logo
البعد الاجتماعي في النقد الأدبي!عدنان عويّد

البعد الاجتماعي في النقد الأدبي!عدنان عويّد

ساحة التحرير٢٨-٠٣-٢٠٢٥

البعد الاجتماعي في النقد الأدبي!
د. عدنان عويّد:
إنّ الأديب الحقيقي الملتزم الواقعي, شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً, لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها, لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه, فهو ظاهرة اجتماعيّة بامتياز, تنطلق من المجتمع لتصبّ فيه، وهو جزء من تراثها في مرحلة اجتماعيّة معيّنة عبر التاريخ, في الوقت الآخر هو جزء أيضاً من ماضيها ومؤسس بالضرورة لمستقبلها أيضاً، وهو طاقة تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، في حياته وحركيّته… والأديب إضافة لكونه هكذا, أي هو صورة المجتمع, فدوره لن يقتصر على تصوير الواقع وقضايا فحسب, بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات تخلفه. وما التنوّع الإبداعي في القضايا التي يتناولها الأديب بشكل عام, إلّا دلالة على عمق التجربة التي مر بها هذا الأديب، ورمزيتها الرؤيويّة. من هنا تأتي واقعيّة الأدب وتأثيره وذاتيّته وثوريته والتزامه بقضايا الفرد والمجتمع والإنسان عموماً.
إن الأديب الواقعي لملتزم هو ليس المنغرسّ في تربة وطنه فحسب, بل وفي تراث أمته، ولكنّه في الوقت ذاته، هو منفصل عن تراث أمته نسبيّاً, وما انفصاله هنا إلا من أجل إعادة تأويل واستلهام هذا التراث بما يتفق وروح العصر.
من خلال تعرفنا على مناهج النقد الأدبي الحداثيّة وبخاصة (السياقيّة) منها, وهي المناهج التي تدرس العوامل الخارجي المحيطة بالكاتب التي تؤثر فيه عند كتابته لنصه الأدبي, مثل المنهج التاريخي الذي يهتم بالأحداث والوقائع التاريخيّة. والمنهج النفسي الذي يعتمد على آليات علم النفس في دراسة النص, ويهتم بنفسيّة المبدع وعقده النفسيّة إن توفرت, والمنهج الوصفي والمنهج النسوي ومنهج النقد الثقافي وغيرها, أو المناهج ما بعد الحداثيّة (النسقيّة) منها وهي المناهج التي اهتمت بالبنية الداخليّة للنص فقط, وأهملت العوامل الخارجيّة المحيطة بالنص, كالبنيويّة التي قالت بموت المؤلف, وعدم الاهتمام بمولده أو تاريخ حياته أو بنيته النفسيّة, ويقوم الناقد أو المتلقي بدراسة النص من خلال لغته فقط وليس كوسيلة تواصل, وهذا ما يدفع الناقد في هذا المنهج للبحث عن جماليّة النص. فالتركيز على اللغة نجده أيضاً في المنهج التفكيكي, ومنهج التلقي, وعند المنهج الشكلاني الروسي .. الخ, فكل هذا المناهج (النسقيّة) عملت على دراسة العمل الأدبي لذاته, والاشتغال على نظريّة الأدب للأدب, أو الفن للفن.
فمن خلال اطلاعنا كما ذكرت على جوهر هذا المناهج تبين لي أن أفضل المناهج التي يجب علينا دراسة النصوص الأدبيّة بكل تجلياتها وخاصة في مجال النثر والشعر, هو المنهج الواقعي الذي بينا في دراسة سابقة لنا طبيعة هذا المنهج وسماته وخصائصه وأهدافه, وخاصة في تياره الاجتماعي الذي جاءت نظريّة أو منهج الانعكاس لـ'جورج لوكاش' لتضفي عليه حيويته عندما ربط ما بين البناء التحتي والفوقي وطبيعة العلاقة الجدليّة بينهما. هذا مع تأكيدنا على ضرورة الاتكاء على المناهج النقديّة الأخرى, فهي ليست عديمة الفائدة في آليّة عملها وسماتها وخصائصها وأهدافها, ففيها جوانب جيدة قادرة على إغناء المنهج الواقعي الاجتماعي, وليست مسألة اللغة كعلامات وإشارات ورموز سواء أكانت طبيعيّة لا يتصرف الانسان فيها, كصوت الحيوانات أو عناصر الطبيعة، أو الاصوات الدالة علي التوجع والألم وغير ذلك. أم كانت هذه العلامات اصطناعيّة أوجدها الإنسان نفسه للتعبير عن حاجاته وتداولها في اللغة اليوميّة المباشرة, أي في اللغة التقريريّة, أو اللغة الأدبيّة وما تحمله هذه اللغة الأدبيّة من جماليات البلاغة كالانزياح والتشبيه والاستعارة والصورة والرمز .. وغير ذلك. وبالتالي أستطيع القول إن اللغة بكليتها هي علامات أو أصوات راحت تدل على كل مفردات الحياة. فللفن لغته وما تحمل من دلالات, وكذلك الفلسفة والطب والعلوم الطبيعيّة والاجتماعي وغير ذلك.
إن المناهج التي فيها ما يعانق الواقعيّة الاجتماعيّة برأيي هي أداة لإثراء القراءات النقديّة, وهي أنموذج أنسب لتصور قراءة الداخل والخارج (المضمون والشكل) قراءة دقيقة لبنية النص الشعري والنثري ونسيجهما… قراءة تتطلب بالضرورة تفكيك أو تشريح بنية النص, لا لهدم بنيته العامة وإقصاء العوامل الخارجيّة التي أنتجته من أجل خلق قراءات لا حدود لها عند المتلقي الذي ارتبط بالنص بعيدا عن المؤلف وظروف حياته التي ساهمت في إنتاج هذا النص, بل هي عملية تفكيك لبنية النص للبحث عن المستوي الاجتماعي والدلالي والنحوي والرمزي والأسطوري، والتركيبي، والصوتي والايقاعي والجمالي في هذا النص.
