
ماذا بعد الحرب الأوكرانية الروسية؟ هل ستكون دول البلطيق شرارة لحرب جديدة في أوروبا؟
إيطاليا تلغراف
محمد الزلاوي، باحث في العلوم السياسية
في ظل التصريحات الأخيرة للأطراف الرئيسية في الحرب الروسية الأوكرانية، والتي ركزت على ضرورة تحقيق السلام والإشارات الإيجابية في هذا الاتجاه، قد يعتقد البعض أن خطر نشوب حرب عالمية ثالثة قد تلاشى مع انخفاض حدة التوتر في أوكرانيا. لكن الوضع العالمي لا يزال بعيدًا عن الاستقرار، وقد تتغير المواقع لتستمر الحرب على جبهة أخرى.
من يتابع الشأن الروسي وأوروبا الشرقية بشكل عام يتذكر جيدًا التوتر الشديد في سنة 2016، عندما أطلق حلف شمال الأطلسي مناورات عسكرية واسعة النطاق تحت اسم 'أناكوندا' في دول البلطيق وبولندا. دول البلطيق (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) هي مرشحة لأن تشهد تكرارًا للسيناريو الأوكراني والجورجي. في السنوات الأخيرة، ظهرت مجموعات متطرفة في دول البلطيق تدعو إلى تعزيز العلاقات مع الغرب ومواجهة النفوذ الروسي. وهذا يذكرنا بميليشيات مثل كتيبة 'أزوف' الأوكرانية، وهي وحدة يمينية متطرفة متهمة بارتكاب انتهاكات ضد سكان دونباس، وكان الهدف الأساسي للتدخل الروسي حماية المواطنين الناطقين بالروسية في شرق أوكرانيا.
من ناحية أخرى، هناك أيضًا مجموعات موالية لروسيا، خاصة بين الأقلية الناطقة بالروسية، التي تطالب بمزيد من الحقوق الثقافية أو حتى الانضمام إلى روسيا في المستقبل. هذه الانقسامات الداخلية قد تؤدي إلى سيناريو مشابه لما حدث في أوكرانيا، مع فارق أن دول البلطيق هم أعضاء كاملو العضوية في الحلف الأطلسي منذ سنة 2004، ومع وجود أقلية مهمة ناطقة بالروسية في هذه الدول، هذه التركيبة الديموغرافية قد تكون بمثابة وقود لصراع مستقبلي.
ما منع تحول الحرب الأوكرانية إلى حرب عالمية هو أن أوكرانيا ليست عضوًا في حلف الناتو، لكن الوضع مختلف مع دول البلطيق. باعتبارها جزءًا من الحلف، فإن أي توتر أو اشتباك محتمل سيُجبر بقية دول الحلف على التدخل. وفقًا للمادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسي، أي هجوم على دولة عضو يعتبر هجومًا على الحلف بأكمله.
منذ بداية الأزمة الأوكرانية في عام 2022، أغلقت القنصليات بين روسيا ودول البلطيق أبوابها، وفرضت ليتوانيا قيودًا على حركة النقل بالسكك الحديدية نحو منطقة كالينينغراد الروسية. في إطار التصعيد الناجم عن الحرب الروسية الأوكرانية، أعلنت ليتوانيا منع مرور البضائع الخاضعة لعقوبات الاتحاد الأوروبي عبر أراضيها إلى منطقة كالينينغراد الروسية المعزولة عبر ممر سواكي. وشملت هذه العقوبات موادًا مثل الفحم والمعادن ومواد البناء والتكنولوجيا المتقدمة.
اعتبرت روسيا قرار تقييد الوصول إلى كالينينغراد إجراءً غير قانوني ووصفته بأنه يشكل حصارًا للمنطقة، وحذرت ليتوانيا من عواقب وخيمة قد تنتج عن هذا القرار، وتعهدت بالرد عليه.
من جانبها، دافعت ليتوانيا عن قرارها بالإشارة إلى التزامها بتنفيذ العقوبات الأوروبية. كما أنها انسحبت رسميًا من اتفاقية حظر الذخائر العنقودية وتفكر في الانسحاب من اتفاقية حظر الألغام المضادة للأفراد، وقد يتم هذا الانسحاب بشكل جماعي مع دول أخرى في حلف الناتو، خاصة تلك التي تجاور روسيا وبيلاروسيا. هذه الخطوة قد تزيد التوتر وتؤدي إلى سباق تسلح في منطقة تعاني أصلاً من عدم استقرار.
