
في الذكرى الـ50 لاندلاعها.. هل بات اللبنانيون أكثر مناعة في وجه الحرب الأهلية؟
بيروت- عقود خمسة مرّت على اندلاع شرارة الحرب الأهلية اللبنانية في 13 أبريل/نيسان 1975، لكن نار الأسئلة المقلقة لم تنطفئ بعد، ولا تزال تحوم فوق رؤوس اللبنانيين: هل انتهت الحرب فعلا؟ وهل استخلص لبنان دروس الماضي؟ أم أن شبح الانفجار الداخلي لا يزال كامنا تحت رماد الأزمات المتراكمة؟
في الذكرى الخمسين للحرب التي امتدت 15 عاما، وحصدت أرواح أكثر من 200 ألف شخص، وخلّفت آلاف المفقودين، ودمّرت الدولة ومؤسساتها، يعود النقاش إلى الواجهة، لا بوصفه استذكارا لماض دموي فقط، بل كتحذير من ظروف مشابهة لا سيما أن لبنان يعيش في ظل انهيار اقتصادي، وانقسام سياسي عميق، وتدخلات إقليمية متزايدة، وصولا إلى العدوان الإسرائيلي الأخير.
في هذا السياق، تحدث خبراء وكتّاب سياسيون للجزيرة نت حول تساؤلات جوهرية: هل بات المجتمع اللبناني اليوم أكثر مناعة في وجه الحرب الأهلية، أم أن النظام الطائفي القائم على المحاصّة بكل ما يعتريه من اختلالات بنيوية لا يزال يكرس هشاشة دائمة تهدد السلم الأهلي مع كل أزمة جديدة؟
حروب متكررة
يرى الكاتب السياسي بشارة شربل، أن الشعوب نادرا ما تتعلم من حروبها، مشيرا إلى أن "الحرب الكبرى" عام 1918 رغم ما خلّفته من مآس ودروس، لم تمنع اندلاع حرب عالمية ثانية بعد عقدين فقط، بل كانت أكثر دموية ودمارا.
ويؤكد شربل أن طرحه لا ينبع من تشاؤم، بل من إيمان راسخ بأن الأمل في المستقبل يظل ممكنا مهما بلغ الواقع من قسوة، لكنه يرى في التذكير ضرورة، فالحرب التي اندلعت في 13 أبريل/نيسان 1975 بدأت بشرارة صغيرة، ثم ما لبثت أن تطوّرت إلى جولات متلاحقة عرفت لاحقا باسم "حرب السنتين" مع دخول "قوات الردع العربية"، وتحوّلت إلى سلسلة نزاعات أهلية وإقليمية أبقت لبنان، طيلة 5 عقود، على صفيح ساخن وفي حال من القلق الدائم.
ويلفت شربل إلى أن العِبر لا تستخلص تلقائيا من الحروب، بل تحتاج إلى وقائع جديدة وظروف متبدّلة. ويضرب مثلا على ذلك بخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عقب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ، وهو ما مهّد لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى ، وفتح الباب أمام مراجعة لدور المنظمة في الحرب اللبنانية، بل واعتذارها عنه.
ويعتقد شربل أن ثمة قناعة راسخة لدى غالبية اللبنانيين بضرورة عدم تكرار الحرب، نتيجة التجارب المؤلمة وعشرات الآلاف من الضحايا، والدمار، والتهجير، والهجرة، غير أن هذه القناعة، رغم قوتها، تظل محكومة بالعوامل الخارجية التي ترسم الإطار الواقعي لها.
ويشير إلى أن " اتفاق الطائف" شكّل خطا فاصلا بين مرحلتين، وأضحى جزءا من الدستور اللبناني. وبالمنطق ذاته، أحدثت " حرب الإسناد" التي تلت " طوفان الأقصى" تحوّلا في المعادلات، وأزالت بعض المحرّمات، مثل التسليم بحصرية السلاح، أو الاكتفاء بالدبلوماسية كوسيلة لاسترداد حقوق لبنان من إسرائيل.