إذاً إنّ العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة قويّة متماسكة كما بينا أعلاه، لا يمكن فصلها؛ إذ إن أيّ أديب مهما بلغ من الشهرة لا يمكن أن ينتج أدباً إلاّ في إطار الجماعة التي يعيش معها. وهو يستمدّ تجربته الذاتيّة من هذا المجتمع، وتتولد انفعالاته من خلال شبكة العلاقات الاجتماعيّة في مواقفها المتعددة، تلك التي تمدّه بدفق المشاعر والانسياب الشعري بشكل خاص.
وبناءً على ذلك تعد دراسة الجانب الاجتماعي عند أديب ما، هي في غاية الأهميّة؛ لأنها تكشف عن علاقة الأديب بالواقع الاجتماعي الذي عايشه، من خلال النظر إلى النصّ الأدبي الذي أنتجه، وهذا النوع يعتمد على المنهج الاجتماعي في كشف تلك العلاقات بين الأديب وبيئته الخاصة المتصلة بأسرته ومكان سكنه، ومكونات المجتمع الذي يعيش فيه. وقد تأثر النقاد العرب المحدثون بهذا المنهج الاجتماعي، ونظروا إلى النص الأدبي بوصفه وثيقة اجتماعيّة مهمة، وأن المجتمع هو المنتج الفعلي للأعمال الإبداعيّة، فالقارئ حاضر في ذهن الأديب وهو وسيلته وغايته في آن واحد؛ لأن الأدب في أي بلد هو انعكاس للصورة الاجتماعية التي يمارسها المجتمع بكل فئاته. (1)،
تنوع الخصائص الاجتماعيّة في البعد الأدبي:
نظراً لارتباط الأدب بالوجود الاجتماعي, فإن هناك تعدداً في خصائص أو مفردات البعد الاجتماعي في مضمون الأعمال الأدبيّة, حيث تشمل نـساءً ورجالاً، وأطفالاً وشيوخاً ينتمون إلى مهن متنوعة ومكانات اجتماعيّة وعلميّة مختلفـة, مثلما نجد فيها أحداثاً وتناقضات وصراعات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة طبقيّة, وهناك حرب وسلم.. الخ. وكل هذه المفردات تشكل المنطلقات الموضوعيّة والذاتيّة للأديب, وغالباً ما يتشابك العديد من هذه المفردات مع بعضها في نطاق عمل إبداعي اجتماعي ضيق, يرصده لنا الأديب من خلال نافذته الخاصـة التي يطل من خلالها على واقعه, وهي تختلف من أديب لآخر. وبالرغم من أن هذه الخصوصيّة لهذا العمل أو ذاك, إلا أن هذه الخصوصيّة التي يقدمها الأديب عن أي ظاهرة اجتماعيّة لا تـتم بمعزل عن بقيّة عناصر المجتمع أو خصائصه، وإنما تظل مرتبطة بالضرورة مع غيرها من الخصائص بشكل مباشر أو غير مباشر، وهنا يأتي التأكيد على التزام الأديب مـن خلال تفاعله مع وسطه الاجتماعي الذي يتحرك فيه. وبهذا يتم التعرف علـى موقـف الأديب عن طريق ربطه بالنسيج العام الذي يتداخل معه والحكم عليه مـن خـلال هـذا التداخل. (2).
البعد التاريخي والوطني والقومي في الأدب:
– البعد التاريخي:
إن الأديب بشكل عام لا يكتب التاريخ أو يدون الأحداث والوقائع الماضية ليكون أدبه سجلا لأحداث التاريخ كي لا تنساه الذاكرة, وإنما يأتي التاريخ هنا حصيلة وعي إبداعي تتداخل فيه خبرات متعددة للكاتب، ومن ثمة لا يكون التاريخ هو المحور والغاية، ولكنه إطار لأحداث كثيرة تكشف عن الهموم والقضايا التي تشغل ذهنية الأديب .
لذلك فإن القضايا التاريخيّة التي يشتغل عليها الأديب في نصه شعراً كان أو قصة أو رواية, هي تحيل إلى الماضي بصفته مرجعيّة للذات المبدعة, تستمد منه انشغالات متعددة الأبعاد يحتاج إليها المبدع، وتعمل على إثراء وإغناء النص الإبداعي من جهة, والمتلقي وهو يتأمل تلك اللمسات يجد فيها علاقات معبرة عن صور شتى ترسم ملامح الحاضر في اندماجه مع الماضي في أشكال فنيّة رائعة, تختلف عن السياق التاريخي الجاف الذي يسرد الأحداث بطريقة تخلو من ملامح انعكاس الذات على الماضي في تلونها وتشكلها عبر مسارات تعلو وتنخفض تنكسر وتنحني تستقيم وتتعرج من جهة ثانيّة. وعلى هذا الأساس يأتي التاريخ في النص الأدبي لحظة تأمل في زمن سادته انكسارات وأوهام وضعف وقوة ورقي وحضارة،
إن النص الأدبي يستمد القوة والجماليّة من الأبعاد التاريخيّة التي يتجاوز بها الأديب عند تناولها النمطيّة، فالشعر الحداثي مثلاً حين يوظف ملامح التاريخ المتجلية في الخرافة والأسطورة والشخصيات والأحداث الدينية والسياسية والاجتماعية, فإنه يهدف إلى بناء نص شعري جديد يتصف بالحداثة والجماليّة، ويستطيع المتلقي أن يدرك الأهداف التاريخيّة أو العودة إلى الماضي في تشكيلة من الإبداع تنأى عن الأسلوب التاريخي النمطي الذي يتناوله المؤرخ.
إن ينطبق على البعد التاريخي من قضايا اشتغل عليها النص الأدبي كما بينا أعلاه, ينطبق أيضاً على البعد الوطني والقومي والإنساني عموماً.
إن ' الشخصيّة الإنسانيّة التي يشتغل عليها الأديب لا تقتصر حدودها على التجربة الفرديـّة أو الاجتماعيّة أو الوطنية والقومية, وإنمـا تمتـد أيضاً لتستوعب التجربة الإنسانيّة عموماً.
كاتب وباحث من سوريا.
d.owaid333d@gmail.com
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- العقاد، عباس محمود، دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012م. ص15.
2- نقد الرواية في الأدب العربي : أحمد إبراهيم الهواري، القاهرة ، دار المعـارف ، د/ط ، ٩٩٣م. صـ.٢٦٧. بتصرف
‎2025-‎03-‎28
The post البعد الاجتماعي في النقد الأدبي!عدنان عويّد first appeared on ساحة التحرير.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