في إستونيا، تم مؤخرًا منع ازدواجية الجنسية، مما سيؤثر على العديد من المواطنين الذين يحملون الجنسية الروسية والإستونية. كما تتجه إستونيا نحو إلغاء الروسية كلغة تعليم، مع خطط للتوقف التام عن استخدامها في التدريس بحلول عام 2030. في المستقبل القريب، سيتم تعليم جميع الطلاب باللغة الإستونية فقط، حتى في المناطق ذات الأغلبية الروسية في الشمال الشرقي.
الأخطر هو الوضع في لاتفيا، حيث توجد نسبة كبيرة من الناطقين بالروسية. هذه الدولة، التي تقع في وسط دول البلطيق، تعاني من توترات داخلية واسعة، تشبه إلى حد كبير الوضع في أوكرانيا قبل اندلاع الأزمة.
تتعمق الانقسامات وتتسع هوّة بين مكونات المجتمع المختلفة، ويتجلى ذلك من خلال تنامي نفوذ الجماعات المتطرفة التي تزيد من حدة التوترات مع الناطقين بالروسية. السياسات الأمنية المتبعة تفاقم هذا الوضع، حيث تم اعتقال عدد من المحتجين الذين عارضوا مسيرة 'وافن إس إس' التي تمجد الجنود النازيين السابقين. بالإضافة إلى ذلك، قامت السلطات بتدمير تماثيل تعود إلى الحقبة السوفيتية، والتي كانت تمجد الأبطال الروس الذين حرروا البلاد من الاحتلال النازي، مما يعزز الشعور بالعداء تجاه المكون الروسي. كما تمت مصادرة 'البيت الروسي' في ريغا، عاصمة لاتفيا، وإعادة تسمية الشوارع التي تحمل أسماء أدباء روس.
هذه السياسات المتعمدة في مواجهة التأثير الروسي قد تؤدي إلى اندلاع صراع مدمر، كما حدث في أوكرانيا قبل انفجار الأزمة وسعي المواطنين الناطقين بالروسية للاستقلال أو الانضمام إلى روسيا. ومن الجدير بالذكر أن السلطات اللاتفية اتخذت موقفًا معاديًا للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وقدمت دعمًا عسكريًا لأوكرانيا، بل ووقعت اتفاقًا أمنيًا ثنائيًا معها.
في هذا السياق، نتابع التصريحات الأخيرة لوزير الدفاع البيلاروسي، فيكتور خرينين، الذي قال: 'يتم الحفاظ على مستوى عالٍ من تواجد وحدات القوات المسلحة البولندية ودول البلطيق في المناطق الحدودية المجاورة لبلدنا. من الواضح أن الغرب، وبشكل رئيسي الولايات المتحدة، يحاول دفع بولندا ودول البلطيق لاتخاذ إجراءات أكثر حسماً. ولهذا الغرض، يتم تهيئة الظروف لاستخدام هذه الدول في حرب بالوكالة ضد بيلاروسيا وروسيا.'
نأمل أن تمتد ديناميكية السلام في أوكرانيا إلى دول البلطيق لتجنب الحرب التي تلوح في الأفق.
