logo
مثل النمل

مثل النمل

الوطن١١-٠٥-٢٠٢٥

في طفولتي المشرقة كـ«لمبة» سقطت من سقف الحضارة، كنت أقضي وقتي في مراقبة النمل. أجل، النمل. ذاك الشعب الكادح بلا نقابات، بلا إضرابات، بلا خطب عصماء عن العدالة الاجتماعية. كنت أجثو كعملاق صغير يطل على كوكبٍ مُصغّر، أشاهد بأعجوبة كيف يسير هؤلاء العمال الصغار ذهابًا وإيابًا، كأنهم موظفو حكومة مصغّرة في يوم استلام الرواتب.
لم يكن لديّ آنذاك ما يكفي من الفلسفة أو علم الاجتماع لأفهم فيروموناتهم أو تقسيم عملهم، ولكنني كنت مدفوعًا بفضولٍ لئيم. وفي لحظة من التجلي السادي، غرزت غصنًا في عشهم. فجأة، اختفى النظام الظاهري ليحلّ محلهُ فوضى منظمة ــ نعم، هناك ما يشبه الذعر، لكن دون صراخ، دون سبٍّ أو شماتة، فقط عمال يركضون ويصلحون، بترتيب أشبه بما يدّعيه وزراء الطوارئ في المؤتمرات الصحفية.
كان درسًا مبكرًا في «السلوك تحت الضغط»، أو كما كان سيقول فوكو لو كان طفلًا في التسعينيات: «السلطة الحيوية تبدأ من الغصن».
نعود الآن، بقفزة زمنية أنيقة، إلى باريس 1976. هناك، كان ميشيل فوكو يعاني أزمة هوية فكرية، يتنهد أمام طلابه في كوليج دو فرانس كما يتنهد الشاعر أمام بيتٍ لم يستقم وزنه. لكن، كما يحصل دائمًا مع الفلاسفة المتعبين، خرج من الأزمة بمفهوم قد يغيّر العالم: السياسة الحيوية.
فوكو لم يكن من أنصار «السلطة كقمع»، بل رأى أن السلطة دخلت عقر دار الحياة، لا لتقتلنا، بل لترعانا بطريقة تشبه رعاية الشركات لموظفيها في اليوم الأخير من كل شهر. نحن، حسب فوكو، لم نعد مجرّد «حيوانات ناطقة» كما أراد أرسطو، بل «حيوانات قابلة للتنظيم والتعقّب والمساءلة والتلقيح الموسمي».
هنا، دعونا نقفز ثانية، لكن هذه المرة إلى القرن الواحد والعشرين، حيث الحياة تبدو كحلقة طويلة من برنامج «الأخ الأكبر»، لكن بنكهة فوكوية. لقد أصبحنا، بفضل الأوبئة، نُحاصر في بيوتنا كما تُحاصر قطة مشاكسة في علبة كرتون. نتحرك وفق تعليمات دقيقة، نشتري ورق التواليت كأننا نستعد لحصار بيزنطة، ونتعقب بعضنا بعضًا عبر تطبيقات الهاتف بتواطؤ مدهش بين شركات الاتصالات والدولة.
في هذا المشهد، تظهر السياسة الحيوية بأبهى حلّتها: السلطة لم تعد جلادًا يحمل سوطًا، بل نظامًا يرتدي بدلة أنيقة، يبتسم لك ويقول: «ابقَ في البيت من فضلك، وإلا...».
تسأل: لماذا كل هذا؟ أقول لك: لأن العلاقة بين وعي المواطن وتدخل الدولة تشبه العلاقة بين طهو الأم ومطاعم الوجبات السريعة. كلما زاد الوعي، قلّت الحاجة إلى القوانين المطبوخة على عجل. كلما نضج حسّنا المدني، قلّت حاجة الدولة إلى سحبنا من آذاننا.
كان فوكو يحب التنظيم أكثر من القوانين، وكان يرى أن الأنظمة تفضّل دفعك نحو السلوك المرغوب دون أن تجرّك من ياقة قميصك. السلطة الذكية لا تقول لك «افعل»، بل تخلق ظرفًا لا يمكنك فيه أن تفعل غير ما تريد هي.
نعود للنمل نعم، النمل مرة أخرى. لم يكن هناك مرسوم نمل دستوري رقم 4 بشأن ترميم العش، ولا مجلس طوارئ أصدر تعليمات. كانت هناك فقط غريزة جمعية أقرب ما تكون إلى «الفطرة السياسية». وها نحن، على خلافهم، نحتاج إلى قانون لكي لا نحضن بعضنا البعض في عز الوباء، ونحتاج إلى لائحة وزارية كي لا نتجمهر أمام محل دونات مغلق.
كما قال إيمانويل كانط: «التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور التي وضع نفسه فيها». لكن يبدو أن كثيرين منا استراحوا في هذا القصور، بل زيّنوه بستائر من إيكيا.
الخلاصة؟ لو كنا أكثر قليلًا مثل النمل، وأقل كثيرًا مثل مذيعي نشرات الأخبار، لما احتجنا إلى دولة تذكرنا يوميًا بأن «الخروج من المنزل يعرضك للمساءلة» وربما، فقط ربما، كنا سننجو من الطوارئ دون أن نتحوّل إلى مجرّد خانات في جدول بيانات حكومي.
فليكن شعارنا إذًا، كما كتب سارتر ذات مرة وهو لا يعلم أنه يخدم النمل من حيث لا يدري: «الوجود يسبق التنظيم، لكنه بحاجة إلى قليل من الحس السليم».