البعد الاجتماعي في النقد الأدبي!عدنان عويّد
البعد الاجتماعي في النقد الأدبي!عدنان عويّد

ساحة التحرير

time٢٨-٠٣-٢٠٢٥

  • ساحة التحرير

البعد الاجتماعي في النقد الأدبي!عدنان عويّد

البعد الاجتماعي في النقد الأدبي! د. عدنان عويّد: إنّ الأديب الحقيقي الملتزم الواقعي, شاعراً كان أو قاصاً أو روائيّاً, لا يفصل الحالة الأدبيّة التي يشتغل عليها عن الحالة الاجتماعيّة التي تحيط به أو ينشط داخلها, لما بينهما من ترابط عضوي، وتشابك يصل إلى حدّ التماهي، إنّ الأديب يظل جزءاً لا يتجزّأ عن محيطه ممثلاً في أسرته ومجتمعه وأمته ووطنه, فهو ظاهرة اجتماعيّة بامتياز, تنطلق من المجتمع لتصبّ فيه، وهو جزء من تراثها في مرحلة اجتماعيّة معيّنة عبر التاريخ, في الوقت الآخر هو جزء أيضاً من ماضيها ومؤسس بالضرورة لمستقبلها أيضاً، وهو طاقة تعكس حال المجتمع في تحوّلاته المستمرّة، في حياته وحركيّته… والأديب إضافة لكونه هكذا, أي هو صورة المجتمع, فدوره لن يقتصر على تصوير الواقع وقضايا فحسب, بل عليه أيضاً أن يعمل على تنميته وتطويره من خلال إظهار عوامل تخلفه ورسم الحلول لتجاوز معوقات تخلفه. وما التنوّع الإبداعي في القضايا التي يتناولها الأديب بشكل عام, إلّا دلالة على عمق التجربة التي مر بها هذا الأديب، ورمزيتها الرؤيويّة. من هنا تأتي واقعيّة الأدب وتأثيره وذاتيّته وثوريته والتزامه بقضايا الفرد والمجتمع والإنسان عموماً. إن الأديب الواقعي لملتزم هو ليس المنغرسّ في تربة وطنه فحسب, بل وفي تراث أمته، ولكنّه في الوقت ذاته، هو منفصل عن تراث أمته نسبيّاً, وما انفصاله هنا إلا من أجل إعادة تأويل واستلهام هذا التراث بما يتفق وروح العصر. من خلال تعرفنا على مناهج النقد الأدبي الحداثيّة وبخاصة (السياقيّة) منها, وهي المناهج التي تدرس العوامل الخارجي المحيطة بالكاتب التي تؤثر فيه عند كتابته لنصه الأدبي, مثل المنهج التاريخي الذي يهتم بالأحداث والوقائع التاريخيّة. والمنهج النفسي الذي يعتمد على آليات علم النفس في دراسة النص, ويهتم بنفسيّة المبدع وعقده النفسيّة إن توفرت, والمنهج الوصفي والمنهج النسوي ومنهج النقد الثقافي وغيرها, أو المناهج ما بعد الحداثيّة (النسقيّة) منها وهي المناهج التي اهتمت بالبنية الداخليّة للنص فقط, وأهملت العوامل الخارجيّة المحيطة بالنص, كالبنيويّة التي قالت بموت المؤلف, وعدم الاهتمام بمولده أو تاريخ حياته أو بنيته النفسيّة, ويقوم الناقد أو المتلقي بدراسة النص من خلال لغته فقط وليس كوسيلة تواصل, وهذا ما يدفع الناقد في هذا المنهج للبحث عن جماليّة النص. فالتركيز على اللغة نجده أيضاً في المنهج التفكيكي, ومنهج التلقي, وعند المنهج الشكلاني الروسي .. الخ, فكل هذا المناهج (النسقيّة) عملت على دراسة العمل الأدبي لذاته, والاشتغال على نظريّة الأدب للأدب, أو الفن للفن. فمن خلال اطلاعنا كما ذكرت على جوهر هذا المناهج تبين لي أن أفضل المناهج التي يجب علينا دراسة النصوص الأدبيّة بكل تجلياتها وخاصة في مجال النثر والشعر, هو المنهج الواقعي الذي بينا في دراسة سابقة لنا طبيعة هذا المنهج وسماته وخصائصه وأهدافه, وخاصة في تياره الاجتماعي الذي جاءت نظريّة أو منهج الانعكاس لـ'جورج لوكاش' لتضفي عليه حيويته عندما ربط ما بين البناء التحتي والفوقي وطبيعة العلاقة الجدليّة بينهما. هذا مع تأكيدنا على ضرورة الاتكاء على المناهج النقديّة الأخرى, فهي ليست عديمة الفائدة في آليّة عملها وسماتها وخصائصها وأهدافها, ففيها جوانب جيدة قادرة على إغناء المنهج الواقعي الاجتماعي, وليست مسألة اللغة كعلامات وإشارات ورموز سواء أكانت طبيعيّة لا يتصرف الانسان فيها, كصوت الحيوانات أو عناصر الطبيعة، أو الاصوات الدالة علي التوجع والألم وغير ذلك. أم كانت هذه العلامات اصطناعيّة أوجدها الإنسان نفسه للتعبير عن حاجاته وتداولها في اللغة اليوميّة المباشرة, أي في اللغة التقريريّة, أو اللغة الأدبيّة وما تحمله هذه اللغة الأدبيّة من جماليات البلاغة كالانزياح والتشبيه والاستعارة والصورة والرمز .. وغير ذلك. وبالتالي أستطيع القول إن اللغة بكليتها هي علامات أو أصوات راحت تدل على كل مفردات الحياة. فللفن لغته وما تحمل من دلالات, وكذلك الفلسفة والطب والعلوم الطبيعيّة والاجتماعي وغير ذلك. إن المناهج التي فيها ما يعانق الواقعيّة الاجتماعيّة برأيي هي أداة لإثراء القراءات النقديّة, وهي أنموذج أنسب لتصور قراءة الداخل والخارج (المضمون والشكل) قراءة دقيقة لبنية النص الشعري والنثري ونسيجهما… قراءة تتطلب بالضرورة تفكيك أو تشريح بنية النص, لا لهدم بنيته العامة وإقصاء العوامل الخارجيّة التي أنتجته من أجل خلق قراءات لا حدود لها عند المتلقي الذي ارتبط بالنص بعيدا عن المؤلف وظروف حياته التي ساهمت في إنتاج هذا النص, بل هي عملية تفكيك لبنية النص للبحث عن المستوي الاجتماعي والدلالي والنحوي والرمزي والأسطوري، والتركيبي، والصوتي والايقاعي والجمالي في هذا النص. إذاً إنّ العلاقة بين الأدب والمجتمع علاقة قويّة متماسكة كما بينا أعلاه، لا يمكن فصلها؛ إذ إن أيّ أديب مهما بلغ من الشهرة لا يمكن أن ينتج أدباً إلاّ في إطار الجماعة التي يعيش معها. وهو يستمدّ تجربته الذاتيّة من هذا المجتمع، وتتولد انفعالاته من خلال شبكة العلاقات الاجتماعيّة في مواقفها المتعددة، تلك التي تمدّه بدفق المشاعر والانسياب الشعري بشكل خاص. وبناءً على ذلك تعد دراسة الجانب الاجتماعي عند أديب ما، هي في غاية الأهميّة؛ لأنها تكشف عن علاقة الأديب بالواقع الاجتماعي الذي عايشه، من خلال النظر إلى النصّ الأدبي الذي أنتجه، وهذا النوع يعتمد على المنهج الاجتماعي في كشف تلك العلاقات بين الأديب وبيئته الخاصة المتصلة بأسرته ومكان سكنه، ومكونات المجتمع الذي يعيش فيه. وقد تأثر النقاد العرب المحدثون بهذا المنهج الاجتماعي، ونظروا إلى النص الأدبي بوصفه وثيقة اجتماعيّة مهمة، وأن المجتمع هو المنتج الفعلي للأعمال الإبداعيّة، فالقارئ حاضر في ذهن الأديب وهو وسيلته وغايته في آن واحد؛ لأن الأدب في أي بلد هو انعكاس للصورة الاجتماعية التي يمارسها المجتمع بكل فئاته. (1)، تنوع الخصائص الاجتماعيّة في البعد الأدبي: نظراً لارتباط الأدب بالوجود الاجتماعي, فإن هناك تعدداً في خصائص أو مفردات البعد الاجتماعي في مضمون الأعمال الأدبيّة, حيث تشمل نـساءً ورجالاً، وأطفالاً وشيوخاً ينتمون إلى مهن متنوعة ومكانات اجتماعيّة وعلميّة مختلفـة, مثلما نجد فيها أحداثاً وتناقضات وصراعات سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة طبقيّة, وهناك حرب وسلم.. الخ. وكل هذه المفردات تشكل المنطلقات الموضوعيّة والذاتيّة للأديب, وغالباً ما يتشابك العديد من هذه المفردات مع بعضها في نطاق عمل إبداعي اجتماعي ضيق, يرصده لنا الأديب من خلال نافذته الخاصـة التي يطل من خلالها على واقعه, وهي تختلف من أديب لآخر. وبالرغم من أن هذه الخصوصيّة لهذا العمل أو ذاك, إلا أن هذه الخصوصيّة التي يقدمها الأديب عن أي ظاهرة اجتماعيّة لا تـتم بمعزل عن بقيّة عناصر المجتمع أو خصائصه، وإنما تظل مرتبطة بالضرورة مع غيرها من الخصائص بشكل مباشر أو غير مباشر، وهنا يأتي التأكيد على التزام الأديب مـن خلال تفاعله مع وسطه الاجتماعي الذي يتحرك فيه. وبهذا يتم التعرف علـى موقـف الأديب عن طريق ربطه بالنسيج العام الذي يتداخل معه والحكم عليه مـن خـلال هـذا التداخل. (2). البعد التاريخي والوطني والقومي في الأدب: – البعد التاريخي: إن الأديب بشكل عام لا يكتب التاريخ أو يدون الأحداث والوقائع الماضية ليكون أدبه سجلا لأحداث التاريخ كي لا تنساه الذاكرة, وإنما يأتي التاريخ هنا حصيلة وعي إبداعي تتداخل فيه خبرات متعددة للكاتب، ومن ثمة لا يكون التاريخ هو المحور والغاية، ولكنه إطار لأحداث كثيرة تكشف عن الهموم والقضايا التي تشغل ذهنية الأديب . لذلك فإن القضايا التاريخيّة التي يشتغل عليها الأديب في نصه شعراً كان أو قصة أو رواية, هي تحيل إلى الماضي بصفته مرجعيّة للذات المبدعة, تستمد منه انشغالات متعددة الأبعاد يحتاج إليها المبدع، وتعمل على إثراء وإغناء النص الإبداعي من جهة, والمتلقي وهو يتأمل تلك اللمسات يجد فيها علاقات معبرة عن صور شتى ترسم ملامح الحاضر في اندماجه مع الماضي في أشكال فنيّة رائعة, تختلف عن السياق التاريخي الجاف الذي يسرد الأحداث بطريقة تخلو من ملامح انعكاس الذات على الماضي في تلونها وتشكلها عبر مسارات تعلو وتنخفض تنكسر وتنحني تستقيم وتتعرج من جهة ثانيّة. وعلى هذا الأساس يأتي التاريخ في النص الأدبي لحظة تأمل في زمن سادته انكسارات وأوهام وضعف وقوة ورقي وحضارة، إن النص الأدبي يستمد القوة والجماليّة من الأبعاد التاريخيّة التي يتجاوز بها الأديب عند تناولها النمطيّة، فالشعر الحداثي مثلاً حين يوظف ملامح التاريخ المتجلية في الخرافة والأسطورة والشخصيات والأحداث الدينية والسياسية والاجتماعية, فإنه يهدف إلى بناء نص شعري جديد يتصف بالحداثة والجماليّة، ويستطيع المتلقي أن يدرك الأهداف التاريخيّة أو العودة إلى الماضي في تشكيلة من الإبداع تنأى عن الأسلوب التاريخي النمطي الذي يتناوله المؤرخ. إن ينطبق على البعد التاريخي من قضايا اشتغل عليها النص الأدبي كما بينا أعلاه, ينطبق أيضاً على البعد الوطني والقومي والإنساني عموماً. إن ' الشخصيّة الإنسانيّة التي يشتغل عليها الأديب لا تقتصر حدودها على التجربة الفرديـّة أو الاجتماعيّة أو الوطنية والقومية, وإنمـا تمتـد أيضاً لتستوعب التجربة الإنسانيّة عموماً. كاتب وباحث من سوريا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش: 1- العقاد، عباس محمود، دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012م. ص15. 2- نقد الرواية في الأدب العربي : أحمد إبراهيم الهواري، القاهرة ، دار المعـارف ، د/ط ، ٩٩٣م. صـ.٢٦٧. بتصرف ‎2025-‎03-‎28 The post البعد الاجتماعي في النقد الأدبي!عدنان عويّد first appeared on ساحة التحرير.

