملية سميت "تنظيف السجل"، قتل خلالها نحو 40 في المائة من أبناء عرقية الأقزام -أو كما يُطلق عليهم بدقة أكبر، "باتوا" في وسط أفريقيا خلال العامين 2002 و2003. هؤلاء "مختلفون"... إنهم أقصر قامة.إن التركيز فقط على ما يجعل الآخرين "مختلفين" هو ما يتيح استمرار محاولات إبادتهم ومحو ثقافاتهم وتهجيرهم من أوطانهم -في شتى أنحاء العالم. فقد حظرت السلطات السوفياتية اللغة الأوكرانية وقمعت شعراءها وفنانيها وأعادت كتابة تاريخها. وقتل ما بين 3 و5 ملايين شخص في المجاعة المتعمدة التي دبرتها موسكو في العامين 1932-1933، المعروفة باسم "هولودومور". واليوم، تعود روسيا من جديد. ويواصل فلاديمير بوتين تأكيد أنه "لا وجود لشيء اسمه أوكرانيا".ويتمتع الرئيس الروسي بحصانة داخل بلاده. ويواجه خارجياً لائحة اتهام من المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب. لكن من غير المرجح أن يعتقل يوماً. فدونالد ترامب، في نهاية المطاف، يعتبره صديقاً، وقد فرض عقوبات على الجهة نفسها -المحكمة الجنائية الدولية- التي تسعى إلى محاكمته.في الوقت نفسه، زار بنيامين نتنياهو البيت الأبيض للمرة الثالثة هذا العام. وهو، مثل بوتين، ملاحق من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهم تتعلق بجرائم حرب. وتضم حكومته متطرفين يدعون علناً إلى "تشجيع" سكان غزة على مغادرة القطاع "طوعاً". لكن سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة لن يملكوا خياراً يذكر بعد توقف إطلاق النار، إذ لم يبقَ في القطاع مكان صالح للعيش، حيث سُويت منازلهم بالأرض بفعل القصف الإسرائيلي.وتفيد السلطات المحلية في غزة بأن أكثر من نصف الضحايا الـ57.000 الذين قتلوا في غزة على يد إسرائيل هم من النساء والأطفال. وتستخدم الأمم المتحدة بصورة صريحة مصطلح "إبادة جماعية" عند الإشارة إلى سلوك إسرائيل تجاه جيرانها.أوضحت البارونة هيلينا كينيدي، وهي من أبرز محامي حقوق الإنسان في المملكة المتحدة، موقفها بجلاء مما تقوم به إسرائيل في غزة. فقالت خلال مقابلة مع "بي بي سي": "لقد وصلتُ إلى قناعة بأننا نشهد إبادة جماعية ترتكب أمام أعيننا... كنت مترددة جداً في قول ذلك لأن عتبة وصف الإبادة مرتفعة جداً، ولا بد من وجود نية محددة لتنفيذها. لكن ما نشهده الآن يرقى إلى سلوكيات الإبادة الجماعية".وفي المقابل، يدعو الميثاق التأسيسي لحركة "حماس" التي ما تزال تسيطر على ما بقي من غزة، إلى القضاء على إسرائيل ككيان سياسي. وتعد "حماس" على نطاق واسع منظمة إرهابية، وكانت الجهة التي قادت الهجوم في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) العام 2023 الذي أودى بحياة ما يقارب 1200 شخص في إسرائيل، إلى جانب اختطاف نحو 250 آخرين. وهي ليست بمنأى عن المحاسبة، وتتعرض لهجوم مستمر من قبل إسرائيل.في غضون ذلك، قالت فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة: "الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة كارثي. إسرائيل مسؤولة عن واحدة من أقسى جرائم الإبادة الجماعية في التاريخ الحديث".إن القتل الجماعي نادر الحدوث ضمن المجتمعات التي تحترم إنسانية خصومها. في رواندا، وصفت الحكومة التوتسي بـ"الصراصير". أما في أوروبا، فاستخدمت الشتائم المعادية للسامية على مدى قرون لتأجيج موجات الاضطهاد ضد اليهود.والآن، عمد وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، إلى "تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم" بالنبرة نفسها التي استخدمها السوفيات تجاه أوكرانيا، فقال: "لا وجود لأمة فلسطينية. لا وجود لتاريخ فلسطيني. لا وجود للغة فلسطينية".تقول هايدي كينغستون، مؤلفة كتاب "إبادة جماعية: قصص شخصية وأسئلة كبرى": "يستطيع الجلادون إقناع الجميع بأن الضحايا ليسوا بشراً، وأنه يجب القضاء عليهم. وبمجرد أن تبدأ بتجريد الناس من إنسانيتهم وتبرير ما يرتكب بحقهم وعزلهم وتصنيفهم، ثم جمعهم، وأخيراً إبادتهم... حينها تبدأ الكارثة. انظروا إلى ما يجري في فلسطين وإسرائيل -إنها المقدمات نفسها التي عرفناها من قبل، وهي تتكرر الآن. والأمر نفسه من الجانب الآخر: ليس كل اليهود يدعمون ما يجري، ولا كل الإسرائيليين".في اليوم الذي نتذكر فيه مذبحة المسلمين في البوسنة، لا يمكننا أن نقول: "لم نكن نعلم" ما يجري في غزة. ما بين الركام ليس حشرات تزحف.*سام كيلي: محرر للشؤون الدولية في "الإندبندنت".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


