
جريمة بيئية.. إزالة أنقاض غزة قد تصدر 90 ألف طن من الانبعاثات
وأشارت الدراسة إلى أن تدمير إسرائيل الممنهج للمنازل والمدارس والمستشفيات الفلسطينية والبنية التحتية في غزة أدى إلى توليد ما لا يقل عن 39 مليون طن من الحطام الخرساني بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 وديسمبر/كانون الأول 2024.
وسيتطلب نقل ذلك الركام إلى مواقع التخلص منه ما لا يقل عن 2.1 مليون شاحنة قلابة تسير مسافة 29.5 مليون كيلومتر، حسب الدراسة.
وتعد الدراسة ، التي نشرت في مجلة "البحوث البيئية: البنية التحتية والاستدامة"، جزءا من حركة متنامية لمراعاة التكاليف المناخية والبيئية للحرب والاحتلال، بما في ذلك الأضرار الطويلة الأمد التي تلحق بالأرض ومصادر الغذاء والمياه، فضلا عن التنظيف وإعادة الإعمار بعد الصراع.
وحسب الدراسة التي أنجزها باحثون بجامعتي إدنبرة وأكسفورد في المملكة المتحدة، فإن إزالة الأنقاض فقط يعادل قيادة سيارة بحجم 737 مرة من محيط الأرض، وسوف يولد ما يقرب من 66 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون.
واستخدم الباحثون أدوات مفتوحة المصدر متطورة في الاستشعار عن بعد للكشف عن الانبعاثات المرتبطة بالصراع وتحليلها. وتعد هذه الدراسة الأكثر تفصيلا حتى الآن للتكلفة الكربونية واللوجستية للتعامل مع الحطام الذي يخفي في غزة آلافا من بقايا جثث مجهولة الهوية، وسموما مثل الأسبستوس، وذخائر غير منفجرة.
وقام الباحثون بدراسة سيناريوهين لحساب سرعة وتأثير معالجة الحطام غير الملوث على المناخ، والذي يمكن استخدامه بعد ذلك للمساعدة في إعادة بناء الأراضي الفلسطينية المدمرة.
وعلى افتراض أن 80% من الحطام قابل للسحق، فإن أسطولا من 50 كسارة فكية صناعية -يبدو أنه لم يتم الترخيص لها مطلقا في غزة- سيستغرق ما يزيد قليلًا على 6 أشهر، وسيولّد نحو 2976 طنا من ثاني أكسيد الكربون، وفقًا للدراسة.
لكن الأمر سيستغرق أسطولا من 50 كسارة أصغر حجما، من النوع المستخدم بشكل رئيسي في غزة، وأكثر من 37 عاما لمعالجة الأنقاض، مما يُنتج حوالي 25 ألفا و149 طنا من ثاني أكسيد الكربون.
في هذا السيناريو، ستكون كمية ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن نقل وسحق أنقاض المباني المدمرة في غزة مساوية تقريبا للبصمة الكربونية الناجمة عن شحن 7.3 مليارات هاتف محمول، حسب الدراسة.
وكلما بقيت الأنقاض الملوثة في مكانها مدة أطول ألحقت المزيد من الضرر بالهواء والماء وصحة مليوني فلسطيني تم تهجيرهم وتجويعهم وقصفهم منذ نحو 21 شهرًا.
إبادة بيئية
وقال سامر عبد النور، المؤلف الرئيسي والمحاضر الأول في الإدارة الإستراتيجية في كلية إدارة الأعمال بجامعة إدنبرة بالمملكة المتحدة: "قد تبدو انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن إزالة الأنقاض ومعالجتها صغيرة مقارنة بالتكلفة المناخية الإجمالية للدمار في غزة، ولكن تركيزنا الدقيق يسلط الضوء على حجم الدمار والعمل المطلوب حتى لبدء إعادة الإعمار".
وأضاف عبد النور "في حين أن سدّ فجوة الانبعاثات العسكرية أمر مهم، فإن عملنا يمكن أن يدعم أيضا صناع السياسات الفلسطينيين والمهندسين المدنيين والمخططين وغيرهم من العمال على الأرض العازمين على استعادة ما فقدوه والبقاء على الأرض وإعادة البناء".
