
أنس.. من الشاهد إلى الشهيد: تشريح إفلاس القاتل
لم تكن هذه وصية رجل يستسلم للموت، بل كانت نصا تأسيسيا لمعركة قادمة، إستراتيجية مضادة كُتبت باليقين في وجه صاروخ لم يكن يهدف إلى قتل جسد، بل إلى اغتيال حقيقة.
إن استشهاد أنس الشريف وزميله محمد قريقع 10 أغسطس/ آب 2025 ليس مجرد جريمة حرب تُضاف إلى سجل طويل ومظلم؛ بل هو لحظة انكسار تكشف عن إفلاس إستراتيجي وأخلاقي كامل لـ"معسكر الاحتلال"، إنه ليس مجرد خبر، بل هو عارض مرضي لحالة تحتضر، وعلامة فارقة في معركة "الطوفان الثقافي" الذي يعيد تشكيل وعي العالم.
هذا المقال ليس رثاء، بل هو تشريح دقيق لهزيمة القاتل في اللحظة التي توهم فيها أنه انتصر.
تجريد أدوات المعركة: حين تصبح الكاميرا أخطر من الدبابة
لفهم عمق ما حدث، يجب أن نجرد المعركة من أدواتها المادية ونتأمل في وظائفها الرمزية. في حروب القرن العشرين، كانت القوة تقاس بالحديد والنار، بالدبابات والطائرات. أما في حرب السرديات المعاصرة، حرب الوجود والهوية، فقد أصبحت "الكاميرا" هي خط المواجهة الأول، وسلاح الردع الأكثر فاعلية.
في يد صحفي مثل أنس الشريف، لم تكن الكاميرا مجرد أداة نقل سلبية، بل كانت أداة "خلق للواقع" في وعي العالم، قوة فاعلة تُبطل مفعول آلة دعاية كلفت مليارات الدولارات.
كل صورة بثتها، كل تقرير حي نقلته من قلب الدمار، كان يمثل طلقةَ حقيقةٍ في وجه سردية الخصم! لقد كشفت الكاميرا عن "عدم التوازن" الهائل بين قوة عسكرية غاشمة وحقيقة إنسانية مجردة، وأجبرت العالم على النظر إلى ما كان يُراد له أن يبقى في الظلام.
هنا، لجأ المعسكر الآخر إلى أداته المضادة: الاغتيال! لكن، يجب أن نرى هذا الاغتيال على حقيقته، ليس كعمل عسكري تكتيكي، بل كعمل "معرفي" يائس.
إنه إستراتيجية "اقتل الشاهد"، التي لا تهدف إلى القضاء على فرد، بل إلى القضاء على "زاوية الرؤية" التي يمثلها، إطفاء النور لخلق فراغ معلوماتي، صندوق أسود تُرتكب فيه الفظائع دون أن يراها أحد.
إنه اعتراف صريح ومذل بالهزيمة في ساحة النقاش، والإقرار بأنهم لا يستطيعون مواجهة الصورة، فيلجؤون إلى تدمير العين التي تلتقطها.
لكن، من رحم هذا العنف وُلدت الأداة الثالثة، الأقوى على الإطلاق: "الوصية" كسلاح للخلود. لقد ارتكب القاتل خطأ إستراتيجيا قاتلا؛ لقد حوّل الشاهد إلى شهيد، والشاهد يمكن إسكاته، أما الشهيد فهو شخصية لا تموت، تتجاوز الزمان والمكان.
وصية أنس الشريف المسجلة أصبحت "نصا مقدسا" في هذه المعركة الثقافية، منشورا لا يمكن حذفه، وصوتا لا يمكن خنقه. فعل القتل، الذي هدف إلى الإنهاء، أطلق عملية "بعث" للسردية على مستوى أوسع وأكثر ديمومة، محققا بعمله ذاك عكس ما أراده تماما.
البعد التاريخي: أصداء إستراتيجية اليائسين
إن إستراتيجية "اقتل الشاهد" ليست ابتداعا جديدا، بل هي علامة مسجلة تاريخيا للأنظمة التي تبدأ بفقدان شرعيتها وتوازنها… إنها صدى يتردد عبر تاريخ الصراعات المظلمة.