كما يلفت إلى أن البنية الطائفية شبه المتوازنة في لبنان لطالما ساهمت في إضعاف الدولة، غير أن هذا لا يعني أن الدول ذات الأكثريات المطلقة في العالم العربي، مثل سوريا، وليبيا، والعراق، والسودان، واليمن، كانت في منأى عن الانفجار والانهيار.
ويقول إن أمام اللبنانيين اليوم خيارين:
إما السير نحو دولة مدنية قائمة على المواطنة، يتساوى فيها الجميع، مع لامركزية موسعة تتيح للمناطق ذات الخصوصيات الطائفية والمناطقية تحقيق طموحاتها ضمن وحدة دولة عادلة ومحايدة إزاء صراعات الإقليم – وهو الخيار الأفضل.
أو أن تفرض الظروف عقد مؤتمر وطني للبحث في صيغة أقرب إلى "أبغض الحلال".
ذاكرة مشتعلة
ومن جانبه، يرى الكاتب السياسي صلاح تقي الدين، في حديثه للجزيرة نت، أن الذكرى الأليمة للحرب الأهلية اللبنانية لا تزال حاضرة في وجدان الجيل الذي عاشها، سواء كمراقب أو كمشارك، مشيرا إلى أنها كانت تجربة أجمع اللبنانيون على عبثيّتها، وعلى أنها -كما وصفها الراحل الكبير غسان تويني – "حرب الآخرين على أرض لبنان".
ويضيف تقي الدين أن العالم آنذاك كان منقسما بين معسكرين: غربي تقوده الولايات المتحدة ، وشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي ، وقد ساهم وجود منظمة التحرير الفلسطينية على الأراضي اللبنانية في تأجيج الأوضاع وتهيئة الظروف لاندلاع الحرب بل ودفع اللبنانيين إلى التورط فيها.
ويُذكّر بأن شرارة الحرب الأولى اندلعت، كما يُروى، على خلفية محاولة اغتيال رئيس حزب الكتائب الراحل بيار الجميّل ، وما تبعها من رد فعل كتائبيّ تمثّل في استهداف "بوسطة عين الرمانة"، التي كانت تقلّ مدنيين فلسطينيين، فسقط ركابها ضحايا في مجزرة شكّلت بداية الانفجار الكبير.
ويتابع تقي الدين قائلا إن الظروف اليوم باتت مختلفة، وإن التجربة المريرة للحرب الأهلية تجعل من الصعب تكرارها، معربا عن تفاؤله بعدم عودة اللبنانيين إلى تلك المرحلة، ومؤكدا أن شبح الحرب، من وجهة نظره، بات بعيدا.
ويعتقد أن أهم العبر التي استخلصها اللبنانيون من الحرب الأهلية هي أن لا فريق قادر على إلغاء الآخر أو التغلب عليه، فضلا عن ترسيخ القناعة بوجوب العيش المشترك بين جميع اللبنانيين، وهو ما انعكس في عودة الاختلاط السكاني إلى ما كان عليه قبل الحرب.
ويشدد على أن الاقتتال لصالح أطراف خارجية لم يعد أمرا سهلا يتقبّله اللبنانيون، ويضيف "يجب أن نتذكّر دائما أننا كلبنانيين كنّا وقودا لصراعات الآخرين، وأننا من دفع الثمن من أرواحنا وأرزاقنا واستقرار وطننا".
ويخلص إلى أن المسألة الحقيقية التي ترعب اللبنانيين اليوم هي "الطائفية المتجذّرة في النظام السياسي" والتي تجعل حياتهم هشّة وعرضة للاهتزاز في كل مرة يشعر فيها أبناء طائفة معينة بالغبن أو التهميش.
ويرى أن الحل الحقيقي يكمن في تطبيق ما ورد في اتفاق الطائف، لا سيما لجهة إنشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية، كمدخل لتبديد هواجس الطوائف والمذاهب، وبناء دولة مدنية يتعامل فيها المسؤولون مع الناس كمواطنين لا كأتباع لطوائف ومذاهب.
