logo
نظريات رينيه جيرار.. أداة سياسية بأيدي النخبة المحافظة الأميركية

نظريات رينيه جيرار.. أداة سياسية بأيدي النخبة المحافظة الأميركية

الجزيرة٢١-٠٧-٢٠٢٥
في قلب الدوائر الفكرية الأميركية، وتحديدًا في أوساط اليمين المحافظ المؤيد لدونالد ترامب، يتردد اسم رينيه جيرار، الفيلسوف والأنثروبولوجي الفرنسي الذي توفي 2015.
وبينما ظل جيرار مجهولًا نسبيًا في موطنه فرنسا، تشهد أعماله نهضة فكرية غير متوقعة عبر المحيط الأطلسي، حيث تبنّتها شخصيات مؤثرة، مثل نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس، ورجل الأعمال المقرب من ترامب بيتر ثيل.
فكيف تحولت نظريات جيرار حول "العنف التقليدي" و"رغبة المحاكاة" وآلية كبش الفداء إلى أدوات سياسية في أيدي النخبة المحافظة الأميركية؟
جسّد جيه دي فانس، نائب الرئيس ترامب، الجيل الجديد من اليمين الأميركي الذي تبنى بقوة الفكر الجيراري؛ فقد تأثر فانس بشدة بأطروحات الفيلسوف الفرنسي، لدرجة أنه جعل من نظرية "كبش الفداء" مفتاحًا لقراءة السياسة الأميركية المعاصرة.
تأثير جيرار لم يقتصر على الجانب الفكري لفانس، بل امتد ليشمل قناعاته الدينية أيضًا؛ فقد صرّح فانس بأن اكتشافه نظرية "كبش الفداء" لدى جيرار، من خلال كتاب "العنف والمقدّس" كان سببًا رئيسيًا في عودته إلى الإيمان الديني
وفي مقال نُشر في صحيفة "ذي لمب ماغازين" (the lamp magazine) أبريل/ نيسان 2020 بعنوان: "كيف التحقت بالمقاومة"، أوضح فانس أن نظرية "كبش الفداء" لرينيه جيرار ساعدته على فهم صعود الاستقطاب السياسي في الولايات المتحدة بشكل أعمق وأشمل.
"عندما يكون المجتمع في أزمة عميقة، يبحث دائمًا عن مذنب يحمّله مسؤولية الأزمة. اليوم، النخبة الليبرالية تلعب هذا الدور التاريخي".. هذه القراءة النظرية دمجها فانس بشكل عملي في حملته الانتخابية وعمله السياسي اليومي، منددًا بانتظام بـ"النخب المنقطعة عن الواقع" وداعيًا للعودة إلى التقاليد الأصيلة والتضامن المجتمعي الحقيقي.
كذلك، يشرح فانس كيف أن اكتشاف النصوص الفلسفية لرينيه جيرار، وهو طالب في جامعة ييل، غيّر رؤيته الجذرية للعالم، ودفعه للانخراط بقوة في السياسة. وهو ما يشرحه في مقابلة مع صحيفة "واشنطن بوست" حيث يقول: "جيرار جعلني أفهم أن الصراع في قلب الحياة الاجتماعية، وأن السياسة تتمثل غالبًا في تعيين المذنبين لاستعادة الوحدة الاجتماعية".
كما أضاف في تصريح أدلى به في مقابلة مع إذاعة فرانس كولتير الفرنسية قائلًا: "قراءتي لجيرار كانت وحيًا حقيقيًا.. فهمت أن السياسة ليست مجرد مسألة برامج أو أفكار مجردة، بل هي أيضًا رغبة وتنافس وعنف".
على أن تأثير جيرار لم يقتصر على الجانب الفكري لفانس، بل امتد ليشمل قناعاته الدينية أيضًا؛ فقد صرّح فانس بأن اكتشافه نظرية "كبش الفداء" لدى جيرار، من خلال كتاب "العنف والمقدّس" كان سببًا رئيسيًا في عودته إلى الإيمان الديني واعتناقه الكاثوليكية 2019.
للإشارة، اليمين المؤيد لترامب استغل تشاؤم جيرار حيال الديمقراطية والعصر الحديث، الذي يرى فيه فقدانًا للأسس الثقافية والدينية القديمة، ليؤكد أن الديمقراطية الليبرالية، من خلال إضعاف الأطر الأخلاقية والاجتماعية التقليدية، قد أدت إلى فوضى محاكاتية. هذه النخبة المحافظة ترى أن هذه الفوضى لا يمكن السيطرة عليها إلا من خلال التأكيد على سلطة قوية وقيم روحية ودينية عليا.