في فيتنام، لم تكن الطائرات الأميركية تخشى شيئا قدر خشيتها من عدسات مصورين مثل "نيك أوت"، الذي التقط صورة الطفلة الهاربة من جحيم النابالم، وهي الصورة التي فعلت ما لم تفعله الجيوش في تغيير الرأي العام الأميركي.
وفي حصار سراييفو، كان قناصة الصرب يتعمدون استهداف الصحفيين؛ لأن تقاريرهم كانت تجلب التعاطف الدولي، وتحشد الضغط السياسي. وفي نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كانت كبرى المعارك هي معركة منع الكاميرات من توثيق حقيقة القمع.
النمط ثابت وواضح: اللجوء إلى استهداف الصحفي هو العرض الأخير لمرض "الاستبداد المعرفي"، وهو يأتي دائما عندما يعجز النظام عن تبرير أفعاله، فيلجأ إلى منع توثيقها.
إنه ليس علامة قوة، بل هو تشنج ضعف، واعتراف بأن الحقيقة التي يحملها هذا الصحفي أصبحت خطرا وجوديا على سردية الدولة بأكملها. ما يميز لحظة أنس الشريف هو أن هذا الفعل اليائس يحدث في عصر رقمي لا يرحم، حيث تتضاعف تداعيات قتل الشاهد بشكل لا نهائي.
الطوفان الثقافي والسد المنهار
وهنا، تتحول فكرة "الطوفان الثقافي" من كونها مجرد مفهوم نظري، لتصبح حقيقة ملموسة وهادرة يؤكدها القاتل بفعلته. هذا الطوفان ليس شيئا مجردا، بل هو النتيجة الحتمية والمباشرة لمحاولتهم اليائسة إخفاء الحقيقة.
فالطوفان يتجسد واقعا في آلاف عمليات إعادة نشر وصية أنس الشريف، وفي ملايين التغريدات التي حولت اسمه إلى وسم عالمي، وفي وجوه المتظاهرين من طوكيو إلى نيويورك الذين رفعوا صورته.
كل مقطع فيديو يحلل جريمته، وكل مقال يُكتب عن إرثه، وكل ناشط يحمل قصته.. كل شيء من ذلك هو قطرة في هذا الطوفان الذي أطلقوه بأيديهم.
لقد ظنوا أنهم باغتيال الشاهد يبنون سدا من الصمت، لكن الصاروخ الذي قتله لم يكن حجرا في هذا السد، بل كان الديناميت الذي نسفه بالكامل، مُطلقا موجة عاتية من الوعي الجمعي والغضب الإنساني. إنهم لم يواجهوا الطوفان؛ بل إنهم، بفعلتهم هذه، من استدعوه وأثبتوا وجوده وقوته التي لا يمكن السيطرة عليها.
الإفلاس الكامل لمعسكر الاحتلال
إن اغتيال أنس الشريف ليس مجرد جريمة، بل هو شهادة إفلاس شاملة للمعسكر الذي ارتكبها، ويمكن تشريح هذا الإفلاس على ثلاثة مستويات:
إعلان
الإفلاس الأخلاقي: إن الانتقال من مرحلة التكذيب (اعتبار ما تقوله الجزيرة كذبا) إلى مرحلة الاغتيال المباشر، مع تبريره السخيف باتهام صحفي معروف بأنه "قائد خلية"، هو إعلان صريح بالتخلي عن آخر قناع أخلاقي، أو أي ادعاء بالانتماء إلى عالم يحترم القانون الدولي وحرية الصحافة.
الإفلاس الإستراتيجي: على المدى الطويل، هذا الفعل هو انتحار إستراتيجي؛ فلقد حولوا صحفيا محترفا إلى أيقونة عالمية خالدة، لقد منحوا خصومهم رمزا لا يُقهر وقصة ملهمة ستتردد لعقود.. لقد حققوا خسارة إستراتيجية فادحة مقابل مكسب تكتيكي، يتمثل في إسكات صوت واحد ليوم واحد.
الإفلاس السردي: وهذه هي النقطة الأهم.. عندما تلجأ إلى القوة الغاشمة لإسكات حامل القصة، فأنت تعترف بشكل قاطع بأن قصته كانت هي الحقيقة، وأنك لا تملك قصة مضادة مقنعة أو حجة فكرية تواجهها، لقد خسرت "حرب الأفكار" فلجأت إلى "حرب الأجسام". إنه الإفلاس المطلق في سوق الشرعية العالمية، وإعلان الهزيمة في معركة العقول والقلوب.
