logo
نظريات رينيه جيرار.. أداة سياسية بأيدي النخبة المحافظة الأميركية

نظريات رينيه جيرار.. أداة سياسية بأيدي النخبة المحافظة الأميركية

الجزيرةمنذ 4 أيام
في قلب الدوائر الفكرية الأميركية، وتحديدًا في أوساط اليمين المحافظ المؤيد لدونالد ترامب، يتردد اسم رينيه جيرار، الفيلسوف والأنثروبولوجي الفرنسي الذي توفي 2015.
وبينما ظل جيرار مجهولًا نسبيًا في موطنه فرنسا، تشهد أعماله نهضة فكرية غير متوقعة عبر المحيط الأطلسي، حيث تبنّتها شخصيات مؤثرة، مثل نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس، ورجل الأعمال المقرب من ترامب بيتر ثيل.
فكيف تحولت نظريات جيرار حول "العنف التقليدي" و"رغبة المحاكاة" وآلية كبش الفداء إلى أدوات سياسية في أيدي النخبة المحافظة الأميركية؟
جسّد جيه دي فانس، نائب الرئيس ترامب، الجيل الجديد من اليمين الأميركي الذي تبنى بقوة الفكر الجيراري؛ فقد تأثر فانس بشدة بأطروحات الفيلسوف الفرنسي، لدرجة أنه جعل من نظرية "كبش الفداء" مفتاحًا لقراءة السياسة الأميركية المعاصرة.
تأثير جيرار لم يقتصر على الجانب الفكري لفانس، بل امتد ليشمل قناعاته الدينية أيضًا؛ فقد صرّح فانس بأن اكتشافه نظرية "كبش الفداء" لدى جيرار، من خلال كتاب "العنف والمقدّس" كان سببًا رئيسيًا في عودته إلى الإيمان الديني
وفي مقال نُشر في صحيفة "ذي لمب ماغازين" (the lamp magazine) أبريل/ نيسان 2020 بعنوان: "كيف التحقت بالمقاومة"، أوضح فانس أن نظرية "كبش الفداء" لرينيه جيرار ساعدته على فهم صعود الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة بشكل أعمق وأشمل.
"عندما يكون المجتمع في أزمة عميقة، يبحث دائمًا عن مذنب يحمّله مسؤولية الأزمة. اليوم، النخبة الليبرالية تلعب هذا الدور التاريخي".. هذه القراءة النظرية دمجها فانس بشكل عملي في حملته الانتخابية وعمله السياسي اليومي، منددًا بانتظام بـ"النخب المنقطعة عن الواقع" وداعيًا للعودة إلى التقاليد الأصيلة والتضامن المجتمعي الحقيقي.
كذلك، يشرح فانس كيف أن اكتشاف النصوص الفلسفية لرينيه جيرار، وهو طالب في جامعة ييل، غيّر رؤيته الجذرية للعالم، ودفعه للانخراط بقوة في السياسة. وهو ما يشرحه في مقابلة مع صحيفة "واشنطن بوست" حيث يقول: "جيرار جعلني أفهم أن الصراع في قلب الحياة الاجتماعية، وأن السياسة تتمثل غالبًا في تعيين المذنبين لاستعادة الوحدة الاجتماعية".
كما أضاف في تصريح أدلى به في مقابلة مع إذاعة فرانس كولتير الفرنسية قائلًا: "قراءتي لجيرار كانت وحيًا حقيقيًا.. فهمت أن السياسة ليست مجرد مسألة برامج أو أفكار مجردة، بل هي أيضًا رغبة وتنافس وعنف".
على أن تأثير جيرار لم يقتصر على الجانب الفكري لفانس، بل امتد ليشمل قناعاته الدينية أيضًا؛ فقد صرّح فانس بأن اكتشافه نظرية "كبش الفداء" لدى جيرار، من خلال كتاب "العنف والمقدّس" كان سببًا رئيسيًا في عودته إلى الإيمان الديني واعتناقه الكاثوليكية 2019.
للإشارة، اليمين المؤيد لترامب استغل تشاؤم جيرار حيال الديمقراطية والعصر الحديث، الذي يرى فيه فقدانًا للأسس الثقافية والدينية القديمة، ليؤكد أن الديمقراطية الليبرالية، من خلال إضعاف الأطر الأخلاقية والاجتماعية التقليدية، قد أدت إلى فوضى محاكاتية. هذه النخبة المحافظة ترى أن هذه الفوضى لا يمكن السيطرة عليها إلا من خلال التأكيد على سلطة قوية وقيم روحية ودينية عليا.