كذلك، يُعتبر بيتر ثيل، رجل الأعمال والمستثمر المعروف، أحد أهم نواقل الفكر الجيراري إلى النخبة المحافظة الأميركية؛ فهو طالب سابق لجيرار في جامعة ستانفورد، تأثر بأطروحات الفيلسوف الفرنسي فأصبح أداة ترويج مؤثرة لفكر أستاذه، بل تجاوز ذلك إلى تمويل الدراسات والجمعيات المكرّسة لأعمال الفيلسوف بسخاء لافت للانتباه، من أهمها موقع إيمتاتيو باللغة الإنجليزية وموقع رينيه جيرار باللغة الفرنسية.
في مقابلة مهمة مع الباحث الفرنسي دانيال لانس عام 2009، نُشرت مقتطفات منها على منصة يوتيوب، وصف ثيل الفيلسوف الفرنسي جيرار بأنه "أحد أواخر العلماء الموسوعيين العظام"، مؤكدًا أن عمق فكره وثراء نظرياته لم يُقدَّرا بعد حق قدرهما في الأوساط الأكاديمية والفكرية. وأوضح ثيل أن جيرار ترك أثرًا عميقًا وجذريًا على رؤيته للعالم، خاصة من خلال فهمه المتقدم للعنف التقليدي وآلية كبش الفداء.
ولم يتردد ثيل في تطبيق هذه المفاهيم النظرية على إستراتيجيته العملية كمستثمر ومدير أعمال، حيث يرى في التنافس التقليدي محركًا أساسيًا للابتكار والمنافسة الاقتصادية الشرسة. لكنه ذهب أبعد من ذلك بكثير، حيث نقل هذا الفكر إلى المجال السياسي بطريقة منهجية ومدروسة.
في مقابلة مطوّلة مع صحيفة "نيويورك تايمز"، يشرح ثيل أن جيرار أثّر بشكل جوهري على إستراتيجيته كمستثمر محنّك، وأيضًا على رؤيته السياسية الشاملة.. "في عالم يريد فيه الجميع بالضبط نفس الأشياء، يجب معرفة كيفية تحديد المحركات الحقيقية للصراع، وتمييز كباش الفداء الحقيقيين من المزيفين". هذا النهج الفكري المتطور نقله بعناية إلى صديقه المقّرب جيه دي فانس، الذي جعل من جيرار مرجعًا لا غنى عنه ولا بديل له في مساره الفكري والسياسي.
سيطرة الفكر الجيراري على اليمين المؤيد لترامب لا يحظى بالإجماع في الأوساط الأكاديمية والفكرية؛ فالعديد من المختصين البارزين ندّدوا بالتوظيف المسيء والمنحرف لمفاهيم جيرار الأصلية.
وفي مقال علمي مهم نُشر في المجلة الفرنسية "إسبري"، يشرح برنارد بيريه، الباحث في علم الاجتماع: "جيرار لم يرد أبدًا إضفاء الشرعية على الاستقطاب المدمر أو تعيين كباش الفداء كحل سياسي جاهز، بل على العكس تمامًا، كان يحذر باستمرار من مخاطر العنف الجماعي المدمرة"، مضيفًا أن استيلاء معسكر ترامب على إرث جيرار يقع في إطار ما سماه بـ"التلاعب الفكري المقصود"؛ فالمفاهيم الأساسية تُستخرج عمدًا من سياقها الأصلي وتُستخدم لأغراض حزبية ضيقة، بعيدًا كل البعد عن تعقيد العمل الأصلي وعمقه الفلسفي.
مفكرون آخرون، مثل الفيلسوف الفرنسي بيير أزو، يؤكدون أن نظرية كبش الفداء، رغم كونها محورية ومركزية في فكر جيرار، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخدم تبرير الاستقطاب السياسي المدمر.. "جيرار أراد بوضوح فهم العنف وتحليله، وليس تشجيعه أو تبريره. استخدام أفكاره النبيلة لتعيين الخصم السياسي ككبش فداء يعني خيانة حقيقية وصارخة لروح فكره الأصيل".
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

هل سيكون لليث البلعوس دور في الحد من نفوذ الهجري؟
هل سيكون لليث البلعوس دور في الحد من نفوذ الهجري؟

الجزيرة

timeمنذ 6 دقائق

  • الجزيرة

هل سيكون لليث البلعوس دور في الحد من نفوذ الهجري؟

دمشق- في خطوة تعكس تصاعد الدور السياسي والأمني للقائد الدرزي ليث البلعوس، أجرى زعيم "قوات شيخ الكرامة" في السويداء سلسلة اتصالات مع نواب أميركيين بارزين خلال يوليو/تموز الجاري، لدعم استقرار المنطقة ومواجهة التدخلات الخارجية. وتمت الاتصالات بتيسير من منظمة "مواطنون من أجل أميركا آمنة"، وركزت على نزع فتيل التوترات الطائفية وتعزيز التعاون مع الحكومة السورية، والتصدي لنفوذ الشيخ حكمت الهجري ، الذي يتهمه البلعوس بتنفيذ أجندات خارجية. ليث البلعوس، ابن الشيخ وحيد البلعوس مؤسس " حركة رجال الكرامة"، اغتيل والده عام 2015. بعد انشقاقه عن الحركة عام 2016، أسس "قوات شيخ الكرامة"، وهي فصيل يضم نحو 50 مقاتلا، يركز على حماية السويداء من التدخلات والحفاظ على وحدة سوريا. وفي يوليو/تموز الجاري، تصاعدت التوترات بسبب اشتباكات درزية-بدوية، وهذا دفعه لتكثيف جهوده السياسية. اتصالات مثمرة أجرى السيناتور الجمهوري جو ويلسون محادثة هاتفية مع البلعوس وُصفت بـ"المثمرة"، ركزت على إنهاء العنف الطائفي، ومنع التدخلات الإسرائيلية ودعم استقرار الطوائف السورية. وأشاد ويلسون بشجاعة البلعوس، وعبّر عن قلقه من "المجازر الطائفية"، وعن غضبه من الغارات الإسرائيلية خلال مكالمة لاحقة مع السفير الإسرائيلي في واشنطن. كما شملت الاتصالات لقاءات مع أعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ، بما في ذلك مكاتب السيناتورين جيم ريتش وجين شاهين. وناقش البلعوس "اختطاف قرار الحرب والسلم للطائفة من قبل مجموعة صغيرة بقيادة الهجري"، متهما إياه بتنفيذ أجندات خارجية، خاصة إسرائيلية. وأكد تنسيقه مع الحكومة السورية بقيادة الرئيس أحمد الشرع لتفعيل الأمن في السويداء بمشاركة أبناء المحافظة. وقال بكر غبيس من منظمة "مواطنون لأجل أميركا آمنة"، وهي منظمة سورية أميركية عاملة في الولايات المتحدة، للجزيرة نت إن "لقاءً مهما جرى مؤخرا بين البلعوس ومكتب لجنة العلاقات الخارجية، لعرض مستجدات الأوضاع". وأضاف: "اللقاء كان بهدف إيصال صوت الشارع في السويداء، وقد شارك فيه الشيخ ليث كونه من أبناء المحافظة وله رصيد شعبي وثوري معروف، خاصة بين السوريين الذين كانوا مشاركين في الثورة ضد نظام بشار الأسد. لقد وجدنا أن من الضروري إيصال هذه المعطيات بشكل مباشر إلى أعضاء لجنة العلاقات الخارجية، خصوصا في مجلس الشيوخ الأميركي، نظرا لتأثيرهم واطلاعهم على مجريات الأحداث في المنطقة". وأوضح أن "البلعوس قدّم شرحا مفصلا لتقديره حول الوضع في السويداء، وكان هناك تفاعل كبير من أعضاء اللجنة مع النقاط التي طرحها، وعبروا عن تفهمهم لهمومه ومخاوفه. بعضهم أبدى تفهما لوجهة النظر الإسرائيلية فيما يتعلق بحماية حدودها، ولكنهم في الوقت نفسه شددوا على رفضهم القاطع للهجمات الإسرائيلية على سوريا، بل وأدانوها بشكل صريح". وأكد غبيس أن أعضاء اللجنة تعهدوا بمواصلة الضغط السياسي للتوصل إلى حل مستدام وسريع، وطالبوا باستمرار التواصل