أرادوا قتل الشاهد، فحوّلوه بجهلهم إلى "الدليل" نفسه؛ دليل أبدي، لا يمكن دحضه، على الجريمة وعلى إفلاس مرتكبها
إرث الشاهد
نعود من حيث بدأنا: وصية أنس الشريف.. لقد فهم بعمق قوانين المعركة الجديدة، فهم أن جسده "أداة" مؤقتة، لكن "الشهادة" كفعل يمكن أن تصبح إرثا خالدا. لم يكن مقتله نهاية سردية الحقيقة في غزة، بل كان الدليل الأكثر دموية وإقناعا على صحة كل حرف تم بثه من هناك.
أرادوا قتل الشاهد، فحوّلوه بجهلهم إلى "الدليل" نفسه؛ دليل أبدي، لا يمكن دحضه، على الجريمة وعلى إفلاس مرتكبها. وهذا هو قانون الكون الأزلي، حيث يولد من رحم الظلم المطلق- وبشكل حتمي- الضوء الذي يكشفه ويهزمه.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
جامعات ونقابات إسرائيلية تصعّد لوقف الحرب وإعادة الأسرى
القدس المحتلة – تتسع في إسرائيل رقعة المطالبات بوقف الحرب في غزة وإعادة المختطفين، مع انضمام مؤسسات أكاديمية ومجالس محلية إلى الإضراب الشامل، وطرح مبررات اقتصادية وأخلاقية وسياسية لهذه الخطوة، وسط دعوات لتكثيف الضغط على حكومة بنيامين نتنياهو -المطلوب لل محكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة- مقابل تحذيرات من تداعيات أمنية واقتصادية وإنسانية لاستمرار القتال. وتأتي هذه التحركات ضمن موجة احتجاجات غير مسبوقة، تهدف إلى إجبار الحكومة على إبرام صفقة تبادل تؤدي إلى إعادة جميع الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة، وإنهاء العمليات العسكرية في القطاع. وفي إطار هذه الموجة، أعلنت جامعات بارزة في القدس و تل أبيب وبن غوريون و حيفا ، إضافة إلى معهد التخنيون، عن مشاركتها في الإضراب العام المقرر الأحد المقبل، استجابة لدعوات عائلات الأسرى التي ترى في الإضراب أداة فعالة لدفع الحكومة نحو الاستجابة لمطالبها. كما التحقت بالإضراب نقابات مهنية مثل نقابة المحامين ونقابة الأطباء، إلى جانب قطاعات حيوية كقطاع التكنولوجيا المتقدمة (هايتك)، مما يزيد من ثقله السياسي والاقتصادي. ودعا اتحاد النقابات العمالية في إسرائيل النقابات المختلفة إلى تمكين العمال من المشاركة الفاعلة في الإضراب، في خطوة تعكس تزايد التضامن الشعبي مع عائلات الأسرى. حراك شعبي متصاعد ويأتي قرار الجامعات والنقابات في سياق احتجاجات متواصلة تطالب بإعادة المختطفين الإسرائيليين وإنهاء العمليات العسكرية في غزة. ووقع عشرات من رؤساء السلطات المحلية عريضة تضامن تؤكد استمرار تقديم الخدمات للمواطنين، مع تخصيص الأنشطة العامة يوم الإضراب دعما للمختطفين. وقال رئيس الهستدروت أرنون بار دافيد إنه تواصل مع النقابات والمجالس المحلية لدعم مشاركة العمال في الفعاليات التضامنية، مضيفا "لن نترك عائلات المخطوفين وحدها، ومن مسؤوليتنا توحيد الصوت المطالب بعودتهم". ورغم أن الهستدروت لم يعلن انضمامه الرسمي للإضراب، فإنه أتاح للعاملين المشاركة في الاحتجاجات، مشيرا إلى مخاوف من أن يتحول النقاش حول عودة المخطوفين إلى جدل سياسي داخلي. رحبت عائلات المختطفين ومجموعة "مجلس أكتوبر" بانضمام المؤسسات الأكاديمية للإضراب، مؤكدين أن الصمت في هذه المرحلة يشكل خطرا كبيرا. وقالوا في بيان "وعدنا بأن يكون الإضراب شاملا