كذلك، يُعتبر بيتر ثيل، رجل الأعمال والمستثمر المعروف، أحد أهم نواقل الفكر الجيراري إلى النخبة المحافظة الأميركية؛ فهو طالب سابق لجيرار في جامعة ستانفورد، تأثر بأطروحات الفيلسوف الفرنسي فأصبح أداة ترويج مؤثرة لفكر أستاذه، بل تجاوز ذلك إلى تمويل الدراسات والجمعيات المكرّسة لأعمال الفيلسوف بسخاء لافت للانتباه، من أهمها موقع إيمتاتيو باللغة الإنجليزية وموقع رينيه جيرار باللغة الفرنسية.
في مقابلة مهمة مع الباحث الفرنسي دانيال لانس عام 2009، نُشرت مقتطفات منها على منصة يوتيوب، وصف ثيل الفيلسوف الفرنسي جيرار بأنه "أحد أواخر العلماء الموسوعيين العظام"، مؤكدًا أن عمق فكره وثراء نظرياته لم يُقدَّرا بعد حق قدرهما في الأوساط الأكاديمية والفكرية. وأوضح ثيل أن جيرار ترك أثرًا عميقًا وجذريًا على رؤيته للعالم، خاصة من خلال فهمه المتقدم للعنف التقليدي وآلية كبش الفداء.
ولم يتردد ثيل في تطبيق هذه المفاهيم النظرية على إستراتيجيته العملية كمستثمر ومدير أعمال، حيث يرى في التنافس التقليدي محركًا أساسيًا للابتكار والمنافسة الاقتصادية الشرسة. لكنه ذهب أبعد من ذلك بكثير، حيث نقل هذا الفكر إلى المجال السياسي بطريقة منهجية ومدروسة.
في مقابلة مطوّلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، يشرح ثيل أن جيرار أثّر بشكل جوهري على إستراتيجيته كمستثمر محنّك، وأيضًا على رؤيته السياسية الشاملة.. "في عالم يريد فيه الجميع بالضبط نفس الأشياء، يجب معرفة كيفية تحديد المحركات الحقيقية للصراع، وتمييز كباش الفداء الحقيقيين من المزيفين". هذا النهج الفكري المتطور نقله بعناية إلى صديقه المقّرب جيه دي فانس، الذي جعل من جيرار مرجعًا لا غنى عنه ولا بديل له في مساره الفكري والسياسي.
سيطرة الفكر الجيراري على اليمين المؤيد لترامب لا يحظى بالإجماع في الأوساط الأكاديمية والفكرية؛ فالعديد من المختصين البارزين ندّدوا بالتوظيف المسيء والمنحرف لمفاهيم جيرار الأصلية.
وفي مقال علمي مهم نُشر في المجلة الفرنسية "إسبري"، يشرح برنارد بيريه، الباحث في علم الاجتماع: "جيرار لم يرد أبدًا إضفاء الشرعية على الاستقطاب المدمر أو تعيين كباش الفداء كحل سياسي جاهز، بل على العكس تمامًا، كان يحذر باستمرار من مخاطر العنف الجماعي المدمرة"، مضيفًا أن استيلاء معسكر ترامب على إرث جيرار يقع في إطار ما سماه بـ"التلاعب الفكري المقصود"؛ فالمفاهيم الأساسية تُستخرج عمدًا من سياقها الأصلي وتُستخدم لأغراض حزبية ضيقة، بعيدًا كل البعد عن تعقيد العمل الأصلي وعمقه الفلسفي.
مفكرون آخرون، مثل الفيلسوف الفرنسي بيير أزو، يؤكدون أن نظرية كبش الفداء، رغم كونها محورية ومركزية في فكر جيرار، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخدم تبرير الاستقطاب السياسي المدمر.. "جيرار أراد بوضوح فهم العنف وتحليله، وليس تشجيعه أو تبريره. استخدام أفكاره النبيلة لتعيين الخصم السياسي ككبش فداء يعني خيانة حقيقية وصارخة لروح فكره الأصيل".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