سِلم هش
في المقابل، يرى المحلل السياسي حسين أيوب، في حديثه للجزيرة نت، أن سؤال الحرب الأهلية طُرح مرارا منذ توقف "المدفع الأهلي" عام 1990، ويقول "الأدق أننا شهدنا في بعض المحطات حروبا صغيرة، كحرب المحاور بين التبانة وجبل محسن التي امتدت لأشهر، أو أحداث 7 (مايو) أيار في بيروت التي اندلعت لساعات إلى جانب ظواهر هددت السلم الأهلي، مثل ظاهرة أحمد الأسير ، ومجموعة الضنية، وفتح الإسلام".
ويضيف "شهدنا أيضا عشرات الحوادث التي أعقبت الزلزال السياسي المتمثل باغتيال رفيق الحريري عام 2005، وكان آخرها -وليس الأخير- حادثة الطيونة في بيروت، هذه الوقائع كلها تشير إلى أن السلم الأهلي في لبنان لا يزال هشا، وأن خطر اندلاع الحرب لا يزال قائما في أي لحظة، طالما أن العوامل السياسية والعسكرية والأمنية المسببة لها ما تزال قائمة".
ولكن أيوب يتساءل "هل هناك قرار دولي أو إقليمي أو حتى محلي بإعادة إنتاج التجربة الأليمة التي عاشها لبنان قبل خمسين عاما؟ لا أعتقد أن مثل هذا القرار موجود".
ويشير إلى أن "تداعيات الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان تُظهر أن إسرائيل تمارس ضغطا مدمّرا على الواقع اللبناني، قتلا واغتيالا وتدميرا، بهدف نزع سلاح حزب الله". ويحذّر من أن "الأخطر من العدوان الإسرائيلي، هو أن فريقا لبنانيا يتماهى مع هذا المناخ، من خلال التحشيد السياسي ضد حزب الله والتحريض الداخلي والخارجي وصولا إلى حدّ الدعوة إلى إبادة فريق لبناني بأكمله تحت شعار "ما بيشبهونا".
ويُوجز أيوب رأيه قائلا: مشكلة هذا الفريق أنه يريد إشعال حرب أهلية لكنه غير قادر على خوضها، بينما الطرف القادر على الحرب لا يريدها. أما الخارج، فلا رغبة له بخوض الحرب وحده، ولا بتحمّل كُلفتها، ولا بتغطية حرب تحتاج إلى المال والسلاح والذخائر.
ويعتقد أيوب أن من أبرز الدروس التي يُفترض أن تكون قد ترسّخت، أن لا منتصر في الحرب الأهلية ولا مهزوم، "الكل سيكون مهزوما، حتى لو بدا للبعض أنه انتصر على خصمه، فالحرب لن تؤدي إلى شطب طائفة أو إلغاء منطقة".
ويشير إلى أن المجتمع اللبناني لم يكن محصنا، لا قبل الحرب الأهلية ولا بعدها، "ما زلنا حتى الآن بيتا بمنازل كثيرة، كما قال المؤرخ كمال صليبي، اللبنانيون لم يبادروا إلى المصارحة والمصالحة بل يؤسسون، من خلال خطابهم السياسي، وفوضى السوشيال ميديا، وممارسات السلطة والأحزاب، لحالة حرب تُخاض يوميا في الفضاء الافتراضي".