من القاعدة إلى القمة، وأثبت الجمهور الإسرائيلي وقوفه إلى جانبنا". ويشير مراسل صحيفة "هآرتس" للشؤون الاجتماعية بار بيليغ إلى أن هذا التصعيد الشعبي يأتي في ظل تراجع شعبية الحكومة وتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى رفض واسع لاستمرار الحرب في غزة وما يرافقها من قتل وتجويع. ويرى بيليغ أن الحراك يشكل مرحلة جديدة من الضغط الداخلي على حكومة نتنياهو التي تواجه أزمة شرعية متصاعدة. وتحت عنوان "البراغماتية والمسؤولية بدلا من القوة والانتقام.. يجب أن نوقف الحرب"، كتبت رئيسة مجلس "عيمق حيفر" الإقليمي غاليت شاؤول مقالا في صحيفة "معاريف"، أعلنت فيه انضمام مجلسها إلى الإضراب، مؤكدة أنه بعد نحو عامين من الحرب "علينا أن نقول بوضوح: يجب أن نوقف هذه الحرب". وانتقدت شاؤول قرار الحكومة احتلال غزة، محذرة من أنه سيعيد إسرائيل إلى واقع الاحتلال وانتفاضة شعبية وانتقادات دولية حادة. واعتبرت أن إعادة المخطوفين هي السبب الأول لوقف القتال، واصفة ذلك بالواجب الأخلاقي والإنساني الذي يعلو على أي اعتبار آخر. وأشارت إلى أن استمرار الحرب قد يعرض حياتهم للخطر. وأكدت أن كل الحروب تنتهي بالمفاوضات، وأن لدى إسرائيل ما يمكن استثماره سياسيا مع الاحتفاظ بحق العودة للقتال إذا لزم الأمر، لكنها حذرت من "مستنقع غزة" الذي يستهلك الموارد ويعمق الانقسام ويزيد الضغوط الدولية. وفي البعد الاقتصادي، انتقدت يردين بن غال، محررة قسم سوق العمل في صحيفة "ذا ماركر"، قرار رئيس الهستدروت عدم الانضمام الرسمي للإضراب، معتبرة أن لمطلب إنهاء الحرب أسبابا اقتصادية واضحة، منها الخسائر المالية وارتفاع البطالة وتضرر معاشات التقاعد والأعباء الثقيلة على جنود الاحتياط. وتساءلت بن غال عن كيفية تجاهل أثر تجنيد جنود الاحتياط على أعمالهم وأسرهم، والأضرار المترتبة على مقاطعة الباحثين الإسرائيليين دوليا، والأعباء النفسية على عشرات الآلاف من المصابين وتأثيرها على الاقتصاد. كما أشارت إلى زيادة ميزانية الدفاع بمليارات الشواكل وخفض الأجور في القطاع العام كتكاليف مباشرة للحرب، مؤكدة أن استمرار القتال يفرض أعباء مالية ثقيلة على الدولة والأجيال القادمة.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
جيش بلا نصر.. كيف دمرت حرب غزة منظومة الردع الإسرائيلية؟
منذ ما يقرب من عامين، يخوض الجيش الإسرائيلي حربا مفتوحة في قطاع غزة بلا نصر ولا أفق، حيث بدأت العملية تحت شعار "تدمير حركة حماس" و"إعادة المختطفين"، لتتحول اليوم إلى أطول حملة استنزاف في تاريخ الجيش الإسرائيلي، وأكثرها كلفة ميدانيا ومعنويا. وأعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن المجلس السياسي الأمني المصغر " الكابينت" قد وافق صباح الجمعة 8 أغسطس/آب على اقتراح للتحضير للسيطرة على كامل قطاع غزة. وجاء المقترح -الذي قلص إلى السيطرة على مدينة غزة فقط- بعد انتهاء حملة " عربات جدعون" من دون تحقيق اختراق في أهدافها المعلنة، وسط تزايد حالات انتحار الجنود، وارتفاع أصوات نخبة أمنية إسرائيلية واسعة تطالب بوقف فوري للحرب وإعادة المختطفين. معركة من دون حسم في 18 مارس/آذار 2025، أطلقت إسرائيل حملة برية موسعة أطلقت