إيطاليا تلغراف

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


خبر للأنباء
منذ 4 أيام
- خبر للأنباء
ترامب: سأتحدث مع بوتين وزيلينسكي الاثنين لـ"وقف حمام الدم" في أوكرانيا
قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب السبت، إنه سيتحدث هاتفياً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صباح الاثنين المقبل، بشأن "وقف حمام الدم"، في مسعى للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في أوكرانيا. وأضاف ترامب في منشور على منصته "تروث سوشيال"، "سأتحدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العاشرة من صباح الاثنين، وسيكون موضوع المكالمة هو وقف حمام الدم، الذي يقتل في المتوسط 5000 جندي روسي وأوكراني أسبوعياً". وذكر أنه في المقابل سيتحدث إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وبعدها سيتحدث مع عدة قادة من حلف شمال الأطلسي (الناتو). وأعرب ترمب عن أمله في أن يكون "يوماً مثمراً"، وأن يتم التوصل إلى وقف للنار، وأن تنتهي "هذه الحرب العنيفة للغاية، الحرب التي لم يكن يجب أن تحدث". وكان ترمب قد قال الجمعة، خلال زيارته العاصمة الإماراتية أبوظبي، أنه سيلتقي بوتين "بمجرد أن نتمكن من ترتيب الأمر". مكالمة هاتفية بين روبيو ولافروف وقالت وزارة الخارجية الأميركية إن الوزير ماركو روبيو تحدث هاتفياً مع نظيره الروسي سيرجي لافروف، وأكد دعوة الرئيس ترمب لوقف فوري لإطلاق النار، ووضع حد للعنف. وقال روبيو على منصة "إكس"، إنه كرر رسالة ترمب بضرورة "توقف الموت والدمار"، وأضاف: "قدمت الولايات المتحدة خطة سلام قوية، ونرحّب باتفاق تبادل أسرى الحرب الذي تم التوصل إليه في إسطنبول. دعونا لا نُفوّت هذه الفرصة الكبيرة. لقد حان وقت إنهاء هذه الحرب". وقالت الخارجية الروسي، إن لافروف رحب في الاتصال مع روبيو بـ"الدور الإيجابي" للولايات المتحدة في المساعدة على استئناف المحادثات بين روسيا وأوكرانيا. وذكرت وزارة الخارجية الروسية عبر قناتها على تليجرام أن لافروف اتفق مع روبيو على مواصلة الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة. مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا بإسطنبول واجتمع مفاوضون من روسيا وأوكرانيا في إسطنبول، الجمعة، في أول محادثات سلام بين البلدين منذ أكثر من ثلاث سنوات وسط ضغوط من ترمب لإنهاء أعنف صراع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وأعرب فلاديمير ميدينسكي، رئيس الوفد الروسي في المحادثات، عن "رضا" موسكو عن النتائج، واستعدادها لمواصلة الحوار مع كييف. وأوضح ميدينسكي، في أعقاب المفاوضات، أن "روسيا وأوكرانيا اتفقتا على تبادل ألف أسير حرب لكل منهما خلال الأيام المقبلة"، في واحدة من أكبر عمليات التبادل من نوعها منذ بداية الصراع. وأضاف: "بشكل عام، نحن راضون عن النتيجة، ومستعدون لاستمرار التواصل. في الأيام المقبلة، سيكون هناك تبادل ضخم للأسرى بمعدل ألف مقابل ألف"، لافتاً إلى أن "الجانب الأوكراني طلب إجراء محادثات مباشرة بين رئيسي الدولتين. وسجلنا هذا الطلب لدينا". كما أشار إلى أن "كل طرف يقدم رؤيته لوقف إطلاق نار مستقبلي محتمل، ويشرحها بالتفصيل. وبعد عرض هذه الرؤية، نعتقد أنه من المناسب، كما اتفقنا أيضاً، مواصلة مفاوضاتنا". وقال وزير الدفاع الأوكراني رستم عمروف الذي قاد وفد كييف، إن الأولوية في محادثات إسطنبول كانت لضمان إطلاق سراح أسرى الحرب، وضمان وقف إطلاق النار، مضيفاً أن "الخطوة التالية يجب أن تكون محادثات على مستوى القادة". وأشار عمروف على منصة "إكس"، عقب إجرائه محادثات أخرى مع روبيو، والمبعوث الأميركي الخاص كيث كيلوج، ووزير الخارجية التركي، ورئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن، إلى أن "روسيا أظهرت مجدداً عدم اهتمامها بالسلام، ويتجلى ذلك في غيابها عن المحادثات بمستوى تمثيل مناسب، وتجاهلها للمبادرات الدولية، ورفضها إنهاء العدوان".