لمتابعة التطورات. البلعوس والهجري يُعد الشيخ حكمت الهجري شخصية مثيرة للجدل واتهمه البلعوس بمحاولة فرض سيطرة على قرارات الطائفة الدرزية وتأجيج الصراعات، خاصة عبر علاقات مزعومة مع أطراف خارجية. وأشار البلعوس إلى أن الهجري "يسعى لإشراك الدروز في صراعات لا تخدمهم، مما يهدد استقرار السويداء". وأكد التزامه بالعمل تحت مظلة الحكومة السورية، "مما يعزز موقفه كقائد وطني يرفض التدخلات، بعكس الهجري". في المقابل، هاجم مسؤول في "حركة رجال الكرامة" -رفض الكشف عن اسمه لدواع أمنية- ما وصفه بـ"محاولات إعلامية" لزج اسم الحركة في مواقف لا تمت لها بصلة، مشيرا إلى "الترويج الكاذب" لليث البلعوس كقيادي فيها. وقال للجزيرة نت "للأسف، يستمر الإعلام الرسمي وبعض المنصات المتواطئة في تضليل الرأي العام عبر تقديم البلعوس على أنه قيادي في الحركة. هذه الادعاءات باطلة جملة وتفصيلا. البلعوس ليس من صفوفها منذ عام 2016، ولا يملك أي صفة تنظيمية أو رمزية داخلها. بل على العكس، مواقفه وتحركاته الفردية تتناقض تماما مع مبادئنا ومسارنا الوطني". وتابع: "ما حدث في السويداء مؤخرا كان نتيجة مباشرة لنقض قوات النظام للعهد. نحن في الحركة نرفض أي تبرير لانتهاك كرامة أبناء الجبل، ولا نقبل أن يتم استخدام اسم الحركة كغطاء سياسي أو إعلامي لأي مشروع مشبوه". أما قتيبة شهاب الدين من "قوات شيخ الكرامة" فقال للجزيرة نت إن ليث ورث عن والده التمسك بالمشروع الوطني السوري، وإن الطريق الوحيد للسويداء هو العاصمة دمشق، "بعكس الهجري الذي زج السويداء في حرب طائفية مدعومة من الخارج، وخصوصا إسرائيل". وأضاف: "من المؤسف أن الهجري يتحالف اليوم مع ضباط من نظام الأسد، وتجار مخدرات، ولصوص، وقتلة، ويتلقى دعما من قوات سوريا الديمقراطية وإسرائيل، وكل ذلك فقط لعرقلة اندماج السويداء في إطار الدولة السورية، ليكون أداة بيد الخارج، على عكس الشيخ ليث الذي أدرك حجم المخططات ويحاول مواجهتها". تحولات بارزة من جهته، قال الباحث السوري باسل المعراوي للجزيرة نت إن هناك تحولات بارزة في النظرة الأميركية والإسرائيلية للملف السوري بعد إسقاط النظام السابق وبروز عهد سياسي جديد. وأوضح أن الولايات المتحدة كانت تنظر تقليديا إلى الشأن السوري من منظور إسرائيلي، لكن المقاربة بدأت تتغير، خصوصا في مسألة التمثيل الدرزي جنوب سوريا. وأشار إلى أن إسرائيل تسعى لاختزال التمثيل الدرزي بشخص الهجري، معتبرا إياه "متماهيا مع السياسات الإسرائيلية، ويسعى لتشكيل مليشيا درزية شبيهة بمليشيا أنطوان لحد في لبنان، وهو ما يتعارض مع السياسة الأميركية الجديدة". ووفق المعراوي، يتمحور الصراع في السويداء بين تيارين: وكشف أن الحكومة السورية اتخذت قرارا بعدم التعاون مع الهجري بسبب دعوته لقصف دمشق، معتبرة أن البلعوس يمثل المكوّن الدرزي الجدير بالشراكة، مما قد يسهم في إعادة الاستقرار. وأشار الباحث المعراوي إلى أن الجالية السورية في أميركا تدعم الحكومة "رغم ضعف خبرتها"، وأن تواصل النواب الأميركيين مع البلعوس قد يحد من الهيمنة الإسرائيلية. وختم بالتأكيد على أن واشنطن تميل الآن لدعم الاستقرار عبر المؤسسات الشرعية، بعيدا عن الكيانات الطائفية.