وتعليقا على الدراسة، قال بن نيمارك، المحاضر الأول في جامعة كوين ماري بلندن، إن التركيز المنهجي على الأنقاض يُعدّ عملا متطورا، إذ يُسلّط الضوء على الأضرار البيئية التي تُخلفها الجيوش بعد انتهاء الحرب، والتي غالبا ما تُغفل. ويُقدّم هذا العمل نظرة جديدة على الصور اليومية للمباني المُدمّرة وأنقاض غزة، بدلًا من اعتبارها آثارًا مناخية طويلة الأمد للحرب".
وتمتد غزة على مساحة 365 كيلومترا مربعا، وتعرّض أكثر من 90% من منازلها للضرر أو الدمار جراء العدوان الإسرائيلي بالإضافة إلى الغالبية العظمى من المدارس والعيادات والمساجد والبنية التحتية.
وقامت الدراسة بدمج البيانات المفتوحة المصدر حول مساحة سطح المبنى وارتفاعه والأضرار الهيكلية وطوبولوجيا شبكة الطرق لتقدير توزيع الحطام في جميع أنحاء غزة.
وبناء على ذلك، تم حساب التكلفة الكربونية لمعالجة هذا الحطام ونقله أثناء إعادة الإعمار، وفقا لنيكولاس روي المؤلف المشارك في الدراسة الذي جمع البيانات وأجرى التحليل.
وتسبب العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 في فظاعات وصفتها التقارير الدولية بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وأدى العدوان أيضا إلى دمار هائل وممنهج وغير مسبوق بالبنية البيئية بشكل يصعّب معالجتها، وهو ما وصفه خبراء بأنه "إبادة بيئية" (Ecocide)، باعتباره دمر بشكل مقصود مستلزمات عيش الأجيال القادمة، بما فيها موارد المياه والتربة والأراضي الزراعية والمناطق السكنية والهواء.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
فتح خزائن الدماغ.. هل يمكن قراءة الأفكار؟
حقق باحثون من جامعة جنوب كاليفورنيا في الولايات المتحدة إنجازا هاما في فهم كيفية تشكيل الدماغ البشري للذكريات البصرية وتخزينها واستدعائها. واستخدم الباحثون في دراستهم الجديدة، التي نشرت في 8 يوليو/ تموز الجاري في مجلة أدفانسد ساينس، تسجيلات دماغية لمرضى ونموذجا للتعلم الآلي لإلقاء ضوء جديد على الشفرة الداخلية للدماغ التي تصنّف ذكريات الأشياء إلى فئات، فتكون كخزانة ملفات للصور في الدماغ. وأظهرت النتائج أن فريق البحث استطاع قراءة أفكار المشاركين من خلال تحديد فئة الصورة البصرية التي يجري تذكرها، وذلك عبر التوقيت الدقيق للنشاط العصبي للمشارك. ويحلّ هذا العمل جدلا أساسيا في علم الأعصاب، ويتيح إمكانات واعدة لواجهات الدماغ والحاسوب المستقبلية، بما في ذلك أجهزة مساعدة لاستعادة الذاكرة المفقودة لدى المرضى الذين يعانون من اضطرابات عصبية مثل الخرف. ويعد الحصين منطقة دماغية حيوية ومعروفة بدورها في تكوين ذكريات عرضية جديدة من قبيل ماذا وأين ومتى وقعت أحداث الماضي. وبينما يمكن فهم وظيفته في تشفير المعلومات المكانية (أين) والزمانية (متى)، فإن كيفية تمكنه من تشفير عالم الأشياء الواسع وعالي الأبعاد (ماذا) لا تزال لغزا. وحيث إنه لا يمكن للحصين تخزين كل شيء على حدة، افترض العلماء أن الدماغ قد يبسط هذا التعقيد من خلال ترميز الأشياء في فئات. ووظّف البحث تسجيلات أدمغة 24 مريضا بالصرع ، حيث زEرعت أقطاب كهربائية عميقة داخل الجمجمة في أدمغتهم لتحديد موقع نوبات الصرع. وأتاحت تسجيلات هؤلاء المرضى للفريق تحديد كيفية تشفير الخلايا العصبية الحصينية للمعلومات البصرية المعقدة، ليس من خلال معدل إطلاق الإشارات فحسب، بل من خلال التوقيت الدقيق لنشاطها. يقول مدير مركز ترميم الأعصاب في جامعة جنوب كاليفورنيا بكلية كيك للطب وأستاذ الهندسة الطبية الحيوية بكلية فيتربي للهندسة والباحث المشارك في الدراسة تشارلز ليو: "من خلال العمل مع مرضى يعانون من خلل في الذاكرة، كان من المثير للاهتمام للغاية رؤية الدراسات الحالية تكشف عن نموذج للأساس العصبي لتكوين الذاكرة". كيف يخزن الدماغ المعلومات البصرية؟ طوّر فريق البحث نهجا مبتكرا للنمذجة التجريبية لكشف هذه العملية المعقدة، وسجّل الفريق النشاط الكهربائي -وتحديدا النبضات- من الخلايا العصبية في الحصين لدى مرضى الصرع، وجُمعت التسجيلات أثناء قيام المرضى بمهمة "المطابقة المتأخرة للعينة"، وهي تقنية شائعة في علم الأعصاب لاختبار الذاكرة البصرية قصيرة المدى. يقول الأستاذ المشارك في قسم جراحة الأعصاب وقسم ألفريد إي. مان للهندسة الطبية الحيوية الباحث المشارك في الدراسة دونغ سونغ: "سمحنا للمرضى برؤية خمس فئات من الصور: حيوان، نبات، مبنى، مركبة، وأدوات صغيرة، ثم سجلنا إشارة الحصين. وبناء على الإشارة سألنا أنفسنا سؤالا باستخدام تقنية التعلم الآلي الخاصة بنا: هل يمكننا فك تشفير فئة الصورة التي يتذكرونها بناء على إشارة أدمغتهم فقط؟". أكدت النتائج فرضية أن الدماغ البشري يتذكر بالفعل الأشياء المرئية بتصنيفها إلى فئات، وأن فئات الذاكرة البصرية التي كان المرضى يفكرون فيها قابلة للفك بناء على إشارات أدمغتهم. ويرى سونغ أن "الأمر يشبه قراءة حصينك لمعرفة نوع الذاكرة التي تحاول تكوينها، ووجدنا أنه يمكننا فعل ذلك بالفعل، ويمكننا فك تشفير نوع فئة الصورة التي كان المريض يحاول تذكرها بدقة عالية". ويكمن جوهر الاكتشاف في نموذج فك تشفير الذاكرة القابل للتفسير الذي ابتكره فريق البحث، فعلى عكس الطرق السابقة التي غالبا ما تعتمد على حساب متوسط النشاط العصبي على مدار العديد من التجارب أو استخدام دقة زمنية محددة مسبقا، يحلل هذا النموذج المتقدم "الأنماط المكانية والزمانية" للنبضات العصبية من مجموعة كاملة من الخلايا العصبية، كما تقدم الدراسة دليلا على أن الحصين يستخدم رمزا زمنيا لتمثيل فئات الذاكرة البصرية، وهذا يعني أن التوقيت الدقيق لنبضات الخلايا العصبية الفردية، غالبا على نطاق الملِّي ثانية، يحمل معلومات ذات معنى. وركزت الدراسات السابقة غالبا على الخلايا العصبية الفردية، أما هذا البحث فكشف أن مجموعات الخلايا العصبية الحصينية تشفّر فئات الذاكرة بطريقة موزعة، حيث إنه وبينما شاركت نسبة كبيرة من الخلايا العصبية (70-80%) في تحديد ذاكرة بصرية لفئة معينة، فإن لحظات قصيرة ومحددة فقط داخل كل خلية عصبية ساهمت في هذا التشفير، وتسمح هذه الإستراتيجية الفعّالة للدماغ بتخزين ذكريات متنوعة مع تقليل استهلاك الطاقة. يقول ليو: "يمكننا البدء بتطوير أدوات سريرية لاستعادة فقدان الذاكرة وتحسين الحياة بهذه المعرفة، بما في ذلك أجهزة مساعدة للذاكرة وإستراتيجيات أخرى لاستعادة الأعصاب، في حين أن هذه النتيجة قد تكون مهمة لجميع المرضى الذين يعانون من اضطرابات الذاكرة، إلا أنها ذات صلة عميقة بشكل خاص بمرضى الصرع الذين شاركوا في الدراسات، والذين يعاني الكثير منهم من خلل وظيفي في الحصين يتجلى في كل من نوبات صرع وكذلك الاضطرابات المعرفية/الذاكرة".