رؤيا نيوز
منذ 6 ساعات
- رؤيا نيوز
من أحد ألد منافسيه.. ترامب يتلقى ترشيحًا غير متوقع لجائزة نوبل
اعترف أحد ألدّ منافسي الرئيس الأمريكي، بأن دونالد ترامب يستحق الحصول على جائزة نوبل للسلام إذا نجح في إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وذلك قبيل بدء محادثاته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن في قمة ألاسكا. وتلقى ترامب، الجمعة، ترشيحاً لجائزة نوبل للسلام من شخص غير متوقع تماماً – واحدة من أقوى منافسيه -، هيلاري كلينتون. وقالت وزيرة الخارجية الأمريكية والمرشحة الرئاسية السابقة في تصريحات لشبكة 'فوكس نيوز'، إنها سترشح ترامب للجائزة إذا نجح في إقناع بوتين بإنهاء حربه وإعادة كل الأراضي التي استولت عليها قواته من أوكرانيا في الصراع الدائر منذ العام 2022. 'حلم' هيلاري كلينتون وذكرت كلينتون أن نجاح ترامب خلال الاجتماع المقبل هو 'حلم' بالنسبة لها، وقالت إنه إذا كانت جائزة نوبل للسلام دافعاً كافياً لترامب لتحقيق هذا الحلم، فإنه يجب أن يحصل عليها. وأضافت 'وأنا أحلم أنه، لأي مجموعة من الأسباب، بما في ذلك جائزة نوبل للسلام، قد يقف الرئيس ترامب في وجه بوتين ليس فقط نيابة عن أوكرانيا وديمقراطيتها وشعبها الشجاع للغاية، ولكن بصراحة، نيابة عن أمننا ومصالحنا'. وقالت كلينتون: 'انظروا، إذا تمكنا من تحقيق ذلك، إذا كان الرئيس ترامب هو مهندس ذلك، فسأرشحه لجائزة نوبل للسلام'. فرصة ترامب وأضافت 'ربما تكون هذه هي فرصة ترامب لتوضيح أنه يجب أن يكون هناك وقف لإطلاق النار، مع عدم تبادل للأراضي، وأنه على مدى فترة من الزمن، يجب على بوتين الانسحاب فعلياً من الأراضي التي استولى عليها من أجل إظهار حسن النية، دعنا نقول، عدم تهديد الأمن الأوروبي'. وقالت كلينتون إنه إذا كان ترامب قادراً على التفاوض على تلك الشروط، فإنها سترشحه، مضيفة: 'لأن هدفي هنا هو عدم السماح بالاستسلام لبوتين، بمساعدة وتحريض من الولايات المتحدة'، على حد تعبيرها. وأردفت 'أعتقد أن هذه سابقة خطيرة للغاية، وأعتقد أنها ستجعل بلادنا أقل أمانًا، وستكافئ بوتين، ولن يتوقف. نحن نعلم ذلك'، على حد قولها. وألتقى ترامب وبوتين وجهًا لوجه، اليوم الجمعة، بعد وصولهما إلى أنكوريج بقاعدة إلمندورف-ريتشاردسون المشتركة، أكبر قاعدة عسكرية في ألاسكا. وتُعدّ هذه القمة الأولى التي تستضيف بوتين على الأراضي الأمريكية منذ عشر سنوات. وأعرب الرئيس الأمريكي عن أمله في أن يؤدي الاجتماع إلى السلام بين روسيا وأوكرانيا في المستقبل القريب، مشيراً إلى أن الهدف الأكثر إلحاحاً لاجتماع الجمعة سيكون تأمين لقاء ثانٍ مع بوتين. وقال ترامب: 'أما إذا كان الاجتماع سيئًا، فسينتهي سريعًا. وإذا كان جيدًا، فسنحصل على السلام في المستقبل القريب'.


رؤيا نيوز
منذ 7 ساعات
- رؤيا نيوز
بدء القمة بين ترامب وبوتين بشأن الحرب في أوكرانيا
بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين محادثات في ألاسكا الجمعة بشأن إنهاء الحرب المدمرة في أوكرانيا التي بدأت مع الغزو الروسي عام 2022. وتمت دعوة الصحافيين لمغادرة قاعة الاجتماع بعيد جلوس ترامب وبوتين ومسؤولين آخرين في مقاعدهم أمام خلفية كتب عليها 'السعي إلى السلام'.


رؤيا نيوز
منذ 8 ساعات
- رؤيا نيوز
ترامب وبوتين يتصافحان قبل بدء قمتهما في ألاسكا
تصافح الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين وتبادلا التحية الجمعة لدى وصولهما إلى قاعدة عسكرية في ألاسكا لحضور قمة مهمة بشأن الحرب في أوكرانيا. ومن المقرر أن يعقد الزعيمان محادثات تتابعها عن كثب الدول الأوروبية والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي لم يدع للمشاركة ورفض علنا ضغوط ترامب للتنازل عن أراضي بلاده التي سيطرت عليها روسيا.