لماذا تعجز إسرائيل عن الانتصار حتى الآن؟
لماذا تعجز إسرائيل عن الانتصار حتى الآن؟

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

لماذا تعجز إسرائيل عن الانتصار حتى الآن؟

بعد ما يقرب من العامَين من الحرب على غزة والمنطقة، أظهرت "إسرائيل" تفوقًا ملحوظًا في المجالَين: العسكري، والأمني، مع دعم شبه مطلق من الولايات المتحدة، ما مكّنها من إنزال خسائر كبيرة بكل أعدائها، لكن ذلك لم يمنحها فرصة إعلان نصر واضح أو حاسم. التفوق الساحق منذ اللحظة الأولى، قررت دولة الاحتلال طي صفحة عملية طوفان الأقصى بكل تأثيراتها السلبية عليها والإيجابية لأعدائها، ضمن سياسة "كيّ الوعي" وفرض نسيان ما حصل يومها من انتكاسة كبيرة لها على كافة المستويات. كما ترسخت القناعة بالخطر الوجودي على دولة الاحتلال، ما فرض عليها تغيير تعاملها مع التهديدات التي تواجهها في المنطقة، إضافة إلى الرغبة في استعادة ثقة الجبهة الداخلية بالدولة والمؤسسة العسكرية والحكومة، فضلًا عن كون ما حصل فرصة غير مسبوقة لفرض وقائع ومسارات جديدة على المنطقة في إطار "تغيير خرائط الشرق الأوسط"، والتي كانت خطة معدة مسبقًا وُضعت في إطار التنفيذ. تفاعل كل ما سبق ليولّد "إسرائيل" جديدة، في ذروة العدوان والوحشية والدموية، بنظرية أمنية مختلفة، لا تنتظر حصول التهديد لتتعامل معه احتواءً أو إدارةً أو إفناءً، وإنما تسعى لمنع نشوئه، ومواجهة هذا الاحتمال/ الإمكانية بالقوة الغاشمة وبأقصى دموية ممكنة، بشكل متعمد، كبديل عن معادلة الردع التي تداعت يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. تبلور ذلك إبادةً جماعيةً في غزة، ذهب ضحيتها عشرات آلاف الشهداء، وأكثر منهم من الجرحى والمصابين، ونزوح معظم سكان القطاع، وتدمير شبه كامل لمؤسساته وبنيته التحتية، وخسائر كبيرة للمقاومة الفلسطينية في العتاد والرجال، وفي القطاعات العسكرية والسياسية والحكومية. وسعيًا للضغط بالقوة القصوى على المقاومة في المفاوضات، فرض الاحتلال حصارًا مطبقًا، وتجويعًا غير مسبوق، وتهجيرًا مستمرًّا لسكان القطاع؛ تمهيدًا لمشروع تهجير شامل إن استطاع. كل ذلك بغطاء أميركي كامل ساهم في قدرة "إسرائيل" على التعامل مع الضغوط الدولية. وفي لبنان، شنّت دولة الاحتلال حربًا ساحقة على حزب الله؛ بغية تدميره واجتثاثه، من خلال عمليات "البيجر" والاتصالات، ثم سلسلة الاغتيالات التي طالت قيادات عسكرية وأمنية وسياسية وازنة، على رأسها أمينه العام السابق حسن نصر الله، بكل ما يمثله من ثقل ورمزية وقدرات قيادية. وترافق ذلك مع مئات الغارات التي استهدفت أسلحته وصواريخه الإستراتيجية، وتبعها توقيع الاتفاق المجحف لوقف إطلاق النار، وإطلاق يد "إسرائيل" في لبنان قصفًا وتوغّلًا واغتيالًا، مع ضغط الجبهة الداخلية اللبنانية لتسليم سلاح الحزب. كما لا يمكن تجاهل آثار تغيير النظام في سوريا على خطوط إمداد الحزب وقدرته على التعافي. وفي إيران، وجّهت "إسرائيل" لها خلال "حرب الـ12 يومًا" ضربات موجعة، بالاغتيالات، واستباحة الأجواء، وتدمير منظومات الدفاع