عليها اسم "عربات جدعون"، ضمن حربها المستمرة منذ ما يقارب العامين على غزة. وقال المراسل العسكري لصحيفة يديعوت أحرونوت، يؤاف زيتون، في 6 أغسطس/آب الجاري، إن الجيش تعرض لانتقادات لموافقته على خوض عملية عسكرية برية أصبحت بلا جدوى في الأشهر الأخيرة، من دون الاقتراب من هزيمة حماس أو تحرير الرهائن، ومع استمرار استنزاف قواته. ونقل زيتون عن قائد سرية برتبة رائد احتياط في الهندسة القتالية -التي تنتمي إلى لواء مدرع نظامي عملت حتى وقت قريب في أحياء الشجاعية والزيتون"- أنه أرسل رسالة داخلية في الأيام الأخيرة مع انتقادات حادة لأداء القوات ومهامها في القطاع. وجاء في الرسالة "إن عمل فرقة بأكملها بلواء واحد فقط أمرٌ غير منطقي من أي منطق عملياتي، والنتيجة على الأرض: قوات تتحرك من دون سياق، من دون استمرارية، ومن دون هدف واضح. ويشعر الجنود بهذا الشعور جيدا، ليس فقط من خلال العبء الزائد، بل أيضا من خلال الشعور بالتخلي التام". وأضاف أن "هناك غياب للهدف ومفهوم قتالي ضعيف، والشعور السائد على الأرض هو أن الجيش ليس هنا لتحقيق النصر، بل لتسجيل النصر للإعلام والسياسة"، مشيرا إلى أن حماس وفصائل المقاومة "أدركوا ضعفنا ببساطة: فالقيادة غائبة، وكتيبة الدفاع الجوي تترنح، والمناورات عبثية، والردود مرتبكة، وحماس تدرك الفرص وتستغلها، فهي لا تتهاون، بل تهاجم وتقترب وتضرب". وفي 3 أغسطس/آب وجه 80 مسؤولا أمنيا -بينهم رؤساء سابقون في الموساد والشاباك ورؤساء أركان- تحذيرا شديد اللهجة للحكومة والجمهور ومنظومة الأمن، وجاء في بيانهم "حرب بلا هدف سياسي ستقود إلى الهزيمة، والحرب الحالية هي حرب تضليل"، بحسب موقع "والا". وأشار المسؤولون إلى أن عملية عربات جدعون لم تُحقق تقريبا أي تقدم، "وأننا دفعنا ثمنا باهظا من الضحايا والقتلى، وإنجازاتنا محدودة، والأضرار الدولية جسيمة". وأضافوا أن قضية الأسرى لم تشهد أي تقدم، وأن الحرب لم تعد من أجل إعادتهم، بل أصبحت تُقاد نحو أهداف مسيانية (عقيدة المخلّص اليهودية) ومتطرفة. وقال البيان "لدينا الآن حكومة جرّتها الجماعات المسيانية نحو مسار غير عقلاني.. المشكلة أن هذه الأقلية هي التي تتحكم بالسياسة". وبعدما يقرب من عامين على اندلاع الحرب المستمرة في قطاع غزة، تواجه منظومة الأمن الإسرائيلية أزمة عميقة ومتعددة الأبعاد، فقد أدى طول الحرب على غزة إلى تآكل حاد في القدرات العسكرية، وتأثر الاقتصاد، وتعميق الانقسامات الاجتماعية، مع تفاقم الوضع الإستراتيجي وغياب أفق سياسي واضح للحل. كما تُظهر الحرب المستمرة على غزة واقع أزمة شاملة تشمل نقصا حادا في الموارد البشرية والمعدات، وارتفاعا متزايدا في الضغوط النفسية والجسدية بين القوات، إذ تراجعت الروح المعنوية للجنود والدافعية القتالية بشكل واضح، والتقارير التي نشرتها وسائل الإعلام الإسرئيلية والتي تحدثت مع الجنود تشير إلى حالة من الإرهاق والاستنزاف الشديد. ونقل المحلل العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت، رونين برجمان، في 8 أغسطس/آب الجاري، عن اجتماعات داخلية للجيش الإسرائيلي، حيث تم إطلاع القادة على الوضع المزري لقوات الجيش، والتي تشير البيانات إلى أنها تشهد معدل استنزاف مرتفع