الجزيرة
منذ 20 ساعات
- الجزيرة
تركيا تكشف عن قنبلتي "الغضب" و"الشبح" .. وهذه مواصفاتهما
كشفت تركيا عن قنبلتين تحملان اسم "الغضب" و"الشبح"، وذلك خلال النسخة الـ17 من المعرض الدولي للصناعات الدفاعية "آيدف 2025″، المقام بمدينة إسطنبول بمشاركة شركات محلية ودولية. وأوضحت وكالة الأناضول أن القنبلتين تتمتعان بقدرات تدميرية متقدمة، وجرى تطويرهما في مركز البحث والتطوير التابع لوزارة الدفاع التركية، ضمن جهود مستمرة لتعزيز القدرات الدفاعية الوطنية. وقالت رئيسة المركز، نوليفر قوزولو، إن المركز يعمل منذ 12 عاما على تطوير معدات عسكرية متقدمة، مشيرة إلى أن 80% من المنتجات المعروضة في المعرض جاهزة للاستخدام، بينما تخضع النسبة المتبقية لاختبارات ميدانية. وأضافت قوزولو أن قنبلة "الغضب" تنتمي إلى فئة ذخائر "إم كيه84" (MK84)، ويمكن إطلاقها من مقاتلات "إف-16" (F-16) وتتميز باحتوائها على 10 آلاف شظية تتوزع عند الانفجار ضمن دائرة نصف قطرها كيلومتر واحد. وأوضحت أن قنبلة "الغضب" تتفوق على الذخائر التقليدية من حيث الكثافة التدميرية، إذ تنشر نحو 10.16 شظايا في كل متر مربع، مقارنة بـ3 شظايا فقط في الذخائر التقليدية، ما يجعلها أكثر فاعلية بـ3 أضعاف. أما قنبلة "الشبح"، فهي ذخيرة خارقة للجدران، طُوّرت لتلبية متطلبات ميدانية متقدمة، واستغرق تطويرها 6 أشهر، وأُجري أول اختبار لها في ديسمبر/كانون الأول الماضي، إذ أُطلقت على جزيرة بعرض 160 مترا، وتمكنت من اختراق 90 مترا، مع تأثير واضح امتد على كامل عرض الجزيرة، وفق الأناضول. وذكرت قوزولو أن الاختبارات أُجريت باستخدام كتل خرسانية من نوع "سي35" (C35) مدعّمة بحديد تسليح، وتمكنت القنبلة من اختراق عمق كبير مقارنة بالذخائر التقليدية التي تخترق عادة ما بين 1.8 و2.4 متر. ويُقام معرض "آيدف 2025" في مركز إسطنبول للمعارض بين 22 و27 يوليو/تموز، ويشهد مشاركة شركات من 44 دولة، وأكثر من 400 شركة دولية، إلى جانب كبرى شركات الصناعات الدفاعية التركية ورواد الأعمال المحليين، الذين يعرضون منتجات عالية القيمة المضافة.


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
بايدو وغلوناس ويوروستاك.. العالم يتمرَّد على هيمنة "جي بي إس"
في أواخر يونيو/حزيران الماضي، انتشرت بعض الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي أن إيران أوقفت نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" في أراضيها، وتحوَّلت للاعتماد بالكامل على منظومة أقمار "بايدو" الصينية، بينما لم تصدر أي تصريحات رسمية من الجانب الإيراني بهذا الصدد. اللجوء إلى الصين لا يمكن اعتبار التعاون الصيني الإيراني في مجال التقنيات الفضائية وليد اللحظة، والواقعة الأخيرة وإن كانت غير مؤكدة، فإنها تفتح الباب لتعاون قريب في هذا المجال. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2015، منحت بكين إيران حق الوصول إلى معدات تحديد المواقع والملاحة والتوقيت التابعة لنظام بايدو الصيني للملاحة بالأقمار الاصطناعية، وكان الهدف تعزيز قدرات الصواريخ الباليستية والمُسيَّرات الإيرانية. وفي عام 2021، حصلت طهران على حق الوصول الكامل إلى بنية "بايدو" التحتية لاستخدامها في أغراض عسكرية، ووقَّع البلدان معاهدة شراكة إستراتيجية شاملة تنفق بموجبها الدولتان 400 مليار دولار على مدى 25 عاما. وليس من قبيل المصادفة أن مسؤولي القيادة الفضائية الأميركية "سبيس كوم" (SPACECOM) حذروا العام الماضي