
الإعمار كطُعم سياسي
جفرا نيوز -
المحامية هبة أبو وردة
الإعمار من وجهة نظر السياسة، معركة أخرى تُخاض بالحبر والتوقيعات، كما خِيضت سابقًا بالنارِ والدمارِ. فكما أن الجيوش لا تدخل المدن إلا بعد أن تُفتح لها الأبواب، كذلك لا تَدخل مشاريع الإعمار إلا بعد أن تُرفع الرايات السياسية التي تناسب المانحين "تُجار النكبات".
مسرحية دولية!! تُعقد المؤتمرات، حيثُ الممثلون أنفسهم، لكن بأقنعة مختلفة، وقت مستقطع لوقفة التعازي الاستثمارية؛ يجلس المانحون "تُجار النكبات"، على طاولات فاخرة، في قاعاتٍ مكيفة، يتناقشون بجدية مفتعلة حول "كيفية إعادة الحياة'، إلى مكان قرروا مسبقًا أنه لا يجب أن يحيا بالكامل، تُطرح المُقترحات بسخاء، يرسون على أرقامًا فلكية كثمنٍ لولاءٍ مُغلف بإسم الإعمار، يُعاد رسم الجدران بما يخدم الهندسة السياسية الجديدة، على طاولةٍ لا يملك أصحابها مقعدا عليها، تُرفع التقارير، تُعلن الوعود، ثم يبتسمون للكاميرات؛ منتظرين من الشعوبِ، أن تمسح ذاكرة الدمار كما مُسحت سبورة قاعة الاجتماع الدولي، وأن تُصفق بسذاجة لمن صنعوا الفوضى، ثم عادوا ليبيعوا الترياق.
إنتهى، هكذا أصبح الإعمار امتدادَا آخر للحرب، لكن بأدوات أكثر تهذيبًا، وأقل ضجيجَا؛ التاريخ يعيدُ نفسه، ولكن بأدواتٍ أكثر حداثة، وديكوراتٍ أعلى دبلوماسية؛ فمن يقرأ التاريخ يُدرك تمامًا أن التدميرَ العنيف، يليه مباشرةً إعادةِ بناءٍ مشروطة، ثم نظام سياسي جديد أكثر طواعية، الحربُ هي الأداةُ الأولية، لكن الإعمار هو المعركة الحقيقية، حيثُ لا تطلقُ رصاصةً واحدة، لكن! يتم حسم المصير بقراراتِ مجلس الهيمنة، وليس مجلس حرب.
فالإعمارِ ليس عملًا خيريًا، بل هو أحد أذكى أدوات الهيمنة؛ ففي السياسة لا شيء يُمنح بالمجان، بل يُستثمر حيث يُضمن الولاء قبل الطوب، والطاعة قبلَ الخرسانة، فكما أن القصف لم يكن عشوائيًا، كذلك إعادة البناء لن تكون هباء، وكما أن الهدم ليس نهاية، كذلك الإعمار ليس بداية، كلاهما وجهانِ لعملةِ الهيمنة.
عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، كانت أوروبا مجردِ كومةً من الخرابِ، مُدنها أطلال، وإقتصادها متهالك، تتنازعُها جاذبيةَ قُطبين؛ الإتحاد السوفييتي بتوجهِه الإشتراكي، والولاياتُ المتحدةُ الأمريكية، وكلاهما حائطَ سد في وجهِ الآخر، وقفت أمريكا تتأمل المشهد كما يتأمل مقاول بارع أرضًا خصبة لمشاريع ضخمة، ورأى في الدمارِ فرصة لصياغة نظام عالمي ضمن مقاييس واشنطن، وهنا ظهر مشروع مارشال، كحصانِ طروادة إختراق الجدرانَ السياسية، ومد حِبالهِ لأوروبا الغربية فَحملها من تحت أنقاض الحرب، و دفق عليها 13 مليار دولار، فجرفتها تحت الأنقاض مرةً أخرى!! لكنها أنقاض الولاء السياسي؛ فلم يكن الإعمار مجرد إحسان، بل كان استثمارًا استراتيجيًا لضمانِ ولاءِ الدول الأوروبية للمعسكرِ الغربي، في مواجهة الإتحاد السوفييتي؛ أي وسيلة لتعزيز الهيمنة الأمريكية في أوروبا، ضمن معادلة حرب باردة، وهكذا، لم يكن المال وحده هو الذي تدفق على أوروبا، بل تدفقت معهُ الهيمنة السياسية والاقتصادية، التي أعادت تشكيل القارة وفق مصالح واشنطن، فهي الممول وهي المهندس، وهي المشرف على البناء، وهكذا استبدلت أمريكا الأنقاض بالتحالفات، والخراب بالتبعية.