ويختم "المصالحة والمصارحة تحتاج إلى قامات وطنية، وجرأة، وقرار لبناني جريء. للأسف، لا شيء من ذلك متوفر اليوم".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
٠٤-٠٥-٢٠٢٥
- الجزيرة
عودة مظاهر الحياة إلى مدينة جرمانا بعد استكمال الترتيبات الأمنية فيها
جرمانا- تعود مظاهر الحياة إلى مدينة جرمانا شرقي العاصمة دمشق بشكل تدريجي بعد اتفاق الحكومة السورية مع الهيئة الروحية للمسلمين الموحدين الدروز وممثلي المجتمع الأهلي في المدينة على استكمال الترتيبات الأمنية الخاصة بها أول أمس الجمعة. وكشف مصدر محلي من مدينة جرمانا -رفض الكشف عن هويته- عن مضمون الترتيبات الأمنية التي تم التوصل إليها بموجب الاتفاق، والتي تضمنت نشر 100 عنصر من الأمن العام داخل المدينة، وقبول تطوع 85 عنصرا من شبان جرمانا في الأمن العام بشكل مبدئي، ريثما يتم النظر بحوالي 200 طلب تطوع آخر قُدِمَ من شبان المدينة للجهاز. وأضاف المصدر أنه تم الاتفاق على توزيع العناصر على الحواجز في جرمانا وفق "نظام المناوبات" لتكون الحواجز مشتركة بين متطوعي الأمن العام من المدينة ومن خارجها. ترتيبات أمنية ومن جهته، قال المسؤول في المكتب الإعلامي التابع لمجموعة العمل الأهلي في مدينة جرمانا، خلدون قسام، إن الاجتماع بين وفد الحكومة السورية والهيئات الروحية والأهلية في المدينة أول أمس الجمعة كان للتأكيد على ضرورة استكمال الترتيبات المتفق عليها في اجتماع سابق الشهر الماضي. وأكد قسام أن جميع الترتيبات الأمنية التي شهدتها مدينة جرمانا في الأيام القليلة الماضية من دخول الأمن العام إليها وقبول تطوع شبان من المدينة ما هي إلا إجراءات متفق عليها قبل الأحداث المؤسفة التي تعرضت لها المدينة الاثنين الماضي. وأوضح المسؤول الإعلامي أنه بموجب اتفاق بين الحكومة السورية والهيئة الروحية والمجتمع الأهلي في جرمانا يعود لشهر مارس/آذار الماضي، تم إنشاء مركز لجهاز الأمن العام يشمل عناصر من متطوعي مدينة جرمانا وآخرين من خارجها. ونص اتفاق مارس/آذار أيضا على تطوع حوالي 300 عنصر من أبناء مدينة جرمانا في جهاز الأمن العام يساندهم عناصر من خارج المدينة لإدارة الحواجز وضبط الأمن في جرمانا، بحسب قسام. ويشير قسام إلى أن جرمانا تنتظر استكمال الإجراءات الحكومية التي من شأنها إرساء حالة الأمن والاستقرار والدفع باتجاه تفريغ حالة الاحتقان الطائفي والمناطقي التي أجّجتها الأحداث المؤسفة في المدينة الاثنين الماضي. ويختتم المسؤول الإعلامي حديثه للجزيرة نت بالتأكيد على أن التواصل بين الهيئات في جرمانا والحكومة لم ولن يقتصر على الحوادث الأمنية، إذ إنه بدأ منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي وكان مثمرا ولا يزال مستمرا إلى اليوم. عودة مظاهر الحياة ورصدت الجزيرة نت في جولة بمدينة جرمانا عودة مظاهر الحياة إلى طبيعتها مع استئناف الفعاليات التجارية والصناعية والحرفية لأعمالها، وعودة حركة المواصلات إلى نشاطها السابق بين جرمانا والعاصمة دمشق. وقال إيهاب دلو (41 عاما)، أحد سكان مدينة جرمانا، إن إيقاع الحياة في المدينة عاد إلى طبيعته بعد الأحداث المؤسفة التي شهدتها الاثنين الماضي. وأضاف دلو أن الأحداث التي تخل بأمن جرمانا تؤدي إلى تعطيل أعمال وأشغال الآلاف من الموظفين والطلبة وعمال المياومة، مما ينعكس بشكل سلبي على حياتهم نظرا للأزمة المعيشية الحادة التي تعيشها سوريا والتي لا يحتمل معها الوضع توقف الأعمال، مشيرا إلى أن تعداد سكان جرمانا يتجاوز المليون نسمة. وبالرغم من غياب الإحصاءات الرسمية حول تعداد سكان جرمانا، فإن المدينة الكائنة في محيط العاصمة دمشق قد تزايد عدد سكانها منذ عام 2012 بشكل ملحوظ بعد موجات النزوح السورية إليها على خلفية الصراع المسلح في البلاد. وكانت مدينة جرمانا قد شهدت، الاثنين الماضي، اشتباكات عنيفة أودت بحياة 8 أشخاص، وذلك على خلفية انتشار تسجيل صوتي مسيء إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- منسوب إلى أحد أبناء الطائفة الدرزية، مما أدى إلى موجة غضب واسعة بين السوريين. وأوضح بيان لوزارة الداخلية السورية، الثلاثاء الماضي، أن التحقيقات الأولية بشأن التسجيل الصوتي أشارت إلى أن الشخص الذي وجهت إليه أصابع الاتهام لم تثبت علاقته بالتسجيل، وأن العمل جار للوصول إلى صاحب التسجيل، وتقديمه للعدالة لينال العقوبة المناسبة وفق القوانين المعمول بها في البلاد.