إيطاليا تلغراف
١٠-٠٥-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
لماذا لا تنتهي الحرب الأوكرانية الروسية؟
إيطاليا تلغراف محمد الزلاوي، باحث في العلوم السياسية مع تولي الرئيس ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض، وتصريحاته المتكررة حول إنهاء الصراع في أوروبا، يُصاب المراقب بالذهول لرؤية استمرار الهجمات والردود بين الروس والأوكرانيين، حيث تتواصل الغارات الصاروخية والهجمات بالطائرات المسيرة، بل وتصاعدت إلى عمليات اغتيال ميدانية كما في حادثة اغتيال الجنرال الروسي ياروسلاف موسكالك في 25 أبريل 2025 في منطقة موسكو. يبدو أن الرئيس ترامب، الذي كان يُعتقد أنه قادر على كبح جماح هذه الحرب، قد انشغل مؤخراً بالحرب التجارية مع الصين. لكن من السذاجة الاعتقاد أن قضية كهذه يمكن أن تطغى على أخرى، خاصة بالنسبة لقوة عظمى مثل الولايات المتحدة. ربما اعتقدت الإدارة الأمريكية في البداية أنه من السهل إنهاء هذه الحرب المعقدة مع الحفاظ على مصالحها، قبل أن تدرك أن الأمر أكثر تعقيدًا مما يبدو. علاوة على ذلك، فإن الاجتماع بين ترامب وزيلينسكي الذي جرى يوم السبت 26 أبريل 2025 على هامش جنازة البابا فرانسيس يُظهر الاهتمام الكبير بإنهاء هذه الحرب. هذا اللقاء الأول منذ الأزمة الدبلوماسية التي نشبت بينهما في فبراير الماضي يطرح تساؤلاً محورياً: ما الذي يمنع إنهاء هذه الحرب رغم وصولها لمرحلة الاستنزاف المتبادل دون أفق للنصر الحاسم؟ ما الذي يدفع إلى مواصلة حرب وصلت إلى مرحلة الجمود والاستنزاف المتبادل لكلا الجانبين؟ أولى العقبات تتمثل في الجدل القانوني حول شرعية الرئيس زيلينسكي، حيث تشكك موسكو في قدرته على توقيع أي اتفاقيات سلام بسبب عدم إجراء الانتخابات سنة 2024. وقد عبر الرئيس بوتين عن هذا الموقف، مقترحاً تشكيل إدارة مؤقتة تحت إشراف دولي لتنظيم انتخابات، على غرار ما حدث في بعض الدول سابقاً. إنشاء إدارة مؤقتة في أوكرانيا تحت إشراف الأمم المتحدة وعدة دول، لتنظيم انتخابات كما حدث في تيمور الشرقية وغينيا الجديدة وأجزاء من يوغوسلافيا السابقة. ويبدو أن روسيا، في وقت كتابة هذا المقال، قد وضعت هذه الملاحظة جانبًا للمضي قدمًا في سبل تحقيق السلام. في تطور لافت، أبدت روسيا مؤخراً مرونة خلال جلسة مجلس الأمن في 29 أبريل، حيث أعلن مندوبها نيبينزيا عن استعداد بلاده لوقف إطلاق النار في مايو تمهيداً لمفاوضات مباشرة دون شروط مسبقة، رغم التحفظات على شرعية القيادة الأوكرانية. أما العقبة الثانية فتتمثل في الموقف الأوروبي الداعم لأوكرانيا، حيث سارعت عدة دول لتعويض الانسحاب الأمريكي المفاجئ من دعم كييف عسكرياً. فقد أعلنت هولندا عن حزمة مساعدات بقيمة 150 مليون يورو، بينما خصصت ألمانيا 15 مليار يورو حتى 2029، وتعهدت بريطانيا بـ450 مليون جنيه إسترليني، ووصلت مساهمة السويد إلى 16 مليار كرونة، كما قدمت فرنسا 2 مليار يورو إضافية. في المجمل، يعد مجموعة الاتصال للدفاع عن أوكرانيا بمساعدات بقيمة 21 مليار يورو. كانت المجموعة تُدار سابقًا من قبل الولايات المتحدة، لكن يبدو أن الأوروبيين قد تولوا زمام الأمور الآن. هذه الإعلانات تمثل تصعيدًا كبيرًا في الدعم الغربي لكييف، وبالتالي تطيل أمد هذه الحرب تلقائيًا. ومع ذلك، فإن تقدم الروسي الميداني في عدة مناطق بأوكرانيا وتحرير منطقة كورسك بالكامل (المنطقة الروسية التي كانت تحت سيطرة الأوكرانيين منذ غشت 2024) يكشف عن فشل الجيش الأوكراني في تثبيت خط الجبهة والحاجة