الجوي، وصولًا لاستهداف المنشآت النووية بالقصف الأميركي المنسق معها. كما استهدفت قوات الاحتلال اليمن مرات عديدة، مُوقعة خسائر فادحة في ميناء الحُديدة ذي الأهمية الإستراتيجية، فضلًا عن غارات جوية مستمرة، ومحاولات الاغتيال. وفي سوريا، ورغم غياب أي تهديد حقيقي لها، أعلنت "إسرائيل" إلغاء اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 من جانب واحد، واحتلت مساحات جديدة، وسيطرت على مصادر المياه، وقصفت قرب القصر الرئاسي، وهددت باغتيال الرئيس أحمد الشرع، وأعلنت جهارًا دعم الأقليات، وهددت بتقسيم البلاد، وفرضت واقعًا جديدًا في السويداء تفاوض دمشق بخصوصه، فضلًا عن تدمير معظم الأسلحة وقدرات الدولة السورية. لا انتصارَ ساحقًا يعطي كل ما سبق انطباعًا بأن "إسرائيل" هزمت كل أعدائها، بل وخصومها المحتملين مستقبلًا، وحقّقت الانتصار الكامل الذي طالما وعد به نتنياهو، وأنها أعادت فعلًا رسم خرائط المنطقة بالقوة والنار، على ما تبجّح به الأخير. والحقيقة أن هذا ليس مجرد انطباع خاطئ وحسب، بل هو إيحاء تعمل على ترسيخه البروباغندا "الإسرائيلية"، لتخدم أهدافًا داخلية وخارجية على حد سواء. في غزة، بؤرة الحرب الرئيسة والجبهة التي أذلّت الاحتلال يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وهزّت دعائم نظريته الأمنية وتفوّقه الاستخباري والعسكري، في تلك الجبهة المحاصَرة تمامًا والمفتقدة للدعم الخارجي بالكامل، تكيّفت المقاومة بقيادة كتائب القسام بنيويًا ومؤسسيًا وميدانيًا بحيث ما زالت تُنازل الاحتلال رغم ضخامة الخسائر التي تعرضت لها. أثبتت الكتائب قدرتها على استنزاف العدو وإيقاع خسائر كبيرة فيه، بل وطوّرت عملها لمحاولة أسر جنود إضافيين في المعركة. وما زالت المقاومة ممسكة بورقة الأسرى، والتي هي ورقتها الأقوى في مسار التفاوض، الذي يؤكد بدوره أنها ما زالت عصية على الهزيمة والانْسحاق، بما يفرض على الطرف الآخر التفاوض معها حتى اللحظة. وفي لبنان، ورغم الخسائر صعبة التعويض، لم ينكسر حزب الله ولم يستسلم، ورغم مرونته الكبيرة- والمستغرَبة- في موضوع السلاح جنوب نهر الليطاني، حيث تتحدث التقارير عن مصادرة معظم سلاحه هناك، فإنه بعيد جدًّا عن فكرة تسليم السلاح، وما زال الرئيس جوزيف عون مصرًّا على سيناريو الحوار الداخلي بهذا الخصوص وليس المواجهة. كما ارتفعت وتيرة تصريحات الحزب مؤخرًا، بما في ذلك تصريح أمينه العام نعيم قاسم، بأنه يتعافى ورمّم الكثير من خسائره، وبات "مستعدًّا للمواجهة" إن اضطر لها. كما أن إيران استوعبت الصدمة الأولى وخاضت حرب استنزاف لاحقة، مستهدفة- كما كشفت تقارير لاحقة- الجبهة الداخلية "الإسرائيلية"، وبعض المواقع الحساسة بدقة فاقت التوقعات. كما فرضت صواريخها معادلات ردع جديدة دفعت نتنياهو للدعوة إلى وقف إطلاق النار بعد الضربة الأميركية للمنشآت النووية، وهذا- من البديهي- ليس موقف مَن حقق انتصارًا كاسحًا. كما أنه ليس من المعروف حتى اللحظة مدى الضرر الذي تعرض له المشروع النووي، بل تشير معظم التقديرات إلى عدم تدميره بالكامل، ما