للغاية، سواء في قوات الاحتياط أو في القوات النظامية. وأضاف برجمان "أدت الحرب الطويلة إلى فرض إدارة اقتصاد الذخيرة وقطع الغيار، والمتفجرات ومعدات الدبابات وناقلات الجند المدرعة، بما في ذلك الذخيرة التي تراجعت مخزوناتها في الحرب مع إيران، وسط خشية داخل الجيش من أن المقاطعة المتزايدة في أنحاء العالم قد تضر بالجيش الإسرائيلي في جميع الأمور المتعلقة بشراء الأسلحة والمواد الخام الأساسية للإنتاج المحلي للمعدات العسكرية". وقال المتخصص في الشأن الإسرائيلي أنس أبو عرقوب، في حديثه للجزيرة نت: "لم يعد خافيا على أحد أن الإعلام الإسرائيلي رصد فقدان ثقة الجمهور، إذ تُظهر الفجوة بين التصريحات الرسمية والواقع الميداني تباينا واضحا، مما يضعف ثقة الجمهور بمنظومة الأمن ويزيد من شعور الإحباط، لا سيما في ملف تدمير أنفاق حماس التي لا تزال تشكل تهديدا قائما". وأشار إلى أن استمرار الحرب وسقوط القتلى في صفوف الجيش الإسرائيلي أدى إلى تعميق الانقسام الاجتماعي والأزمة المجتمعية بين فئات المجتمع المشاركة في الخدمة العسكرية وتلك غير المشاركة، مما يضعف الوحدة الوطنية ويعرقل التعبئة الجماعية للمهام الوطنية، في ظل تدهور الثقة وتصاعد الاستقطاب الاجتماعي. انتحار الجنود وزادت حالات الانتحار بين الجنود، وبحسب تقرير لصحيفة هآرتس، فمنذ بداية الحرب ازداد عدد الجنود الذين انتحروا أثناء الخدمة الفعلية مقارنة بالسنوات السابقة. ففي الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2023 انتحر 7 جنود، وفي عام 2024 انتحر 21 جنديا، بينما انتحر 17 جنديا على الأقل منذ بداية عام 2025 الجاري. وبينما يرفض الجيش الإسرائيلي الإدلاء برقم رسمي لعدد حالات الانتحار منذ بداية العام، مؤكدا أنه لن ينشره إلا في نهاية العام، فإنه يعزو ارتفاع أعداد الانتحار إلى الزيادة الكبيرة في عدد أفراد الخدمة من قوات الاحتياط، لكن ما يفند ذلك في الواقع أن معظم هذه الحالات كانت لأفراد في الخدمة الفعلية، وليس الاحتياط، بحسب المصدر نفسه. وبحسب الصحفي الاستقصائي في صحيفة هآرتس، توم ليفينسون، فإن تحليل حالات الانتحار وفقا لمصادر الجيش يُظهر انخفاضا منذ بداية الحرب في عدد حالات الانتحار الناجمة عن ظروف شخصية وغير مرتبطة بالتعرض لأحداث قتالية، وهذا يعني أن نسبة كبيرة من المنتحرين تعرضوا لحوادث قتالية شديدة، إضافة إلى أن إحصاءات الجيش لا تشمل الجنود الذين انتحروا خارج الخدمة، بعد خلع زيهم العسكري. ووفقا لرصد صحيفة هآرتس، فإن ما لا يقل عن 11 مدنيا انتحروا منذ بدء الحرب بسبب مشاكل نفسية، ناجمة على ما يبدو عن خدمتهم العسكرية، وفي بعض الحالات كان هؤلاء جنودا شاركوا في الحرب، وفي حالات أخرى كانوا محاربين قدامى يعانون من مشاكل نفسية وشاركوا في عمليات أو حروب سابقة. في حين كشفت وزارة الدفاع الإسرائيلية عن أن جناح إعادة التأهيل يُعالج أكثر من 17 ألفا من مصابي الحرب الحالية، من بينهم حوالي 9 آلاف مصاب بإصابات نفسية. ونقلت هيئة البث الرسمية نتائج لتحقيقات الجيش الإسرائيلي، التي نُشرت نتائجها في 3 أغسطس/آب، والتي تفيد بأن حالات الانتحار بين الجنود نتجت عن مشاهد قاسية تعرض لها الجنود، وفقدان الأصدقاء، وعدم قدرتهم على مواجهة الأحداث. الخلافات بين المستوى العسكري والسياسي ويأتي قرار "كابينت" حكومة نتنياهو بالموافقة على احتلال قطاع غزة بعد خلافات شديدة وضغوط على رئيس الأركان إيال زامير من مكتب نتنياهو، بعد فشل جولة المفاوضات الأخيرة التي استمرت 18 يوما في الدوحة. ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت أن المواجهة بين نتنياهو وزامير وصلت إلى ذروتها، عقب التسريبات الإعلامية التي صدرت من مكتب نتنياهو، والتي جاء فيها "إننا نتجه نحو احتلال كامل. إذا لم يكن هذا مناسبا لرئيس الأركان، فليستقِل". وقالت سارة نتنياهو، وفقا لتقرير يارون أفراهام في القناة 12، "كنت أعلم أن إيال زامير لن يصمد أمام ضغط الإعلام، فقلت لزوجي إنه لا ينبغي تعيينه". ونقل المراسل السياسي لهيئة البث الرسمية مايكل شيمش مقتطفات من المواجهة خلال النقاش الأمني حول القتال في قطاع غزة، حيث قال زامير لنتنياهو "كيف يبدو هذا؟ لماذا تهاجمني؟ لماذا لم تُطلعني على معلومات في خضم الحرب؟" ردّ نتنياهو "لا تُهدد بالاستقالة في وسائل الإعلام. لا أقبل أن تُهدد دائما بأنك ستغادر إذا لم نقبل خططك". وكتب المحلل العسكري لصحيفة يسرائيل هيوم يوآف ليمور أن "التحركات التي يقودها رئيس الحكومة، وبعض الوزراء بتوجيه منه ضد رئيس الأركان، تفتقر إلى الذكاء، وهي تهدف لهدف مركزي واحد: تحميله المسؤولية عن نتائج خطّتهم إذا فشلت، أو عن إفشالها إذا لم تنفذ". ويعتقد المتخصص في الشأن الإسرائيلي خلدون البرغوثي، في حديث للجزيرة نت، أن التهديد بإقالة زامير لا يأتي من فراغ، بل لتعارض المصلحة الأمنية العسكرية مع الرغبات المسيانية للوزيرين بتسلئيل سموتريتش و إيتمار بن غفير ، ومع مصالح نتنياهو الشخصية والحزبية والسياسية، وقد يكون مصير زامير مشابها لمصير سلفه هرتسي هاليفي و يوآف غالانت ورونين بار وغيرهم. وأضاف أن من الصعب البتّ في مآل الأمور عسكريا وسياسيا، لكن التجارب المتتابعة تثير حالة من التشاؤم منبعها هو أن الثابت الوحيد رغم كل المتغيرات المحيطة هو حالة نتنياهو الذي يشعر بأنه مهدد شخصيا وسياسيا بالمحاكمة الجارية بتهم الفساد، وبإمكانية تشكل لجنة تحقيق رسمية إذا خسر ائتلافه الحكومي وشكلت حكومة جديدة من معارضيه. تآكل المنجزات بناء على ما سبق، لم تعد غزة مجرد "ساحة قتال"، بل مرآة تعكس التصدّع الداخلي في إسرائيل، داخل الجيش والحكومة والمجتمع. فرغم الإجماع السائد على أن إسرائيل حققت إنجازات ميدانية مهمة، خصوصا على الصعيدين العملياتي والتكتيكي، من خلال تدمير الأنفاق، واستعادة عدد من الأسرى، وتنفيذ عمليات هدم واسعة النطاق، يؤكد محللون أن هذه الإنجازات لم تتحول بالضرورة إلى نصر إستراتيجي شامل، فهناك فرق كبير بين النجاحات الميدانية والخسائر الإستراتيجية. ولفت المتخصص بالشأن الإسرائيلي أبو عرقوب إلى أن الأزمة الإستراتيجية الإسرائيلية معقدة ومتعددة الأوجه، إذ إن ما يروّجه الجيش من إنجازات ميدانية كبيرة، تتجلى في عيون كل أطراف الخريطة الحزبية الإسرائيلية خسائر إستراتيجية جمة، مع تهديدات متعددة الجبهات تضغط على منظومة الأمن، وضغوط داخلية وخارجية تعرقل التوافق بين الأجهزة السياسية والعسكرية. كما أن هناك اتفاقا