صدور كتاب "علم النفس النقدي والسردي والخطابي" ضمن سلسلة دراسات نقدية مترجمة
صدور كتاب "علم النفس النقدي والسردي والخطابي" ضمن سلسلة دراسات نقدية مترجمة

الأنباء العراقية

time٢٠-٠٢-٢٠٢٥

  • الأنباء العراقية

صدور كتاب "علم النفس النقدي والسردي والخطابي" ضمن سلسلة دراسات نقدية مترجمة

صدر حديثاً كتاب "علم النفس النقدي والسردي والخطابي" نصوص أساسية اختيار وترجمة: لؤي خزعل جبر ، ضمن سلسلة دراسات نقدية مترجمة التي تصدرها دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والسياحة والآثار. ويأتي صدور هذا الكتاب ضمن مبادرة رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني لدعم طباعة الكتاب. ويعد هذا الكتاب، الذي يقع في 447 صفحة من القطع الكبير، إضافة قيمة إلى المكتبة العربية في مجال علم النفس ، إذ يحتوي على نصوص أساسية مُختارة من أبرز الباحثين في مجال علم النفس النقدي والسردي والخطابي من بينهم، إيان باركر، أستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة مانشستر ميترو بوليتن، وجوناثان بوتر، عالم النفس الاجتماعي وأستاذ الخطاب في قسم العلوم الاجتماعية بجامعة لوبوره، وديريك إدواردز، عالم النفس الاجتماعي في جامعة لوبوروه، ودان ماك آدمز، عالم النفس الاجتماعي في جامعة نورث ويسترن. ويحتوي الكتاب على مجموعة من المواضيع المهمة، من بينها علم النفس النقدي، واللغة والقصص في علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس الخطابي. كما يعد صدور هذا الكتاب خطوة مهمة في تعزيز الفكر النقدي في مجال علم النفس، وتقديم رؤى جديدة بشأن العلاقة بين علم النفس واللغة والقصص، ويعد أيضاً مصدراً قيماً للباحثين والدارسين في مجال علم النفس واللغة والقصص.