فكما أن مارشال لم يكن سوى إعادة تدويرٍ لأوروبا، وفقَ مقاييسِ واشنطن، فإن أيُ مشروعِ إعمارٍ لقطاع غزة اليوم لن يكون سوى إعادة ترسيم للخارطةِ السياسية؛ وفق مصالح القوى الكبرى، فالقصف مجاني، لكن البناء باهظُ الثمن، الفاتورة ستدفع بالسياسة، لا بالمال.
صفقة مع الخراب، اتفاق غير مكتوب بين من يدمّر ومن يموّل، يُنظر إلى الركامِ كما ينظر إلى ناطحةِ سحابٍ قبل تشييدها؛ لا يهم من سكنها سابقًا، المهم مَن يملك مفاتيحها بعد البناء، وكأنهم كانواسكانًا لا أصحاب سيادة، و الحجارةِ المحطّمة ليست جريمة، بل فرصة لإعادةِ ترتيب الأوراق، وإملاءِ شروط جديدة، مشروع ترامب، لم يكن خطة سلام، بل إعلان تصفيةً سياسية، حيث طُرحت فلسطين كما لو كانت شركة خاسرة، تنتظرُ عرض إستحواذ، وكأن الحقوق التاريخية تُباع على شكل أسهم، والسيادة تُقاس بعدد "المشاريع الاقتصادية' التي سيجودَ بها المانحون الجدد "تجار النكبات"، كان المشروع أشبه بمزاد علني، لمنطقة صناعية، أو ميناء في بقعةٍ ما خارج حدود التاريخ والجغرافيا.
إعادة إعمار الدول بعد الحرب ليست سوى فصلٌ آخر من العبثِ السياسي، حيث يعود الخراب متنكرًا في هيئة إعمار، وتُسكب الأموال كما تُسكب التعازي بلا روح، وبلا نية حقيقية لتعويض الفقدان، الدول التي كانت بالأمس مسرحًا للدمار تصبح اليوم سوقًا مفتوحة، حيث يُعاد بناؤها لا كما كانت، بل كما يشتهي الممولون، وكما تقتضي شروط "التمويل' الممهورة بتوقيع من تسبب في الكارثة أولًا، فتبدأ الجرافات عملها، لكن ليس لإزالة آثار العدوان، بل لرسم ملامح جديدة لوطن لم يعد يشبه نفسه، تُبنى الجسور، لكن لا تصل بين الأحياء التي فُصلت، بل بين المصالح التي تكرّست، تُرمّم المؤسسات، لكن بآليات تجعلها أكثر قابلية للتحكم، وأقل قدرة على الحياة.
لطالما كان إعادة الإعمار أداة جيوسياسية تُوظَّف لترسيخ النفوذ وإعادة تشكيل المشهد وفق مصالح الفاعلين الدوليين، من مشروع مارشال الذي أعاد ترتيب الخارطة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الحديثِ عن مشروع ترامب لإعادةِ إعمار غزة بعد العدوان الأخير، يبقى الإعمار في جوهره عملية سياسية مشروطة، تحمل في طياتها أكثر من مجرد إعادة بناء ما دُمِّر، فتحول حق إلى ورقةِ تفاوض، ومن ضرورة إنسانية إلى أداةٍ للتحكم؛ حيثُ يصبح الإسمنت قيدًا صلبًا، والمال مشروطًا بالولاء، في النهاية! ليست المعركة مع الدمارِ فقط،، بل مع من يريدُ أن يجعلَ إعادةِ الإعمارِ استكمالًا للهزيمة، لا بدايةً للنجاة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


وطنا نيوز
منذ ساعة واحدة
- وطنا نيوز
نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تقبل رسميا طائرة فاخرة أهدتها قطر لترامب
وطنا اليوم:نقلت صحيفة نيويورك تايمز، الأربعاء، عن متحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون) أن الولايات المتحدة قبلت طائرة 747 هدية من قطر، وطلبت من القوات الجوية إيجاد طريقة لتطويرها سريعا لاستخدامها طائرة رئاسية جديدة (إير فورس وان). وفي وقت سابق، قال رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إنّ تقديم قطر هدية للرئيس الأميركي دونالد ترامب طائرة بوينج 747-8 هو 'أمر طبيعي يحدث بين الحلفاء'. ورفض وآل ثاني خلال حديثه في منتدى اقتصادي عقد في الدوحة، الانتقادات الموجهة لقطر على خلفية إهداء ترامب طائرة فاخرة بقيمة 400 مليون دولار لتكون بمثابة طائرة رئاسية جديدة. واعتبر أن هذه الهدية 'تبادل بين دولتين'، مضيفا أن المسألة 'أمر طبيعي يحدث بين الحلفاء. وباختصار، لا أعرف لماذا يعتقد البعض (…) أن هذا يُعتبر رشوة أو أن قطر تسعى لكسب النفوذ لدى هذه الإدارة'.