ترامب يزيد الضغط على باول بزيارة المركزي الأميركي
ترامب يزيد الضغط على باول بزيارة المركزي الأميركي

الجزيرة

timeمنذ 17 ساعات

  • الجزيرة

ترامب يزيد الضغط على باول بزيارة المركزي الأميركي

قال البيت الأبيض إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سيزور مجلس الاحتياطي الفدرالي اليوم الخميس، في خطوة مفاجئة تصعد التوتر بين البنك المركزي والإدارة الأميركية. وانتقد ترامب مرارا رئيس المجلس جيروم باول لعدم خفضه أسعار الفائدة بمعدلات كبيرة، ووصفه بأنه "أحمق"، وعبّر علنا عن رغبته في إقالته. وكان الرئيس الجمهوري قد رشح باول لمنصب رئيس مجلس الاحتياطي خلال فترة ولايته الأولى، لكنه لم يرُق له اختياره بسبب الخلافات حول أسعار الفائدة والاقتصاد. ورشحه كذلك الرئيس السابق الديمقراطي جو بايدن لولاية ثانية. واتهم مسؤولو البيت الأبيض مجلس الاحتياطي بسوء إدارة عملية تجديد مبنيين تاريخيين في واشنطن العاصمة، مشيرين إلى ضعف الرقابة واحتمال حدوث احتيال. انتقادات وتهديد وتسببت الانتقادات العلنية التي وجهها ترامب لباول وتلميحه إلى احتمال إقالته في اضطراب الأسواق المالية سابقا وتهديد الدعامة الرئيسية للنظام المالي العالمي المتمثلة في أن البنوك المركزية مستقلة وبعيدة عن التدخل السياسي. وعادة ما يحجم الرؤساء الأميركيون عن التعليق على سياسة مجلس الاحتياطي احتراما لاستقلاليته لكن ترامب، الذي ينسف أسلوبه في الحكم الأعراف السياسية، لم يتبع هذا المثال. فمنذ عودته إلى منصبه في يناير/كانون الثاني الماضي، هاجم ترامب المؤسسات من شركات المحاماة إلى الجامعات والمؤسسات الإعلامية في محاولة لإعادة تشكيل المجتمع الأميركي بما يتماشى مع رؤيته. واستخدم اللهجة الحادة نفسها ضد مجلس الاحتياطي في محاولة للضغط على باول لخفض سعر الفائدة ، وألقى باللوم عليه لعدم تحفيز الاقتصاد بشكل أكبر.