دراسة نقديّة في بعض الأعمال القصصيّة للقاصة اليمنيّة!عدنان عويّد
دراسة نقديّة في بعض الأعمال القصصيّة للقاصة اليمنيّة!عدنان عويّد

ساحة التحرير

time١٠-٠١-٢٠٢٥

  • ساحة التحرير

دراسة نقديّة في بعض الأعمال القصصيّة للقاصة اليمنيّة!عدنان عويّد

دراسة نقديّة في بعض الأعمال القصصيّة للقاصة اليمنيّة: (وسيلة أمين سامي.). د. عدنان عويّد: القصة القصيرة, هي قصة تنتمي إلى الأدب القصصي, وتتميز باختصارها وإيحاءاتها العميقة واكتفائها بعدد قليل من الشخصيات ومكان واحد وزمان محدود. وتهدف القصة القصيرة إلى إيصال فكرة معينة, أو إثارة إحساس معين لدى القارئ في وقت قصير. 'وسيلة أمين سامي' قاصة شابة من اليمن السعيد, اهتمت بالكتابة منذ عام (2012), امتلكت أدوات القص لغةَ وأسلوباً وفكرةً, فكتبت في مجالات عدّة قصصها القصيرة, الأمر الذي جعلها تفرض حضورها الأدبي في بلدها اليمن أولاً, وعند العديد من كتاب القصة والمهتمين بالأدب في عالمنا العربي, هاجسها الكبير انصب على قضايا اليمن وفلسطين والإنسان. فراح العديد من المهتمين بالتذوق الأدبي أو نقده يساهم في نشر قصصها على الكثير من صحف ومجلات الشأن الأدبي. حيث نشرت لها جريدة الدستور العراقيّة, وجريدة منبر التحرير المصريّة, وجريدة الأسبوع الأدبي لتحاد الكتاب العرب في سوريّة, والعديد من الجرائد والمجلات العربيّة. كما نشر لها العديد من المواقع الالكترونيّة العربيّة مثل الحوار نيوز في لبنان, وساحة التحرير في العراق, ونشرة المحرر في المغرب العربي, وصحيفة المثقف في المهجر, والسياسي في الأردن, وهناك موقع تللسقف في العراق. وغيرها. بل أن هناك من راح يترجم لها بعض قصصها إلى اللغة الانكليزيّة. وللقاصة مجموعة قصصيّة واحدة مطبوعة حتى الآن. ولديها محاولات شعريّة جميلة في تواصل جرى بيننا اقترحت عليها أن أجري لها دراسة نقديّة على بعض قصصها, ولا أقول أعمالها فكانت استجابتها سريعة, علما أنني قد قمت بإرسال أحد قصصها الابداعيّة (دافنشي)إلى مجلة 'الأسبوع الأدبي' لاتحاد الكتاب العرب في سورية, فكانت الاستجابة سريعة في النشر من قبل المعنيين بشأن مجلة 'الأسبوع الأدبي'. أرسلت لي القاصة المبدعة 'وسيلة' قصتين من نتاجها لتكون محط دراستي لها وهي: 1- ثلاث ساعات. 2- الغريب. العتبات السيميائيّة في عنواني قصتيها ورموزها: في عنوان قصتها الأولى (ثلاث ساعات), يحمل دلات تحولات نفسيّة وأخلاقيّة وقيم نبيلة, تتركها فتاة جميلة كاسمها (كوثر) في مواقف لص شبه متشرد هو محمود بطل قصتها, جعلته، يفيض بمشاعر دافئة راحت معها روحه تعرج بمحاريب وضاءة من سَحَر إلى سماء الطهر والنقاء. وفي قصتها (الغريب): دلالة عميقة في مضمونها أيضاً, وهي تشير إلى الفلسطيني الذي حمل قدر مأساته بكل ما تحمله من قهر وجوع وتشرد ليجد نفسه دائماً يعيش الغربة في عالم فقد الأحاسيس الإنسانيّة بهذه المأساة. البنية السرديّة في قصتي (ثلاث ساعات والغريب): في بنية قصتها الأولى (ثلاث ساعات): نجد القاصة ' وسيلة تسلط الضوء على رجل حرمته الحياة لذتها بسبب الحرب, فتحول إلى شبه لص يبحث عن لقمة عيش ومكان هادئ تحت ركام ما خلفته الحرب بكل جنونها. (الثانية عشر منتصف الليل, كان يسير بخطى وئيدة, مشتملاً قتامةَ روحه, يشق عباب نقمته المسفوحة فوق ملامحه المكفهرة, يركل كل ما يصادفه أمامه باستياء مرير. وقف قبالة منزل أدرك أنه تعرض لقصف صاروخي, الظلام يلف المكان, أغلب أهالي الحي النائي نزحوا من مساكنهم بعد القصف. فكر بدخول أحد المنازل.. لكن قبل ذلك دفعه فضوله لاستكشاف ذلك المنزل المهدم جزئياً, تسلل اليه وهو يتلفت يمنة ويسرة بحذر شديد.. ترامى لمسمعه صوت أنين خافت أفزعه، قادم من تحت ركام كثيف في إحدى الزوايا.. حركه شعوره الإنساني الذي حاولت الحرب دفنه, وأيقظ ضميره من غفلته.. تراجع عن فكرة المغادرة، انتابته رغبة جامحة في تقديم المساعدة، وإن كان قد حرم من كل شيء. كانت فتاة (ملاك) أنقدذها من بين الركام وأسعفها إلى المشفى القريبة بعد معاناة فرضها عليمها المناخ الماطر بكل قسوته, وأثناء رحلة العذاب هذه تحركت كل هواجسه الإنسانيّة