علنا من تنامي التعاون بين إيران وروسيا وكوريا الشمالية والصين في مجالات التكنولوجيا الناشئة. كانت الصين قد ألغت اعتماد جيشها على نظام تحديد المواقع العالمي الأميركي "جي بي إس"، بعد انتقال الجيش الصيني إلى استخدام نظام "بايدو". ويُعَد هذا التحوُّل جزءا من إستراتيجية أوسع لتعزيز الاستقلال التقني وتقليل الاعتماد على البنى التحتية الغربية، لا سيَّما في المجالات الحيوية مثل الملاحة والاتصالات العسكرية. وتسعى بكين حاليا إلى توسيع نطاق هذا النظام عالميا، عبر تسويقه للدول التي تُبدي مواقف مناهضة للغرب، وُتسوِّقه على أنه بديل إستراتيجي لأنظمة الملاحة الأميركية، وذلك حسب تقرير لمعهد أبحاث السياسة الخارجية الأميركي. وقد بدأت دول مثل روسيا وإيران وباكستان وفنزويلا بدمج نظام "بايدو" ضمن منظوماتها العسكرية، مما يُسهِم في تقليص نفوذ الولايات المتحدة على قدرات تلك الدول التشغيلية، ويَحِدُّ من فاعلية العقوبات التي تستهدف بنيتها الدفاعية والعسكرية. ويعزز هذا التوجه قدرة تلك الدول على التصرُّف بمرونة أكبر خارج الإطار التقني الغربي، ويوفر لها أدوات مستقلة للملاحة والمراقبة. وتدمج الصين نظام "بايدو" ضمن مشاريع مبادرة الحزام والطريق التي أعلنتها عام 2013، مما يجعل الدول المشاركة أكثر التصاقا بالبنية التحتية الصينية، خاصة في مجالات الملاحة وإدارة البيانات. هذا الاعتماد التقني قد يتحول في أوقات الأزمات إلى أداة ضغط إستراتيجية، خاصة في حال حدوث مواجهة محتملة حول تايوان ، حيث يُمكن لبكين التشويش على إشارات "جي بي إس" في المنطقة، مع الإبقاء على فعالية نظام "بايدو" لقواتها العسكرية، مما يمنحها تفوقا تشغيليا حاسما، كما أشار تقرير معهد أبحاث السياسة الخارجية. حتى منظومة أقمار "بايدو" ليست الوحيدة المنافسة لنظام "جي بي إس"، فعديد من الدول بدأت في إطلاق مشاريعها الخاصة في هذا النطاق. وكان الدافع الأساسي لهذه المشاريع هو الحفاظ على السيادة التقنية وضمان استمرارية الخدمة في حالات الطوارئ أو النزاعات العسكرية، وقد بادرت كل دولة بتطوير نظامها وفق أولوياتها وإستراتيجيتها التكنولوجية. تعدُّد الأقطاب مع تصاعُد التنافس الجيوسياسي وظهور نظام دولي متعدد الأقطاب، بدأت تلك التحوُّلات تنعكس على مجال الملاحة عبر الأقمار الاصطناعية، الذي خضع لهيمنة أميركية طويلة، ويبدو أنه يشهد تحديات حقيقية اليوم، بعد أن بقي نظام "جي بي إس" المعيار شبه الوحيد للملاحة الفضائية طيلة عقود، حتى أن اسمه يُستخدم على أنه مُرادف للتقنية ذاتها. غير أن هذه المركزية بدأت تتآكل تدريجيا في السنوات الأخيرة. لفهم دوافع الدول نحو تطوير أنظمة بديلة للملاحة بالأقمار الاصطناعية، لا بد من التطرُّق إلى خلفية تاريخية بسيطة. لقد نشأ نظام "جي بي إس" بوصفه أداة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع الأميركية في أثناء الحرب الباردة، ودشَّنته واشنطن عبر مجموعة أقمار "نافستار" التي أُطلقت في السبعينيات. وفي تلك المرحلة، كانت الإشارة الدقيقة حِكرا على الاستخدام العسكري، بينما قُدِّمت نسخة مُنخفضة الجودة للاستخدام المدني. استمر هذا الوضع حتى عام 2000، حين أمر الرئيس الأميركي بيل كلينتون بإزالة التشويش المتعمَّد كي تُتاح الخدمة بدقة مُوحَّدة للجميع. ومع ازدياد عدد الأقمار وانتشار استخدام النظام في مجالات الطيران والملاحة البحرية والتجارة، بدا نظام الملاحة العالمي وكأنه "هدية إستراتيجية" أميركية للعالم، فهو مجاني