واشنطن تلوّح بعقوبات على مسؤولين من جنوب أفريقيا
واشنطن تلوّح بعقوبات على مسؤولين من جنوب أفريقيا

الجزيرة

timeمنذ 19 ساعات

  • الجزيرة

واشنطن تلوّح بعقوبات على مسؤولين من جنوب أفريقيا

أقرّت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يدعو إلى مراجعة شاملة للعلاقات الثنائية مع جنوب أفريقيا، على خلفية ما اعتُبر انحيازا متزايدا لبريتوريا لقوى مناوئة لواشنطن، أبرزها روسيا والصين، إلى جانب دعمها المفترض لحركة المقاومة الإسلامية (حماس). ويأتي هذا التحرك وسط توتر متصاعد بين البلدين، لا سيما بعدما قدّمت جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية تتّهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وهي خطوة أثارت تحفظا داخل دوائر صنع القرار الأميركي. وتقدّم بمشروع القانون النائب الجمهوري رونّي جاكسون، الذي وصف علاقات جنوب أفريقيا بأنها "تحالف مع الشيوعيين والإرهابيين"، مطالبا بفرض عقوبات على مسؤولين في الحكومة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم. ورغم أن المشروع لا يزال بحاجة إلى تصويت في مجلسَي النواب والشيوخ قبل أن يصبح قانونا نافذا، فإن إقراره في اللجنة يُعدّ مؤشرا واضحا على تصاعد الخلافات، لا سيّما في ظل سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، الذي اتّهم سلطات جنوب أفريقيا بـ"التمييز العنصري ضد البيض"، وأطلق برنامجا خاصا لاستقبال لاجئين من ذوي الأصول الأوروبية (الأفريكانيين). ولم تصدر سلطات جنوب أفريقيا أي رد فعل حتى الآن، ولم يتم تحديد أسماء المسؤولين الذين قد تشملهم العقوبات المحتملة.

ترامب.. رقصة النهاية أم تأكيد الهيمنة؟ (1)
ترامب.. رقصة النهاية أم تأكيد الهيمنة؟ (1)

الجزيرة

timeمنذ 21 ساعات

  • الجزيرة

ترامب.. رقصة النهاية أم تأكيد الهيمنة؟ (1)