إلى وقف إطلاق النار، رغم المساعدات العسكرية الأوروبية. في هذا السياق، يقترح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقف إطلاق نار لمدة ثلاثة أيام، من 8 إلى 10 ماي، بمناسبة احتفالات يوم النصر. إنها يد ممدودة لأوكرانيا لإيقاف الدوامة المميتة. لكن من جانبه، رفض فولوديمير زيلينسكي اقتراح روسيا بوقف إطلاق النار، مؤكدًا أن كييف 'لا تستطيع ضمان أمن الضيوف الأجانب' الذين سيحضرون العرض العسكري في موسكو في 9 ماي. وفي تطور جديد، يلوح في الأفق عودة الدعم الأمريكي بعد اتفاق حول المعادن النادرة، مما يطرح تساؤلات عن إمكانية تحقيق السلام قريبا. الأسابيع المقبلة ستكشف حتماً عن اتجاه الذي سيأخذه منحى هذا الصراع. إيطاليا تلغراف


إيطاليا تلغراف
٠٢-٠٥-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
النهب والسطو في السياسة الخارجية الأميركية - إيطاليا تلغراف
أسامة أبو ارشيد نشر في 2 مايو 2025 الساعة 8 و 15 دقيقة إيطاليا تلغراف أسامة أبو ارشيد كاتب وباحث فلسطيني مقيم في واشنطن تجسّد الاتفاقية الاقتصادية التي وقعتها الولايات المتحدة وأوكرانيا (الأربعاء الماضي)، وتتيح لواشنطن الوصول إلى الموارد الطبيعية الأوكرانية بما فيها المعادن النادرة، مقابل إنشاء صندوق استثماري لإعادة إعمار أوكرانيا المدمّرة بعد ثلاث سنوات من الاجتياح الروسي… تجسد منطق السطو والنهب الذي يتبنّاه دونالد ترامب في مقاربته للسياسة الخارجية الأميركية. منذ وصوله إلى سدّة الحكم (مطلع العام الجاري)، وهو يتذمّر من تقديم إدارة سلفه جو بايدن أكثر من 300 مليار دولار من المساعدات العسكرية لأوكرانيا، معلناً أنها ديون ينبغي سدادها. طبعاً، الرقم أقلّ من ذلك بكثير، إذ لا تتجاوز قيمة المساعدات الأميركية المُقرّة لأوكرانيا، منذ فبراير/ شباط 2022 (مع بدء الغزو الروسي) وحتى ديسمبر/ كانون الأول 2024، ما مقداره 182.8 مليار دولار، في حين أن ما صُرف منها يقدّر بـ83.4 مليار دولار فقط. لكن ترامب لا يتحرّج من الكذب، وهو لا يأبه إن ووجه بالحقائق، بل يزداد إصراراً على كذبه. على أيّ حال، أُرغمت أوكرانيا على توقيع اتفاق الإذعان من دون أن تحقّق أيّاً من شروطها المتعلّقة بضمانات أمنية أميركية، أو قبول عضويتها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وانتهى بها الأمر مُشَرَّعَةً للسطو الأميركي على مقدّراتها وسيادتها، رغم أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كان قد وصف مقترح الاتفاق الأميركي بأنه يعني قبولاً بـ'بيع بلاده'. غير أن زيلينسكي، بعد توبيخه من ترامب ونائبه، جي دي فانس، أمام كاميرات التلفزة في البيت الأبيض (فبراير/ شباط الماضي)، وطرده بعد ذلك، أصبح هو من يتوسّل توقيع اتفاق الإذعان والغرر وبيع أوكرانيا. إدارة بايدن هي من وسّعت الحرب الروسية الأوكرانية، ومن وقفت في وجه أيّ حلول دبلوماسية في سبيل استنزاف روسيا وإنهاكها على حساب أوكرانيا بحسب هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، تختزن الأراضي الأوكرانية رواسب 22 معدناً من أصل 50 مصنّفةً بالغة الأهمية. وتشمل هذه معادن أرضية نادرة ومواد أخرى ضرورية لإنتاج الإلكترونيات وتقنيات الطاقة النظيفة وبعض أنظمة الأسلحة. وتنظر الولايات المتحدة (ودول غربية أخرى) إلى معادن أوكرانيا ذات أهمية استراتيجية كبرى، إذ تهيمن الصين على الإنتاج العالمي من معادن أرضية ومواد نادرة، ومن ثمَّ، تمثل أوكرانيا مصدراً بديلاً لا غنى عنه للانفكاك من هيمنة الصين. لقد