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مثل النمل
مثل النمل

الوطن

time١١-٠٥-٢٠٢٥

  • الوطن

مثل النمل

في طفولتي المشرقة كـ«لمبة» سقطت من سقف الحضارة، كنت أقضي وقتي في مراقبة النمل. أجل، النمل. ذاك الشعب الكادح بلا نقابات، بلا إضرابات، بلا خطب عصماء عن العدالة الاجتماعية. كنت أجثو كعملاق صغير يطل على كوكبٍ مُصغّر، أشاهد بأعجوبة كيف يسير هؤلاء العمال الصغار ذهابًا وإيابًا، كأنهم موظفو حكومة مصغّرة في يوم استلام الرواتب. لم يكن لديّ آنذاك ما يكفي من الفلسفة أو علم الاجتماع لأفهم فيروموناتهم أو تقسيم عملهم، ولكنني كنت مدفوعًا بفضولٍ لئيم. وفي لحظة من التجلي السادي، غرزت غصنًا في عشهم. فجأة، اختفى النظام الظاهري ليحلّ محلهُ فوضى منظمة ــ نعم، هناك ما يشبه الذعر، لكن دون صراخ، دون سبٍّ أو شماتة، فقط عمال يركضون ويصلحون، بترتيب أشبه بما يدّعيه وزراء الطوارئ في المؤتمرات الصحفية. كان درسًا مبكرًا في «السلوك تحت الضغط»، أو كما كان سيقول فوكو لو كان طفلًا في التسعينيات: «السلطة الحيوية تبدأ من الغصن». نعود الآن، بقفزة زمنية أنيقة، إلى باريس 1976. هناك، كان ميشيل فوكو يعاني أزمة هوية فكرية، يتنهد أمام طلابه في كوليج دو فرانس كما يتنهد الشاعر أمام بيتٍ لم يستقم وزنه. لكن، كما يحصل دائمًا مع الفلاسفة المتعبين، خرج من الأزمة بمفهوم قد يغيّر العالم: السياسة الحيوية. فوكو لم يكن من أنصار «السلطة كقمع»، بل رأى أن السلطة دخلت عقر دار الحياة، لا لتقتلنا، بل لترعانا بطريقة تشبه رعاية الشركات لموظفيها في اليوم الأخير من كل شهر. نحن، حسب فوكو، لم نعد مجرّد «حيوانات ناطقة» كما أراد أرسطو، بل «حيوانات قابلة للتنظيم والتعقّب والمساءلة والتلقيح الموسمي». هنا، دعونا نقفز ثانية، لكن هذه المرة إلى القرن الواحد والعشرين، حيث الحياة تبدو كحلقة طويلة من برنامج «الأخ الأكبر»، لكن بنكهة فوكوية. لقد أصبحنا، بفضل الأوبئة، نُحاصر في بيوتنا كما تُحاصر قطة مشاكسة في علبة كرتون. نتحرك وفق تعليمات دقيقة، نشتري ورق التواليت كأننا نستعد لحصار بيزنطة، ونتعقب بعضنا بعضًا عبر تطبيقات الهاتف بتواطؤ مدهش بين شركات الاتصالات والدولة. في هذا المشهد، تظهر السياسة الحيوية بأبهى حلّتها: السلطة لم تعد جلادًا يحمل سوطًا، بل نظامًا يرتدي بدلة أنيقة، يبتسم لك ويقول: «ابقَ في البيت من فضلك، وإلا...». تسأل: لماذا كل هذا؟ أقول لك: لأن العلاقة بين وعي المواطن وتدخل الدولة تشبه العلاقة بين طهو الأم ومطاعم الوجبات السريعة. كلما زاد الوعي، قلّت الحاجة إلى القوانين المطبوخة على عجل. كلما نضج حسّنا المدني، قلّت حاجة الدولة إلى سحبنا من آذاننا. كان فوكو يحب التنظيم أكثر من القوانين، وكان يرى أن الأنظمة تفضّل دفعك نحو السلوك المرغوب دون أن تجرّك من ياقة قميصك. السلطة الذكية لا تقول لك «افعل»، بل تخلق ظرفًا لا يمكنك فيه أن تفعل غير ما تريد هي. نعود للنمل نعم، النمل مرة أخرى. لم يكن هناك مرسوم نمل دستوري رقم 4 بشأن ترميم العش، ولا مجلس طوارئ أصدر تعليمات. كانت هناك فقط غريزة جمعية أقرب ما تكون إلى «الفطرة السياسية». وها نحن، على خلافهم، نحتاج إلى قانون لكي لا نحضن بعضنا البعض في عز الوباء، ونحتاج إلى لائحة وزارية كي لا نتجمهر أمام محل دونات مغلق. كما قال إيمانويل كانط: «التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور التي وضع نفسه فيها». لكن يبدو أن كثيرين منا استراحوا في هذا القصور، بل زيّنوه بستائر من إيكيا. الخلاصة؟ لو كنا أكثر قليلًا مثل النمل، وأقل كثيرًا مثل مذيعي نشرات الأخبار، لما احتجنا إلى دولة تذكرنا يوميًا بأن «الخروج من المنزل يعرضك للمساءلة» وربما، فقط ربما، كنا سننجو من الطوارئ دون أن نتحوّل إلى مجرّد خانات في جدول بيانات حكومي. فليكن شعارنا إذًا، كما كتب سارتر ذات مرة وهو لا يعلم أنه يخدم النمل من حيث لا يدري: «الوجود يسبق التنظيم، لكنه بحاجة إلى قليل من الحس السليم».

برعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود ..
برعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود ..

غرب الإخبارية

time٢٩-٠٤-٢٠٢٥

  • غرب الإخبارية

برعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود ..

المصدر - تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية، افتتح معالي نائب وزير الداخلية الدكتور ناصر بن عبدالعزيز الداود أعمال مؤتمر تهديدات الأسلحة غير التقليدية بالشرق الأوسط NCT Middle East Riyadh 2025، والذي تنظمه المديرية العامة للدفاع المدني بالتعاون مع شركة NCT Consultants وجمعية مكافحة الأسلحة غير التقليدية CBRne society، وذلك بفندق فوكو بالرياض والمستمر لمدة يومين. ويعد هذا المؤتمر المنعقد بنسخته السابعة حدث دولياً في مجال مكافحة تهديدات الأسلحة غير التقليدية مثل المخاطر الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية المتفجرة كذلك الذخائر المتفجرة والألغام، ويستضيف أكثر من 33 شركة عارضة من 11 دولة تمثل علامات تجارية عالمية بأحدث المنتجات والخدمات والحلول في مجال مكافحة تهديدات الأسلحة غير التقليدية، بمشاركة أكثر من 30 متحدثًا دوليًا، ويتوقع أن يشهد المؤتمر حضور عدد من المهتمين والمختصين في هذا المجال. ويهدف هذا الحدث إلى فتح آفاق وتوسيع الشراكات المحلية والعالمية للاستفادة مما سيطرح من نقل أفضل وأحدث التجارب في الخبرات، وانعقاد الجلسات العلمية مع الوفود والشخصيات المدعوين من مختلف الدول والمنظمات والهيئات الدولية المتخصصة في هذا المجال.

برعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود.. نائب وزير الداخلية يفتتح مؤتمر تهديدات الأسلحة غير التقليدية بالشرق الأوسط
برعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود.. نائب وزير الداخلية يفتتح مؤتمر تهديدات الأسلحة غير التقليدية بالشرق الأوسط

الرياض

time٢٨-٠٤-٢٠٢٥

  • الرياض

برعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود.. نائب وزير الداخلية يفتتح مؤتمر تهديدات الأسلحة غير التقليدية بالشرق الأوسط

برعاية صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية، افتتح معالي نائب وزير الداخلية الدكتور ناصر بن عبدالعزيز الداود أعمال مؤتمر تهديدات الأسلحة غير التقليدية بالشرق الأوسط "NCT Middle East Riyadh 2025"، الذي تنظمه المديرية العامة للدفاع المدني بالتعاون مع شركة "NCT Consultants" وجمعية مكافحة الأسلحة غير التقليدية "CBRne society"، وذلك بفندق فوكو بالرياض والمستمر لمدة يومين. ويعد هذا المؤتمر المنعقد بنسخته السابعة حدث دوليًا في مجال مكافحة تهديدات الأسلحة غير التقليدية مثل المخاطر الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية المتفجرة كذلك الذخائر المتفجرة والألغام، ويستضيف أكثر من 33 شركة عارضة من 11 دولة تمثل علامات تجارية عالمية بأحدث المنتجات والخدمات والحلول في مجال مكافحة تهديدات الأسلحة غير التقليدية، بمشاركة أكثر من 30 متحدثًا دوليًا، ويتوقع أن يشهد المؤتمر حضور عدد من المهتمين والمختصين في هذا المجال. ويهدف هذا الحدث إلى فتح آفاق وتوسيع الشراكات المحلية والعالمية للاستفادة مما سيطرح من نقل أفضل وأحدث التجارب في الخبرات، وانعقاد الجلسات العلمية مع الوفود والشخصيات المدعوين من مختلف الدول والمنظمات والهيئات الدولية المتخصصة في هذا المجال.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store