بينما يصوَّر أحيانًا كظاهرة شعبوية عابرة، يبدو دونالد ترامب في الواقع تعبيرًا صريحًا عن مرحلة انتقالية خطيرة في النظام العالمي، حيث تُختبر فيه أسس الهيمنة الأميركية القديمة أمام تحديات عالم متغير، ومجتمع داخلي منقسم. في هذا المقال، لا نتحدث عن مؤامرة، بل عن تخطيط إستراتيجي ديناميكي تمارسه الدول الكبرى منذ قرون. هذا النوع من التخطيط يتأثر بالبيئة ويتفاعل معها، لكنه يحتفظ بثبات إستراتيجي في الأهداف الكبرى: الهيمنة، والتفوق، وفرض القواعد. أما التكتيكات، فهي تتغير بحسب المرحلة والظروف. سنركّز في هذا السياق على أوروبا، والشرق الأوسط، والشرق الأقصى، والصين، لأنها تمثل مناطق الصراع الحيوي بالنسبة للولايات المتحدة، محور هذا المقال بالأساس، وفيها أعظم وأقوى الحلفاء والخصوم الذين يشكلون ملامح التحدي الحقيقي أمام استمرار الهيمنة الأميركية. إذا كانت أميركا قد وصلت إلى القمة، فإن هذا الموقع قد أصابها بشيء من التكبر وخمول القمة، بينما تنشط اليوم مناطق أخرى أكثر حيوية وقدرة على الإنتاج والنمو، ما يهدد بتغيير موازين القوة القواعد تُصنع لا تُتبع القوة في العلاقات الدولية لم تعد تقتصر على الجيوش، بل أصبحت متعددة الأبعاد: تكنولوجية، ومالية، وثقافية، ومعرفية.. إن من يمتلك القدرة على تشريع القواعد وتعديلها يمتلك بالضرورة سلطة الهيمنة، خاصة إذا كانت مدعومة برأسمال ضخم وبنية معرفية عالية. في أعقاب الحرب العالمية الثانية تبنّت الولايات المتحدة شعارات جذابة، تحترم الروح القومية المتصاعدة آنذاك، واستخدمت هذه الشعارات كأداة لإعادة تشكيل النظام العالمي بطريقة تضمن بقاءها في موقع القيادة، وتمنحها شرعية واسعة في أعين الشعوب والحكومات التي سعت لإدماجها في منظومتها؛ حيث صاغت النظام العالمي الجديد، مؤسسات وقواعد، واستثمرت في حلفاء يمكن الاعتماد عليهم، مع ضمان تبعيتهم الناعمة لها. بذلك، استطاعت واشنطن تحقيق سيطرة فعالة دون صدام مباشر، وهذا الترتيب جاء بعد أن استُنزف الغرب الأوروبي في الحرب، وورثت أميركا قيادة المشروع الغربي الذي جمع بين الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية. هذا، لا يعني بالضرورة أن الأطراف الأخرى كانت جاهلة بما تفعله القوى الكبرى (وإن لم تكن دائمًا معلَنة بكل تفاصيلها)، ولكنها ربما كانت غير قادرة على التحرك لإيقاف هذا المخطط. ولهذا، تتبنى الدول والتنظيمات الأقل قوة أحيانًا سياسة المجاراة، حتى تتمكن من تغيير الوضع لمصلحتها لاحقًا، أو الاندماج في الإستراتيجية القائمة، ما دامت أنها تحقق لها بعض المكاسب المرحلية التي يمكن استثمارها مستقبلًا لتحسين وضعها. ولكن أميركا- وكأي قوة عظمى- أنهكت نفسها من أجل بسط سيطرتها، فالعالم اليوم لا يشبه ما كان عليه عشية الحرب العالمية الثانية.. كثير من الدول تعلمت الدرس، وخبرت كيف تُدار الأمور وفق القواعد التي وضعتها الحضارة الغربية، واكتسبت فهمًا عميقًا لدهاليز النظام العالمي، وطريقة تفكير الولايات المتحدة. وإذا كانت أميركا قد وصلت إلى القمة، فإن هذا الموقع قد أصابها بشيء من التكبر وخمول القمة، بينما تنشط اليوم مناطق أخرى أكثر حيوية وقدرة على الإنتاج والنمو، ما يهدد بتغيير موازين القوة. التحدي الداخلي: الديمقراطيون كخصم إستراتيجي؟ تعيش الولايات المتحدة الأميركية اليوم لحظة فارقة من تاريخها السياسي، إذ وجدت نفسها أمام تحدٍّ خطير يفرض إعادة النظر في مكانتها كقوة مهيمنة في العالم. غير أن هذه الضرورة الإستراتيجية اصطدمت بانقسام داخلي حاد حول الكيفية المثلى للتعامل مع الأزمة، رغم وجود اتفاق عام بين مختلف التيارات على أن ثمة خللًا حقيقيًّا يهدد استمرار الدور الأميركي القيادي عالميًّا. ففي قلب هذا الانقسام، تظهر معضلة جوهرية: أيجب أن يوجَّه فائض الأرباح نحو تعزيز الرفاه الاجتماعي والاستقرار الداخلي، وتقليل الفوارق الطبقية، أم ينبغي توجيه هذا الفائض نحو دعم كبرى الشركات وتمكينها من إعادة توطين الإنتاج الصناعي في الداخل، لتعويض ما خسرته أميركا من قدرات صناعية خلال العقود الماضية، بعد أن أهمل الغرب الصناعة لصالح التكنولوجيا وتركها لآسيا، حيث برزت قوى شرقية تنافس الغرب في مجالات حيوية كانت حصرًا عليه؟ هذا التوتر، بين التوزيع الاجتماعي للثروة وإعادة بناء القوة الاقتصادية، يدفع بالصراع الأميركي إلى مستويات أعمق من مجرد خلاف حزبي تقليدي. ففي المعسكر الليبرالي، وتحديدًا داخل الحزب الديمقراطي، تتصاعد أصوات التيار التقدمي المدافعة عن قضايا اجتماعية وحقوقية، قد تبدو في غير محلها في ظل السياق الجيوسياسي الراهن؛ إذ تساهم هذه القضايا- من حيث لا تدري- في تشتيت الجهود وصرف الانتباه عن جوهر الصراع: استعادة الهيمنة العالمية. أما التيار المعتدل داخل الحزب ذاته، فيجد نفسه مضطرًا للتماهي مع هذه المطالب التقدمية، بحكم ارتباطه بشريحة من قاعدته الانتخابية. في المقابل، استطاع دونالد ترامب، بعد عودته إلى سدة الحكم 2025 توحيد البيت الجمهوري خلفه، وهو يسعى الآن لتوسيع هذا التماسك إلى نطاق وطني. وقد ركّز بشكل ملحوظ على مهاجمة التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي؛ لأنه يشكّل الحلقة الأضعف جماهيريًّا، ما يجعل ضربه أسهل وسيلة لزعزعة صورة الحزب ككل، دون الدخول في تعقيدات الصراع مع بقية التيارات، أو طرح بدائل تفصيلية لسياساته. يرى ترامب أن الحل يكمن في تبني خيارات اقتصادية قاسية، تتطلب خفضًا في التكاليف الإنتاجية، وهو ما يعني بالضرورة إفقار بعض الطبقات داخل المجتمع الأميركي. وهذه الفئات، بإحساسها المتنامي بالظلم، تصبح وقودًا لاضطرابات داخلية قد تقوّض الاستقرار الأميركي من الداخل، خاصة أن الشعور بالظلم كان ولا يزال من أقوى محركات الفعل الجماعي في التاريخ البشري، وهذا بدوره سيغذي الحزب الديمقراطي، مما سيدفع نحو مزيد من التوتر. وبينما يرى ترامب أن الدولة الأميركية لم تعد تملك ترف التساهل أو اللين، فإن التيارات التقدمية تتعامل- من وجهة نظره- برؤية لا تعترف بخطورة التحديات التي تواجه أميركا، وتبدو كأنها منفصلة عن الواقع. إن التحدي الأكبر للولايات المتحدة اليوم لا يأتي من الخارج فقط، بل من الداخل أيضًا؛ فالفشل في إيجاد توازن بين المطالب الاجتماعية الضرورية من جهة، ومتطلبات إعادة بناء القوة الاقتصادية من جهة أخرى، قد يسرّع انحدار الولايات المتحدة إلى نقطة تصعب العودة منها. وما يزيد المشهد تعقيدًا هو أن كلا الطرفين يمتلك جزءًا من الحقيقة، مما يوسّع الهوة بينهما، ويجعل التوصل إلى أرضية مشتركة أمرًا بالغ الصعوبة. وفي ظل استمرار هذا الانقسام العميق، يبدو أن ثمة سيناريوهين محتملين: إما بروز شخصية قوية قادرة على فرض رؤيتها، وتوحيد الداخل خلفها بالقوة إن لزم الأمر، وهو ما يسعى ترامب لتجسيده؛ أو استمرار التشرذم والانقسام، ما قد يؤدي إلى إضعاف أميركا من الداخل، حتى قبل أن تخسر موقعها في النظام العالمي. يقدم ترامب المعركة على أنها ليست فقط ضد خصومه في الحزب