يعني إمكانية استعادته النشاط، وبشكل أسرع ربما، إن توفرت إرادة سياسية لذلك. ولعل اليمن أقل الجبهات التي تعرضت لضربات "إسرائيلية" كبيرة، وهي- للمفارقة- الجبهة التي ما زالت على نشاطها وفاعليتها، مع سقف خطاب أعلى بكثير اليوم، وبوعيد بتصعيد الاشتباك مع الاحتلال؛ بسبب حرب التجويع لأهل غزة. والخلاصة.. يتيح التفوق العسكري والاستخباري الكبير لدولة الاحتلال، والذي بنته لها الولايات المتحدة الأميركية على مدى عقود، وانخراط الأخيرة بشكل واسع في الحرب دعمًا وغطاءً ومشاركة فعلية (كما حصل في إيران وجبهات أخرى)، يتيح لها توجيه ضربات قاسية لأعدائها، بما يشمل الدمار الكبير، والاغتيالات الوازنة، والاختراقات العميقة، وبما يتسبب بخسائر بشرية كبيرة جدًّا، ولا سيما في غزة. لكن كل ذلك لم يمكّنها من تحقيق الانتصار، ولا حتى ادعائه. تحاول دولة الاحتلال أن تُصوّر الخسائر الكبيرة التي تسببت بها على أنها النتيجة النهائية للحرب، ويتساوق معها البعض أحيانًا، إما جهلًا بالوقائع، أو تحت ضغط الأزمة الإنسانية الخانقة، أو بسبب أجندات سياسية معروفة. لكن ذلك غير دقيق بالمرة، ليس تقليلًا من شأن الإنسان، شهيدًا وأسيرًا ومصابًا ومهجّرًا ومجوَّعًا، ولا تقزيمًا من قدرات "إسرائيل" وأثر الدعم الذي تحظى به، ولكن لأن ذلك جزء من تقييم المعركة/الحرب، وليس نتيجتها النهائية. لقد فصّلنا في مقالات سابقة العوامل التي تُقيّم نتائج الحروب على أساسها، والتي منها بالتأكيد الخسائر البشرية والمادية، ولكنها ليست الوحيدة، وفي أحيانٍ كثيرة ليست الأولى، فكم من دولة قدّمت خسائر أكبر بكثير من عدوّها ولكن انتصرت عليه في النهاية. فإذا كان ذلك حال الدول، فحركات التحرر الوطني ومقاومة الاحتلال أولى وأجدر. فضلًا عن أن المبالغة في الوحشية مع المدنيين مقصودة لذاتها من قبل "إسرائيل"، ما يدفع للحذر من الوقوع في فخ التقييم الذي تنصبه. كل ذلك في حال وُضعت الحرب أوزارها واتضحت نتائجها بشكل كامل، فما بالنا والحرب مستمرة، وهي- بالمعنى الأشمل- طويلة الأمد، قد تقف مؤقتًا، لكن مسارها ومفاعيلها مرشحة دائمًا للانفجار والتوسع، ولا سيما في ظل النوايا المعلنة لنتنياهو وشركائه؟ والإشارة الأخيرة، أنه كلما أظهر طرف من الأطراف مرونة كبيرة وسعيًا ملحوظًا لوقف الحرب، تَصَلَّب الموقف "الإسرائيلي" أكثر، وبات أكثر عدوانية ودموية. وقد تكرر الأمر في غزة، ولبنان، وسوريا، وإيران. أخيرًا، ما زالت نتائج عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول قائمة، لم تُمحَ ولم تُنسَ، وسيُبنى عليها. وأما تفاعلاتها ومآلاتها طويلة الأمد، فما زالت لم تتبلور جميعها بشكل واضح وكامل. قد نكون اليوم أمام نصف الساعة الأخير من الجولة الحالية من الحرب، وقد نكون أمام جولة ممتدة، لذلك فالمنطق المُجدي تركيزُ كافة الجهود لتعزيز أوراق القوة، وزيادة الضغط على "إسرائيل"، وليس العكس. فالمطلوب حاليًّا الصمود وتعزيز الموقف، وإلّا تحوّلت الأزمة الإنسانية التي تسبب بها الاحتلال إلى انتصار إستراتيجي له، وهذا ما ينبغي منعه. إعلان