الجزيرة
٠٣-٠٥-٢٠٢٥
- الجزيرة
تفاؤل أوكراني بعد "اتفاقية المعادن".. ماذا تتوقع كييف من واشنطن؟
كييف- بعد عقبات وتوترات كثيرة وغير مسبوقة بين كييف وواشنطن، وبعد خلافات ومشادّة حادة بين الرئيسين الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والأميركي دونالد ترامب ، رأت " اتفاقية المعادن النادرة" ضوءا في نهاية النفق، وتنفس الجميع الصعداء. ويعمّ تفاؤل كبير بين الأوكرانيين، ساسة وعامة، بعد نحو 100 يوم من مخاوف وشكوك فرضتها عودة ترامب، وكأنما ارتووا بعد طول ظمأ في الصحراء الأميركية، بحثا عن استمرار الدعم بالمال والسلاح. حتى أن الرئيس زيلينسكي قال إن "الاتفاق هو النتيجة الأولى للاجتماع مع ترامب في الفاتيكان"، الذي دام نحو 15 دقيقة فقط، على هامش جنازة البابا فرانشيسكو في 26 أبريل/نيسان المنصرم. يرى الأوكرانيون أن بنود الاتفاقية التي نشرتها نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الاقتصاد يوليا سفيريدينكو، "عادلة"، ويعتقدون أنه على عكس ما كان متوقعا، لم تتنازل فيها كييف أمام ضغوط واشنطن. وباختصار، يشرح مدير معهد البحوث والاستشارات الاقتصادية في كييف إيهور بوراكوفسكي أهم ما جاء فيها قائلا إن "الاتفاقية تقضي بإنشاء صندوق استثماري لإعادة الإعمار، يسهم كل طرف فيه بنسبة 50%، وهو صندوق يبقي ملكية الأراضي والمنشآت والشركات لأوكرانيا، ولا يحتسب المساعدات المالية والعسكرية السابقة كديون عليها". وأضاف في حديث للجزيرة نت "تم توسيع مجال الاتفاقية لتشمل 57 معدنا، إضافة إلى النفط والغاز، التي حال العجز والفساد عن استثمارها طيلة 34 سنة، حتى أصبح اسمها (اتفاقية باطن الأرض)". وفي السياق ذاته أيضا، يقول الكاتب في الشأن الاقتصادي، سيرهي فورسا للجزيرة نت، إن "أهم ما في الاتفاق أنه لا ضرر فيه لنا أو تبعية استعمارية كما أراد ترامب، وأننا لا نعترف فيه بديْن وهمي حدده ترامب في رأسه، ولا نلتزم بسداده ما حيينا". الجانب العسكري لكن الجانب الاقتصادي للاتفاقية، على أهميته، قد لا يعني الأوكرانيين بقدر ما يعنيهم الحصول على ما يدعم جبهات القتال، ويحمي المدن من الضربات الروسية، ويلحق بالروس أوجاعا أكبر. والاتفاقية، رغم مطالب الأوكرانيين، لم تشر إلى أية ضمانات أمنية أميركية، لكنها تأخذ بعين الاعتبار أن تكون المساهمة الأميركية على شكل "أسلحة ودفاعات جوية". وقال رئيس الوزراء دينيس شميهال، إن "اتفاقية باطن الأرض ستسمح بحماية سمائنا بشكل أفضل، وذلك بفضل أنظمة الدفاع الجوي الأميركية". ليس هذا فحسب، فبعد ساعات من توقيع