الديمقراطي، بل ضد حالة من التراخي والتفكك الداخلي الذي يراه الخطر؛ فهو يخوض معركة على جبهتين: داخلية تمس هوية الدولة واتجاهها الاقتصادي والاجتماعي، وخارجية تتعلق بإعادة فرض الهيمنة الأميركية على عالم بات أقل استعدادًا للخضوع. أوروبا: الحليف المنهك التحالف الأميركي الأوروبي، الذي شكّل محور الهيمنة الغربية بعد الحرب، بدأ يفقد بريقه. أوروبا، الغارقة في البيروقراطية، لم تعد تملك نفس القوة التي كانت تؤهلها للعب دور الشريك الرئيسي كما في السابق، خاصة بعد أن فقدت الكثير من نفوذها في مناطق مثل أفريقيا لصالح قوى صاعدة كالصين وروسيا وبعض دول الخليج العربي. بالضرورة، لا تسعى الولايات المتحدة إلى التخلص من حليفها الأوروبي، بل إلى إعادة تقييم العلاقة، وصياغة شراكة جديدة تنسجم مع موازين القوة الراهنة في العالم. يمثل ترامب القوة التي تتبى رؤية أن أوروبا لم تعد تحتل ذات المكانة الإستراتيجية التي كانت لها في السابق، وهو يسعى لدفعها لتحمل جزء أكبر من أعباء الدفاع عن هذا الثغر. هذا التوجه لا ينبع من عداء، بل من قراءة واقعية لمعادلات النفوذ المتغيرة، حيث أصبحت مناطق مثل الشرق الأوسط ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ أكثر حيوية وتأثيرًا في المستقبل. ومن خلال هذا، يسعى ترامب إلى إعادة توزيع النفوذ بطريقة تُبقي الولايات المتحدة في موقع القيادة، عبر تدوير التحالفات والسيطرة على سلم الصعود والهبوط الدولي، بحيث تظل أميركا طرفًا لا غنى عنه لكل من يطمح إلى الصعود أو يخشى التراجع. لقد تبنّت أميركا قيادة العالم من بعد بريطانيا كوريث شرعي لقيم ومؤسسات الغرب، خاصة بعد أن استُنزف الغرب الأوروبي بالحرب العالمية، بينما كانت أميركا- التي نشأت من رحم مجتمعات مشابهة لأوروبا- مستعدة لحمل الراية الغربية: الديمقراطية، والرأسمالية، والليبرالية. سعت واشنطن لاحتواء الحلفاء القدامى ودعمهم لضمان تبعيتهم المستمرة ضمن نظام عالمي جديد تقوده هي. ومن بين أبرز محفزات هذا التحالف كان التهديد المستمر من الشرق (الاتحاد السوفياتي)، الذي برز بعد الحرب كقوة كبرى تهدد الهيمنة الغربية. لقد شكل الاتحاد السوفياتي تهديدًا دائمًا للقارة، وهو ما منح أميركا شرعية لحماية أوروبا وتوسيع نفوذها من خلال الناتو. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، تمادت واشنطن في التمدد شرقًا، مما أشعر روسيا- وريثة الاتحاد السوفياتي- بالحصار والتهميش. إعلان وعادت موسكو اليوم، من خلال حربها في أوكرانيا، لتشكل تهديدًا جديدًا للمنظومة الغربية، تسعى أميركا لاستثماره على أكثر من صعيد: من خلال تحفيز أوروبا على الاصطفاف من جديد تحت رايتها وفقًا لشروط جديدة، واستنزاف روسيا في حرب تدور على عتبة دارها. تُدرك واشنطن أن روسيا اليوم ليست خصمًا مكافئًا، لكنها تمثل تهديدًا يُمكن توظيفه لإعادة إنتاج قيادة أميركا للتحالف الغربي، مع كلفة منخفضة نسبيًّا، ريثما تتفرغ للمواجهة الكبرى مع الصين، التي من المرجح أن تتحالف مع روسيا (لذلك تفضل روسيا أضعف وأقرب للغرب) في حال دارت حرب بينها وبين أميركا. هكذا ترى أميركا أن الخطر الروسي هو أداة ضغط وشرعية لإعادة هندسة التحالفات الأوروبية، بينما تبقى الصين الخطر الأكبر والأكثر جدية في الصراع العالمي المقبل. هكذا تبدو التحديات التي تواجه ترامب في الغرب، فماذا عن الشرق؟. هذا ما نستعرضه في الجزء الثاني من المقال.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store