على أن الوضع الحالي يؤدي إلى حالة من الجمود، حيث يستمر القتال بلا حسم ويُهمّش الحل السياسي. لكن استمرار هذا الوضع قد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الأمنية، من دون تغيير سياسي جذري، ولن تحقق العمليات العسكرية فرقا جوهريا على الأرض، بحسب أبو عرقوب. في المقابل، يرى البرغوثي أن "خسائر إسرائيل متراكمة وتتصاعد رغم الفعل العسكري لها على الأرض. فمن ناحية إستراتيجية يرون أن بقاء حكومة نتنياهو أطول فترة ممكنة مدعومة بإدارة ترامب، قد يعمّق هذه الخسائر ويوصل إسرائيل إلى هزيمتها الفعلية". وأضاف أن إقرار زامير بعدم وجود خيارات عسكرية فعالة في القطاع، وتصاعد صدامه مع المستوى السياسي، يشيران إلى أن الاستمرار عسكريا بما يريده السياسيون رغم معارضة العسكريين يعني تحميل الجيش عبئا ومسؤولية بلا جدوى، عبر التضحية بمزيد من الجنود وربما بالمحتجزين. يضاف إلى ذلك توريط إسرائيل نهائيا في حكم عسكري في القطاع، مع كل التبعات على المستوى الدولي والقضائي والإعلامي في الموقف الدولي تجاه إسرائيل.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
مدير مؤسسة "هند رجب": لا يمكن للجنائية تجاهل أدلة جريمة اغتيال مراسلي الجزيرة
قال مدير مؤسسة "هند رجب" الحقوقية ذياب أبو جهجة إن على المحكمة الجنائية الدولية أن تتخذ إجراءات عملية وتصدر مذكرات توقيف بحق الذين شاركوا ونفذوا جريمة اغتيال مراسلي الجزيرة في غزة أنس الشريف و محمد قريقع وزملائهم. وقدمت المؤسسة شكوى للمحكمة الجنائية الدولية ضد قتلة مراسل الجزيرة في غزة وزملائه من طاقم الجزيرة وغيرهم من الصحفيين، وحمّلت المؤسسة 6 من قادة الجيش الإسرائيلي مسؤولية قتل أنس وزملائه، على رأسهم قائد الجيش إيال زامير. وكشف، في مداخلة مع قناة الجزيرة، أنهم طالبوا المحكمة بأن تضيف إلى مذكرة التوقيف ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ملف الاستهداف الممنهج للصحفيين، والذي يعد جريمة حرب. وأكد دياب أبو جهجة أن الاحتلال الإسرائيلي لا ينكر أنه استهدف أنس ورفاقه بهدف القتل، مشيرا إلى أنهم لا يريدون في مؤسسة "هند رجب" إبقاء المسؤولية على المستوى السياسي فقط، ولذلك قاموا بتوثيق الآلية بأكملها، من المسيّرة التي نفذت الاغتيال إلى القاعدة الجوية الإسرائيلية وآليات العمل فيها، وصولا إلى رئيس أركان الجيش. وقال أبو جهجة إن هناك مسؤولية جنائية على الضباط الإسرائيليين الذين سمتهم "مؤسسة هند رجب" في الدعوى التي رفعتها ضد إسرائيل. كما أشار موضوع التحريض الإسرائيلي ضد الصحفيين في غزة، وقال إن المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية، أفيخاي أدرعي لعب دورا أساسيا في تحضير الجو للاغتيال، وهو ما يعتبر جزءا من الجريمة. وعن توقعاته بشأن المآلات القانونية للمجازر الإسرائيلية، أوضح مدير مؤسسة "هند رجب" أن المحكمة الجنائية لا يمكنها أن تتجاهل الأدلة والاعتراف الإسرائيلي بارتكاب جريمة الاغتيال بحق أنس ورفاقه. كما شدد على أنهم لن يبقوا مكتوفي الأيدي، حيث تسعى مؤسسة "هند رجب" إلى ملاحقة المجرمين الإسرائيليين في المحاكم الوطنية، وقال إنهم يقومون برصدهم ورصد المتعاونين معهم عندما يسافرون إلى الخارج.