الاتفاقية، قالت صحيفة "كييف بوست" إن "إدارة ترامب وافقت على أول عملية تصدير أسلحة لأوكرانيا، بقيمة 50 مليون دولار". تحول أميركي هذه المستجدات كلها تتزامن مع تحول كبير في الموقف الأميركي، لا سيما فيما يتعلق بجهود الوساطة بين أوكرانيا وروسيا لإيقاف الحرب وإحلال السلام. ومن دلالات هذا التحول، كما يراه الأوكرانيون، تسليم نائب الرئيس الأميركي، جيه دي فانس ، بأن "أفق الحرب بلا نهاية واضحة، والمهمة صعبة قد تحتاج إلى 100 يوم أخرى". بينما لوّحت واشنطن بسحب جهودها، وغيّر ترامب نبرته تجاه الروس، فصار يتذمر من مماطلة بوتين، وتوعده فعلا في حال عدم التوصل إلى اتفاق قريب لوقف إطلاق النار وبداية المفاوضات، قائلا "سنعطي زيلينسكي الكثير، وأكثر مما حصل عليه في أي وقت مضى"، في إشارة مباشرة إلى الدعم الأميركي. وإزاء هذه التطورات، يرى رئيس مركز الدراسات السياسية التطبيقية "بنتا" فولوديمير فيسينكو "أن ترامب فهم أن بوتين خدعه، وأن الأخير لا يريد السلام، حتى وإن قال وأظهر غير ذلك". همّ مشترك من وجهة نظر بعض الخبراء، تُشرك الاتفاقية الموقعة الولايات المتحدة في تحمل "الهمّ" الأوكراني، وتمنعها من الضغط على أوكرانيا ودفعها نحو سلام لا يواتيها. وفي هذا السياق، يقول أستاذ العلوم السياسية ورئيس "مركز التنسيق المشترك" أوليغ ساكيان، إن "واشنطن باتت معنية وبشكل مباشر بإحلال السلام، دون أن تخسر كييف مزيدا من الأراضي". وأضاف موضحا "يخشى ترامب تحمل التبعات إذا تراجع دعم بلاده واستطاعت روسيا سحق أوكرانيا. وكذلك لن يستطيع ترامب إجبار أوكرانيا على إبرام اتفاق يعود بالضرر على الحكومة والشركات الأميركية التي ستساهم في "الصندوق الاستثماري المشترك". ومن وجهة نظره، "بعد واشنطن، ستزيد الدول الغربية الضغوط على بوتين في المرحلة المقبلة" ويعتقد أن هذه الدول، ستزيد وتشدد العقوبات على روسيا بعد الاحتفال الأوكراني بـ 9 أيار/مايو (ذكرى يوم النصر على النازية)". الوساطة باقية وعلى أساس ما سبق، يستبعد مسؤولون أوكرانيا انسحاب الولايات المتحدة فعليا من جهود الوساطة وإحلال السلام، حتى وإن تعثرت تلك الجهود ولمّحت واشنطن إلى غير ذلك. في حديث لموقع "آر بي كا"، قال مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك، في تلميح غير مباشر للأميركيين "إذا كانت لديكم اتفاقية شراكة إستراتيجية، وكانت لديكم أصول أو أرباح هنا، فلن تُسلموا هذه المنطقة لمنافس مباشر، خاصة في مجالات صناعية تعنيكم، وتخص المعادن الأرضية النادرة. ستحمون أصولكم، وهذا سيعود عليكم بالنفع".