Amman Xchange
منذ 2 ساعات
- Amman Xchange
«البتكوين» تسجل رقماً قياسياً جديداً عند 109,400 دولار
سنغافورة: «الشرق الأوسط» بلغت عملة «البتكوين» أعلى مستوى لها على الإطلاق بعد أن أقرّ مجلس الشيوخ الأميركي قانون «جينيوس»، وهو مشروع قانون مهم لتنظيم العملات المستقرة، متجاوزاً بذلك عقبات تشريعية سابقة. ويشير مصطلح «Stablecoin» (العملة المستقرة) إلى نوع من العملات الرقمية (العملات المشفرة) التي تم تصميمها للحفاظ على قيمة مستقرة، على عكس التقلبات السعرية الكبيرة التي تشهدها معظم العملات المشفرة الأخرى مثل البتكوين والإيثريوم. وحققت العملة المشفرة سعراً قياسياً جديداً بلغ 109,400 دولار، متجاوزة بذلك ذروتها السابقة التي سجلتها في يناير (كانون الثاني) تزامناً مع تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب. وجاء هذا الارتفاع الكبير بعدما شهدت «بتكوين» زيادة تفوق 46 في المائة عن أدنى مستوى لها الذي بلغته في أبريل (نيسان)، مدفوعةً بزيادة المخاوف العالمية بشأن الحرب التجارية والرسوم الجمركية الأميركية. وكان إقرار مشروع قانون العملات المستقرة، يوم الثلاثاء، بمثابة انتصار كبير لقطاع العملات الرقمية، مما يعزز التوقعات حول بيئة تنظيمية أكثر دعماً لهذا القطاع. ومن المتوقع أن يُطرح مشروع القانون للتصويت في مجلس الشيوخ في وقت لاحق من هذا الأسبوع، مما يمهد الطريق لإحالته إلى مكتب الرئيس ترمب للتوقيع عليه. إضافةً إلى ذلك، أسهم قرار إدارة ترمب بإنشاء احتياطي استراتيجي من بتكوين في مارس (آذار)، بهدف تعزيز مكانة الولايات المتحدة بوصفها داعماً رئيساً للأصول الرقمية، في زيادة التفاؤل بين المستثمرين. ومع ذلك، تبقى التوترات الكامنة قائمة، حيث انتقدت الصين بشدة القيود الأميركية الجديدة على رقائق الذكاء الاصطناعي الصينية، ووصفتها بأنها «تنمر»، متوعدةً بالرد. وتُهدد هذه النزاعات بإفساد الهدنة التجارية الهشة بين البلدين، ما قد يعطل مسار انتعاش الأصول الرقمية. وقد جاء هذا الارتفاع القياسي في وقت شهد فيه مايو (أيار) تدفقات صافية كبيرة لصناديق تداول بتكوين المتداولة في البورصة، حيث استحوذت هذه الصناديق على 3.6 مليار دولار، مما يعكس تجدد الاهتمام الزائد من قبل المستثمرين. ويمثل هذا التوجه الجديد تعزيزاً لثقة السوق في بتكوين، خصوصاً في ظل دعم عدد من شركات الخزانة الكبرى التي تركز على العملة المشفرة، مثل شركة «استراتيجي» التابعة لرجل الأعمال مايكل سايلور، وشركة «توينتي ون كابيتال» التي تم إطلاقها حديثاً. وكانت هذه الشركات من بين العوامل التي أسهمت في موجة الشراء الكبيرة، مما ساعد على دفع سعر بتكوين إلى مستويات قياسية جديدة.