لتعيد إليه إنسانيته التي وجدها مرة ثانية من خلال انقاذه لهذه الفتاة (كوثر). بهذا الموقف الإنساني تختم 'وسيلة قصتها) الرائعة: (أملت عليه رقم جوال أحد أقاربها، أُدخلها المشفى.. انتظر حتى اطمأن لقدوم شخص يسأل عنها. نظرا لبعضهما نظرة أخيرة طويلة، فاضت مشاعر دافئة صعب البوح بها. الفجر يبتسم في وجه الأفق .. روح محمود تعرج بمحاريب وضاءة من سَحَر إلى سماء الطهر والنقاء.. لوحت له كوثر مودعة، غادر وهو يردد في نفسه: من يدري لعلي ألقاك يوما وأنا الملاك الذي ظننتِه. ثلاثُ ساعاتٍ انصرمت كـأنما قَدَّت لعمره من ضَيِّ الإشراق دهرا. البنية السرديّة في قصتها الثانية الغريب : قصة لا تخلوا من الفانتازيا, إلا أنها ليست بعيدة عن عالم معاناة الشعب الفلسطيني الذي يعاني كل أشكال القهر والظلم والجوع والألم والتشرد, فتاة تخرج مع زميلات لها يبحثن عن لقمة عيش في عالم المجهول, عالم فقد كل الأحاسيس الإنسانية.( المكان خال إلا منها ، يغشاه سكون خائف من سكونه … لم يكن لها بد من مواصلة السير.. الطريق وعرة شاقة .. أحجارها الحادة المتناثرة تخترق حذاءها المتهالك تدمي قدميها. لم يثنها ذلك عن عزمها للوصول لمبتغاها، فهي تمسك وعاءها تمني النفس بالعودة ظافرة بشيء من طعام تسكت به صراخ معدتها وأمها العاجزة التي تنتظرها في مخيم مضرج بأوجاع الشتات.. يلوح في خلدها رغيف شهي لكنه ذاو في مسافات المحال.). لاحت لها أضواء قصر منيف لم تر مثله ، تحيط به حديقة غناء، تتدلى من أشجارها بسخاء صنوف من الثمرات والفاكهة.. انتابها الذهول, لم صدق ما تراه :(هل أنا في حلم ؟ كيف لم يصل أحد لهذا القصر وكيف لم يطاله القصف والمدينة قد دمرت، وكيف نجوع وكل هذا الخير ليس ببعيد عنا؟؟.) نعم هكذا تدور فانتازيا أحلام اليقظة حول قصر مليء بالخيرات هو (فلسطين) الواقع الذي استلبته قوى الغدر من أهله, ورغم ذلك لم يزل هناك من يتمسك به ويعمل على عودته لأهله رغم كل الدماء التي سالت ولم تزل تسيل من أجل استرداده. (هالها ما رأت، كادت تصرخ .. فالرجل نصفه الأيمن من جسده مثخن بجراح تقطر دما، اقشعرت أوصالها، تساءلت : ـ كيف لا يتألم، كيف له الوقوف بهذا الثبات ؟.. لم لا يداوي جراحه ويوقف نزفها؟..أسئلة كثيرة اقتحمت رأسها.. استجمعت قواها وحاولت الدخول .. لكنه منعها.. دعني أدخل … لا.. كان صوته غريبا كأنه آت من البعيد من آخر نقطة في الأفق .. جائعة وأهلي جائعون, أيام مضت ونحن بلا طعام دعني أدخل، من حقنا أن نأخذ شيئا من هذا الخير, نحن في مجاعة، لا يحق لك منعي. سمح لها أخيراً أن تدخل القصر المليء بالخيرات… أذهلها الغريب الجريح .. ظلت كلماته عالقة في وجدانها.. ترامى لسمعها أصوات رفاقها.. استدارت تناديهم : ـ أنا هنا.. وقد وجدت طعاما كثيرا سيغني المدينة بأسرها ركضت نحوهم … لكن يا للهول وجدت نفسها مرة أخرى تائهة, رأت جماعة من الناس يتحلقون حول جثة شهيد يزفونه نحو المقبرة… اقتربت منهم، تأملت الشهيد.. هالها ما رأت ..وقع الوعاء من يدها وأخذت تصرخ : ـ إنه هو .. إنه هو بكوفيته .. بجراحه النازفة. أقسم أنه كان يحدثني قبل قليل. نعم هو المناضل الفلسطيني الذي لم ولن يمت, وأرواح المناضلين التي تتناسل من رحم الأرض والمعاناة ستبقى تتناسل. الزمان والمكان في القصتين: بالرغم من أن القاصة وسيلة يمنيّة المنبت والهوى, إلا أن المكان عندها مفتوح هنا على مجالاته العربيّة, وخاصة فلسطين التي شكلت عندها مكاناً مفتوحاً على كل جغرافيته ودلالاته الإنسانيّة, وهذا ما جعل الزمان لديها أيضاً مفتوحا على دلالاته الإنسانيّة المطلقة والذي تجلى في تركيزها على مسألة الحروب وما تخلفه من دمار للإنسان في كل زمان ومكان,, فالقيم الإنسانيّة النبيلة شكلت عند القاصة وسيلة محطات عديدة ومفتوحة على المطلق. البعد الفني في قصتي الغريب وثلاث ساعات عند القاصة وسيلة: هناك الشكل البسيط في تشكيل القصة, يعتمد على عرض الحكاية من خلال السرد والوصف في أسلوب شاعري رقيق وألفاظ غنيّة وصور بلاغية جميلة جاءت مواكبة لأحداث القصة الأمر الذي منحها جمالية خالية من الصنعة والترف السردي أو مجانيته .. وهذا الشكل