الجزيرة
٠٢-٠٥-٢٠٢٥
- الجزيرة
تكميم أفواه متواصل.. وزير الداخلية الفرنسي يقرر حل جمعية داعمة لفلسطين
باريس- أعلن وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتايو، الأربعاء، بداية إجراءات حل جمعية "إيرجونس فلسطين" (طوارئ فلسطين)، مبررا ذلك بالقول إنه من الضروري "ضرب الإسلاميين" وتجنب "تشويه الإيمان". وأضاف ريتايو أنه "لا ينبغي لنا أن نشوه القضية العادلة للفلسطينيين"، مؤكدا أن "العديد من مواطنينا المسلمين يعتنقون عقيدة تتوافق تماما مع قيم الجمهورية". وقد تشكلت الجمعية مع بداية الحرب على قطاع غزة ، ونظمت وشاركت في عدد كبير من المظاهرات المتضامنة مع فلسطين في كل المدن الفرنسية، وطالبت بشدة بفرض وقف فوري لإطلاق النار. اعتداء على الحريات وتعليقا على هذا القرار، قال المتحدث باسم جمعية "إيرجونس فلسطين" عمر السومي "إننا نشعر بالغضب، لكننا لسنا متفاجئين، لأن الحكومة الفرنسية قمعت بعنف شديد التحركات الداعمة لمقاومة الشعب الفلسطيني منذ البداية، وهو ما يشكل اعتداء صارخا على حرياتنا الأساسية لتنظيم المظاهرات والتحدث والنضال". وأضاف السومي في حديثه للجزيرة نت "منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، نواجه عنفا غير مسبوق من جانب الحكومة التي تسمح بارتكاب الجرائم الإسرائيلي والإبادة الجماعية مع الإفلات الكامل من العقاب، في حين يواجه الفلسطينيون الذين ينظمون أنفسهم وحلفاءهم محاكمات لا نهاية لها، فضلا عن كل أنواع الإهانات والتشهير". ويرى المتحدث أن التحركات والمظاهرات التي شارك فيها مئات الآلاف من الناس في الفعاليات التي نظمتها جمعية "إيرجونس فلسطين" شكلت مصدر إزعاج للسلطات "لأنها تزعزع مصالح حكومة فرنسا والمصالح الصهيونية على حد سواء". وقد أثار هذا القرار موجة من التعليقات المتباينة والانتقادات من قبل النخبة السياسية اليسارية بشكل خاص، فقد اعتبرت النائبة الفلسطينية في البرلمان الأوروبي ريما حسن أن "التوجه الاستبدادي والفاشي لماكرون حقيقي وملموس". في المقابل، قالت سارة ايزنمان رئيسة جمعية "نعيش نحن" التي تدين معاداة الصهيونية إن "الجمهورية تؤكد من جديد أنه لا يمكن أن يهرب أيّ معاد للسامية من العقاب في فرنسا"، واصفة جمعية "إيرجونس فلسطين" بـ"المنظمة الداعمة للإرهاب ولا تدافع عن الحقوق الفلسطينية". عمل تعسفي أعلنت جمعية "التضامن مع فلسطين وفرنسا" رفضها للقرار، وقالت "اتخذه بعض نواب التجمع الوطني والمؤيدين للحكومة الإسرائيلية، وهو يقوض حرية التعبير وتكوين الجمعيات في بلدنا، وهذا له عواقب وخيمة للغاية على حرياتنا الفردية والجماعية". وأضافت الجمعية في بيان لها أنه "بسبب إدانة الإبادة الجماعية في غزة والتعبير عن التضامن النشط مع الشعب الفلسطيني، يتم طرد طلاب معهد الدراسات السياسية من جامعتهم، ويتم جر الناشطين السياسيين والنقابيين إلى المحاكم، ويتم محاكمة باحثين مشهورين مثل فرانسوا بورغا". ومن الجدير بالذكر أن وزير الداخلية ريتايو أعلن أيضا حل المجموعة المناهضة للفاشية "الحرس الشاب" وجماعة "ليون بوبيلير" اليمينية المتطرفة التي