وموثوق ومُتعدِّد الاستخدامات. ولكن مع ارتفاع حِدة النزاعات والصراعات، تزايدت المخاوف من الاعتماد على المنظومة الأميركية وحدها. لذا، لجأت عدة دول إلى الاعتماد على أنظمتها الخاصة، مثل الاتحاد الأوروبي الذي أطلق نظام غاليليو، وهو مشروع مدني مستقل تحت إشراف وكالة الفضاء الأوروبية. ويتميز النظام الأوروبي بدقة تصل إلى 20 سنتيمترا، ويُعَد الوحيد الذي يوفِّر خاصية التحقُّق من الإشارات في نسخته المدنية، مما يمنحه مقاومة أكبر لمحاولات الخداع. وقد أطلق الاتحاد الأوروبي مشروع غاليليو من أجل امتلاك بنية تحتية لا تخضع لسيطرة طرف خارجي، ولو كان حليفا مثل الولايات المتحدة. في روسيا أعادت موسكو تأهيل نظام غلوناس (GLONASS) الذي بدأ في الثمانينيات بعد أن تراجعت جودته في التسعينيات، وتستخدم الأنظمة العسكرية والمدنية الروسية اليوم نظام غلوناس بوصفه النظام الأساسي للملاحة، في حين يُعَد نظام "جي بي إس" خيارا احتياطيا. ومن اللافت أن عدة دول، مثل الهند وإيران وفنزويلا، تعتمد أيضا على ترددات نظام "غلوناس"، وهو جزء من إستراتيجية روسيا لتعزيز حضورها العالمي ونفوذها الجيوسياسي عبر تقنيات الملاحة الفضائية. من جهتها، طوَّرت الهند نظام نافيك (NavIC) كي يغطي الهند ومحيطها حتى مسافة 1500 كيلومتر. وقد جاءت جهودها ردا على منع حكومة الولايات المتحدة منحها إشارات دقيقة من نظام "جي بي إس" أثناء حرب "كارغيل" مع باكستان عام 1999. أما اليابان فاعتمدت نظام "كيو زد إس إس" (QZSS)، الذي يُكمِّل إشارات "جي بي إس" ويُعززها في منطقة آسيا والمحيط الهادي ، خصوصا في المدن والمناطق الجبلية، وهو مُكوَّن في الأساس من 4 أقمار، وتعمل اليابان على زيادته إلى 7 أقمار. لربما تضع إيران أمامها تلك التجارب السابقة كي تقتدي بها، وتحديدا تجربتي الصين وروسيا، سعيا للفكاك من التقنيات الأميركية وتأسيس نظام ملاحة مستقل، بل ولعلها تتجه إلى الاستعانة بما يفيدها من المنظومات غير الأميركية. ولكن حتى تتسنَّى لها فرصة تأسيس نظام مستقل، كيف يمكن أن تحاول إيران الابتعاد عن التقنيات الأميركية للملاحة بالأقمار الاصطناعية، واستعادة بعض من سيادتها التقنية؟ محاولات إيرانية تُولي إيران اهتماما متزايدا بمسألة الاستقلال في تقنيات الاتصالات والملاحة، بوصفها جزءا من بنيتها الدفاعية السيادية. وقد عبَّر كبار المسؤولين الإيرانيين مرارا عن قلقهم من الاعتماد على أنظمة تديرها الولايات المتحدة، مؤكدين ضرورة تطوير قدرات محلية في البث والملاحة الفضائية، أو البحث عن بدائل من حلفاء آخرين مثل الصين وروسيا. وفي هذا الإطار، تنظر طهران إلى الاعتماد على نظام "جي بي إس" على أنه ثغرة إستراتيجية قد تُستغل في حالات النزاع والحروب، وتخشى أن يؤدي تصاعد التوتر مع واشنطن إلى حجب الإشارات أو تقييد الوصول للنظام، مما يُعرِّض البنية التحتية الحيوية والأمن القومي للخطر. وتُفسِّر هذه المخاوف سعي إيران إلى بناء نظام ملاحة مستقل، يحاكي نظام غلوناس الروسي، الذي تأسس بدوره بديلا عن "جي بي إس" في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي. وقد بدأت إيران خطواتها الأولى في هذا المجال عبر تطوير نظام "هُدَى"، وهو نظام تحديد مواقع محلي أعلنت عنه عام 2016. ولكنه لا يزال محدود التغطية، ويقتصر على نطاقات جغرافية معينة داخل البلاد. أما الوصول إلى نظام فضائي وطني شامل، فيتطلب استثمارات ضخمة وتطورا تقنيا مستمرا كي يتمكن من تأمين تغطية موثوقة في كل الأراضي