Amman Xchange
منذ 2 ساعات
- Amman Xchange
تراجع توقعات نمو الاقتصاد الألماني وسط ركود متوقع
برلين: «الشرق الأوسط» خفّض المجلس الألماني للخبراء الاقتصاديين، يوم الأربعاء، توقعاته لنمو أكبر اقتصاد في أوروبا، مشيراً إلى دخول ألمانيا في «مرحلة ضعف واضحة» قد تقود إلى ركود خلال العام الحالي. وكان المجلس، وهو هيئة أكاديمية تُقدّم المشورة للحكومة الألمانية بشأن السياسات الاقتصادية، قد توقع في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي نمواً بنسبة 0.4 في المائة، لكنه تراجع عن هذا التقدير في ظل استمرار التباطؤ الاقتصادي، وفق «رويترز». وتُعد ألمانيا الدولة الوحيدة ضمن مجموعة السبع التي لم تشهد أي نمو اقتصادي خلال العامين الماضيين، نتيجة الانكماش في قطاع الصناعة والقيود المالية المتزايدة. وقالت فيرونيكا غريم، عضوة المجلس، خلال مؤتمر صحافي في برلين: «ما زلنا نرصد تأثيرات سلبية ملحوظة على سوق العمل نتيجة مرحلة الضعف الاقتصادي الممتدة»، مشيرة إلى أن عدد العاطلين عن العمل يقترب من حاجز 3 ملايين لأول مرة منذ عقد. ويُتوقع أن تُشكّل الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب ضربة قاسية للاقتصاد الألماني المُعتمد على التصدير، لا سيما وأن الولايات المتحدة كانت الشريك التجاري الأكبر لألمانيا في عام 2024، بإجمالي تبادل تجاري بلغ 253 مليار يورو (284 مليار دولار). وقالت مونيكا شنيتزر، رئيسة المجلس، في بيان مرفق بالتقرير: «سيؤثر الاقتصاد الألماني بشكل واضح في الفترة المقبلة بسبب عاملين رئيسيين: الرسوم الجمركية الأميركية، والحزمة المالية المحلية». وأوضحت أولريكه مالمندير، عضوة المجلس، أن سياسات ترمب التجارية أدخلت «درجة عالية من عدم اليقين في النظام العالمي»، حتى في حال خفض الرسوم فعلياً ونجاحه في فرض ما وصفه بـ«اقتصاد الصفقات». مؤشرات على تعافٍ محتمل وعلى الجانب الإيجابي، أقرت الحكومة الألمانية في مارس (آذار) خطة مالية طموحة تتضمن صندوقاً خاصاً بقيمة 500 مليار يورو لتمويل مشروعات البنية التحتية، مع استثناء الاستثمارات الدفاعية من قيود الاقتراض الصارمة. ويرى الخبراء أن هذه الحزمة تُمهّد الطريق نحو تعافٍ تدريجي. وقالت شنيتزر: «لن تظهر آثار الحزمة على الفور، لذلك من المتوقع أن يتحقق النمو الحقيقي في 2026، إذ إن تنفيذ المشاريع يحتاج إلى وقت». ويتوقع المجلس أن تُسهم الأموال الجديدة في تحفيز الاستثمار في قطاعي البناء والمعدات، بالإضافة إلى الإنفاق الحكومي، ما يُرجّح تسجيل نمو بنسبة 1 في المائة العام المقبل. وشددت شنيتزر على أهمية الإسراع في اعتماد الموازنة، قائلة: «نحتاج أولاً إلى موازنة واضحة تحدد مَن سينفق الأموال، ومتى، وكيف». في السياق ذاته، باشر وزير المالية الجديد الاستعدادات لوضع موازنتي عامي 2025 و2026. كما أشار التقرير إلى أن الاستهلاك الخاص قد يشهد نمواً قوياً بحلول عام 2026، مع تحسن الدخول الحقيقية، لكنه حذّر من أن معدل الادخار سيظل مرتفعاً نسبياً، ما قد يُضعف الأثر التحفيزي للإنفاق الاستهلاكي. وفيما يتعلق بالتضخم، توقع المجلس أن يبلغ معدله 2.1 في المائة هذا العام و2 في المائة في العام المقبل، مشيراً إلى أن المسار يبدو إيجابياً، لكن النزاعات التجارية قد تُبقي المشهد غير واضح.