أسست عام 2019 في أعقاب حل سلفها الحركة الفاشية الجديدة "باستيون سوشال"، التي تم حظرها بسبب العنف والعنصرية. وعن تبرير مستأجر ساحة بوفو (وزير الداخلية) حل جمعية "إيرجونس فلسطين" بضرورة "ضرب الإسلاميين"، فسر السومي ذلك بأنه "مظهر آخر من مظاهر الإسلاموفوبيا التي ترسخت في قلب الحكومة، إنها إسلاموفوبيا قاتلة ولا تتجلى اليوم فقط بالقتل المروع للشاب المالي أبو بكر سيسيه، بل تتجلى أيضا في تصريحات الوزير". إعلان وأوضح السومي أن الجمعية تعمل في المقام الأول على جمع الفلسطينيين في المنفى، وهي منظمة سياسية تجمع قوى متنوعة من الساحة السياسية الفرنسية، ومجموعة تضم آلاف الأشخاص من فرنسيين، وفلسطينيين، وعرب، ومسلمين، ومسيحيين، ويهود، وملحدين، معبرا عن افتخاره بهذا التنوع الإيجابي. من جانبها، ترى المحامية دومينيك كوشان أن هذا الأمر يعد بمثابة طريقة لإقصاء الناشطين في مجال حقوق الإنسان ومعاملتهم كـ"إسلاميين" على اعتبار وجود بعض المسلمين في الحركة، علما أن هناك غير المسلمين وحتى غير العرب. وكمقارنة تحليلية، قدمت المحامية في حديثها للجزيرة نت مثال "رابطة الدفاع اليهودية" ـوهي جمعية تضم عددا لا يُحصى من الأعضاءـ التي أدانتها الحكومات المتعاقبة بارتكاب أعمال عنف خطيرة واستخدمت السلاح أيضا، فضلا عن الهجمات العنصرية والمنشورات والتعليقات، ورغم كل ذلك، رفضت وزارة الداخلية حلها. لا حق في الدفاع ومن الناحية القانونية، أشارت المحامية كوشان إلى وجود أحكام في قانون الأمن الداخلي تنص على إمكانية حل الجمعيات والمجموعات أيضا، وهو ما تم تنفيذه بشكل طفيف نسبيا من قبل، والآن يتم تنفيذها بكامل قوتها. وأوضحت كوشان، التي تولت قضايا بعض النشطاء الذين تمت محاكمتهم في دعاوى قضائية رفعتها الوكالات الموالية لإسرائيل ضد حركة المقاطعة، أن وزارة الداخلية تُرسل رسالة إلى ممثلي الجمعية والمجموعة لإبلاغهم بقرارها المتعلق بالحل، ثم يكون هناك فترة 8 أيام للرد وتنفيذ القرار. لكن المحامية الفرنسية تعتبر أن هذه الإجراءات لا تتعدى كونها شكلية فقط، أي "لا يوجد حق حقيقي للرد أو الدفاع أو الوصول إلى عناصر القضية من شأنه أن يسمح لأي جهة بالجدل في هذا السياق ضمن مناظرة تنافسية. لذا، فإن اتخاذ القرار يتم قبل وقت طويل من تبادل المراسلات". أما من حيث المضمون، فترى كوشان أن الحل "أمر مضحك"، لأنه ليس إجراء عقابيا، بل إجراء إداري للشرطة، موضحة ذلك بالقول "بما أنه لا يعتبر عقوبة، فإن أحكام المادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن حق الدفاع لا تنطبق عليه أساسا". ورغم ذلك، أكد المتحدث باسم "إيرجونس فلسطين" عمر السومي أن الجمعية ستقاتل بكل أسلحة القانون "ولدينا مجموعة من المحامين بجانبنا لضمان دفاعنا، وقد تلقينا رسائل دعم استثنائية من آلاف الأشخاص، ففي أقل من 24 ساعة، وقع أكثر من 4 آلاف شخص على عريضة لدعم القضية الفلسطينية والتنديد بالإبادة الجماعية وحظر جمعيتنا". وأضاف "سنقوم في الأيام المقبلة بتنظيم مظاهرات وتعبئة مختلفة حتى نُسمع أصواتنا وأصوات الشعب الفلسطيني في جميع أنحاء فرنسا".