الإيرانية، ثم التوسُّع خارجها لاحقا. في عام 2017، أعلنت وكالة الفضاء الإيرانية نيتها إنشاء مجموعة أقمار اصطناعية وطنية للملاحة، لكنها لم تُطلق أي قمر حتى اليوم. وفي ظل هذه الفجوة، لجأت إيران إلى استيراد الدعم التقني، إذ بدأت أجهزتها العسكرية والمدنية تدعم نظام غلوناس، كما أبرمت اتفاقا مع الصين للحصول على إشارات نظام بايدو. وفي مطلع عام 2021، أكد السفير الإيراني في بكين أن بلاده ستحصل على حق استقبال إشارات بايدو، مما يتيح استخدامه داخل إيران. لكن ذلك لا يعني الاستغناء التام عن "جي بي إس"، بل هو أقرب إلى إستراتيجية تستفيد من أنظمة متعددة دون الاعتماد الحصري على أي منها. وفي حين تواصل إيران تعزيز شراكاتها، فإن خيار التعدد في مصادر إشارات الملاحة يبدو الخيار الواقعي. فالدراسة الجارية لاستخدام بايدو وغلوناس ضمن منظومة أمنية متكاملة لا تعني امتلاك سيطرة على الفضاء أو قدرة على حجب إشارات "جي بي إس"، بل تعني أن إيران، مثل غيرها من الدول التي تتطلع إلى الاستقلال التقني، باتت تعوِّل على تنوُّع المصادر لتقليل الاعتماد على منظومات تقنية أحادية. وقد بدأ هذا التوجه في الانتشار الفترة الماضية، كما يكشف مشروع يوروستاك الأوروبي. الاستقلال التقني بدأت دول أوروبية كثيرة تنظر إلى الاعتماد على التقنيات الأميركية بكثير من الريبة، خاصة بعد التحوُّلات الأخيرة في النظام الدولي، مثل تقلُّبات الموقف الأميركي تحت رئاسة دونالد ترامب ، والصعود التكنولوجي الصيني، والتهديد العسكري الروسي. وقد قلبت تلك التحولات التصورات الأوروبية رأسا على عقب، وجعلت التبعية الرقمية أزمة أمن قومي قد تُهدِّد السيادة الأوروبية، وخطرا أمنيا في نظر كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي، الذين يتحدثون عن هذه الأزمة بنبرة القلق نفسها التي يتحدثون بها عن أمن الطاقة والدفاع. لذا، طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مفهوم "السيادة التكنولوجية" بوصفه محورا رئيسيًّا لإستراتيجية أوروبا المستقبلية. كان الدور المحوري الذي لعبته في أوكرانيا شركة خدمات الإنترنت الفضائي ستارلينك -المملوكة لرجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك- جرس إنذار لأوروبا دفعها إلى الاتجاه نحو تحقيق استقلال رقمي حقيقي عن الولايات المتحدة، كي تنأى بنفسها عن دفع ثمن باهظ في حال تحوَّلت التقنية الأميركية إلى سلاح ضغط على بروكسل من جانب واشنطن إذا ما تباينت رؤاهما تجاه الأمن الأوروبي. من أجل تجاوز هذه التبعية التقنية، تحاول أوروبا رسم معالم مشروع طموح يُعرف باسم يوروستاك. ولا يدَّعي هذا المشروع الانعزال أو الاكتفاء الذاتي الكامل، بل يسعى إلى إعادة هندسة البنية التحتية الرقمية لأوروبا، طبقة تلو الأخرى، بما يضمن وجود خيارات آمنة ومستقلة وغير خاضعة لدول غير أوروبية، كما يشير تقرير في مجلة فورين بوليسي. ويرتكز مشروع يوروستاك على تقسيم البنية التحتية الرقمية الأوروبية إلى 7 طبقات مترابطة، لا يمكن لأي منها أن تعمل بمعزل عن الأخرى. هجمات التشويش والخداع ولمزيد من الفهم التقنيّ، يتكوَّن نظام "جي بي إس" من مجموعة تضم 31 قمرا اصطناعيا في مدار الأرض المتوسط، تمتلكها وتديرها وزارة الدفاع الأميركية. وتبث هذه الأقمار إشارات توقيت باستمرار، وتعتمد أجهزة الاستقبال، مثل تلك الموجودة في هاتفك الذكي أو أنظمة الملاحة البحرية، على التقاط إشارات متعددة من الأقمار، ومقارنة توقيتها لتحديد الموقع