وقعت أوكرانيا ضحية براثن الشره الأميركي، على الرغم من تأكيد وزيرة الاقتصاد الأوكرانية، يوليا سفيريدينكو، التي وقّعت الاتفاق في واشنطن نيابةً عن حكومتها، أن 'الملكية والسيطرة الكاملة على جميع الموارد في أراضينا وفي مياهنا الإقليمية ستكون لأوكرانيا'. المثير أن أوكرانيا وقّعت الاتفاقية، ليس في غياب ضمانات أمنية أميركية فقط، بل في ظلّ ضغوط يمارسها ترامب عليها للقبول بالتنازل عن 20% تقريباً من أراضيها لروسيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم المحتلّة منذ عام 2014، مقابل اتفاق سلام بين الطرفَين. أبعد من ذلك، إذ لا يبدو ترامب في وارد تعويض أوكرانيا عن خسائرها جرّاء الحرب الروسية عليها من أموال موسكو المجمّدة في الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى. كما أنه ألمح غير مرّة أنه قد يرفع العقوبات الاقتصادية عن روسيا، والتي كانت فرضتها إدارة بايدن، وربّما توقيع اتفاقات اقتصادية معها. قد يلقي بعضُهم اللوم على ترامب في السياق الأميركي، غير أن الحقيقة أن إدارة بايدن هي من وسّعت (وعمّقت) الحرب الروسية الأوكرانية، وهي من وقفت في وجه أيّ حلول دبلوماسية لها في سبيل استنزاف روسيا وإنهاكها على حساب أوكرانيا. كلّ ما فعله ترامب أنه تنكّر لذلك كله. وفي كلّ الأحوال، وبعيداً من هُويَّة سيّد البيت الأبيض، فإن المُبتزّ هي واشنطن، والمُبتزّ كييف. الولايات المتحدة هي أكبر مستفيد من قواعد النظام الاقتصادي الدولي القائم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي ليس ما سبق محصوراً في أوكرانيا، فمعارك التعرفات الجمركية، التي أعلنها ترامب على الحلفاء والخصوم على السواء، هي جزء من البلطجة والشره الأميركي. هذه البلطجة وهذا الشره واحد بغضّ النظر أكانت الإدارة الحاكمة أميركياً جمهورية أم ديمقراطية، وإن اختلفت الوسائل والأدوات والأساليب، بين نهبٍ ناعم هادئ، وآخر طنّان فاضح، كهذا الذي يمارسه ترامب. الولايات المتحدة هي أكبر مستفيد من قواعد النظام الاقتصادي الدولي القائم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي. الأمر ذاته ينسحب على محاولات ترامب السطو على كندا، والمكسيك، وجزيرة غرينلاند الدنماركية، وقناة بنما، كلّ ما فعله ترامب أنه أخرج الهيمنة والإلحاق الأميركي لهم ولغيرهم، بما في ذلك أوروبا، إلى العلن. نحن العرب، أيضاً، لسنا بعيدين من سوريالية المشهد. ليس قطاع غزّة فقط ما يحاول ترامب سرقته وتملّكه ليجعل منه 'ريفييرا الشرق الأوسط'، بعد تهجير سكّانه منه إلى مصر والأردن ودول أخرى، بل إن دولاً أخرى لم تسلم منه. في الأسابيع القليلة القادمة سيزور ترامب المنطقة بدءاً من السعودية، وهو أعلن أن زيارته هذه رُتّبت بعد أن وافقت الرياض على استثمار تريليون دولار في الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة. أيضاً، أعلن ترامب قبل أسابيع قليلة أنه يريد من مصر أن تقبل بالمرور المجّاني للسفن الأميركية، الحربية والتجارية، عبر قناة السويس 'إذ لولا الولايات المتحدة لما قامت لها قائمة'. لا يهم كم يعيب الناس على الذئب طبع الغدر فيه، فالغريزة هي الغريزة وهي غير قابلة للتعديل والتغيير. المشكلة هي عندما يقنع الناس أنفسهم أن الذئب يمكن أن يتحوّل حملاً وديعاً ويسلّموا رقابهم له. النهب والسطو في السياسة الخارجية الأميركية السابق رياض محرز يتصدر قائمة أفضل اللاعبين مساهمة في دوري أبطال آسيا التالي زيلينسكي يرحّب باتفاق المعادن مع واشنطن ويصفه بأنه 'منصف'