ميدفيديف مخاطبا ترامب: لسنا إسرائيل ولا إيران والإنذارات خطوة نحو حرب بيننا
ميدفيديف مخاطبا ترامب: لسنا إسرائيل ولا إيران والإنذارات خطوة نحو حرب بيننا

الجزيرة

timeمنذ 6 ساعات

  • الجزيرة

ميدفيديف مخاطبا ترامب: لسنا إسرائيل ولا إيران والإنذارات خطوة نحو حرب بيننا

وجّه الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف انتقادا شديدا للرئيس الأميركي دونالد ترامب ، بعدما هدد الأخير بتعجيل الموعد النهائي الذي منحه لروسيا للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع أوكرانيا. وقال ميدفيديف "كل إنذار نهائي جديد هو تهديد وخطوة نحو الحرب. ليس بين روسيا وأوكرانيا، بل مع بلاده (أميركا)"، وأضاف في منشور على منصة إكس أن "روسيا ليست إسرائيل أو حتى إيران"، في إشارة إلى الحرب القصيرة التي اندلعت بين البلدين الشهر الماضي، التي شنت خلالها الولايات المتحدة ضربات على إيران لدعم إسرائيل. وميدفيديف، الذي كان رئيسا لروسيا بين عامي 2008 و2012، لا يزال لديه تأثير كبير في موسكو، حيث يشغل منصب نائب رئيس مجلس الأمن القومي. وجاءت تصريحاته ردا على تصعيد ترامب لهجته ضد روسيا في ظل عدم إحراز تقدم لوقف الحرب في أوكرانيا. وفي وقت سابق من الشهر الجاري، هدد ترامب بفرض رسوم جمركية قاسية على شركاء روسيا التجاريين إذا لم توافق موسكو على وقف إطلاق النار خلال 50 يوما، وأعطى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مهلة نهائية حتى الثاني من سبتمبر/أيلول المقبل. ولكن خلال اجتماع مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أمس الاثنين، قال ترامب إنه "سيقلل الـ50 يوما التي حددها إلى عدد أقل من الأيام"، قائلا إن هذا يمكن أن يكون "10 أيام أو 12 يوما". وأشار الرئيس الأميركي إلى أنه يشعر "بخيبة أمل كبيرة" من بوتين بسبب مواصلة ضرب روسيا أهدافا مدنية في أوكرانيا، ولفت إلى أنه ليس مهتما بالحديث مع بوتين، وأضاف "شعرتُ حقا أن الأمر سينتهي. لكن في كل مرة أظن فيها أنه سينتهي، يقتل مزيدا من الناس.. لم أعد مهتما بالتحدث معه".

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store