سهل وممتع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة, والممتلك لقدرات فنية اكتشفها من خلال تجربته الفنية. هذا وقد اعتمدت الوضوح المستمد من عمق الرؤية وعلاقاتها المتينة مع المتلقي, بحيث لا يوجد حاجز بين الكاتبة والمتلقي. وفي الشكل الفني أيضاً: هناك وصف رائع للشخصيات, يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً مستخدماً ألفاظاً سهلة عذبة رقيقة ترتفع بالأسلوب إلى مستوى الشعر. وبالتالي اعتمدت القاصة على الوصف الخالي إلى حد بعيد عن الاسهاب والاستطراد, فكان بناء القصة متماسكاً, والشخصيات مرسومة بدقة سيطر فيها الكاتب على احداث القصة سيطرة تامة. الأمر الذي جعل العمل القصصي مذهلاً, هذا وقد امتازت القاصة بحسها الفني الرقيق, وذوقها المثقف, ورهافة اللفظ, وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي رسمتها بدقة, فبرزت أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة, وكشفت عما تعانيه من صراع مع نفسها, أو مع الآخرين, ولأن هذه الشخصيات سويّة وواعية وعندها ضمير يقظ استطاعت الخروج من أزماتها منتصرة مع نفسها في لحظات الضعف, وهذا أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين, لقد جسدت وسيلة في عمليها سلوكاً طبيعيّاً لا افتعال فيه, وبالتالي استطاعت أن تدير الصراع بين الخير والشر حتى يكون الانتصار عبرة للآخرين .. ليؤكد أن الخير الأساس في الإنسان وبه تستمر الحياة والعلاقات بين الناس. أما بالنسبة لطريقة السرد التي اتبعتها القاصة, فقد اعتمدت على ما يسمى الرؤية من الخلف : ففي هذه الحالة يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيات (أي السارد – الشخصيّة), هو يعرف ماذا يجري خلف الجدران وفي أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه, فليس لشخصياته أسرار, إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء. بتعبير آخر: في هذا الأنموذج يكون السارد العالم بكل شيء والحاضر في كل مكان. فالسارد كلي العلم الذي نحن بصدد تحديد إشكالياته. والسارد العليم هنا مثل المؤلف المسرحي الذي يضع بعض «الإرشادات المسرحية» لتأطير العرض المسرحي، وهو أيضاً الذي يعرف كل أحداث القصة وشخصياتها، ما خفي منها، وما ظهر، وهو يتنقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ليكشف عن أسرارها وخباياها. الدلالات الإنسانية في شخصيات قصص وسيلة: الشخصيات ليست كلها خيرة من حيث المبدأ, ففيها ما هو سيئ كما هو الحال في قصة 'ثلاث ساعات' شخصية محمود. بيد أن القاصة بينت ما هي الظروف التي ساهمت في تكوين هذه الشخصيات وخاصة محمود. وهو الإنسان الذي إفقدته الحرب بعض قيمه النبيلة وكاد أن ينحدر إلى الهاوية ويتحول إلى لص لأنه لا يملك القدرة على التحكم في سلوكه أو تفكيره نتيجة عدم الخبرة أو افتقاره الثقافة. دور الكاتبة في تصوير شخصياتها: يبدو لنا أن القاصة ذات خبرة عميقة في تصوير أحداث قصصها ورسم شخصياتها. فالكاتب المبدع ذو الخبرة والثقافة العالية يمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنان قدير يمتلك أدواته الفنية والثقافيّة والخبرة الطويلة مع الحياة تمكنه من فهم النفس الإنسانيّة ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها. وهذا ما تجلى واضحاً في شخصيات القصتين موضوع الدراسة, فهي شخصيات مشبعة بالحس الإنساني والقيمي العال. أهداف العمل القصصي عند وسيلة: رؤية أخيرة في الرواية, وطموح الراوي: أرادت القاصة أن تقدم رؤيتها الخاصة للحياة عبر وسيط فني وجمالي تألفه ويناسب أوتارها النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والفكريّة والوجدانيّة. وجدت في هذه الرؤية ملامح من تراثها وبيئتها وابداعاتها المحليّة والعربيّة, التي تجسد فيها الخوف من الموت والمجهول, وأحلامها بالعدل والبطولة والحريّة والمساواة. كاتب وباحث وناقد من سوريا. ‎2025-‎01-1‎0 The post دراسة نقديّة في بعض الأعمال القصصيّة للقاصة اليمنيّة!عدنان عويّد first appeared on ساحة التحرير.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store