الجغرافي بدقة. ولعل إيقاف بث تلك الإشارات بالكامل أمر خارج قدرة أي دولة منفردة، فالأقمار تواصل إرسال إشاراتها بلا انقطاع من مدار الأرض المتوسط. ولكن ما يمكن تنفيذه فعليا، في أوقات الحروب والنزاعات، هو تعطيل استقبال الإشارات في نطاق محلي عبر استخدام تقنيات الحرب الإلكترونية، إما من الأرض أو الجو، في ما تعرف بعمليات التشويش (Jamming) والخداع (Spoofing). تتجه معظم الأجهزة الحديثة إلى دمج إشارات من أنظمة ملاحة متعددة، بما يُحسِّن الدقة ويعزز الموثوقية. ويُعَد هذا التوجه استجابة مباشرة لتنامي تهديدات الحرب الإلكترونية، مثل أنشطة التشويش والخداع، وهي أنشطة رُصِدت في مناطق عدة، منها أوكرانيا ودول البلطيق والخليج العربي. ففي السنوات الأخيرة، تزايدت الهجمات على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" والأنظمة الأوسع نطاقا للملاحة عبر الأقمار الاصطناعية، المعروفة باسم "جي إن إس إس" (GNSS)، بما فيها إشارات أنظمة الملاحة في أوروبا والصين وروسيا. وهناك نوعان من العمليات الهجومية على تلك الأنظمة، أولهما التشويش على نظام "جي بي إس"، الذي يهدف إلى إغراق الإشارات اللاسلكية التي يتكوَّن منها النظام، مما يجعله غير صالح للاستخدام. وثانيهما هجمات الخداع التي يُمكنها استبدال الإشارة الأصلية بإشارة أخرى لموقع جديد. وقد أصبح التشويش على إشارات نظام تحديد المواقع العالمي من الظواهر الشائعة نسبيا، خاصة في ساحات الحروب والمواقع العسكرية الحساسة، إذ يُستخدم لتفادي وتشتيت الضربات المحتملة من المُسيَّرات أو الصواريخ الموجهة. لذا، ينتبه الطيَّارون إلى تلك المواقع الإقليمية الخطرة، التي يُحتمل أن تقع بها مثل تلك الحوادث، ويلجؤون للاعتماد على وسائل المساعدة الملاحية الأخرى المتاحة على متن الطائرات. أما في حوادث الخداع، فإن هناك إشارات زائفة تُبَث وتتسبَّب بدورها في تضليل المُعِدات الإلكترونية للمركبات، بحيث تحسب موقعها بشكل خطأ، وتعطي توجيهات مُضلِّلة لقائدها، مما يعني خداع جهاز الاستقبال الخاص بنظام "جي بي إس" داخل الطائرة أو السفينة، كي يعتقد الرُبان أنه في منطقة وهو ليس موجودا فيها فعلا. وقد استُخدِمت مثل تلك الأساليب في الحروب العسكرية مؤخرا، مثل حرب روسيا وأوكرانيا، في إطار محاولات عسكرية لإخفاء التحرُّكات أو إرباك الخصوم، إلا أن تأثيرها لا يزال محليا ومحدودا بالمنطقة التي يغطيها الجهاز المشوش أو المزيف. وعند توقف المصدر أو خروجه من النطاق، تعود الإشارات الأصلية للعمل. لذا، يُمكن أن نستنتج من أخبار "إيقاف إيران لخدمة جي بي إس" أنها لا تشير بالضرورة إلى توقف النظام ذاته بالكامل، بل إلى أنشطة التشويش أو الخداع في النطاقات المحيطة بإيران في أثناء الحرب الأخيرة، إذ أشارت تقارير صدرت مؤخرا إلى ارتفاع ملحوظ في تلك الأنشطة، خاصة في مياه الخليج. مثلا، أظهرت بيانات من شركة "ويندوارد" أن نحو ألف سفينة يوميا تعرَّضت لتشويش إشارات نظام الملاحة فيها منذ منتصف يونيو/حزيران الماضي. وأشارت وكالة رويترز إلى أن بيانات موقع إحدى ناقلات النفط بدت وكأنها قفزت بين مواقع في روسيا وإيران قبل أن تعود إلى مسارها الطبيعي، مما يشير إلى وقوع عملية خداع في المنطقة. في الأخير، لا يمكن لأي دولة الحديث عن سيادة تقنية كاملة في مجال البرمجيات إذا كانت الرقائق الإلكترونية المُستخدمة في الأجهزة مستوردة، ولا عن أمان البيانات إذا كانت شبكات الإنترنت تعتمد على خوادم أو أقمار اصطناعية أجنبية.